لو كنا في زمن آخر لأُحرق هذا الكتاب وشُرّد صاحبه في الأرض!/ عمار المأمون
نلاحظ في الحكايات والقصص التي تتحدث عن تاريخ الكتب، أن هناك قوائم بمخطوطات ومؤلفات أُحرقت أو اختفت لأسباب مختلفة، منها سياسية كحرق “الأدب المنحط” الذي قام به النازيون، أخلاقيّة كحرق روايات دي ساد وأحياناً شخصية، كإتلاف نيكولاي غوغل الجزء الثاني من روايته “الأرواح الميتة”.
تحاط هذه القوائم بهالة تحاول شرح براءة الكتب مهما كان محتواها، يَلِي ذلك تعجبٌ من إمكانية البعض إحراق كتاب، ثم ندم، سببه أن هذه القائمة ربما كانت تحوي احتمالاً أو نصّاً يغير نظرتنا للعالم، أو على الأقل للمؤلف الذي أحرقت كتبه.
الملفت للنظر في هذه القوائم أن بعض عناوين الكتب تحيل إلى المضمون كـ”كتاب الآه في فن الباه” والذي يمكن أن نفهم حين قراءته سبب الحرق، وأحياناً أخرى لا تُلفت العناوين الانتباه، كونها خالية من أي إيحاء، ولا تحيل إلى ما تخفيه، ككتاب التونسي أيمن الدبوسي، الذي سيصدر هذا العام عن منشورات الجمل بعنوان “انقلاب العين”، والذي يمكن أن يقع في الفئة الثانية، تلك الكتب التي إن لم نقرأها، لما عرفنا فحشها ولما اكتشفنا ضرورة حرقها.
لم تعد الكتب تحرق لحسن الحظّ، إذ صدر للدبوسي سابقاً رواية “انتصاب أسود”، وبعدها “أخبار الرازي”. وفي مجموعته القصصية “انقلاب العين”، يراهن المحلل النفسي على فطنة القارئ، الذي لا بد أن يجد صلة بين “انقلاب العين “و”حكاية العين” لجورج باتاي، الذي نُشر للمرة الأولى بالفرنسية تحت اسم وهمي، وتكرر الأمر مع مترجمه للعربية، الذي/التي استخدم/ت أيضاً اسماً وهمياً.
هذه التقديمات عن الكتب و”انقلاب العين”، لا تبدو مبررة للوهلة الأولى، أو هي مبالغة من قبلي، فالقصص السبع في المجموعة تتحدث عن مفهوم “العائلة” وحيوانها الأليف. نحن أمام آباء وأمهات، والأهم، أبناء، أطفال ومراهقين، يكتشفون شهواتهم ويحركون شهوات من حولهم، لكن الأمر ليس بهذه البراءة، خصوصاً حين يلج زوج إست زوجته وهي تلقم رضيعها حلمتها اليمنى.
يفتح الدبوسي الباب على المخيّلة المنحرفة إن صح التعبير، يلتقط اللحظات البريئة التي نصمت عنها أو نتجاهلها، ويدفع بها حد الفحش في تحرٍّ عن شهوات محرّمة، أو شهوات تحرّم لحظة ظهورها، ما يرسم الخط الأخلاقي بين “المعيب” و”المباح”، إذ نتصفح في الكتاب نظاماً جديداً للفتحات، يعيد تكوين الأسرة وسوائلها، عبر هنيهات تفعّلها براءة الأطفال، تتحول رعشة محرّمة في أجساد الكبار. كأن تبتلّ أمّ تجلي الصحون بينما يقحم ابنها الصغير عرنوس ذرة في شرجها، تلك العادة التي تعلمها الطفل من الأفلام الإباحية التي يشاهدها والده ليلاً، حيث يطأ الرجالُ الرجالَ أداء وشبقاً.
يلتقط الدبوسي لحظات تثير فينا القشعريرة، كونها ترسم ما هو “محرّم”، وما نحاول طرده من مُخيلتنا، لا فقط من حياتنا اليومية، خصوصاً أننا أمام شخصيات فقيرة، معذّبة، تسكنها هواجس الرغبة التي تترافق مع الرعب، إن لم نكبح جماح أنفسنا في أشد السياقات ابتذالاً، كأن تتفجر قسوة طفل شبه منتحر، فيقتل أمه التي تحلب بقرة، لأنه أيقن أن حضن البقرة أشد أمنا من والدته. ذات الرغبة نراها حين يقرر عامل بناء معفّر بالغبار والألم، أن يتحول إلى كلب على الشاطئ، مستعد للعق قدمي فتاة أضاعت كلبها، عليه يكون سلوانها فيما فقدت.
التفقّه في الفتحات
نحن لسنا أمام كتاب بورنوغرافي بل متخيّلات للعلاقات الإنسانية مغايرة عن تلك التقليديّة، ما يعني تغير توزّع الفتحات و قنوات السوائل، فالبعض ينيك غضباً، يقتل شهوةً أو يبول حباً، بل إن الفتحات نفسها قد تتحول من حفر (فتحات ذات نهاية) إلى بخوش (فتحات لا نعلم نهايتها)، هذه المعاني المتخيلة للكلمات تحيل الدبوسي نحو تاريخ الأدب، إذ يتحول الشرج الشمسيّ إلى فتحة في صدر صبي سببها قطار عبره، تاركاً مساحة لتختبئ فيها الشمس لتنير ما يراه، وكأن الفتحات في نص الدبوسي تتوازى (شرج، شمس، دائرة، قبر، فرج…)، ثم تلتبس على من يراها: أيقذف بها أم يبول؟ ولا نتحدث هنا عن حيرة بل فهم مختلف للشهوة الإنسانية، فأن تشرب ريق من تشتهي يندرج تحت الحب، لكن أليس حباً أيضاً أن تلعق شرجه المتورّد رهزاً؟
أليس حباً أيضاً أن تلعق شرجه المتورّد رهزاً؟
أين الله ذو العين المفقوءة؟
يجيب الدبوسي عن هذا السؤال بافتراضه أن الله فقأ عينه واختبأ وراء القمر، حين عجز عن مساعدة طفل اغتُصب، وتحول دبره إلى رهينة للفائز في لعبة قمار. الله، المشاهد الرعديد، صاحب العذابات اللامتناهيّة، مدهوش من قسوة البشر وعاجز أمامها. مع ذلك، هناك براءة تحويها شخصيات الدبوسي، التي لا ترى في الرغبة إلا محركاً شديد الإنسانية، مهما اختلفت قنواتها، سوائلها وفتحاتها. هناك “حبّ” حاضر دوماً، تدفعه رغبة في الخلاص من الأنا لأجل الآخر، ذاك الذي كيفما اشتهيناه فنحن على صواب.
تظهر براءة الرغبة بوضوح لدى الأطفال عند الدبوسي، الذي يخاتل تاريخ التحليل النفسي ويحرره من “حكاية أوديب” المبتذلة وأخلاقها الصارمة وشكل الأسرة الذي تفترضه، الأسرة القائمة على لعنة شهوة محرمة. فأوديب، وريث خطيئة والده الذي يحمل ذات الاسم، والذي كان يطأ جوكاستا في شرجها، أما ولادة أوديب الابن، فليست إلا نتاج لَبَس في الفتحات، ما جعله ملعوناً وسلالاته.
رغبة تُذهب العقل
هذه الرغبة تُذهب العقل، أو بصورة أخرى، لا تخضع للعقل وأخلاقه، وهنا يمكن أن نفهم مجاز عنوان المجموعة، فالعين تنقلب شهوة وتبيضّ وتتلاشى، كما تنقلب العين أيضاً ذبحاً، كما في بداية الفيلم الشهير “كلب أندلسي” للويس بونويل، والعين أيضاً إن انقلبت، انعمهت عن غرض شهوتها، ووجدته “كلاً” صالحاً للحُب، إيلاجاً، لعقاً وتمسيداً، يُشرب ماؤه وبوله ودمعه ودمه، فما المحبوب إلا انصياع اللحم لرغبة المحبّ، سواء كان أباً أو أماً أو كلباً، أو فتحة في قبر.
لا ينفع التحصّن بالأخلاق التقليدية حين قراءة “انقلاب العين”، لأن الأسطر الأولى فقط تدفع المفرطين في أدبهم إلى إغلاق الكتاب، خصوصاً أن الدبوسي يستدعي الرغبة خارج القيود، تلك التي تظهر مع التقدم في العمر واختبار العالم. بصورة أخرى، تحوّلها إلى نظام أخلاقي وسياسي، فالشهوة بشكلها المجرد، بلا أعضاء، بلا قنوات، بلا موضوعات ثابتة ومحددة، أشبه بطاقة هيولية صرف تعتلي الجسد، تشتدّ حيناً باحثة عن “حفرة”، وتفتر أحياناً أخرى لتتأمل في ذاتها.
رصيف 22