فرهارد خسرو ورحلاته في سير أهل البداوة الجهادية: ما الجديد عربياً؟/ محمد تركي الربيعو
على امتداد عقدين وأكثر، كان أي تحليل حول الجهاديين في عالمنا العربي، يعني استدعاء خبرات عدد من الباحثين الغربيين، وبالأخص الثلاثي الفرنسي المعروف، جيل كيبل، أوليفيه روا، وفرنسوا بورغا، الذي تمكّن من تقديم قراءات مختلفة وغنية حول عالم هؤلاء المقاتلين، والأسباب التي تدفعهم لخوض عمليات انتحارية هنا وهناك في أوروبا، أو لحشد المزيد من المقاتلين الجدد العابرين للحدود، في سياق الدفاع عن مظالم العالم الإسلامي، كما يردد هؤلاء الشبان في رسائلهم وتسجيلاتهم الصوتية.
تحليل فكرة الجهاد الشيعي
لكن في مقابل هذا الثلاثي، يمكن القول إنّ هناك باحثاً رابعا من داخل الفضاء الفرانكفوني كانت له أيضا تحليلات وكتب قيمة عن هؤلاء المقاتلين، ونعني هنا السوسيولوجي الفرنسي من أصول إيرانية فرهارد خسرو خاور، الذي امتاز ربما عن أقرانه بنقطتين أساسيتين؛ الأولى قربه من الداخل الإيراني، واطلاعه وتحليله لفكرة الجهاد الشيعي، الذي جاء به الخميني بعد عام 1979 والذي شكّل، برأيه، النموذج الذي سار عليه لاحقا الجهاديون السنة. أما النقطة الثانية، فهي تتعلق بمنهجه في البحث وتركيزه على دراسة رسائل مقاتلي الباسيج الإيراني في فترة الثمانينيات والحرب مع العراق، ولاحقا على سير مقاتلي تنظيم «القاعدة» من الصف الثاني والثالث، وهو أسلوب تولّد ربما عن خلفيته السوسيولوجية، التي تعطي للمكان وللواقع الاقتصادي والاجتماعي محلاً أساسياً في التحليل. لكن خسرو يرى أنّ هذا التركيز ناجم أيضا عن أن هؤلاء المقاتلين لم يعودوا يعكسون في «غزواتهم الجهادية» موقفا إسلاميا جهاديا تقليديا، أو باعتباره وليد الحروب بالضرورة، بل هم أيضا أشخاص فردانيون، تحركهم شبكات صغيرة مؤلفة من أقارب وأصدقاء، وشبكات اتصال صغيرة، من هنا يغدو الاهتمام بهذه التفاصيل بدل التركيز على الواقع اليومي للمسلمين في العالم الإسلامي، أو الغربي أكثر نجاعة لفهم بعض الدوافع، بدون إهمال المحيط العام بلا شك. لكن رغم أهمية ما كتبه خسرو في هذا الحقل، أو في الشأن الإيراني، لم تلق كتبه الاهتمام الكافي عربيا مقارنة بكتب الخبراء الفرنسيين الثلاثة، وقد يعود ذلك لخيارات دور النشر العربية، والمترجمين بالدرجة الأولى. فمثلا يلاحظ أنّ روا قد ترجمت معظم كتبه في السنوات الأخيرة، بينما لم يترجم سوى كتابين لخسرو ـ «شهداء الله الجدد» دار المدى، وكتيب صغير بعنوان «جهاد النساء» الذي كتبه بالتعاون مع النفساني التونسي فتحي بن سلامة. أما الجديد عربيا في ما يتعلق بخسرو، ترجمة كتاب آخر له مؤخرا بعنوان «من داخل الجهادية، فهم الحركات الجهادية على امتداد العالم» الذي ترجمته الأكاديمية التونسية فطيمة الرضواني، وصدر ضمن أربعة كتب تتناول تاريخ الجهاد والجهاديين عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود. لكن الملاحظ في هذه الترجمة، رغم أهمية ما كتبه خسرو، أن أول ما يلفت الاهتمام هو أن النسخة الأصلية من الكتاب قد نشرت بالإنكليزية في عام 2009، بينما تصدر الترجمة بعد مرور 13 عاما تقريبا. صحيح أنّ الفترة
ليست طويلة مقارنة بكثير من الترجمات العربية، كما أنّ مرور الزمن لا يقلل بالضرورة من قيمة المحتوى وأهميته، مع ذلك، فإن القارئ في حالة كتاب خسرو سرعان ما يكتشف أنّ سيولاً كبيرة قد جرت في الساقية، التي كان يسبح فيها خسرو عند إعداده هذا الكتاب، فبعد سنوات قليلة من صدور هذا الكتاب، كان الوضع العربي يفتح الأبواب أمام تطورات سياسية، ولاحقا أمام انتكاسات عديدة، وربما كان من أهم المفاجآت قدوم «داعش» التي مثّلت حالة جديدة على مستوى الجهاد العالمي، ليس على صعيد العنف وحسب، بل أيضا على مستوى الإعلام، وبروز منظرين جدد بدل منظري فترة التسعينيات، والأهم من ذلك أنها ارتبطت أيضا بسيطرتهم على مساحات واسعة، وإعلان الخلافة وتأسيس دولة. سيلاحظ القارئ في الفصول الأربعة الأولى من كتاب خسرو المترجم (240 صفحة من 500) أنه خصصه، في تلك اللحظة، للتعريف بكتابات أبو محمد المقدسي، وأبو مصعب السوري، والطرطوسي، وهي كتابات لا يمكن نفي مدى تأثيرها في فترة من العمل الجهادي وإلى يومنا هذا، بيد أنها تبدو وكأنها ترسم صورة غير مكتملة، مقارنة بما كشفته الساحة الجهادية، منذ صدوره بالإنكليزية وإلى اليوم، وما عرفته من نقاشات في داخلها لاحقاً، وهذا مثلاً ما كان محل اهتمام ونقاش غني من قبل الباحث الباكستاني شيراز ماهر في كتابه المترجم للعربية «السلفية الجهادية» الذي ناقش فيه كيف أنّ
الحرب في العراق منذ عام 2003، وانخراط قادة «القاعدة» ولاحقا «داعش» في الساحة قد أدى إلى حدوث انقسامات وتوترات جديدة بين المنظرين السابقين (الذين لم يمارسوا الجهاد منذ عقد الثمانينيات، باستثناء الطرطوسي) وجيل آخر من المنظرين على الأرض، ما أدى إلى تراجع دور هؤلاء المنظرين السابقين (الذين يهتم خسرو بتتبع أفكارهم وتأثيرهم) لصالح قادة ومنظرين، يرون أنّ المشارك في الحرب هو صاحب الرؤية الأدق. وهذا القصور لا يمكن تحميله لخسرو آنذاك، فالساحة لم تكن قد تطورت، أو انفجرت مقارنة بفترة ما بعد 2011.
كما نعثر في القسم الأول على مقارنة بين الفكر الجهادي الشيعي والسني، وهنا يعيد خسرو ما ذكره في كتابه «شهداء الله» من أن علي شريعتي قد طور تصورا آخر حول فكرة الشهيد على الساحة العالمية، باعتبارها مسرحا مفتوحا، وهو بذلك يتعامل مع موته كجزء من العرض الكوني، فـ»الإمام الحسين لم يأت لهزم العدو بالسيف ناشدا النصر، وإنما اختار الهلاك والموت أمام أعين العالم بأسره».
ووفقاً لخسرو سيتماهى الجهاديون السنة مع هذه الفكرة الشيعية، إذ باتوا يعتقدون أنّ لا معنى للحياة إن لم تتوّج بموت جليل، وهو موت تعرضه وسائل الإعلام المعولمة في جميع أنحاء العالم.
ماذا عن باقي الفصول؟
في الفصول اللاحقة (الفصل الخامس إلى الخاتمة) يمكن القول إنّ موضوع التباعد الزمني بين النسخة الأصلية والمترجمة، قلّل أحيانا من أهمية تحليلات خسرو. مع ذلك، يحمل هذا القسم بعض القراءات والاستنتاجات المبكرة، التي تؤكد مدى أهمية ما يكتبه هذا الرجل. ففي الفصل الخامس «الأصولية في الإسلام» نعثر على قراءة جيدة لكتابات «الأصوليين الشيعة في إيران» إذ نتعرف على آراء حسن رحيم بور أزغدي، الذي يعدُّ اليوم واحدا من أهم المنظرين المقربين من خامنئي، وكانت له مواقف حادة من الرئيس روحاني، ولم تترجم له على مستوى العالم العربي سوى مقالات صغيرة، ولذلك يشكّل التعرف
على فكره في هذا الفصل، إلى جانب كتّاب إيرانيين أصوليين آخرين، فرصة للقارئ العربي لمعرفة أوسع بالطابع اللاعقلاني أحيانا، الذي يحكم السياسة الإيرانية اليوم، خلافا للأسطورة التي تروى عادة عن «صانع السجاد» الإيراني الماهر، الذي يحيك مصالحه بشكل دقيق. فمثلاً يرى أزغدي أن الثيوقراطية الإسلامية هي السبيل الشرعي الوحيد لتطبيق تعاليم الإسلام، وعليه تكتسي ولاية الفقيه أهمية قصوى، كونها تمثل حجر الزاوية للمجتمع السلمي الجديد، خلافا للديمقراطية التي تعادي في جوهرها الإسلام. في الفصل السادس من الكتاب، يبين خسرو أنّ فكرة الأمة الإسلامية ليست فكرة قديمة، بل هي جديدة وناجمة عن تطور وسائل الاتصالات الحديثة، وأيضا عن دور الجهاديين. ولا ينفي هنا دور إعادة إحياء الخلافة، والدعوة للجهاد أواخر أيام العثمانيين، في خلق فكرة الأمة الإسلامية، وهو موضوع كان قد قدمه بشكل واسع المؤرخ التركي جميل أيدين في دراسة له بعنوان «ظهور الفكر الإسلامي العالمي 1774/1914» الذي وضّح فيها أنّ سياسات التضامن الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر هي وليدة تغيرات على صعيد الجغرافية السياسية العثمانية والأوروبية، وليس وليدة الماضي القديم. لكن التطور الأوسع، كما يرى خسرو، حدث لاحقا مع قدوم الجهادي المسيس عالميا، الذي أخذ ينطلق من فكرة المحنة التي يتكبدها العالم الإسلامي، محاولاً خلق حالة إذلال كونية. وفي هذا الفصل أيضا، يمارس خسرو منهجه في قراءة السير الذاتية للجهاديين، أو المتحولين للإسلام في الغرب. وربما ما يتميز به هنا أنّ سيره شملت مقاتلين أمريكيين من أصول آسيوية وافريقية، أو أمريكيين أصليين تعود أصولهم لأسر يهودية، وبذلك، كان خسرو يكمل هنا ما بدأه قبل هذا الكتاب بسنوات عندما تابع سير بعض مقاتلي «القاعدة» وأيضا سير بعض الجهاديين الفرنسيين من خلال إجراء مقابلات معهم في السجون. يبين خسرو، في اعتماده هذا المنهج السيَري، أنه رغم تشابه الخطاب بين الجهاديين أحياناً، فإنّ سيرهم اليومية تؤكد أنّ الجهاد العالمي منقوش في الوقت ذاته بالمحلي وتداعياته، وأنّ الجهاد الفرنسي يبقى جهادا له جذور تختلف عن الجهاد العربي، كما قد يشكّل الاطلاع على هذه السير فرصة للباحثين العرب للاستفادة من هذا المنهج، عوضا عن الاعتماد على سوسيولوجية إحصائية عفا عليها الزمن، أو الاقتصار على بعض القراءات الميدانية اليومية، أو على نصوص المنظرين، فالتركيز على تتبع سير هؤلاء، أو سير الناس العاديين قد غدا اليوم من الخطط البحثية التي يتبعها قسم كبير من الباحثين الأنثروبولوجيين، أو الدارسين في عالم الجهاد، كما فعل مؤخرا الباحث النرويجي توماس هيغهامر من خلال تأليفه لكتاب ضخم حول سيرة عبد الله عزام.
نهاية زمن اليوتوبيا الجهادية
تنطبق مقولة: «إن العبرة بالخواتيم» على كتاب خسرو المترجم بعد زمن. ولن نبالغ إن قلنا إنّ الصفحات الأخيرة قد تكون الأهم اليوم في الكتاب بالنسبة للباحثين والقراء، خاصة وأنه يكشف فيها عن استنتاجات حول مستقبل الجهاديين، تبدو مهمة ومحل نقاش واسع في يومنا هذا. يعتقد خسرو أنّ الجهادية خلال عقد أو عقدين (من عام 2009) ستتّخذ موقفا جديدا أزاء الدين والحداثة، إذ سيدرك العديد من الفاعلين، وعلى المدى الطويل، استحالة بناء اليوتوبيا الجهادية، وتبرز تجربة جيل الثوريين الإيرانيين الشباب المتشربين النسخة الشيعية للجهاد، وربما يبدو كلام خسرو هنا قريبا اليوم من بعض الجماعات ذات الخطاب الجهادي العالمي في سوريا، التي تبدو الآن في سلوكها السياسي وحتى في إدارتها لبعض الملفات المدنية أكثر ليونة، مقارنة بفترة صعودها الأولى، كما أخذت تتراجع عن مواقفها العابرة للحدود لصالح تحليلات ومواقف ذات طابع محلي بحكم الواقع، وهذا ما يعني اعترافا بفقه العالم الحديث وكلماته بدلا من العيش في مخيال البداوة الجهادية.
كاتب سوري
القدس العربي