قراءة أولية في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا/ منيف ملحم
الجزء الأول
-1-
الكتابة عن تجربة سياسية نضالية معارضة مهزومة بالقمع، وتوثيق هذه التجربة، هي مساهمة في حمايتها ً من الضياع أولاً، ثم من التشويه الذي تمارسه آلة ضخمة من الإنتاج الكتابي الذي لا يحفظ من التاريخ سوى النسخة التي تبدو للعين المسيطرة، عين السلطات الغالبة، فيما تذهب إلى العدم رواية المغلوبين، ونسختهم من التاريخ. من الإنصاف للتاريخ وللأجيال القادمة أن يتولى المغلوبون أيضاُ سلطة الراوي. أن يُروى التاريخ من موقعهم وكما يظهر في عيونهم >>.
بهذه المقدمة الجميلة والمؤثرة يبدأ الصديق راتب شعبو كتابة فصل من اليسار الجديد: قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا.
وإذ يكتب التاريخ دائماً المنتصرون فإنه قلما أتيح للحركات المعارضة أن تكتب تاريخها. وإذ ينطبق هذا على كل الحركات والقوى المعارضة بشكل عام فإنه يرخي بثقله أكثر على الحركات والتنظيمات السرية. ومن ضمنها التيارات المعارضة داخل حزب العمل الشيوعي سواء ما عرف بالأقلية اليسارية أو ما عرف بالحلقات التروتسكية بعد عام 1985. يكفي أن يتذكر الرفاق في حزب العمل الشيوعي المعتقلين في سجن صيدنايا ما كتبه الرفيق فاتح جاموس ووافق عليه الرفيق أصلان عبد الكريم حول تاريخ التروتسكيين في الحزب في كراس صدر عام 1990 ووزع على الرفاق بمناسبة الندوة التي تمت الدعوة لها من قبلي في جناح ج يسار ط2 بمناسبة الذكرى ال 50 لاغتيال تروتسكي.
يكتب الصديق راتب: حول حضور شعار إسقاط السلطة في بعض الأعداد وغيابه في أعداد أخرى من الراية الحمراء.
<<في كل حال تبقى هذه المفارقة لغزاً محيراً، ويزيد في صعوبة الاطمئنان إلى تفسير، أنه في الاجتماع التالي لم تجمد الرابطة الشعار المذكور وهذا يقلل من الاطمئنان إلى التفسير الذي ذهبنا إليه وهو أن الرابطة تسرعت في رفع الشعار تحت ضغط الحماس وأنها أدركت تسرعها وعالجته بأن دفعت شعار إسقاط السلطة إلى الخلف. ولكن من جهة ثانية كانت السلطات الأمنية تحاول من خلال كوادر الرابطة المعتقلين في تلك الفترة، الضغط على التنظيم من أجل تجميد ذلك الشعار، كما كشف هؤلاء الكوادر، هذا يعني أنه كان لهذا الشعار حضور ملموس يدفع السلطات الأمنية إلى الضغط من أجل تجميده -لم نتوصل إلى تفسير لهذه المفارقة -وفي التواصل الخاص مع قياديي تلك الفترة للحصول على تفسير لهذه المفارقة، لم نتوصل إلى تبرير محدد، وقد فوجئ بعضهم بحقيقة أن أعداد الراية الحمراء الصادرة بعد اجتماع بيروت 1979 لا تحمل الشعار على صفحتها الأولى >>.
أنا أدرك الصعوبات التي واجهت الصديق راتب والتي ستواجه كل باحث في تاريخ الخط السياسي والتكتيكي لرابطة العمل الشيوعي. كما كل التنظيمات والحركات السرية. لذا فان وجود ألغاز محيرة يصعب فهمها من القرائن(الكتابات) وحدها ليس أمراً مستغرباً. إذ أن بعض الكتابات والنصوص العائدة للحركات والتنظيمات السرية هي أقرب إلى اللقى الأثرية والألواح الموجودة في بعض القبور والمواقع الأثرية وقد مضى عليها قرون مدفونة تحت ركام من غبار التاريخ. لذلك فإن فك رموزها وألغازها يحتاج إلى جهد كبير وعمل جماعي غير متحزب ومنحاز. وحتى في حال استحضار الشهود فإن الأكثرية المنتصرة قادرة على لي عنق الواقع. ناهيك عن العبث الذي قام به لصوص المقابر.
سأنشر لاحقاً مقالة مخصصة للغز الذي يتحدث عنه كتاب قصة حزب العمل الشيوعي حول شعار إسقاط النظام وبيان الحرية للشعب أولاً. ومع العلم أنني قد بينت للكاتب في حديث معه بعض خفايا هذا اللغز والذي اختصره الكاتب بكلمتين<< الغرض من الاستعراض السابق البحث عن الأهمية التي أولتها الرابطة لشعار إسقاط السلطة في الشهور التي فصلت اجتماع بيروت أيلول 1979، الذي تقرر فيه رفع الشعار، واجتماع آذار 1980 الذي واجه فيه الشعار محاولة تجميد فاشلة قادها أصلان عبد الكريم>>.
أما الآن فسأكتفي ببعض الملاحظات على قراءة الصديق نصار يحيى لما ورد في الكتاب:
يقول الصديق نصار يحيى في ملاحظاته بصدد مشروع فاتح جاموس حول التسليح<< وأيضاً هنا تم التناغم بين “التروتسكيين” والأغلبية الأخرى>>. في الواقع فان الأقلية اليسارية صوتت ضد مشروع فاتح جاموس وتلقت سخرية واستهجان من الكثير من الرفاق في المؤتمر لتصويتها ضد المشروع يا صديقي. كما يضيف الصديق نصار يحيى بعض الأسماء مثل (علي الشهابي، أكثم نعيسة) إلى الأقلية اليسارية ويشطب أسماء أخرى مثل (الشهيد إحسان عزو). الأقلية اليسارية أُطلقت تحديداً على الرفاق الذين قاطعوا الانتخابات وانسحبوا من الجلسة المقررة لانتخاب اللجنة المركزية وعددهم 15 رفيقاً ومن ضمنهم إحسان عزو أما الرفيقان علي الشهابي وأكثم نعيسة لم يكونا ضمن ال 15 رفيقاً فهما لم يقاطعا الانتخابات وعلي الشهابي كان من المرشحين للجنة المركزية. لذلك فهما لم يكونا من ضمن ما عرف بالأقلية اليسارية ولكن مع ذلك كسبا عداء الأكثرية بسبب دعمهم الأقلية في بعض المشاريع. ليس كل من صوت على أحد المشاريع التي طرحتها الأقلية اليسارية كان محسوباُ على الأقلية. ولو كان الأمر كذلك لكان عبد العزيز الخير ووجيه غانم من الأقلية اليسارية كونهما صوتا أكثر من مرة لبعض المشاريع التي طرحتها الأقلية اليسارية.
وأخيراً في ظل غياب محاضر جلسات لاجتماعات الهيئات وضياع كثير من الوثائق يبقى عمل المؤرخ يعتريه النقص مهما بذل من جهد. لذلك تبقى شهادات من عايشوا المرحلة تسد بعض النقص والثغرات. والكاتب في موضوع الشهادات لم يكن موفقاً دائماً ولاسيما في مواضيع كانت مفصلية في تاريخ الحزب. وباعتقادي أنه بعمله هذا سواء كان مقصوداً أو غير ذلك فإنه فتح ذاكرتنا جميعاً، فالكثير من الشكر له.
————————————-
الجزء الثاني
-2-
لغز شعار إسقاط النظام
<<في كل حال تبقى هذه المفارقة لغزاً محيراً، ويزيد في صعوبة الاطمئنان إلى تفسير، أنه في الاجتماع التالي للمركزية في آذار 1980، لم تجمد الرابطة الشعار المذكور، وهذا يقلل من الاطمئنان إلى التفسير الذي ذهبنا إليه وهو أن الرابطة تسرعت في رفع الشعار تحت ضغط الحماس وأنها أدركت تسرعها وعالجته بأن دفعت شعار إسقاط السلطة إلى الخلف(1)
سبب شعار إسقاط النظام الديكتاتوري الذي طرحته رابطة العمل الشيوعي في اجتماع المركزية المنعقد في بيروت أيلول 1979، ومن ثم تجميده في جلسة الهيئة المركزية المنعقدة في آب 1980 الكثير من اللغط والاتهامات والتأويلات، وصلت إلى حد أن بعض القوى السياسية المعارضة اتهمت الرابطة بالتحالف مع النظام في الصراع الذي جرى بين هذا الأخير والإخوان المسلمين في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. في نفس الوقت اتهم النظام وبعض القوى السياسية الأخرى الرابطة بالتحالف مع الإخوان المسلمين (بعد تأسيسي لمنتدى اليسار في أواخر عام 2000 استدعيت من قبل الأمن السياسي، وعند مثولي أمام رئيس الفرع كان أول ما واجهني به: أنتم (الرابطة) تحالفتم مع الإخوان المسلمين!!).
باعتقادي فإن كل تنظيم سياسي عندما يتأسس يكون هدفه الرئيسي هو السلطة، امتلاكاً أو مشاركة أو بالحد الأدنى أن يكون فاعلاً فيها، وإلا امتنع عن أن يكون كذلك، ورابطة العمل الشيوعي التي تأسست في آب 1976 لم تكن استثناءً في ذلك، فالعدد الأول للراية الحمراء الذي صدر في كانون الأول76 كان لديه الهدف ذاته. فقد قالت الرابطة في النظام الديكتاتوري ومن خلال صحيفتها المركزية أو من خلال البيانات والمنشورات والملصقات أكثر مما قاله (مالك) في الخمر، بل إنها تجاوزت خطوطاً حمراء دأبت جميع القوى السياسية في سوريا على عدم تخطيها ألا وهي تناول شخصية رأس النظام ومسؤوليته عما يجري في السياسة الداخلية والخارجية لسوريا. كما أن وعي الرفاق جميعاً في تلك المرحلة كان يتمحور عند ذلك الهدف (إسقاط النظام الديكتاتوري). وإن لم يرد ذلك الهدف برنامجياً فالسبب يعود لوعي مضمر أو محكي فيه. وعي لينيني يقول: يجب كخطوة أولى بناء حزب ثوري يمثل الطبقة العاملة وتكون مهمته تحقيق برنامج الطبقة العاملة الثوري. لقد استفاض وأجاد الصديق راتب شعبو (مؤلف كتاب قصة حزب العمل الشيوعي) في البحث في هذه المسألة (وعي المؤسسين لتلك القضية)، سواء في بحثه حول جدل بناء الحزب الشيوعي في سوريا (كراس صدر عام1977) أو في المهمات البرامجية الصادرة عن الاجتماع الثالث الموسع للحلقات الماركسية أب 1976.
قصة الشعار/ في جريدة التنظيم/ في البرنامج الانتقالي
بعد حملة أيلول 1978 لم يبق من قيادة التنظيم سوى ثلاثة رفاق، لذا قام ما تبقى منهم باستكمال أعضاء الهيئة المركزية وتم عقد اجتماع للهيئة في حمص في كانون أول 1978. حضر الاجتماع كل من الرفاق: أصلان عبد الكريم، فاتح جاموس، نهاد نحاس، زياد مشهور، مصطفى خليفة، أحمد رزق، وائل السواح، كامل عباس، وجيه غانم، حسام علوش، علي الكردي، جهاد عنابة، منيف ملحم. انتخب الاجتماع لجنة عمل مؤلفة من الرفاق: أصلان عبد الكريم، فاتح جاموس، نهاد نحاس، زياد مشهور، منيف ملحم.
تقرر حينها إصدار الراية الحمراء كل 15 يوماً بدلاً من إصدارها كل شهر، لكن في نيسان 1979 شن الأمن العسكري حملة اعتقالات شملت اللاذقية وطرطوس وحلب، اعتقل على إثرها كل من أعضاء الهيئة المركزية: جهاد عنابة، مصطفى خليفة، وجيه غانم، حسام علوش.
شهدت الأشهر الفاصلة بين اجتماع الهيئة المركزية في كانون أول 1978 /حمص وحملة الاعتقالات في نيسان 1979 نشاطاً مكثفاً للتنظيم، إضافة لإصدار الراية الحمراء كل 15 يوماً، كان هناك ملصق أو بيان يوزع كل أسبوع تقريباً.
<<اجتمعت الهيئة المركزية في آذار 1979، لتحديد السياسة المناسبة في هذا الجو القمعي الكثيف. اعتبر غالبية المجتمعين أن التحدي والتوزيع القطاعي والتحريضي السابق كان خطأً ناجماً عن نزوع يساري ساد المنظمة في المرحلة السابقة. <<كان الاجتماع عاصفاً ومتوترا ًومشحوناً بالخوف والغضب معاً وقد طرحت فيه آراء عديدة متباينة ومتناقضة تماماً منها مثل رأي يطالب بحل المنظمة والعودة إلى مرحلة الحلقات الماركسية، الوجه المقابل له، مزيداً من النشاط السياسي والتحريض مهما كانت النتائج (2)>>.
الاجتماع كان في نيسان وليس في آذار لأن الاجتماع جاء عقب حملة نيسان. نعم كان الجو متوتراً. وكان هناك قلق من إمكانية تصفية التنظيم. ولكن لم يطرح أيٌ كان حل التنظيم والعودة للحلقات الماركسية. قرر الاجتماع قسم ما تبقى من الهيئة المركزية إلى قسمين، قسم يذهب إلى لبنان كقيادة احتياطية (أصلان عبد الكريم، وائل السواح، كامل عباس، أحمد رزق، نهاد نحاس) إذا ما تم اعتقال لجنة العمل (فاتح جاموس، زياد مشهور، علي الكردي، منيف ملحم). كانت مهمة القيادة الاحتياطية فقط التنسيق مع لجنة العمل لإصدار الراية الحمراء.
مع أوائل حزيران 1979 كان قد تم ترميم منظمات التنظيم واستقر الوضع التنظيمي مع التغيير الجديد في هيكليته ونمت منظماته في حلب ودمشق واللاذقية.
كان الجو السياسي في سوريا قبل مجزرة المدفعية وبعد التقارب ومن ثم التباعد ما بين البعثين الحاكمين في دمشق وبغداد ملبداً بغيوم عزاها النظام السوري إلى نشاط نظام البعث في العراق ومنها بشكل خاص العمليات العسكرية من الاغتيالات التي طالت بعض رموز النظام. بينما رأت رابطة العمل الشيوعي أن النظام يتعامى قصداً عن مبعث ومدبر الاغتيالات التي تحدث في سوريا، وهي اغتيالات تقوم بها القوى الدينية (الإخوان المسلمون) مستخدمة السمة الطائفية للنظام التي تتعزز يوماً بعد يوم كمادة لعملياتها.
شكلت مجزرة المدفعية التي ارتكبتها القوى الدينية في حزيران 1979 وما تلاها من تطورات على الساحة السورية (اعتراف النظام بوجود معارضة مسلحة من القوى الدينية، لقاء أعضاء من الجبهة التقدمية للنظام مع أعضاء من اتحاد الكتاب العرب) بداية تبلور خط سياسي ومهام جديدة لرابطة العمل الشيوعي يمكن تكثيفها في: إن استمرار النظام والصراع الذي تخوضه القوى الدينية معه ينذر بكارثة محدقة بالوطن. لذا كان على القوى الديمقراطية والشيوعية العمل من أجل إسقاط هذا النظام من خلال بناء جبهة شعبية متحدة تكون الأداة التنظيمية للطبقات الشعبية.(4)
منذ العدد 34 آب 1979 وحتى العدد 43 شباط 1980 بدأ يظهر شعار إسقاط النظام على صفحات الراية الحمراء بمواقع مختلفة من صفحاتها وبمضامين مختلفة منها: إسقاط النظام الديكتاتوري، إسقاط الديكتاتورية البعثية، إسقاط السلطة الديكتاتورية البعثية، إسقاط سلطة الطبقات السائدة، إسقاط الحكم الديكتاتوري البعثي، إسقاط الأنظمة البورجوازية العربية الديكتاتورية. بالإضافة لشعارات أخرى مثل إسقاط الإرهاب اليميني الطائفي المتطرف، تحيا الجبهة الشعبية المتحدة أداة السلطة الشعبية…إلخ.
أنا أتحمل مسؤولية رفع شعار إسقاط السلطة على صفحات الراية الحمراء من العدد 34 وحتى العدد 43 شباط 1980 الذي ظهر فيه شعار من <<أجل إسقاط الأنظمة البورجوازية العربية الديكتاتورية>> بالإضافة للشعارات الأخرى المذكورة سابقاً، والذي جعل نهاد نحاس (ولم يكن في حينها عضواً في لجنة العمل) يسأل في اجتماع للجنة العمل عن سبب رش هذه الشعارات بدون ضوابط.
لم يكن وعيي في حينها يرى أي تمييز بين إسقاط الحكم وإسقاط النظام وإسقاط سلطة الطبقة البورجوازية، فجميعها واحد باختلافات بسيطة (ومازال هذا لدي حتى اليوم في الحالة الراهنة للوضع في سوريا). وهي عندما ترد في الأدبيات فهي شعارات للتحريض والتعبئة حولها وليس للتنفيذ المباشر. وطرحها لم يكن يعني أننا أمام ثورة اشتراكية مطروحة على جدول الأعمال راهناً. واستخدامنا لتعبير الجبهة الشعبية بوصفها<< الأداة التنظيمية للطبقات الشعبية القادرة على صنع الثورة الاجتماعية>> جاء في سياق الحديث عن الجبهة الشعبية ومهامها وليس في إطار الحديث عن إسقاط النظام. ولو كان الحديث يجري هنا عن ثورة اجتماعية (ثورة اشتراكية) كما تم فهم ذلك لما كان هناك من معنى لطرحنا البرنامج الانتقالي ( 5).باعتباره برنامجاً ديمقراطياً ثورياً.
كما لم يكن لدي أي تمييز بين أهمية كون الشعار في الصفحة الأولى أو في نهاية المقالات أو في الصفحة الأخيرة. كان الأمر بالنسبة للشعار (كما كنت أعتقد في حينها) أن يكون تكثيفاً لافتتاحية الراية الحمراء فإذا كانت الافتتاحية تدور حول الجبهة الشعبية فيتطلب الأمر أن يكون الشعار: نحو بناء الجبهة الشعبية. وهكذا تأتي الشعارات. وهكذا كان الأمر بالنسبة لي (بالطبع الآن أدرك أهمية موقع الشعار(6)
في كل الأحوال، لم يعترض أحد من الرفاق على وجود الشعار بالصيغة التي ورد فيها، وبالمكان الذي ورد فيه في الراية الحمراء، سواء قبل اجتماع بيروت أيلول 1979 أو بعده لولا ملاحظة الرفيق نهاد نحاس.
محاولة التجميد الفاشلة لشعار إسقاط النظام-“قضايا الخلاف”
كان اجتماع الهيئة المركزية في أواخر أيلول بيرت 1979 أكثر الاجتماعات هدوءاً وحميميةً وثقةً بالتنظيم. فنحن إلى حد ما بعيدون عن قبضة النظام، والتقينا بعد طول غياب، ووضع البنية التنظيمية استقر ونما. واستطاعت أعداد الراية الحمراء التي صدرت بالأشهر الأخيرة أن توحد الآراء حول المهام القادمة وخطة العمل القادمة(7)
تمت الموافقة على برنامج انتقالي، النقطة المركزية فيه إسقاط النظام. كما تم التركيز على العمل من أجل بناء جبهة شعبية متحدة مع القوى السياسية الشيوعية والديمقراطية المعارضة، وتقرر عقد مؤتمر للتنظيم في آذار 1980.
عدنا إلى دمشق بعد اجتماع أيلول 1979 في بيروت (أعتقد كان الاجتماع في 24 و25 أيلول). وأمضينا التشرينيين في شرح رؤيتنا ومهامنا السياسية للرفاق والأصدقاء والقوى السياسية التي نطمح أن تشاركنا هذه الرؤيا للتصدي لما كنا نعتقده. إن الصراع بين النظام والقوى الدينية المتطرفة سيؤدي لكارثة إذا بقي هذا النظام. لذا توجب العمل على بناء قطب ثالث من القوى السياسية الوطنية في إطار جبهة شعبية متحدة تأخذ على عاتقها إسقاط هذا النظام وقطع الطريق على القوى الدينية المتطرفة (اختصاراً الإخوان المسلمون).
تم تكليف الرفيق أصلان عبد الكريم بالحوار مع انقسامات بكداش والرفيق فاتح جاموس بالحوار مع ما عرف لاحقاً بالتجمع الوطني الديمقراطي من خلال الدكتور جمال الأتاسي.
في شهر كانون الأول 1979 بدأت تظهر خلافات مصحوبة بتوترات داخل لجنة العمل بسبب خلافي مع الرفاق حول قضايا لها علاقة بموقف ” الرفاق السوفييت” من بعض الأنظمة (أثيوبيا، اليمن الجنوبي) ودعم بعض الرفاق لهذا الموقف. جاء التدخل السوفييتي في أفغانستان ليزيد من حدة الخلاف. ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر التوافق ضمن لجنة العمل ورفعت حدة الخلاف بيني وبين الرفيق أصلان إلى أعلى مستوياته. فقد توارد إلي أخبار على شكل تساؤلات من خلايا في منظمة دمشق أن هناك تغيراً وانعطافاً في الخط السياسي والبرنامج للتنظيم ينشره الرفيق أصلان عبد الكريم بين الرفاق وبين حتى القوى السياسية، مضمونه الرئيسي تجميد شعار إسقاط النظام واتباع تكتيك لينين في مواجهة عصيان كورنيلوف.
تم في اجتماع للجنة العمل سؤال الرفيق عن الموضوع فأقر بالموضوع ودافع عن وجهة نظره بضرورة اتباع التكتيك المذكور. رفضت لجنة العمل وجهة نظر الرفيق وطلبت منه الكف عن طرح وجهة نظره الشخصية خارج إطار جريدة الحزب الداخلية (البروليتاري).
في الواقع أصبح الجو متوتراً(8) بيني وبين الرفيق وبصراحته المعهودة وبثقة بالنفس بمواقفه السياسية أكثر من اللازم أعلن في أحد اجتماعات لجنة العمل في كانون الثاني 1980: أنه سيعمل كل ما في وسعه لإبعاد منيف ملحم عن لجنة العمل (9). فكان ردي عليه سأفعل نفس الشيء اتجاهك (كنا ننتظر عقد مؤتمر الحزب المقرر في آذار1980).
كانت آخر مواجهاتنا صياغة بيان الترحيب بالرفاق الذين أطلق سراحهم في 4 شباط 1980. في وقت أراد الرفيق أصلان عبد الكريم أن يكون عنوان البيان الحرية للقوى الوطنية. طلبت أن يكون العنوان الحرية للشعب أولاً. ولأن الفرحة كانت كبيرة والاستعدادات لاجتماع الهيئة المركزية بكامل أعضائها أصبح يقترب وبالتالي تحسم الخلافات بشكل ديمقراطي فقد تمت الموافقة على اقتراحي (10)
اجتماع 29 شباط 2 آذار 1980
اجتمعت الهيئة المركزية بكامل أعضائها بتاريخ 29 شباط وبعد تثبيت عضوية الأعضاء انتقل الاجتماع إلى مناقشة نقطتين أساسيتين:
الأولى كانت تجميد شعار إسقاط النظام أما الثانية فكانت تخص التحالفات والقوى السياسية المطلوب العمل معها.
كان هناك اتجاهان وليس ثلاثة كما تم ذكره في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي (شهادة لفاتح جاموس): الأول كان على رأسه الرفيق أصلان عبد الكريم ومعه الرفاق: أكرم البني، نهاد نحاس، وائل السواح، وعلي الكردي. طرح هذا الاتجاه ضرورة تجميد شعار إسقاط النظام والاتجاه صوب القوى المتفرعة عن بكداش لتحقيق التحالف. والاتجاه الثاني وكان على رأسه منيف ملحم وزياد مشهور وضم جميع الرفاق الخارجين من المعتقل تقريباً بالإضافة إلى الرفيق فاتح جاموس. هذا الاتجاه رفض مشروع التجميد وطالب بالتوجه صوب القوى المعارضة (عرفت فيما بعد بالتجمع الوطني الديمقراطي(11).
خسر مشروع التجميد لشعار إسقاط النظام الذي قاده الرفيق أصلان عبد الكريم فأعلن الرفيق أصلان عبد الكريم أنه لن يرشح نفسه لعضوية لجنة العمل وقد أثنيت أنا على قراره ولكن تدخل الرفيق فاتح جاموس لإقناع الرفاق بالضغط على الرفيق أصلان عبد الكريم لترشيح نفسه.
انتخبت الهيئة المركزية لجنة العمل من الرفاق: أصلان عبد الكريم، فاتح جاموس، محمد معمار، زياد مشهور، منيف ملحم.
ثم قدم الرفيق فاتح جاموس مشروعاً يتضمن تجميد شعار إسقاط السلطة على صفحات الراية الحمراء ريثما يتم ترتيب الوضع التنظيمي الجديد فنال الموافقة. (12)
********
1-ينبغي التنويه إلى أنني لست بصدد إجراء دراسة نقدية للكتاب (في هذا المقال وفي مقالات أخرى) وإنما الهدف من ذلك هو تسليط الضوء على أهم المنعطفات التي مر بها التنظيم كما جرت بالواقع مستخدماً وعيي كما كان حينها وليس كما هو الأن.
2-من كتاب قصة حزب العمل الشيوعي. للصديق راتب شعبو ص84
3- من كتاب قصة حزب العمل الشيوعي. شهادة لكامل عباس ص.80
4-سلط الصديق راتب شعبو في كتابه: قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا الضوء على الخط السياسي الذي انتهجته رابطة العمل الشيوعي وطبيعة الصراع الجاري منذ وقوع مجزرة المدفعية وحتى اجتماع آب 1980 بشكل وافٍ.
5-سأتحدث في مقال قادم عن البرنامج الانتقالي الذي تم طرحه في اجتماع بيروت أيلول 1979 والخلافات مع الأكثرية حوله.
6-لم تول قيادة التنظيم أهمية للشعار وموقعه على صفحات الراية الحمراء إلا بعد تقرير آب عام 1980
7-عقد الاجتماع بغياب زياد مشهور بسبب بعض الخلافات التنظيمية وعلي الكردي بسبب الاعتقال وتم انتخاب لجنة عمل من: أصلان عبد الكريم، فاتح جاموس، زياد مشهور، وائل السواح، منيف ملحم.
8-في الواقع كان يأخذ الاجتماع لتقرير إصدار عدد من الراية الحمراء أو بيان، جلستين: الأولى لتقرير المواضيع والثانية للموافقة عليها. ولكن بسبب هذا التوتر أصبح إصدار عدد من الراية الحمراء يأخذ جلسات وسابقاً كنا نلجأ للتوافق وقليل ما نلجأ للتصويت ثم أصبح التصويت هو القاعدة.
9-جرى التقليد في رابطة العمل الشيوعي أن يعاد انتخاب لجنة العمل في كل اجتماع للهيئة المركزية. وقد حاول الرفيق إقصائي عن لجنة العمل من خلال اجتماعات الهيئة المركزية ولكنه لم ينجح. لذا قدم مشروعاً في المؤتمر التأسيسي لحزب العمل الشيوعي آب 1981 يمنع على المعارضة أن تمثل في المكتب السياسي. وقد رأت الأقلية اليسارية في القرار فعلاً غير ديمقراطي وكان هذا القرار بالإضافة لأمور أخرى أحد الأسباب التي دعت الأقلية اليسارية لمقاطعة انتخابات اللجنة المركزية.
10- شكلت الخلافات التي تصاعدت ضمن لجنة العمل منذ أواخر عام 1979 بداية تشكيل تيار في رابطة العمل الشيوعي ومن بعدها حزب العمل الشيوعي. تيار يقترب شيئاً فشيئاً من الخط السوفييتي وهو ما استتبع مواقف ستشكل مفارقات وسقطات في خط الحزب تم الحديث عنها ونقدها في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي من قبل الصديق راتب شعبو دون الإشارة إلى الأساس الذي بنيت عليه هذه المواقف. من الأمثلة عليها شعار الحرية للقوى الوطنية والتقدمية في مواجهة نظام ديكتاتوري استبدادي.
11-طلب الرفيق فاتح من الاجتماع السماح له بمغادرة الاجتماع للقاء الدكتور جمال الأتاسي لمعرفة آخر التطورات لديهم. وقد خرج الرفيق الساعة السادسة مساءً وعاد في الثامنة مساءً بوعد من الدكتور الأتاسي بأنهم في حال القيام بأي خطوة جديدة فلا بد أن نكون على علم بها. طبعاً بعد أيام من هذا اللقاء صدر بيان آذار للتجمع الوطني الديمقراطي!!!
12-إن الحديث الذي تناقلته بعض القوى السياسية حول تحالف الرابطة مع النظام لا يعود إلى ما صدر في تقرير آب1980 وإنما يرجع إلى زمن أسبق أساسه وجهة النظر التي أشاعها الرفيق أصلان عبد الكريم (تكتيك لينين- كورنيلوف) بين القوى السياسية منذ كانون الأول 1979 باعتبارها وجهة نظر الحزب. نعم لم يكن ذلك الدخان بلا نار ولكنها لم تكن سوى النار التي أشعلها الرفيق قبل تقرير آب.
* سأكتب في مقال قادم ظروف تجميد الشعار باجتماع آب 1980.
—————————–
الجزء الثالث
-3-
تقرير آب وتجميد شعار إسقاط النظام
انفض اجتماع الهيئة المركزية في صباح 2 آذار 1980 مؤكداً على النقطة المركزية في البرنامج الانتقالي الذي أقره اجتماع الهيئة المركزية في اجتماع أيلول /بيروت/ 1979 والمتمثلة بإسقاط النظام الديكتاتوري من خلال بناء جبهة شعبية متحدة (قطب ثالث) تضم كل القوى الديمقراطية الثورية والشيوعية وإقامة حكومة ديمقراطية ثورية لقطع الطريق على القوى الرجعية.
لم تمض أيام على انفضاض اجتماع الهيئة المركزية حتى تغير مشهد الصراع على كل الصعد والمستويات فمن تغير في حدة الصراع بين النظام والإخوان المسلمين إلى تغير في اصطفاف القوى السياسية وظهور بوادر لحراك بعض النقابات المهنية.
فبعد سنوات من الاغتيالات الفردية التي يقوم بها الإخوان المسلمون لرموز النظام بين الفترة والأخرى تصاعدت وتيرة الاغتيالات وأصبحت أصوات المواجهة العسكرية تسمع بشكل يومي بين النظام وبعض المجموعات المسلحة (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين) في المدن السورية. ثم انفجر الوضع في آذار 1980 بشكل دراماتيكي، إغلاق بعض المدن من قبل الجماعات المسلحة، تبادل السيطرة ليل/نهار بين النظام والجماعات المسلحة، تحرك النقابات المهنية بمطالب ديمقراطية، إضرابات ومظاهرات مضادة للنظام في بعض المدن. بالمختصر ظهر إلى السطح إلى جانب المواجهة العسكرية للإخوان المسلمين مع النظام ما كان مكبوتا لعقد من السنوات عند قطاع واسع من الشعب بسبب القمع وكبت الحريات بعد أن بدا النظام مهتزاً ومضطربا. فعلى مدى أسابيع من آذار ظل رأس النظام يظهر بشكل دائم في مؤتمرات لمنظماته “الشعبية”، الطلبة، العمال، المرأة، الشبيبة، الفلاحون. …الخ. يهدد أحياناً ويستجدي أحياناً أخرى ويعرض التسويات حيناً آخر على القوى الإسلامية.
رد النظام على كل هذه التحركات بعنف لم يسبق أن شهدته سورية في تاريخها. تم حل النقابات، تمشيط مدن، محاصرة وتمشيط أحياء، حواجز وتفتيش للمارة والمسافرين، إنزالات عسكرية جوية في بعض المناطق. كل هذا مصحوبً باعتقالات وتصفيات دون محاكمة.
في آذار 1980 صدر بيان التجمع الوطني الديمقراطي أي بعد أيام من انفضاض اجتماع الهيئة المركزية لرابطة العمل الشيوعي (29 شباط-2 آذار) ولقاء الدكتور جمال الأتاسي لبحث إمكانية عمل مشترك للقوى المعارضة والتي وعد بها الأتاسي بأن الرابطة ستكون على علم بأي تحرك مشترك بين قوى المعارضة إذا ما تقرر ذلك.
شكل صدور بيان التجمع الوطني الديمقراطي إحباطا وصدمة للجميع في قيادة التنظيم. صدمة أتت فعلها في مستويين: الأول سطحي والثاني عميق.
تجلى المستوى السطحي من الصدمة بأن القيام بأي عمل مشترك منظم مهما كان بسيطاً بين رابطة العمل الشيوعي والأطراف الموقعة على بيان التجمع الوطني الديمقراطي أصبح في طي النسيان لزمن من الصعب تحديده. وحتى إن كان سبب هذه القطيعة والاستبعاد تم بموجب فيتو من رياض الترك الأمين العام للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) فإن حق استخدام الفيتو في هكذا إطار للعمل السياسي يؤشر إلى هذه القطيعة على المدى الطويل.
أما على المستوى العميق من الصدمة فإن الرؤية السياسية للصراع الجاري والتي جاء بها بيان التجمع الوطني الديمقراطي جعلت الفجوة عميقة جداً بين رؤية الرابطة للصراع الجاري على أرض الواقع وطبيعة القوى المتصارعة ورؤية التجمع الوطني الديمقراطي. كان يمكن ألا نكون معاً في تحالف تنظيمي نتيجة حساسيات قديمة بين الرابطة (1) وبعض أطراف التجمع وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي والتي استعرضها الصديق راتب شعبو بعمق وبالكثير من الاستفاضة والتحليل في كتابه قصة حزب العمل الشيوعي. ولكن كان يمكن أن نعمل سوياً في إطار تحالف (2) موضوعي يقوم على مبدأ (كان ومازال لدي هذا المبدأ كدليل للتحالفات) الضرب معا والسير منفردون مع نقد الحليف. ولكن ما تضمنه بيان التجمع جعل حتى هذا الاحتمال غير ممكن التحقيق.
في الأول من أيار 1980 اعتقل الرفيق زياد مشهور عضو لجنة العمل فحل محله الرفيق أكرم البني وهو ما عزز في لجنة العمل الاتجاه الداعي إلى تجميد الشعار. كما أن التطورات المتصاعدة للصراع جعلت الجميع في لجنة العمل أميل إلى تجميد الشعار باستثنائي. لكن لغياب رياضنا وبكداشنا في القيادة ظلت القيادة ملتزمة بقرارات الهيئة المركزية في 29 شباط -2 آذار. ووقعت تحت ضغط من القواعد يساري دائماً (كان بالعادة يسمع للأصوات القادمة من القاعدة ويؤثر في قرارات القيادة).
بعد صدور بيان التجمع الوطني الديمقراطي ونفض اليد من أي عمل مشترك مع التجمع لا بشكل مباشر أو غير مباشر ذهب بعض الرفاق في القيادة باتجاه البحث عن حلفاء لتشكيل القطب الثالث في تمزقات حزب بكداش (منظمات القاعدة (مراد يوسف)، حركة اتحاد الشيوعيين (حنين نمر) وصلت إلى حد تقديم عرض لهم بالتوقيع على بياض في بيان مشترك حول تطورات الأحداث لكنهم رفضوا العرض.
في حزيران 1980جرت محاولة اغتيال الأسد وتبعها جنون من العنف والوحشية والمجازر يرتكبها النظام بحجة مواجهة الإخوان المسلمين وبالتالي أصبح الحديث عن تجميد الشعار أو تشكيل قطب ثالث لغوا فارغا لا أكثر ولا أقل لذلك اتجهت إلى عدم المواجهة داخل لجنة العمل فيما يتعلق بالتكتيك المتبع للرابطة وركزت اهتمامي على جعل الرفاق في خلاياهم المشاركة في الخط السياسي للرابطة من خلال تفاعلهم برسائلهم للمجلة الداخلية(البروليتاري) أو من خلال الكتابة مباشرة للجنة العمل. كما شاركت بالكتابة للمجلة الداخلية تحت اسم سمير وهو اسم غير معروف في الرابطة. كانت كل التطورات في الصراع وفي المشهد السياسي تخدم التوجه نحو تجميد شعار إسقاط السلطة. ولتعزيز توجههم السياسي قدم الرفيق أصلان اقتراحا بإخراج الرفاق المتخفين إلى العلن والعودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية في مدنهم وقراهم وبين أهلهم وأصدقائهم. معتبراً القرار اختباراً لنوايا النظام تجاه التنظيم.
صوت جميع أعضاء لجنة العمل بالموافقة على الاقتراح باستثنائي فقد صوت ضد الاقتراح. ومن سخرية القدر فقد كلفت بتنفيذ القرار من خلال الحوار مع الرفاق المتخفين. وقد وافق البعض بفرح ولكن آخرين رفضوا القرار وحملوني مسؤولية القرار وكان الرفيق جمال سعيد (أبو صالح) عنيفاً في رده وقام بخرق تنظيمي وشكا الأمر إلى الرفيق فاتح جاموس الذي طلب منه عدم تنفيذ قرار “منيف ملحم” (طبعاً في النهاية وجهت لجنة العمل تنبيها للرفيق فاتح وتم تنفيذ القرار من قبل جمال سعيد) (3)
بدء الإعداد لاجتماع الهيئة المركزية في آب 1980 من خلال تقديم مسودة تقرير إلى لجنة العمل. أطال التقرير في شرح الظروف والتطورات التي شهدتها الساحة السورية والصراع بين النظام والإخوان المسلمين والنظام وتطورات القوى السياسية السورية (4) ليخرج بنتيجة تقول إن مهامنا اليوم تتلخص بتجميد شعار إسقاط النظام وبمواجهة الحلف الرجعي والحفاظ على الوضع الراهن (اقرأ الحفاظ على النظام الديكتاتوري).
وافقت لجنة العمل على مسودة التقرير المقدم إلى الهيئة المركزية باستثنائي فقد رفضت التقرير مضموناً ونتائج. كنت أعلم أن التقرير سينال موافقة الهيئة المركزية لذلك سعيت لمحاولة تعديل نتائج التقرير ولاسيما منها شعار الحفاظ على الوضع الراهن في اجتماع الهيئة المركزية. وافقت الهيئة المركزية على التقرير بالعام باستثنائي والرفيق وجيه غانم فقد رفضنا التقرير.
مع علمي بأن الرفاق في الهيئة المركزية لا يمانعون بتجميد شعار إسقاط النظام ولكن كان من الصعب عليهم بعد هذه السنوات في مواجهة الديكتاتورية وما تركته من آثار مدمرة على الوطن أن يتقبلوا شعار الحفاظ على الوضع الراهن. لذلك تم تقديم اقتراح أن تكون مهام المرحلة المقبلة هو دحر الديكتاتورية والظفر بالحريات السياسية ودحر الحلف الرجعي الأسود. وقد تمت الموافقة على الاقتراح وخرج التقرير بموافقة أغلبية الهيئة المركزية.
لقد أثار التقرير بعد توزيعه على منظمات التنظيم لغطا كبيرا ومواقف متشنجة أحياناً ورافضة أحياناً أخرى من بعض منظمات التنظيم وبعض الخلايا (5).
هل انسجم الخط السياسي للراية الحمراء باعتبارها ناطقة باسم رابطة العمل الشيوعي مع تقرير آب 1980 ما بين صدور التقرير وانعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب العمل الشيوعي في آب 1981؟ في الواقع كما يقول الرفيق كامل عباس <<ظلت دعوتها ضد الإخوان المسلمين وتحريضها ضد النظام>>. وهو فعل جاء تحت ضغط الميل اليساري للقاعدة الحزبية من جهة وتحت الممارسات المتوحشة للنظام اتجاه أي صوت معارض.
يتبع ……..تاريخ المعارضة اليسارية في رابطة العمل الشيوعي
*****************************************************
1- كان يبدو خط رابطة العمل الشيوعي ولاسيما في فترة اشتداد الصراع بين النظام والإخوان المسلمين شديد الراديكالية في كل شيء ما عدا موضوع التحالفات فقد كانت الرابطة تتمتع بمرونة عالية على هذا الصعيد نظراً لتقديرها إن نتائج الصراع بين الطرفين المتصارعين إن لم تحسم لصالح القطب الثالث ستكون كارثية على مستقبل الصراع في سورية
2-على ذكر أشكال التحالف بين القوى السياسية لتحقيق هدف مشترك يحضرني هذا الحوار الذي جرى في أوائل عام 2001 بيني وبين رياض الترك في منزل الرفيق نهاد النحاس (أبو عبدو) والذي رتبه كما اعتقد بالتوافق مع رياض الترك ولكن دون علم مني. حينها كان منتدى اليسار للحوار الذي أسسته في نهاية عام 2000 قد عقد جلسته الثالثة كما اعتقد. كنت وصلت إلى بيت نهاد قبل رياض الترك وماهي ألا دقائق حتى وصل وبادرني بالسؤال التالي:
رياض الترك: ابن العم سمعت أنك عامل منتدى اسمه منتدى اليسار؟؟؟؟
أنا: نعم أحاول أن أجد صوت لليسار من ضمن الأصوات التي تخرج الأن في مناخ الحراك القائم اليوم
رياض الترك: ليس لدينا في سوريا يمين ويسار. نحن واحد في مواجهة ديكتاتورية الأسد. لذلك أنصحك بأغلاق المنتدى.
أنا: أخالفك الراي في سوريا هناك حضور لكل التيارات والألوان السياسية واليسار ليس ألا واحداً منها. وهذا لا ينفي أن تتحد هذه الألوان كما شعار شركة بينتون الإيطالية (United Colors). لتحقيق هدف واحد وهو الخلاص من الديكتاتورية وتحقيق التحول الديمقراطي.
رياض الترك: نحن نريد بناء تحالف لا لون له وان وجود اسم اليسار يخيف البورجوازية السورية وبالتالي يجعلها خارج هذا التحالف.
أنا: إذا كان مجرد حضور اليسار في هذا التحالف يجعل الأخرين خارجه فليكن ذلك.
انتهى الحديث بدخول أصلان عبد الكريم وفاتح جاموس فانتقل رياض الترك للحديث معهما فانسحبت أنا من اللقاء وخرجت.
بعد عدة أيام من هذا اللقاء مع رياض الترك أخبرني أصلان عبد الكريم أن رياض الترك لم يترك أية قوة سياسية أو جلسة يحضرها ألا وأعلن أن منتدى اليسار هو صنيعة المخابرات العسكرية وان منيف ملحم ليس ألا عميل لشعبة المخابرات العسكرية. (طبعاً للقصة لم تنتهي في عام 2001 وإنما امتدت حتى عام 2011 أبان الثورة. يعرف بعضها المحامي خليل معتوق وبعضها الأخر المحامي إبراهيم الحكيم).
3-طبعاً تم اعتقال الرفاق الذين عادوا للعلن قبل نهاية عام 1980 ومنهم الرفيق جمال سعيد
4-يمكن الاطلاع على المحتوى الأساسي للتقرير من خلال كتاب الصديق راتب شعبو قصة حزب العمل الشيوعي
5-لقد ذكر الصديق راتب شعبو في كتابه قصة حزب العمل الشيوعي بعض الردود على التقرير سواء داخل رابطة العمل الشيوعي أو بعض القوى السياسية أو أصدقاء الرابطة.
——————————-
الجزء الرابع
-4-
تاريخ المعارضة في رابطة/ حزب العمل الشيوعي
تشكل قضية الديمقراطية والحريات اليوم الشغل الشاغل في الحديث والكتابة والتعليقات لقطاع كبير من الكتاب والمثقفين والناشطين السوريين بكل تلويناتهم الفكرية والسياسية. لذلك تعقد الندوات وتكتب المقالات في: لماذا لم نحظ بحياة سياسية ديمقراطية ونظام سياسي ديمقراطي؟ وكيف، وماهي المقومات الأساسية لبناء دولة ديمقراطية مدنية/علمانية؟ ومن هي الحوامل – طبقات/ فئات طبقية أو اجتماعية لبناء هذه الدولة بعد أكثر من نصف قرن من غياب الحريات والمؤسسات الديمقراطية. وبعد نصف قرن من نظام استبدادي استثنائي من الصعب إيجاد مثيل له في التاريخ الحديث.
المفارقة في الحديث اليوم عن الديمقراطية والمتحدثين عنها وباسمها ومن أجلها أن أكثرهم لم يشهد أي حياة سياسية ديمقراطية كون معظمهم عاش طوال حياته السياسية في ظل النظم الديكتاتورية والاستبدادية. كما أن معظمهم قضى حياته السياسية ضمن أحزاب وقوى سياسية ومنظمات لا ديمقراطية، بل إن بعض هذه الأحزاب والمنظمات كانت في حياتها الداخلية صورة مشوهة عن الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية. ولم تسلم الانشقاقات عن هذه الأحزاب احياناً من حمل كل أمراض المركز الذي انشقت عنه فيما يتعلق بقضية الديمقراطية والحريات في الحياة الداخلية لهذه الأحزاب والمنظمات. وقد وصل الأمر في بعض القوى السياسية، والعديد من الناشطين، أن طلقت تاريخها الطويل، ومرتكزه الأيديولوجي (اليساري الشيوعي أو اليساري القومي)، والانتقال إلى مرتكز أيديولوجي جديد نقيض (الليبرالي الرأسمالي) ولكنها ظلت في الممارسة حبيسة تاريخها الطويل في التعامل مع الديمقراطية في منظماتها “الجديدة” وفي علاقتها مع القوى السياسية الأخرى.
من جهة أخرى فإن الكتابة والتنظير عن الديمقراطية شيء وممارسة الديمقراطية شيء آخر. كما أن الممارسة الديمقراطية داخل “البيت” السياسي (الحزب أو المنظمة) شيء والتعامل مع الآخر المختلف خارج “البيت” شيء آخر.
كل هذه العوامل ترمي بثقلها على قضية الديمقراطية والحريات مستقبلاً. ومع هذا أرى فيما يجري اليوم من قبل العديدين من الأفراد أو الأحزاب والمنظمات من نقاش حول الموضوع(الديمقراطية) مقدمات مهمة لعبور الصحراء على طريق بناء قوى سياسية ديمقراطية ونظام ديمقراطي تعددي في سورية يرمي عن كاهل السوريين عبء أكثر من نصف قرن من الدكتاتورية البغيضة والاستبداد الذي تلون بكل الألوان خلال تاريخه الطويل أضيفً أليه في الآونة الأخيرة استبداداً إسلامياً (جبهة النصرة وأخواتها) يسيطر على بعض مناطق سورية.
في هذه المقالة سأتناول تجربتي في رابطة/حزب العمل الشيوعي في قضية محددة وهي قضية الديمقراطية داخل التنظيم دون الدخول في العوامل والأسباب التي جعلت هذه التجربة (تجربة الرابطة/ الحزب الديمقراطية) مميزة نسبياً بالقياس لما عرفته الساحة السياسية السورية على هذا الصعيد.
في الطريق إلى التروتسكية
على مدى ما يقرب من نصف قرن (منذ أن تأسس الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي) لم تعرف الساحة السورية تياراً يسارياً شيوعياً سوى الحزب الشيوعي الرسمي(الستاليني) الذي ارتبط اسمه بالنهاية باسم خالد بكداش، وهو شيء لم يحدث في أي ساحة من الساحات لا على الصعيد العالمي ولا على الصعيد العربي. فقد شهدت الساحات العالمية والعربية منذ سيطرت الستالينية على الحركة الشيوعية العالمية عام 1927 انشقاقات أو تشكيل تيارات شيوعية مناهضة للستالينية، كان أشهرها عالمياً التيار الماوي والتيار التروتسكي. ولكن الساحة السورية ظلت عصية على الخروج من قيد الستالينية. فجميع الخارجين من حضن البكداشية أحزاباً وأفراداً ظلوا يدورن في فلك الستالينية ولاسيما في الموضوع/القضية التي نتحدث (الديمقراطية). والأسواء من ذلك فقد شكلت البكداشية/الستالينية نموذجاً لكل التيارات الأخرى غير الشيوعية (القومية بكل تياراتها) على هذا الصعيد كانت ولادة رابطة/حزب العمل الشيوعي عام 1976 هو الاستثناء الوحيد الذي لم يلد من رحم الستالينية.
في منتصف عام 1971 هداء الحديث عن شرعية أو لا شرعية الانقلاب الذي قام به وزير الدفاع حافظ الأسد عام 1970. لم يمض على تخرجي من الكلية العسكرية سوى سنة وقد تلقيت تهديد طردي من الجيش إن عدت للحديث في هذا الموضوع.
كانت المصادفة أن زرت معرض دمشق الدولي، فشاهدت في أحد الأجنحة كتبا” ماركسية من إصدارات دار التقدم السوفييتية. ابتعت بعض الكتب وكان من “أضخمها” كتاب (ماركس أنجلس لينين فكرهم وأعمالهم). فتحولت أوقاتي من لعب الورق أثناء مناوباتي عندما لا يكون هناك طارئ للعمل على السلاح إلى القراءة. ترافق ذلك بمحض المصادفة (أو أن الأمر كان مقصوداً) إن أهداني قائد اللواء لتفوقي بالمسابقات الثقافية التي كانت تقام في حينها كتابين: الأول للمفكر الفرنسي روحيه غارودي، والثاني لصحفي فرنسي على ما أعتقد يتحدث عن التجربة الماوية في الصين.
أكثر ما لفت انتباهي بكتب دار التقدم انه أثناء ورود اسم تروتسكي يكون دائماً هناك هامش يصفه بأقذع الصفات (متأمر، معادي ل لينين، عميل للإمبريالية،…الخ). لم أستطع أن أتفهم كيف كان أحد قادة ثورة أكتوبر عام1917 وكيف أصبح ذلك؟!. بعد فترة ليس ببعيدة حصلت على كتاب إسحاق دويتشر (ستالين سيرة سياسية). توضحت الصورة أفضل. أصبحت كارهاً لستالين ومتعاطفاً مع تروتسكي.
في عام 1973 طردت من الجيش بتهمة إنني ماركسي، فعملت في مصنع الجرارات في حلب لمدة عام ثم انتقلت للعمل في مصنع المحركات الكهربائية في اللاذقية في منتصف عام 1974. وبعد حوالي عام أي في أواخر عام 1975 شكلت مع بعض العمال حلقة كانت تعمل في لقاءاتها على مناقشة أوضاع المعمل ومناقشة الوضع السياسي العام في سورية(1) مع قراءة بعض الكتب والنشرات التي تصدر عن القوى السياسية في سورية وبعض الصحف البنانية إن وجدت. في تلك الفترة قرأت الكثير من كتابات لينين بما فيها خلافاته مع تروتسكي حول التنظيم وبعض من كتابات تروتسكي (تاريخ الثورة الروسية، والثورة المغدورة، الثورة الدائمة والاشتراكية في بلد واحد).
كنت متردداً في الانضمام إلى أي من التنظيمات الموجودة في سورية أو دعوة أعضاء الحلقة لذلك. إلى أن فاتحني أبرز أعضاء الحلقة وأكثرهم ديناميكية ونشاط وجرأة (جهاد عنابة) انه عضو في حلقة ماركسية أخرى ويرغب أن يطلعني على أعمالها ومنشوراتها. وهكذا أصبحنا جميعاً تقريباً جزء من الحلقات الماركسية وساهمنا في تأسيس ما أصبح يعرف منذ عام 1976 برابطة العمل الشيوعي.
جرت انتخابات المندوبين من الخلايا لمؤتمر” المنطقية “بشكل حر وديمقراطي. كما تم انتخاب المندوبين إلى الاجتماع الثالث الموسع عام1976 بشكل حر وديمقراطي. وقد فشلت في الحصول على عضوية الاجتماع الثالث الموسع. وبالتالي لم احضر الاجتماع الذي أعلن تأسيس رابطة العمل الشيوعي.
بعد حملة أذار 1977 أصبحت مطلوباً لمخابرات امن الدولة، فانتقلت إلى دمشق لمتابعة نشاطي. تميز عام 1977 بانشغال التنظيم(الرابطة) بترميم الوضع التنظيمي (الذي بالكاد خرج من رحم الاجتماع الثالث الموسع) نتيجة عدد المعتقلين والعمل على إصدار وتوزيع الخط الاستراتيجي لرابطة العمل الشيوعي(الكراسات).
في دمشق التقيت برفاق لم يحدث أن التقيت بهم من قبل، والتقيت بناشطين من قوى سياسية أخرى. كان من نتيجة ذلك أن وُسمت من قبل الرفاق بالتروتسكي وسببت حواراتي مع من هم ناشطين من قوى سياسية أخرى بوسم التنظيم بالتروتسكيه.
جرت الأمور بدون أي معوقات أو حساسيات من أرائي المخالفة لرأي التنظيم سواء مع الرفاق الذي التقيهم أو في قيادة التنظيم ولذلك عندما تم استكمال أعضاء الهيئة المركزية في كانون الثاني 1978 بعد حملتي اعتقال (نيسان 1978 وأيلول 1978) كنت واحداً من الأعضاء في الهيئة المركزية وتم انتخابي لعضوية لجنة العمل.
اعتقد أن سنوات 79 -80 هي السنوات التي تبلور فيها الخط السياسي لرابطة العمل الشيوعي وأعطت المسار العام لتشكيل حزب العمل الشيوعي في عام 1981. ولم تكن عملية إصدار الكراسات والجهد الذي بذل فيها وبنقلها من بيروت إلى سورية ذات فائدة تذكر في رسم الخط السياسي للرابطة بداية وللحزب في النهاية. كما لم يكن أي من موضوعات ومقالات الراية الحمراء (الصحيفة المركزية لرابطة/حزب العمل الشيوعي) مهتما بما جاء في الكراسات. فالخط السياسي للحزب يرسم من خلال الممارسة اليومية وفقاً لحركة الواقع المتحرك وليس بالجلوس في غرف مغلقة لرسمه. وهكذا ارتسم خط الرابطة/ الحزب.
كانت سنوات 79-80 غنية بالأحداث والتغيرات على صعيد تسارع الأحداث وخطورتها على كل الفاعلين في الشأن السوري (نطام وقوى سياسية معارضة). ولذلك كانت غنية على صعيد الرابطة سواء بنشاطها السياسي العام أو بالنشاط داخل التنظيم وتياراته المتصارعة(2).
كان الأهم بالنسبة لموضوعنا هو تنشيط جريدة التنظيم الداخلية(البروليتاري). رأيت في الكتابة بالبروليتاري المجال الديمقراطي الذي يتيح لي كتابة وجهة نظري فيها ونشرها على أوسع نطاق داخل التنظيم بعد أن بقيت محصورة داخل الهيئات القيادية (الهيئة المركزية ولجنة العمل).
لجعل (البروليتاري) مستقلة أوٌكِلت رئاسة تحريرها للرفيق النقي جميل حتمل (لروحه السلام ولذكراه أعطر الكلمات).
جاءت التفاعلات على كتاباتي(3) من قبل الرفاق متباينة. فالبعض قدم نقداً جوهره الدفاع عن خط التنظيم، وآخرون ثمنوا وجهة النظر، واحد فقط من الرفاق طالب فيها بطردي من التنظيم (لروحه السلام).
لم يشكل نشر وجهة نظري على التنظيم أي معارضة أو حتى حساسية ضمن الهيئات القيادية. كما إن الخلافات ضمن الهيئات القيادة لم ينظر اليها باعتبارها خلافات مع التروتسكية. فانا لم انطلق يوماً من أساس الخط التروتسكي(4) لمعارضة وجهات نظر الرابطة/الحزب وإنما من اعتقادي بان ما اطرحه صحيح بغض النظر اتفق مع الخط التروتسكي أم لم يتفق. ولذلك حدث أكثر من مرة أن واجه الرفاق وجهة نظري بمواقف تروتسكيين (سواء كتنظيمات تروتسكية، أو تيارات ضمن الأممية الرابعة) هي أقرب إلى وجهة نظرهم من موقفي (غزو أفغانستان، الموقف من الحكم العسكري في أثيوبيا…الخ).
التحضير للمؤتمر التأسيسي لحزب العمل الشيوعي 1981
شٌكلت لجنة للتحضير للمؤتمر مكونة من أعضاء لجنة العمل (فاتح جاموس، أصلان عبد الكريم، أكرم البني، محمد معمار، منيف ملحم) بالإضافة لثلاث رفاق من الهيئة المركزية (وجيه غانم، عباس عباس (أبو حسين)، وثالث لا أتذكر من يكون). أعدٌت التقرير السياسي واللائحة التنظيمية للمؤتمر والنظام الداخلي. عقدت المنظمات مؤتمراتها (بعد إن انتخبت الخلايا مندوبيها) وانتخبت ممثليها للمؤتمر العام. حضر مندوب عن الهيئة المركزية في كل المؤتمرات(5). جرت الانتخابات بشكل حر وديمقراطي ولم تسجل شكاوى ألا من منظمة دمشق حيث ورد إن الرفيق مندوب الهيئة المركزية (أصلان عبد الكريم) مارس ضغط على المؤتمر لتمرير وجهة نظره ودعم الرفاق الذين يشاركونه الرأي. اقر الرفيق بذلك وادعى انه بجهل في القواعد التنظيمية للمؤتمر حاول الدفاع عن وجهة نظر الحزب ليس أكثر. وهو يعتذر عن ذلك.
بالإضافة للرفاق المنتخبين ترك للجنة التحضيرية حق تعيين رفاق ليس لهم هيئات تنظيمية بسبب كونهم على علاقة مباشر مع الرفاق في لجنة العمل (العاملين في الطباعة، الخلية الفنية، المراسلين، وبعض الرفاق الذين لأسباب أمنية على علاقة مباشرة مع لجنة العمل) كان عددهم 7 رفاق (لم يحضر منهم المؤتمر سوى 5 رفاق بسبب عدم إمكانية البعض تجاوز الحدود إلى لبنان) من مجموع أعضاء المؤتمر أل 60.
قبل المؤتمر كانت خلافاتنا النظرية والسياسية يمكن حلها في إطالة النقاش فيها سواء في لجنة العمل أو الهيئة المركزية قدر المستطاع باعتبار ليس لطرف مرجعية محددة بدقة يمكن الركون اليها لحسم الموقف. ولجعل الأمور تجري بسلاسة يتم في النهاية التصويت وينتهي النقاش. لذلك كثير ما تحدث تنازلات بانتظار المؤتمر لوضع الأسس الراسخة لتكون بمثابة مرجعية تحسم أي خلاف.
في الوثائق المقدمة للمؤتمر التأسيسي تركز اختلافي في نقطتين رئيستين: الأولى حول الموقف الأممي (يختصر في حينها بالموقف من الاتحاد السوفييتي) والتي تقول كما ورد في التقرير: “إن حركة التحر الوطني بعد أن وصلت في انحدارها في العقد الأخير إلى القاع ها هي تنهض من جديد بفعل التجذر الثوري للاتحاد السوفييتي” ويستشهد التقرير بالموقف السوفييتي في أفغانستان وإفريقيا…الخ. في الوقت الذي كنت أرى فيه مزيد من الانحطاط في السياسة السوفيتية ولاسيما في قضية الحريات. والثانية: الموقف من الحكومة الثورية المؤقتة التي وردت بالبرنامج الانتقالي. هل هي حكومة ديمقراطية ثورية تهيمن عليها البرجوازية الصغيرة كما يذكر البرنامج؟ أم هي حكومة ديمقراطية ثورية تكون الغلبة فيها للطبقة العاملة (كل العاملين باجر) كما أرى أنا؟ (6).
غبار الستالينية يملئ قاعة المؤتمر
ما إن تم الانتهاء من مناقشة التقرير السياسي (صوت 15 عضو ضد التقرير وتم وصفهم بالتروتسكيين مع العلم إن اسم تروتسكي لم يرد على لسان أي من المتحدثين) حتى اجتاحت المؤتمر موجة من الشتائم والتخوين للأعضاء الذين صوتوا ضد التقرير. استكملت هذه الموجة المسعورة بتقديم اتهام لي بالتآمر مع التجمع الشيوعي الثوري في لبنان(تروتسكيين) قادها فاتح جاموس بالتنسيق مع رفيقين كانا يقيمان في بيروت طالب فيها بمعاقبتي للقيام باتصالات سرية من خلف ظهر التنظيم.
فشل اقتراح فاتح عندما تم التصويت عليه بالحصول على أكثرية (نال 15 صوت فقط). ولكن أجواء المؤتمر لم تعد مريحة ومتوترة للأقلية اليسارية.
صوتنا ضد الحكومة الثورية المؤقتة كما وردت في الوثائق وضد مشروع أرسال رفاق للتدرب على السلاح عند فصائل المقاومة الفلسطينية التي اقترحه فاتح جاموس.
في الواقع كنا كتلة متراصة في المؤتمر في جميع النقاط التي تم مناقشتها. وفي النهاية أعلنا تمسكنا بالحزب وانسحابنا من انتخابات اللجنة المركزية، ولاسيما بعد إن طرح أصلان عبد الكريم مشروع قرار تمت الموافقة عليه. يمنع تمثيل الأقلية في المكتب السياسي للحزب.
في الحلق القادمة مطاردة السحر وتشويه الأقلية.
**********
1- يمكن الاطلاع على تجربة حلقتنا في معمل المحركات من خلال المقالة المنشورة في موقع الجمهورية بعنوان (الديكتاتورية وأشيائي الصغيرة). كما يمكن الاطلاع عليها على صفحتي الشخصية.
2- يمكن الاطلاع على الخلافات التي تصاعدت في عام 1980 في الهيئة المركزية من خلال الحلقة /2/ بعنوان لغز شعار إسقاط النظام المنشورة على صفحتي والحلقة /3/ بعنوان تقرير أب وتجميد شعار إسقاط النظام.
3- كتبت مقالاتي للجريدة الداخلية(البروليتاري) باسم سمير باعتبار اسم أبو وليم كان معروف من هو صاحبه.
4- لم اتبع الطريقة في التحليل الذي يتبعها البعض، (بل كنت اعتبرها أقرب إلى الإيمانية اللاهوتية) والمتمثلة بالاستشهاد بماركس ولينين وتروتسكي. بل إن إعجابي بتروتسكي كان من أحد أسبابه أن تروتسكي قليلا ما يستشهد بماركس أو أنجلس. واذكر انه في أحد حواراتنا ضمن لجنة العمل وكان يدور حول الموقف من الاتحاد السوفييتي وهل هو دولة اشتراكية؟ قلت: بالنسبة لي لا دولة اشتراكية إذ لم تكن الديمقراطية والحريات فيها أوسع من الدول الرأسمالية أو بالحد الأدنى مساوية لها. فكان أن رد على الرفيق أصلان عبد الكريم: هذا لم يرد لا عند ماركس ولا عند لينين. فقلت ضاحكاً: سجلها في الماركسية باسم منيف ملحم.
5- اذكر إن الرفاق الذين تم تكليفهم بحضور المؤتمرات هم: أصلان عبد الكريم، احمد رزق، وائل السواح، ومنيف ملحم.
6- ربما يرى البعض في هذه الخلافات أن لا قيمة كبيرة لها في العمل السياسي ولاسيما في المهام المطروحة علينا في سورية. ولكنني أرى اليوم إن تقدير صحيح أو خاطئ لمواقف القوى الكبرى العالمية (السوفييت سابقاً وروسيا حالياً والولايات المتحدة) كان له الأثر البليغ في هزيمة ثورتنا عام2011.
———————————
الديكتاتورية وأشيائي الصغيرة/ منيف ملحم
مائةٌ وخمسون يوماً في أقبية الموت، مررتُ خلالها بأربعة أفرعٍ أمنية، وأربعة سجون عسكرية، تعرضتُ فيها لكل أنواع الذل والإهانة التي يمكن أن يتعرض لها إنسان. غزت جسدي جيوشٌ من القمل والجرب وكل أنواع الفطور، أنهكَ الجوع والمرض والبحث عن لحظة نومٍ جسدي. عناصر مسعورة، الأم والأخت مركز شتائمهم، ومحققون حاقدون جهلة، والنهاية كانت أمام محكمة الميدان العسكرية.
هكذا كان الأمر في الاعتقال الأخير، وهكذا كانت الديكتاتورية على مدى ستة وأربعين عاماً من عمري، تحطم وتسرق أشيائي الصغيرة.
الديكتاتورية وأشيائي الصغيرة!
في منتصف عام 1970 تخرجت ضابطاً من الكلية العسكرية، لم أكن قد بلغت العشرين بعد، مزهواً بنفسي وسلاحي. في ذلك التاريخ ولدت أشيائي الصغيرة، ولكن الحظ أو الصدفة، أو لعنة الغجرية التي ضربت الفال لوالدتي وأنا الى جانبها لم أبلغ السادسةِ من عمري، كانت وراء ولادة أشيائي الصغيرة مترافقةً مع ولادة أعتى ديكتاتورية عرفتها بلدي، وستعرفها مستقبلاً.
بعد أشهرٍ قليلة على تخرجي انتهى الصراع على السلطة المستمر منذ سنوات داخل الحزب الحاكم، بين وزير الدفاع الفريق حافظ الأسد وما عُرِفَ بجماعة القيادة القطرية لحزب البعث، أو جناح صلاح جديد، إلى سيطرة وزير الدفاع على السلطة مرسلاً رفاق الأمس إلى المعتقل ليقضوا بقية حياتهم. كنا ندرك نحن الضباط الصغار أن الكفة تميل لصالح وزير الدفاع منذ أن قام قائد مطار التيفور العسكري، المقدم محمود عزام -على ما أذكر-، بمنع اللواء صلاح جديد الأمين القطري للحزب من دخول المطار، بحجة أنه يفسد عقول الضباط بتنظيراته. كما أننا كنا نلمس ميل كبار الضباط لوزيرهم، وهو ما كان يتعارض مع ميول صغار الضباط. كنت متحمساً لمعارضة وزير الدفاع، ليس حباً او اتفاقاً مع الجناح المعارض له وإنما لإحساسٍ تملكني أن الوزير العتيد لن يحمل إلينا سوى المصائب.
لم أكن أدخر جهداً في مهاجمة الوزير وأطروحاته، لا في اللقاءات الحزبية ولا في الحوارات التي تتم بين زملائي من الضباط. أذكرُ أنني عشية استيلاء وزير الدفاع حافظ الأسد على السلطة، كنتُ في قمة الحماس في رفض خطوة وزير الدفاع، فوقف أمامي أحد زملائي الضباط (من اللاذقية) قائلاً:
ابن عمي في دمشق اضحى خليفةً… إن شئتُ قدتكم إلى بالميرا
تذكرتُ هذا القول وأنا أعبر بوابة سجن تدمر في عام 1982 مُستقبلاً من قبل عناصر السجن بالعصي والسياط، لأقضي ستة عشر عاماً في معتقلات ديكتاتورية حافظ الأسد.
لم يمر على هذا المشهد أكثرُ من شهرٍ حتى حملَ إليّ قائد اللواء الذي تتبع له وحدتي العسكرية، أن رئيس المخابرات الجوّية محمد الخولي يبلغني ما معناه أن اسمي ما زال مكتوباً في سجلات الجيش بالقلم الرصاص، وهو قادرٌ على إزالته بممحاة (ضب لسانك وكول خرى). في الواقع لم أضبَّ لساني تماماً، وكنتُ أعلمُ أن بعض زملائي من الضباط يرسلون تقاريرهم عني إلى رئيس المخابرات الجوية، لذلك وجهت اهتمامي الرئيسي لقراءة الكتب الماركسية، والكتب التي تتحدث عن تجارب اشتراكية أهداني بعضها قائد اللواء لتفوقي في سلاحي.
ماهي أشيائي الصغيرة؟
بصفتي ضابطاً في الجيش، أصبحتُ قادراً على امتلاك أشيائي الخاصة، أنا المولود في عائلة فلاحية لأبوين لديهم أحد عشر طفلاً. قد تبدو بسيطةً، لكنها كانت بالنسبة لي في حينها، ورافقتني طوال حياتي باعتبارها، أثمنَ وأجملَ ما أملك. قد تكون ولاعة سجائر، أو كتاباً من بين العديد من الكتب التي أملكها، أو قميصاً جميلاً أحبه من بين العديد من قمصاني، أو قلماً تم إهداؤه إليّ، أو مبسم دخان، والأهم والأحب اليّ، حقيبة يدٍ جلدية كانت في معظم الأحيان تختزن بعض أشيائي الصغيرة، وأعتقد أن ما من أحدٍ التقاني خارج بيتي إلا وشاهدها في يدي.
كانت أشيائي الصغيرة مع الزمن تصبح جزءاً مني، أداعبها برفقٍ عندما ألمسها، وأنظرُ إليها بحب يساوي حبي لصديقتي أو يزيد عنه أحياناً. ولاعة سجائري رافقتني سبعة عشر عاماً، وحقيبة يدي تعلقت بي أربعين عاماً. كنتُ أدرك أن بعضها إذا فُقِدَ لن يُعوض، وإنما سينقرض إلى الأبد، مثل بعض الحيوانات التي انقرضت.
كانت الضربة الاولى من الديكتاتورية لـ أشيائي الصغيرة في 2/1/1973، عندما تم طردي من الجيش. بعدها ذهبتُ للعمل في معمل الجرارات في مدينة حلب بصفة عاملٍ عادي في 1973-1974، ثم في معمل المحركات الكهربائية في اللاذقية بصفة عاملٍ فني. هناك أسستُ حلقةً ماركسية بين زملائي من العمال، وقد شاركت تلك الحلقة في تأسيس رابطة العمل الشيوعي عام 1976.
لم يمض على وجودي في مصنع المحركات سنتان، حتى خضتُ مع رفاقي وزملائي من العمال الانتخابات النقابية بقائمةٍ مضادةٍ لقائمة ما يعرف بقائمة الجبهة الوطنية. وعلى الرغم من أننا خسرنا الانتخابات، إلا أننا حققنا نسبة من الأصوات هددت قائمة النظام.
لم يغفر لي النظام تجرؤي على تحدّيه، فسارعَ بعد حين عن طريق مدير المصنع إلى إرسال بعض أزلامه ليعترضوا طريقي وأنا أتنقلُ ضمن المصنع، وينهالوا عليّ بضربٍ ما زالت بعض آثاره باقية على وجهي. وفي اليوم التالي تم نقلي من المصنع، ووضعي تحت تصرف محافظ اللاذقية.
في كانون الأول 1976 صدر العدد الأول من الجريدة المركزية لرابطة العمل الشيوعي، الراية الحمراء، وفي 25 آذار 1977 شنّ الأمن حملة اعتقالات طالت التنظيم في أكثر من محافظة، وقد داهم الأمن بيتي في 27 آذار. استطعتُ الإفلات من قبضة الأمن، ولكن لم يدمّر الأمن أشيائي الصغيرة فقط، وإنما دمّر كل ما أملك وأعز ما أملك على قلبي، مكتبتي.
عشتُ ما يقارب خمس سنوات 1977-1981 متنقلاً بوثائق مزوّرة داخل أو خارج سوريا، حسب المهام التي كنت مكلفاً بها من التنظيم. كانت الحياة ضيقةً والنشاط صعباً، وهاجس الاعتقال يلازمني دائماً في سنوات 1977-1979، ولكن انفجار الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة في نهاية عام 1979 جعل الحركة أكثر صعوبة والتنقل خطراً، لا سيما في الليل، فالتفتيش على الحواجز والمداهمات التي تتم ليلاً لتفتيش أحياء بأكملها بيتاً بيتاً، جعلت الحياة محفوفةً بالخطر.
في مطلع عام 1980 كان النظام يهتزّ، مما دعا رأس النظام الى الظهور بشكل أسبوعي من خلال مؤتمرات ما أطلق عليه النظام اسم المنظمات الشعبية (عمال، فلاحين، طلبة، إلخ). وقد سعى النظام من خلالها إلى شدّ العصبية الطائفية التي يستند إليها، مستغلاً الخطاب الطائفي للقوى الإسلامية التي حملت السلاح في مواجهة النظام. كما سعى إلى طمأنة الجمهور العريض الناقم على سياسة الفساد والقمع، الذي جعل السجون ممتلئة منذ سنوات ودون محاكمة، بالمعتقلين من جميع التيارات السياسية (إخوان مسلمون، بعثيون من اليمين واليسار، شيوعيون..)، والأهم أنه سعى إلى طمأنة البرجوازيّة التقليدية والجديدة بأن الأمور ستكون أفضل لها ما أن يتم تحطيم العُصاة أياً كان لونهم. كان لدى تنظيمنا في حينها 108 رفيق ورفيقة في السجون، وكان بعضهم قد اعتقلوا منذ مطلع عام 1977.
في شباط 1980 أطلقَ النظام سراح العديد من المعتقلين من جميع ألوان الطيف السياسي، تم خروج 104 رفيق ورفيقة من المعتقل، ولكن النظام رفض إطلاق سراح رفاقنا العسكريين.
التطوراتُ السياسية التي شهدتها الساحة في سوريا، وخروج رفاقنا ورفيقاتنا من المعتقلات، استدعت عقد مؤتمرٍ عامٍ للتنظيم، فكان المؤتمر في الأول من آب عام 1981، وفي 9 آب داهم الأمن بيتي الذي كنت أسكنه واعتقلني، وباستثناء بنطال جينز وقميص «تي شيرت» صيني الصنع كنت ارتديهما، لم يترك شيئاً إلا واستولى عليه.
بعد تنقلٍ بين فروع الأمن ومعتقلات تدمر وصيدنايا، خرجتُ من المعتقل في عام 1997 بعد قضاء 16 عشر عاماً. وبعد خروجي من المعتقل لزمتُ قريتي لمدة عامين، تعرفتُ خلالهما على عالمٍ جديد (عالم أهل الكهف). وسعيتُ إلى ترميم بيت الأسرة، وهو بيتٌ عربيٌ من الطين والخشب، يعود بناؤه الى منتصف القرن العشرين. في عام 1999 انتقلتُ الى دمشق، وسكنتُ مستأجراً في ريفها بيتاً صغيراً. كان عناصر الأمن يلاحقونني ويراقبون بيتي وهاتفي على مدى 24 ساعة، كما كانت الفروع الأمنية تستدعيني للتحقيق بين فترة وأخرى، سواء بسبب تأسيسي لمنتدى اليسار إبان فترة حراك المنتديات وما عُرفَ بربيع دمشق، أو بسبب تأسيسي لحركة البديل لمناهضة العولمة.
بعد اندلاع الثورة في آذار 2011، وفي 11 نيسان تحديداً كنتُ ضيفاً على قناة الجزيرة للحديث عمّا يجري في سوريا. أثار ظهوري على القناة شبيحة النظام، فهاجموا بيتي في القرية ونهبوه وأشعلوا فيه النيران، وقاموا بتهجير جميع أفراد أسرتي من القرية. بنهب البيت وحرقه فقدت أرشيفاً من الصور بالأبيض والأسود لأفراد عائلتي وأصدقائي، تعود للفترة الممتدة من منتصف الستينيات حتى مطلع الثمانينيات.
الفترةُ التي عشتُ فيها في بيتي الصغير في ريف دمشق منذ عام 1999 وحتى اعتقالي عام 2015، تعدُّ المرة الأولى خلال عمري الذي تجاوز الـ65، التي أعرفُ فيها الاستقرار المتواصل الطويل في مكان، بما فيها فترة سكني عند أهلي، هذا إذا استثنينا اعتبار المعتقل مكاناً للسكن. في هذا الاستقرار الطويل زادت ذخيرتي من الأشياء الصغيرة، وزاد حبّي لها وتعلقي بها، وهي حالةٌ تشبه الى حدٍ ما حالة كبار السن الذين يأتيهم أطفالٌ في آخر العمر. وإضافة لذلك فقد أدّى استقراري الطويل في بيتي الصغير، إلى شعوري تجاهه كجزءٍ من أشيائي الصغيرة.
اليوم لستُ حزيناً فقط لأن الديكتاتورية دمّرت بيت طفولتي في القرية، وطردتني من مكان سكني وسرقت ودمّرت أشيائي الصغيرة خلال ما يقارب نصف قرنٍ من عمري، بل لأنه لم يبقى لدي من العمر ما يكفي لاستعادتها، لا سيما أن بعضها اختفى وإلى الأبد.
من أجل هذا أكره الديكتاتورية، ومن أجل هذا قضيت عمري أحاول تخليص وطني منها.
موقع الجمهورية
————————