سوريا : داخل الغرفة رقم 7 زارني عزرائيل/ رقية العبادي
“الصبوحة” امرأة لا تعلم كم تبلغ من العمر، ترتجف من الماء البارد، ويرتجف جسدها وهي تتحدث، وحين تسألها، كم عمرك؟ تقول: عمري 35 سنة. تنسى عمرها الذي أمضته، بين حماة مدينتها التي ذبحت على يد الأسد الأب، واليوم جاءوا بها إلى معتقلات الابن.
منذ انتقالي للعيش في المنفى، بدأت أخاف من الأحلام والكوابيس، التي أستيقظ منها على صوت صراخي المتكرر، على رغم انشغالي الدائم في دراسة اللغة الفرنسية، واستعدادي لاستكمال دراستي التي خسرتها في بلد الخسارات. كنتُ أعتقد أننا عندما نبتعد مما يؤذينا سوف ننسى، ولكن المشكلة أن ما يؤذينا ما زال موجوداً طليقاً حراً يخاطب بكل وقاحة شعباً لم يعد يستطيع تأمين قوت يومه.
مرت 7 سنوات على خروجي من تلك الزنزانة، التي علّمتني أن بعض التجارب على رغم قساوتها، يجب أن يُكتب على جدران العواصم والمدن الكبرى، حيث يستطيع السائح زيارته، وربما يتعجب من قوتنا وكيف استطعنا الخروج من هول الهولوكوست إلى العالم، على رغم الانكسارات كلها.
على أرض الواقع، لم يتغير شيء، لكن زاد الأمر سوءاً في سوريا بعد مضي 10 سنوات على الثورة. لم تصدق المعارضة ولم تتحقق مطالب الشعب الذي تشظى ما بين التشرد واللجوء والموت بأبشع الصور. بدأتُ أسمعُ عن انتخابات رئاسية مقبلة هذا العام بطلها “القائد” الذي لا بديل له، وسوف يحصل على أعلى نسبة أصوات، تضاهي أصوات دونالد ترامب.
هذا ما عاد بي إلى تلك السنوات الطويلة، وإلى المشهد الأول، البدايات.
في 13 نيسان/ أبريل 2014، نقلتُ إلى فرع فلسطين على متن طائرة الشحن إليوشن الروسية، من فرع الأمن العسكري في دير الزور، التي بدأ النظام يستخدمها لنقل كل شيء حتى المعتقلين، بعد خسارته خلال السنوات الأربع الأولى للثورة الكثير من الطائرات على يد الجيش الحر. لقد كنّا 24 معتقلاً، كُبّلنا بسلسلة معدنية طويلة، ولأنني الفتاة الوحيدة بقيت وحدي مكبلة اليدين، في كلبشة من البلاستيك شدت بقوة على رسغي.
عندما وصلتُ إلى فرع فلسطين، اصطحبني السجّان إلى القسم الخاص بالمعتقلات، وطلب مني أن أستدير إلى الحائط، وهو بدأ يبحث عن مهجع ألقي به ثقل رحلتي الطويلة وحلمي بالخروج، أخبرني بأن عليّ الدخول إلى هذه الغرفة الصغيرة، وهي أصغر المهاجع في الفرع، تضم 17 امرأة، مساحتها لا تزيد عن ستة أمتار، تنام فيها المعتقلات، على أحد طرفيها بشكل مستقيم (تسييف) وفي الليل أسمع صوت شخيرهنّ.
علمتُ حينها أن الجميع يعانون من مشكلة كبيرة في النوم، لقد بكيت في تلك الليلة من دون توقف، لا أعلم لماذا؟ جلست وحيدة على شكل قرفصاء -وهذا هو العقاب الذي يحمله جسدي حتى اليوم- انتظر الصباح ربما أستطيع أن أحصل على مساحة لأمدد قدميّ.
حين يستيقظ الجميع حتى السجّان الذي أمضى ليلته في نوم عميق على سريره العسكري، الذي لم يشاركه فيه أحد، وربما استطاع أن يتقلب على جانبيه طوال الليل، أو ربما كان يتحدث مع حبيبته، أصدقائه، أو حتى عائلته على هاتفه، يُفتح باب المهجع الصغير لنخرج إلى النزهة الصباحية للحمامات، وهي المنفس الوحيد الذي كانت تستغله المعتقلات للنظر من النافذة الصغيرة العالية إلى السماء.
لم أكن أعلم، أنها آخر محطات التنقل بين الفروع الأمنية، وأنها البداية إلى لا نهاية، دخلت الغرفة رقم سبعة، ها أنا هنا الآن، أقف على عتبة الباب وكأنني أعرفها… كلنا غريبات أنا وهنّ، يجمعنا السجن والسجان والقائد.
جدران الزنزانة…
كانت جدران الغرفة مملوءة بآيات قرآنية، نقشت على الجدران، وكأن أحد خطاطي اللغة العربية وضع بصمته عليها، لكن خطر في بالي سؤال واحد، كيف استطاعت المعتقلات كتابة كل هذه الآيات على الجدران؟ أليس ممنوعاً؟ منذُ بداية الثورة السورية وإلى يومنا هذا يعتقل ويعذب كل من يكتب على الجدران، سمعتُ صوتاً يقول: “يلا ادخلوا خلصونا بلا صوت”.
خلال فترة اعتقالي بين فرع الأمن العسكري وفرع فلسطين، صادفتُ فتيات قاصرات، بعضهن لم يكن داخل المعتقل بسبب نشاطهن في الثورة، هن هنا من دون سبب يذكر، فقط في سجون عائلة الأسد لا تعرفون لماذا أنتم هنا؟
كانت المعتقلات يتحدثن عن خروجهن، وكيف أنهن لنْ يخبرن أقاربهن أو عائلاتن، عن وجودهن داخل المعتقل. كن يقلن: “عندما نخرج نقول لهم إن سألونا، إننا كنا في رحلة، أو هربنا على شي مكان”. لم أفهم كثيراً لماذا، لكنني فهمت بعد فترة طويلة أن النساء في مجتمعاتنا ليست أمامهن خيارات، بل يظلمن مرات عدة، وفي الثورة ظلمن داخل المعتقل وخارجه، عندما تخلت عائلات بعضهن عنهن ولاحقتهن وصمة العار. هكذا زرع نظام الأسد الفكر الأبوي على طريقته الخاصة في دولته المتوحشة، والخوف من ارتكاب الصواب في الحياة.
أما أنا فكنتُ محظوظة لأن عائلتي لن تتخلى عني، كنتُ أخبر نفسي هكذا، لأنهم كانوا يعرفون أنني لستُ في رحلة ولم أهرب مع شاب، جمعنا الحب قبل أن يقتلهُ “داعش” مرة، ويقتلني أنا الأسد والبغدادي ألف مرة ومرة.
في العودة إلى الغرفة رقم سبعة، كنتُ قد تفاءلت قليلاً بسبب المساحة الكبيرة، لأنني أريد أن أحصل على مكان مخصص لي وحدي حتى أنام كما أفضّل، على رغم أننا في سوريا نعيش داخل سجن كبير، إلا أن المساحة غير كافية للحصول على مكان للنوم المريح. عدد المعتقلين يفوق قدرة مساحة سوريا لذلك نعاني من أزمة حرية المساحة. المهجع السابع كان كبيراً جداً مقارنة بالمهجع الأول، ولكن هناك ما يقارب 54 معتقلة، كل واحدة منهن تحلم بأن تحصل على مساحتها في خارج هذا المكان.
على رغم أنني لم أتذكر في يوم، إن كنا نقف بشكل منتظم في سوريا، عندما نريد أن نحصل على شيء، ليس لأننا شعب لا يحترم النظام، بل لأن كل شيء نستطيع أن نحصل عليه بالواسطة والرشوة، لكن داخل الغرفة رقم سبعة، كان هناك نظام يسري على الجميع، فكل فتاة تأتي جديدة إلى فرع فلسطين ستحصل على آخر مكان مخصص للنوم. قالت الشاويشة، بصوت مرتفع: “يا صبايا مين أجت جديدة؟”، نظرتُ إليها وقلتُ: أنا، أجابتني: “راح تنامي عند الباب، هذا المكان هو ليلي يجي جديد على الفرع”. هززت رأسي علامة الموافقة، لن أستطيع الاعتراض، لم أكن أتمنى أكثر من أن أستطيع النوم من دون انتظار إحداهن لتستيقظ.
رميتُ على الأرض كيس ملابسي، الذي مللتُ من حمله ومن منظره المزري، ونظرتُ إلى مكاني الجديد حيث مساحة جيدة، سأستطيع أن أستلقي على ظهري. في بعض الأحيان هذه رفاهية! بالمقابل هناك أشياء أخرى مثل صندوق الأحذية، ربما سوف أحفظ مقاسات أقدامهن، إضافة إلى وجود الدلو (السطل) الذي كان يستخدم بديلاً من المرحاض، إن لم يُسمح لنا بالخروج إلى الحمامات أو لم تكن هناك حاجة اضطرارية، لذلك سوف أستعد للاستيقاظ على الروائح المنبعثة منه، أو من إحدى اللواتي يستخدمنه. لا مهرب من ذلك.
أمضيتُ وقتاً طويلاً أمرّن نفسي داخل المعتقل على إبقاء شعري مغطى داخل الحجاب، حتى لا يأكلني القمل. هذه الحشرة التي كانت تشاركنا قساوة الحياة، وجعلت من أجسادنا، ورؤوسنا مكاناً حيث تنام وتستقر، ولربما وجدت مساحة تناسبها. كنا نرتدي ملابسنا بشكل مقلوب، خوفاً على جروحنا وعلى أجسادنا الضعيفة من الحشرة الصغيرة.
وضعتُ كيس ملابسي وسادة تحت رأسي، وأمضيتُ الليلة الأولى أنظر إلى الجدران المزدحمة بالآيات القرآنية. بدأتُ بقراءة كل شيء حتى أستطيع الخلود إلى النوم، فداخل المعتقل نصبح أقرب إلى الله، لوحدتنا الداخلية، كما أننا نتذكر كل ما مررنا به، إلا أنني تمنيت أن أكتب قصص النساء على الجدارن، لكنني لم أكن قد تخلصت من فوبيا “السبورة” التي كرهتها بسبب المعلمة زوجة الضابط التي كانت تعاقبنا كلما أخطأنا بكتابة كلمة، حتى تذكرتها في تلك الليلة، عندما سمحت للطلاب المتفوقين بضربنا على وجوهنا، لأننا لم نكن نحفظ الدروس. أدركت متأخرة، أن مدارسنا أيضاً كانت معتقلات وزوجة الضابط مثل المحقق.
“خلية إرهابية”
كنا نسمع دائماً عبر التلفزيون على المحطات الحكومية والموالية، جملة ما زالت تتكرر حتى اليوم: “قضى الجيش العربي السوري على الخلية الإرهابية في المكان الفلاني”، لكن داخل الغرفة، تعرفت إلى الخلية الإرهابية، حين نظرت بحزن كبير إلى الكثير من السيدات المسنّات، اللواتي لا يعرفن لماذا اعتقلن، ولماذا يخاف النظام منهنَّ. كنتُ أتساءل عن مغزى وجودهن، وانتصار الأسد عليهن، وما إذا كان العالم يعرف أن امرأة تحمل طقم أسنانها داخل فرع فلسطين، أو يعلم حتى بوجود “الصبوحة”، المرأة التي لا تعلم كم تبلغ من العمر، ترتجف من الماء البارد، ويرتجف جسدها وهي تتحدث، وحين تسألها، كم عمرك؟ تقول: عمري 35 سنة. تنسى عمرها الذي أمضته، بين حماة مدينتها التي ذبحت على يد الأسد الأب، واليوم جاءوا بها إلى معتقلات الابن. جميع المعتقلات كن يحزنّ لوجودها معنا، حتى أبكتنا يوماً ما، عندما عادت إلى الغرفة بعد انتهائها من التحقيق، ترتجف من الخوف، تبكي كطفلة فقدت لعبتها المفضلة، عرفنا آنذاك أن المحقق، قد ضربها على عضدها، وأصبحت زرقاء من شدة التورم، لقد ضربها بـ”الأخضر الإبراهيمي”، وهو عبارة عن اسطوانة تمديد صحي، لُف عليها شريط لاصق باللون الأخضر. قالت بعض النساء بصوت شبه مرتفع: “الله يكسر إيديه”.
خطرت يومها في بالي أسئلة مثل، هل يعرف “الأخضر الإبراهيمي” الرجل السياسي المخضرم، أننا نُضرب بعصا تحمل اسمه وتؤلمنا كثيراً عندما تلمس أجسادنا الضعيفة؟ أو هل كان يعرف “كوفي عنان” الرجل الديبلوماسي قبل وفاته، أن جلادي الأسد أطلقوا اسمه على عصا ملفوفة بشريط أسود، تستخدم آلة لتعذيب المعتقلين؟
قصص النساء داخل الغرفة سبعة، لن تنتهي أبداً، كلما غادرتها نساء، يأتون بأخريات يحملن قصصهن، وجرائم عائلة الأسد، حتى دخلت علينا بعد فترة الظهيرة، فتاة ثلاثينية، جلست في منتصف الغرفة. حل الهدوء وكأن ملك الموت خنق أنفاسهن، لكنها كسرت الصمت، عندما قالت: “أنا اسمي رنا، كنت معتقلة في الفرقة الرابعة”، سألتها أم محمد اللاذقانية: “أنتِ هلا جيتي، أو إلك من زمان هون؟”، ردت: “لا، أنا هلأ اجيت”.
بعد ذلك سألت رنا، إذا كنا نستطيع أن نستحم أو نخرج إلى المرحاض، أخبرتها الشاويشة، أننا نستحم في الماء الساخن مرة في الشهر، ونخرج ثلاث مرات في اليوم إلى المرحاض، وعندما لا نستطيع أن نخرج لدينا الدلو (السطل) نستطيع استخدامه. لقد اعتدتُ أن أقوم بسرقة “البانسة” التي أراها في بعض الأحيان عند باب الحمام، لفتح صنبور الماء الساخن والاستحمام كلما سنحت لي الفرصة، لكنني كنتُ أخاف أن يعلم السجان، ويعاقبني ربما بحمام ماء بارد في شهر نيسان، أو ربما يقلع أظافري بها وهذا أشدهما عقاباً.
تقول رنا إنها لم تستحم منذُ شهر تقريباً، وهي بحاجة إلى ملابس نظيفة، وصابون لتستحم، وملابسها متسخة، فقد جاءتها الدورة الشهرية، ولم تحصل على فوط نسائية. هذه آلة تعذيب للنساء أيضاً، حتى أنه من غير المسموح أن تخرج لتقضي حاجتها في الحمام، كان يقول لها العسكري، “خذي هي القنينة قضى حاجتك فيها”، وتناسى بكل وقاحة أنها امرأة!
خفت أن أُنسى
لقد مضى شهر، وأنا داخل الغرفة، كنتُ قد لبسـتُ جلد التمساح، أمضي وقتي أسمع قصص النساء، أخترع النكات والمزاح، أخفف بعض الألم، أراقب الوقت الذي يمشي ببطء السلحفاة، لا أحد يناديني، كنتُ أخاف أن أُنْسَى كمصرع طائر، أُنْسَى كالمعتقلات المنسيات، لا أحد ينادي عليهن، لا أريد أن أصبح الشاويشة، لا أحب المناصب، لذلك أسارع إلى نسيان العبارة التي قرأتها على الدرج، فرع فلسطين “الداخل مفقود والخارج مولود”.
بعد 30 يوماً فتح علينا باب المهجع في فترة ما بعد الظهيرة، نادى عليَّ السجان من أجل الخروج إلى التحقيق، قفزت إلى آخر الغرفة حتى دعست بغير قصد على قدم أحدهن، كنت سعيدة لمجرد أنهم لم ينسوني. كم هي ساذجة لحظات الفرح في بلد يحكمه الطغاة!
وقفت داخل غرفة التحقيق ذات الضوء الضعيف، ما زالت المساحة في كل الغرف ضيقة، لم أكن أعرف أننا نواجه أزمة سكن داخل سجون سوريا حتى وطأت قدماي هذا المكان، وتأكدت أننا أكثر من الذين في الخارج. بدأ المحقق يقرأ الملف الخاص بي ويقلب الأوراق، ويسألني. لم أستطع أن أبحث عن إجابة تناسبه، لذلك استفزه ذلك وشتمني: “حاجة تلفي وتدوري يا شرموطة”، لم تكفه هذه، بل ضربني بالأخضر الإبراهيمي على يدي. لقد آلمتني الشتيمة.
لقد زارنا عزرائيل مرة، لكنه لم يخطف روحي، منذ ذلك الوقت أيقنت أن لديه رحمة في الأحياء والأموات، حين تناولت وجبة المعكرونة بصلصة البندورة التي كانوا يقدمونها لنا في بعض الأحيان، هي وجبة قذرة لا تصلح أن تأكلها الحيوانات. قمت بغسل الصلصة عنها ووضعت القليل من الملح وأكلتها، فكرت أنها قد تكون أنظف قليلاً، إلا أنني لم أكن على صواب، حين بدأت أتلوى من ألم أمعائي وأشعر بالغثيان، وتقيأت كل شيء، حتى بدأت أفقد أنفاسي ولا نافذة لاستنشاق الهواء. كانت هناك أسطوانة يدخل عبرها الهواء، جلستُ تحتها أحاول أن أحصل على القليل منه من دون جدوى، أتذكر كيف بدأت الشاويشة تلوح بيدها على الكاميرا من أجل أن تحصل على مساعدة لإنقاذِي، وتطرق الباب بقوة، وأنا أغيب لحظات وأعود، عندما فتحوا الباب قالوا لي: “اخرجي إلى الطبيب”، عندما رأني قال: “ما فيكِي شي مثل القردة”، لكنني رأيت عزرائيل يومها، وما زلت أحب المعكرونة.
مضى 28 يوماً على التحقيق الأول داخل فرع فلسطين، كنا قد سمعنا أن من المعتقلات الجديدات اللواتي يدخلن إلى الغرفة، أنه بدأت انتخابات بشار الأسد، لذلك كان عددنا يتراجع في تلك الفترة. لا أحد يعرف هل يطلق سراح المعتقلات أو ينقَلن إلى الأفرع الأمنية الأخرى؟ كنتُ قد انتقلتُ إلى النوم في صدر الغرفة، لقد أصبحت أحظى بمكان لأتقلب على جوانبي، حتى حلمتُ يوماً بشيء غريب، وسارعت في الصباح داخل الحمام أحكي لصديقتي وفاء عن حلمي، لعلها تبشرني خيراً، كان اليأس يقتلني، قالت: “على ما أظن سوف تخرجين في 31 أيار/ مايو، يعني بعد ثلاثة أيام”. ثقب أمل صغير لاح في الأفق…
في المساء فتح مدير السجن باب الغرفة ونادى على بعض الأسماء وسمعت يومها اسمي وخفق قلبي وابتسمت، ونظرت إلى وفاء لأخبرها أن تفسيرها ربما أجاد معي. شاهدني مدير السجن أبتسم ولم يعجبه، لذلك قال: “تطمني ما رح تطلعي… بقيانة هون”.
اليوم الأخير
وفي اليوم التالي خرجتُ للتحقيق الثاني، كانوا قد غيروا محققي الأول، بدأ يسألني ولم أستطع إجابته، ليس لعدم معرفتي بالإجابة لكن هناك ما كان يشغل ذهني، أنظر إلى الشاب في الممرّ الذي أقف فيه، يلحقه المحقق ويضربه على رأسه وهو يركض ويصرخ بجسده الهزيل، وقطرات الدم تتطاير على الجدران، لم أُضرب، ولم أُشتم، في ذلك اليوم لكن الشاب أوجع قلبي.
جاء اليوم الأخير الذي كنتُ أنتظره، استيقظت صباحاً مع أصدقاء الغرفة وأخذت معي قلمي الحبر الأزرق، الذي كنتُ قد سرقته من فرع الأمن العسكري، واستطعت أن أدخله إلى فرع فلسطين عندما وضعته داخل حذائي الذي خلعته على حدود الوطن، عندما غادرته ليلاً، كنتُ أخاف على حذائي أن يسرقه أحد المحققين الذين لطالما تغزلوا به، أدركت أنهم يحبون الأحذية حينها.
داخل الحمام تمكنت من كتابة أرقام أفراد من عائلات بعض المعتقلات من أجل التحدث معهم إذا خرجت هذه الليلة، على رغم أنني لم أكن واثقة من الخروج، لكن الاحتياط واجب. انتهت فترة الظهيرة ولم ينادِ عليّ أحد وغلبني اليأس ثم غفوت بعمق.
استيقظت على صوت النساء من حولي: “رقية، أبو علي حلوة يقلك جيبي أغراضك واطلعي”، لم أستوعب ما يحدث وعقلي ما زال نائماً، لكنني ذهبت ونظرت بوجه أبو علي وعدتُ وجلست في مكاني، كررت ذلك مرتين، خيل لي أن عزرائيل قد عاد مرة أخرى. لكنني سرعان ما استيقظت من غيبوبتي، جمعت ملابسي، وخرجت مسرعة، لا أعرف إلى أين؟ لأن الوقت كان متأخراً، التاسعة والنصف مساءً سمعتُ بعض السجانين يتحدثون وقتها عن الوقت، وأنا أنتظر في الممّر مصيري المجهول. جاء المحقق وطلب مني أن أوقع على بعض الأوراق، وبعدها اصطحبني إلى الخارج، لقد ركبت المصعد الذي قد نسيته خلال السنين الماضية بسبب انقطاع الكهرباء المستمر مذ بدأت الثورة. خيل لي أنني سوف انتقل إلى أحد الفروع الأمنية الجديدة، لم أكن أستوعب شيئاً مما يحدث، ولا أستطيع السؤال، حتى وصلت إلى مكتب أحد كبار الضباط الذي قال: “سوف يفرج عنكِ الآن” عادت لي حريتي هكذا قلتُ لنفسي، وأخفيت فرحي، خوفاً من أن أرتكب تهمة جديدة في بلد يخطف الفرح. وعلمتُ بعد خروجي أن والدي دفع مبلغاً مالياً كبيراً.
أثناء خروجي من باب فرع فلسطين، أول مشهد رأيته كان لسيارات الشبيحة تضع أغاني القائد وصورته، وتجول في شوارع دمشق، إذ بدأت الانتخابات في سوريا، كما قالوا لنا داخل المهجع، لكن من الذي سوف يصوت للقائد، إذا كان نصف الشعب تركته ورائي في المعتقلات، والنصف الآخر يحاول أن يهرب من جحيم عائلة الأسد؟
في داخل السيارة التي كانت تقلني إلى وزارة العدل كان هناك رجلان، لم يتحدثا معي في البداية، لكن ربما الفضول قتل أحدهما، وسألني: “بدك ترجعي على الجامعة، وتتوقفي عن معارضة النظام”، أخبرته أنني لا أستطيع ذلك، حلّ يومها الصمت على المكان، كنتُ أفكر في العودة إلى قريتي وعائلتي وثورتي، لكنني علمتُ بعدها أن “داعش” سيطر عليها… وقد بدأت معركة أخرى، نوع جديد من السجون والتعذيب…
غادرت سوريا ومازال شبح عزرائيل يطاردني …
درج