ما الذي تبقى من اليسار السوري؟ -مجموعة مقالات مختارة-
تهدف هذه الطاولة المستديرة التي أعدها لـ“صالون سوريا“ وأشرف عليها أسامة إسبر وباسيليوس زينو، والتي تحمل عنوان ”ما الذي تبقى من اليسار السوري؟“ إلى تسليط الضوء على واقع اليسار السوري بمختلف تياراته ودوره السياسي والثقافي والاجتماعي في سوريا، ومدى تأثيره في الأجيال الجديدة، وما الانتصارات التي حققها وأين فشل. كما تهدف الطاولة المستديرة إلى إلقاء نظرة من الداخل على اليسار السوري وتجربته وأين أخطأ وأين أصاب، ومن أجل هذا الهدف اتصلنا بعدد من الكتاب والباحثين وطلبنا منهم المشاركة في هذه الطاولة المستديرة انطلاقاً من تجربتهم، وخاصة من كان منخرطاً في السابق في أحزاب يسارية معينة، أو درس هذه التيارات وبحث فيها وتبنى موقفاً نقدياً منها.
دعت الطاولة المستديرة الباحثين والكتاب السوريين المهتمين إلى مناقشة الموضوع من زوايا مختلفة، كما قام بعض الصحفيين في هذا الإطار باستطلاع الآراء لمعرفة رأي الشارع ورأي الكتاب والباحثين بواقع اليسار الحالي، وطرحنا المحاور التالية للمشاركة:
١- منذ السنوات التي تلت استقلال سورية وحتى الثمانينات من القرن الماضي، برز العديد من المثقفين والمفكرين اليساريين الذين تميزوا بنضالهم واجتهاداتهم الفكرية رغم الخلافات العقائدية والتنظيمية والانقسامات التي شهدتها التيارات والأحزاب اليسارية. ما هي الخطوط الفكرية، البحثية والنقدية والتحليلية (إن وجدت) التي يعمل عليها اليسار السوري، وما مدى حضوره في الثقافة السورية وفي المجتمع السوري؟
٢- وسط الأوضاع الكارثية والدمار الذي أصاب البنية التحتية والاجتماعية والاقتصادية في سورية، هل توجد حركات أو محاولات ضمن سورية تسعى إلى إحياء الحياة الثقافية والفكرية والسياسية على نحوٍ يستجيب للتضحيات والتحديات التي بُذلت؟
٣- ما هي الأسباب التي دفعت بعض اليساريين أثناء مراحل انعطافية حاسمة للتعويل على ضرورة التحالف الاستراتيجي مع حركات أصولية إقصائية أو الدفاع عنها؟
٤- هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري” أو مجرد أفراد ذوي ميول يسارية؟ ما الذي تبقى من اليسار السوري على صعيد إنقاذ النظرية في ضوء الواقع السوري وعلى صعيد تنشيط عمل اليسار في إطار رؤية جديدة مختلفة عن السابق الحزبي والتبعي للمركز الذي انهار، وبعيداً عن التحول إلى فئة تحالفية للحصول على حصة من كعكة السلطة؟
٥- ما الدور الذي لعبه مفكرون ومناضلون ماركسيون خالفوا التيار الرسمي وأغنوا الفكر الماركسي على المستوى النظري لكنهم حوربوا على المستوى الحزبي أو كانت لهم وجهة نظر مغايرة مثل الياس مرقص ونايف بلوز وجلال صادق العظم، وغيرهم.
٦-كيف تشكل المكتب السياسي وما هي أطروحاته السياسية، وما طبيعة تحالفاته أو دعوته للتحالف مع الإسلاميين التي أثارت جدلاً؟ وكيف كان موقف التيارات اليسارية الأخرى منه، تجربة سجن رياض الترك والتحولات الأخيرة التي طرأت على أفكاره.
٧-كيف تأسست رابطة العمل الشيوعي، ما هي طروحاتها الجوهرية وكيف انتهت؟ أم هل ما تزل موجودة؟ وهل استطاعت أن تؤسس قاعدة شعبية حقيقية؟ وما هي مواقف الأحزاب اليسارية الأخرى منها؟ وهل ترى الآن أن الأفكار النظرية لهذه الحركة كان يمكن أن تقدم رؤية سياسية مهمة في السياق السوري؟
٨- موقف اليسار من الانتفاضة والحرب في سوريا، ولماذ لم يستطع اليسار استغلال الحدث السوري الكبير وترك الساحة للإسلاميين وتياراتهم الجهادية المتطرفة، وما هي مبرراته في اتخاذ الموقف الذي اتخذه.
سينشر موقع ”صالون سوريا“ المساهمات التي ترده تباعاً ويقوم بتفعيل الروابط:
الفرص الضائعة وسياسة الإنكار، حزب الشعب الديمقراطي/ حسين شاويش
اليسار السوري إلى أين؟ هامشية سياسية وحضور ثقافي أغنى/ د. كريم أبو حلاوة
اليسارالمتجدد سيظل موجوداً/ وائل سواح
سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”/ غسان ناصر
نايف بللوز /الماركسي المختلف (1931-1998)/ الهيثم العطواني
اليسار السوري.. التباس الهوية والخطاب/ عامر فياض
نحو مادية ديالكتيكية “مثاليّة” للضياع العربيّ الأخير!/ د. علي محمد اسبر
رابطة العمل الشيوعي في سورية بعض ما لها وما عليها/ جمال سعيد
اليسار السوري والمواقف المعاكسة للرؤى اليسارية والثورية/ أمل نصر
مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية/ أنور بدر
اليسار السوري وسؤال الفعالية/ غسان ناصر
حوار مع محمد (أبو علي) صالح (١): حزب العمل الشيوعي والاعتقال وربيع دمشق/ محمد صالح
حوار مع محمد (أبو علي) صالح (٢): الطائفية ومجزرة الساعة في حمص/ محمد صالح
اليسار التائه بين شعارات متنافرة/ حسيبة عبد الرحمن
المنهج الماركسي ما يزال حياً وقابلاً للحياة/ سحر حويجة
—————————–
فرص ضائعة وسياسة انكار… “حزب الشعب الديمقراطي” نموذجاً/ حسين شاويش
كلما فكرت باليسار السوري قفزت إلى ذهني الجملة التي قالها لي رياض الترك في برلين، لدى زيارته الأولى لأوربا بعد خروجه من سجنه الثاني، عندما قدمت له ورقة بعنوان “هل بقي لليسار من دور يلعبه؟”. كانت الجملة: “لا يوجد يسار”. يومها اعتقدت أنّه حكم وجود واقعي. الآن، وبعد أن صار ما صار، أعتقد أنه كان حكم إعدام.
لخّص، بالنسبة لي، هذا التصريح من شيخ اليسار السوري آنذاك الجانب الذاتي من أزمة اليسار السوري. إنّه الفقدان المطلق للثقة بالنفس. وعندما يفقد المرء الثقة بنفسه يلتحق بأحد أولئك الشجعان الذين مازالوا يحتفظون بتلك الثقة. ويفترض المنطق أن يكون ذلك الملتَحَق به قريباً فكريّاً من المسكين الفاقد للثقة بنفسه. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي لا علاقة له على ما يبدو بهذا المنطق، فاختار الإخوان المسلمين، أو لعلّه التحق به لهذا لسبب إيّاه؟
وعندما يرتكب المرء هذه الحماقة فلماذا نستغرب أن ينزلق إلى ما هو أكبر منها؟ كأن يدافع جورج صبرة عن جبهة النصرة مثلاً، في كلمته التي أصبحت من الشهرة بحيث لا أحتاج هنا لذكرها. فالتعاون مع الإخوان المسلمين يمكن تبريره بأنهم سبق أن شاركوا في انتخابات برلمانية ديمقراطية ذات يوم على الأقل، كما هو معروف، رغم كل ما يمكن أن يُقال عن ديمقراطيّتهم بأنها “ديمقراطية أدواتية”، أي أنها مجرّد أداة للوصول إلى الحكم، بدليل غيابها الكامل عن بنية الحزب وعلاقاته الداخلية المبنية على مبدأ الولاء المبني على البيعة الشرعية..الخ. أما جبهة النصرة فقد كانت وما زالت تعتبر الديمقراطية وحكم الشعب شركاً بالله، وهو منطق السلفية الجهادية نفسه الذي أعاد صياغته سيد قطب في كتبه الكثيرة وخاصة “معالم في الطريق” الذي أصبح “إنجيل الثورة الإسلامية” وخاصّة في فرعها الجهادي. وهنا أذكّر باختصار شديد أن الكتاب المذكور كان أحد أكثر ما يقرأه الإخوان أنفسهم، إلى درجة أنهم كانوا يختصرون العنوان بكلمة “المعالم” في أحاديثهم بسبب شهرته بينهم.
خيبتي تلك مع الرفيق رياض الترك تكرّرت مضاعفةً، عندما قرأت نص الكلمة التي ألقاها في احتفالية الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس بتاريخ 14/12/2018 حيث يتحدّث عن “صدمات صغرى” سبّبها النظام بإطلاق مئات السلفيين من سجونه ودفعه لهم لمصادرة الثورة وأسلمتها، لكنّ صدمته الكبرى كانت عدم التدخّل الدولي. إذن فالرجل لم يتعلّم من سبع سنوات فشل لإحدى أكثر الثورات مأساوية في التاريخ الحديث أي شيء.
ولكن ماذا كان يمكن لليسار أن يفعله واقعياً، حتى ولو لم يكن متأثّراً ب”مانديلا سوريا” الذي جعله السجن، على ما يبدو، يعتقد أن كل ما كان هو نفسه يدعو إليه من برنامج اجتماعي ووطني وقومي هو كلام نافل أو مؤجّل في أفضل الحالات وأن النضال الوحيد الذي يستحق التضحية بكل شيء هو القضاء على السجّان الحالي، حتّى ولو كان السجّان المقبل هو والي اردوغان في سوريا مثلاً؟
كان يمكن له أن يتعلّم من دروس جيرانه في إيران مثلاً، فيرى كيف يمد الإسلاميون يدهم للجماعات اليسارية قبل الثورة فإذا استلموا السلطة تخلّصوا منها، واحدةً بعد الأخرى. وقد كان من شأن هذا الدرس أن يجعل الرفاق يتذكّرون قصة “التخوم” التي كان لينين يركّز عليها باعتبار تحديدها قبل أي تعاون مع الآخرين شرطاً مُسبقاً لأي تعاون من هذا النوع. حتّى هنا كان اليساريون الثوريون السوريون يفتقدون لعذر كبير تمتّع به رفاقهم الإيرانيّون وهو أن الشاه كان صنيعة للإمبريالية الأمريكية بالمعنى الملموس (دور السي آي إي في الانقلاب ضد مصدق..الخ). هذا البعد العالمي للنضال لم يختفِ فقط من الخطاب اليساري الثوري السوري، بل ظهر عكسه بالضبط، أي الاستنجاد بالتدخّل العسكري الإمبريالي، إلى درجة أن عدم ذلك التدخّل شكّل “الصدمة الكبرى” للرفيق رياض الترك، كما قال هو نفسه.
أيّ يساري حقيقي كان يُفتَرَض أن تكون “صدمته الكبرى” هي هذا التصريح مثلاً في العام الثاني للثورة: ففي 13 كانون أول 2012 نشرت الحياة ما يلي على لسان معاذ الخطيب : “..كون الحراك العسكري إسلامي اللون بمعظمه هو شيء إيجابي..”. بالنسبة لمعاذ الخطيب كان ذلك إيجابياً طبعاً فالرجل نفسه “إسلامي”، لكنّ التصوّر العام عن مفهوم “اليساري” يجعل أي مراقب محايد يتوقّع من يساريي الثورة السورية في ذلك الوقت أن يعيدوا حساباتهم ويواجهوا جماهيرهم بالحقيقة المرّة وطرق التعامل معها. فماذا فعل هؤلاء فعلاً؟ لقد لجأووا إلى التكتيك النفسي المعروف “الإنكار”. وهو تكتيك يصنّفه المحلّلون النفسيون في خانة “آليات الدفاع النفسي”، كما نعلم. ولكي ينجح هذا الإنكار كان يجب اللجوء إلى “لغة إنكارية” بالكامل بحيث نستبدل عبارة “المجاهدين” بعبارة “الثوار” في المرحلة الأولى ثم بعبارة “المعارضة” في المرحلة التالية. فكلمة معارضة تنطبق على جبهة تحرير الشام تماماً كما تنطبق على “تيار اليسار الثوري” التروتسكي. ومن جهة أخرى نقتصر عندما نتحدّث عن أهداف الثورة على هدف إسقاط الدكتاتورية الحاكمة في دمشق، فهو أيضاً هدف الجولاني كما هو هدف رياض الترك.
هل كان اليسار يستطيع أن يفعل غير ذلك؟
لا شك. وهذا الجواب القطعي سببه ظروف اندلاع الثورة السورية: ممهّداتها (ربيع دمشق ودور المثقّفين الأقرب إلى اليسار فيه)، المسار الذي بدأت به الثورة السورية (شكل الحراك السلمي وشعاراته، الغياب التنظيمي شبه الكامل للإسلاميين في كوادر الثورة في مرحلتها الأولى، حسب كافة الباحثين)، طبيعة القيادة التي قدّمت أولى المبادرات السياسية في مرحلة مشاورات الدوحة المبكّرة، وأخيراً السمعة النضالية الخاصة التي كان رياض الترك يتمتّع بها بسبب تاريخه وشجاعته في مواجهة الديكتاتورية من داخل سوريا وليس من خارجها، والتي شكّلت له “رأسمالاً رمزيّاً” لدى الجماهير كان يمكنه استغلاله للمساهمة في ترجيح الكفّة في صفوف المعارضة لصالح اليسار..
فلماذا لم يفعل الحزب ذلك؟
أظنّ أنني أجبت على ذلك في بداية هذا المقال بشكل غير مباشر. فاليساري الذي يفقد الثقة ب”الرسالة البنيوية” لليسار، سيخدم اليمين في النهاية.
أما عن ماهية تلك “الرسالة البنيوية”. فهي يمكن استنتاجها فقط من مصدرين: الأول نظري يتناول تاريخ الصراع الاجتماعي ودور الذات الثورية فيه، والثاني تطبيقي يحلّل بنية المجتمع السوري في مستوياتها الثلاثة الكبرى الاقتصادية والسياسية والايديولوجية وكيف تتطوّر هذه المستويات الثلاثة أو كيف يعرقل تخلّف أحدها تطوّر الآخر، كما حصل ويحصل فعلاً وما هو “موقع” الذات الثورية في تلك البنية وكيف تعزّز موقعها في سبيل تحقيق برنامجها، الذي هو في النهاية برنامج “القوى الاجتماعية الساعية للتطوير” التي تمثّلها. وهذا كلّه موضوع دراسة يضيق هذا المجال عنها. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي السوري فوّت على نفسه فرصة هذه الطريقة في “البرمجة” منذ مؤتمره السادس في أواخر نيسان 2005. رغم أنّ الدافع الواضح وراء مغادرة الأدلجة الماركسية اللينينية إلى غير رجعه كان يكمن خلف كل كلمة من كلمات برنامجه السياسي الصادر عن ذلك المؤتمر. وقد غادر الحزب تلك الأدلجة فعلاً وسار في اتجاه آخر. لكنّه كان إلى اليمين للأسف وليس إلى يسار جديد. وقد كان استمراراً لمسار بدأ في الثمانينات وسار ببطء إلى أن سرّعته الثورة السورية. الهدف السياسي الإجرائي المحدّد والملموس لذلك المسار كان التعاون مع الإخوان المسلمين (الحاضرين الغائبين في كل من مؤتمري حزبي البعث والشيوعي-المكتب السياسي في أواخر 1979 وفق تعبير ياسين الحاج صالح). وهذا التعاون هو المقصود بهذه الفقرة التي ننقلها هنا من البرنامج السياسي للمؤتمر السادس للحزب: ” لقد وضعنا هذا البرنامج، آخذين في الاعتبار الانفتاح على المجتمع وعلى الحركة الديمقراطية في سوريا بطيفها المتنوع، وضرورة الوصول إلى برنامج مشترك في أيّ لقاء أو مؤتمر وطني لأطرافها”.
أخيراً سأسمح لنفسي بهذه الملاحظة غير السياسية: لقد أثبتت خبرتي مع السياسيين العلمانيين العرب عموماً أنّ التصوّر الذي كان كامناً في لاشعورهم حول الإسلاميين كان دائماً يعاني من التشوّه. فهم إمّا يرونهم كمجموعة من الدراويش أو كحزب إسلامي تماماً كما أن الحزب الديمقراطي المسيحي في المانيا حزب مسيحي، أو كمجموعة من الأصوليين المتخلّفين والخطرين (وهو تصوّر حديث متأثر بسلوكيّات الجهادية السلفية). كل هذه التصوّرات لا تنطبق على موضوعها كما أصبح واضحاً بعد سبع سنوات من الثورة السورية، وإن كان ثمة ما هو صحيح في تلك التصوّرات جميعها في الوقت نفسه. أما ما هو التصوّر الأقرب إلى الواقع فمعرفته تتطلّب دراسة بنية التنظيمات الإسلامية وخاصة الجانبين التثقيفي والتنظيمي. ولكن ذلك بالذات هو ما لم يكن من الممكن لمعظم المناضلين ذوي الماضي الشيوعي أن يعرفوه، بحكم البيئة السياسية المختلفة كلّياً التي ترعرعوا فيها. لكنّ الممكن فعلاً، حتّى لمناضل لم يعرف في حياته غير الأوساط الشيوعية هو دراسة تجارب الآخرين من شيوعيي هذا العالم عندما تعاونوا مع الإسلاميين، كتجربة الإيرانيين مع الخميني مثلاً.
لكنّنا على ما يبدو لا نتعلّم إلاّ من كيسنا.
حسين شاويش: كاتب سوري مقيم في برلين
——————————
اليسار السوري إلى أين؟ هامشية سياسية وحضور ثقافي أغنى/ د. كريم أبو حلاوة
يلحظ الباحث المهتم بشؤون وأوضاع التيارات اليسارية مفارقة تستحق التفكير، وهي أنه مقابل الحضور الهام والمتميز لليسار العربي ثقافياً وفكرياً، إلا أنه بقي هامشياً وتابعاً بالمعنى السياسي. فضلاً عن قابليته الكبيرة للانقسام. ومثل غالبية الأحزاب العربية لم تعرف الحياة الحزبية الداخلية لليسار السوري أي مرونة وديمقراطية في الحراك والتمثيل، ولا في الانتخابات الداخلية أو العامة، وهذا تقليد موروث من أدبيات اليسار العالمي عموماً، الذي يمتلك مواقف مسبقة من كل أشكال الدمقرطة بدعوى أنها ليبرالية وغربية وصورية … إلخ.
أما موضوعياً، فإن مستوى تطور البنية الاجتماعية قد غلب عليه طابع العلاقات الزراعية وأنماط الملكية الفردية للحيازات الزراعية إلى جانب ضعف الإنتاج الصناعي وغلبة طابع الخدمات على الإنتاج السوري، ما يعني أن الأنصار العضويين لأفكار وتنظيمات اليسار، وهم العمال، لا يشكلون سوى نسبة قليلة من أفراد المجتمع. مع إن تاريخ الحركات الفلاحية في سورية يبيّن أن الفلاحين في غالبيتهم العظمى ينتسبون إلى الفئات والشرائح الكادحة في المجتمع السوري.
وعلى صعيد السيكولوجيا الجمعية والطابع الغيبي للذهنية السائدة، يمكن فهم دوافع مقاومة الأفكار اليسارية والثورية ذات الطابع التغييري، ذلك أن الذهنية الإيمانية والقدرية تعتبران التفاوت في الغنى والفقر أمر طبيعي لا يحتاج إلى تعديل، فالدنيا نصيب، ويمكن من خلال التبرعات والصدقات والزكاة التي يقدمها الأغنياء للفقراء أن تقلص الفوارق وتحسن الأوضاع، لكنها بالتأكيد لا تستطيع إلغاء الفوارق الطبقية ولا العوامل الموضوعية لتوزيع الثروة وامتلاك وسائل الإنتاج، باعتبارها هي العوامل المفسّرة لوجود الفقر المدقع والغنى الفاحش في مجتمع واحد.
ومقابل الحضور الهامشي لليسار السوري بالمعنى السياسي، لا بدّ من ملاحظة ألقه وتفوقه فنياً وثقافياً وتميزه فكرياً. وليس أدل على ذلك من مؤلفات وكتابات بو علي ياسين، وياسين الحافظ، وإلياس مرقص، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان، ومعها كتابات صادق العظم وطيب تيزيني وياسين الحاج صالح قبل أن يتخذوا مواقف ملتبسة ومن ثم منحازة في فهم وتفسير “الحراك” والأحداث التي جرت في سورية بعد عام 2011. فإنتاج هؤلاء في مجالات الفلسفة والفكر والأدب المسرحي والروائي المتنوع وبسويّة فنية عالية شاهدٌ آخر على الهامشية السياسية لليسار السوري مقابل تفوّقه الإبداعي.
ولعلّ ما يفسر ذلك جزئياً أن معظم المثقفين السوريين من ذوي الميول اليسارية هم في غالبيتهم ممن تركوا الأحزاب الشيوعية واليسارية أو لم ينتسبوا إليها أساساً، لكنهم في توجهاتهم الفكرية والفلسفية ورؤاهم الثقافية أقرب إلى اليسار من خلال استلهامهم لقيم العدالة ومقاومة الظلم ونظرتهم المساندة للتغيير الاجتماعي والسياسي والقيمي. فمواقف اليسار العربي عموماً من التراث مثلاً، مكّنت بعض من أبرز قرّاء التراث من إعادة التفكير فيه، وبناء صورته الفعلية أو المتخيلة استناداً إلى ميل راديكالي تجاوزي مستلهم من بعض اللحظات الإسلامية، ومن ثورة القرامطة والزنج، ومن كتابات المتصوفة كالحلاج وابن الفارض والخيّام والسهروردي وابن عربي، وبعض أفكار المعتزلة وعلماء الكلام، وصولاً لكتابات ابن رشد العقلانية ونقده العميق لأفكار الأشاعرة والتيار النقلي السلفي تاريخياً. مثلما عبّر مفكرو عصر النهضة العربية مثل سلامة موسى وفرح أنطون ومحمد عبده ومن ثمّ طه حسين ونصر حامد أبو زيد والجابري وعبد الإله بلقزيز ومهدي عامل وحسين مروة وجورج طرابيشي وغيرهم، والذين وظفوا وبدرجات متباينة مناهج النقد الحديث لإعادة قراءة التراث العربي من وجهة نظر حداثية. أي أن هذا التباعد عن المواقف الإيديولوجية لأحزاب اليسار العربي تاريخياً وراهناً قد أعطى هؤلاء المفكرين هوامش أوسع للتفكير والتعبير خارج القوالب الإيديولوجية المسبقة، وأعطى لمساهماتهم بعداً تجاوزياً يقع في صميم فلسفة التغيير.
لكن التفاوت في أداء اليسار بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي والثقافي، يحيل على خلل وقصور أبعد من الالتزام الحزبي التنظيمي والتقيد بالمبادئ والشعارات، ليصب في خانة قصور تيارات اليسار عن متابعة التطورات الفلسفية والفكرية التي طرأت على الماركسية، سواء على يدي غرامشي ومدرسة فرانكفورت النقدية، عند كلّ من أدرنو وهابرماس وأريك فروم، أو التجديدات اللاحقة على انهيار المنظومة الاشتراكية والتي تحدثت عما وراء الشيوعية والرأسمالية، وانحازت إلى مقولات الديمقراطية الاجتماعية ودولة الضمان الاجتماعي والرفاه، وصولاً إلى أطروحات الطريق الثالث التي دعت إلى إعادة النظر بأدوار الدولة والمجتمع المدني والأسرة، ونقد البعد الإيديولوجي المسيطر على فهم اليمين واليسار لهذه الأدوار كما تجلّت في كتابات “أنتوني غيدنز” في تنظيره للطريق الثالث والذي يدعو فيه لإعادة تجديد الديمقراطية الاجتماعية بوصفها النموذج الواقعي والممكن لتحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها الأعمق.
وليست التحولات التي أصابت الاقتصاد العالمي وانكشاف دعاوى الليبرالية المتوحشة وازدياد الاستقطاب والتفاوت بين الأغنياء والفقراء محلياً وعالمياً سوى ظروف موضوعية يفترض بها أن تجدد دماء الحركات اليسارية عالمياً وتمنح للتيار النقدي اليساري الكثير من الوجاهة والمشروعية في مواجهة أشكال الخلل وتزايد الاستغلال والعبوديات المعاصرة والتي أخذت تلقى العديد من أشكال الاحتجاج والمقاومة في المراكز الغربية نفسها.
هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى التضييق على العمل السياسي وهوامش الحريات المتاحة والقمع والسجن الذي تعرضت له كوادر اليسار في سورية ومصر بشكل خاص، تفسّر ضعف اليسار العربي عموماً والسوري على نحوٍ خاص، وهي إلى جانب الانقسامات الإيديولوجية والتناحر العقائدي وضعف تجديد بنى ومقولات أحزاب اليسار أسهمت في تكريس ضعفه وبقاءه جزراً معزولة في المحيط التقليدي المحافظ عربياً، فضلاً عن تدني قدراته السياسية والتنظيمية في مواجهة مد الإسلام السياسي الذي أعاد إنتاج البنى الاجتماعية والسياسية المحافظة والتقليدية بصورة كاريكاتورية أشبه ما تكون بما أسماه مهدي عامل بالحداثة الرثة أو ما نسميه بالأدبيات السوسيولوجية المعاصرة بحداثة التخلف ذات الطبيعة السياسية المحافظة والعلاقات الاجتماعية المحدثنة شكلاً والتقليدية مضموناً ووظيفةً وأداء.
لكنّ الدلالة الأكثر سلبية من وجهة نظر التحليل السوسيولوجي برأينا، تكمن في غياب الشباب والمرأة وضعف تواجدهما في ساحات اليسار، مع ملاحظة امتلاك اليسار بمختلف أطيافه لتصورات تنتقد الثقافة الأبوية السائدة وتعلي من مكانة المرأة في المجتمع وتدعو إلى تحررها وتمكينها، أي أن الطاقة المستقبلية الشبابية والبشرية التي تنتسب أو تملك ميولاً يسارية آخذة في النضوب والتلاشي، وهي ظاهرة تستحق التحليل وتستدعي مراجعة تجارب اليسار السوري نقدياً وبصورة شجاعة تكفل التعرف على نقاط الخلل والضعف والاعتراف بأشكال التقصير المتعددة فكرياً وتنظيمياً وسياسياً، وإلا سيتحول اليسار السوري بمختلف أطيافه وتلاوينه ورموزه إلى مجرد إرث أو ذكرى لا مكان لها في التقاط التغييرات والتحولات المجتمعية ولا في التعبير عنها والنطق باسمها. وهو أمر سوف يفقر الحياة السياسية والثقافية السورية التي تكاد تخسر أحد مكوناتها الذي امتلك في لحظات فاصلة الكثير من الدينامية والحيوية، وما انفك يبشر بغدٍ أفضل.
د. كريم أبو حلاوة: أكاديمي متخصص في علم الاجتماع، له عدة أبحاث وكتب منشورة منها «إشكالية مفهوم المجتمع المدني»/دار الأهالي1998، و«نحو عقل تواصليّ»/دار الأهالي2002، و«العرب والمستقبل»/وزارة الثقافة 2008
Related P
——————————
اليسارالمتجدد سيظل موجوداً/ وائل سواح
اليسار السوري ليس طارئاً تماماً ولكنه مستعار. ولا عيب في الاستعارة في بعض المجالات. الديمقراطية مثلاً مفهوم مستعار وكذلك الصحافة والأحزاب والتكنولوجيا، فلا عيب إذن أن يكون السوريون قد استعاروا مفهوم اليمين واليسار من الغرب الذي أعارنا السيارة والتلفزيون والكمبيوتر والفايسبوك. ثمّة من يستعير ثوبا فيكون كبيرا جدا أو يكون ضيّقا عليه. السوريون (ومعهم المصريون) كيّفوا ما استعاروه على قياسهم، فبدت الأمور عليهم وكأنها أصيلة. ولعلّ نظرة إلى الوراء ترينا كيف أجاد السوريون لعبة الديمقراطية والبرلمان والصحافة والأحزاب، وأيضا اليسار، من دون أن نغرق في نوستالجيا فارغة.
مشكلتان رئيسيتان طرأتا على كلّ ذلك، فغيّرت من وجه اليسار السوري. الأولى كانت حين تنطّح مجموعة من العسكر لقيادة ما يسمّى بحركة التحرر الوطني، التي دمجت ما بين الطبقي-الاجتماعي والوطني-القومي. وهو ما أدى إلى ضياع هوية اليسار واليمين معا. أما المشكلة الثانية فهي الصراع العربي-الإسرائيلي الذي حول القضية برمتها من جهة إلى جهة أخرى.
وإثر هزيمة حزيران 1967، حدث انقلابان كبيران في الحركة السياسية السورية والعربية عموما، انزاح فيهما جزء كبير من التيار القومي العربي نحو الماركسية، وانزاح مقابله جزء من التيار الماركسي نحو الفكر القومي. حركة القوميين العرب بمعظمها تبنت الماركسية، ووُجِدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ووُلِد حزب العمل الاشتراكي العربي، كذراع سياسي للجبهة الشعبية في لبنان والأردن، وظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان، التي قادها محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وتحوّل تيار صلاح جديد في سوريا تدريجا إلى الفكر الماركسي-اللينيني تدريجيا، حتى تبناه نهائيا في منتصف السبعينات. جوهر هذا الانزياح كان اكتشاف التيار القومي العربي أن “العدو القومي الرئيس لحركة التحرر العربية يتمثَّل بالإمبريالية العالمية بقيادة أميركا، والتي تستعمل إسرائيل والحركة الصهيونية” كأداة لها وأن كافة الأنظمة العربية، سواء منها الأنظمة “الرجعية” أو الأنظمة “الوطنية التي تحكمها البورجوازية الصغيرة” عاجزة عن مواجهة هذا العدو.
في المنقلب الآخر، كان تيار في الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي وتيار في الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك يتخليان تدريجيا عن “الصَّلف الطبقي” ويريان في المسألة القومية وجاهة لا بدّ من مقاربتها. كان جورج حاوي معجبا بعبد الناصر ولينين، وقد باتت هذه المزاوجة أحد معالم الخلاف في الحزب الشيوعي بين «الأمميين» و«القوميين»، الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انتصار «القوميين» وبدء الرحلة الجديدة للحزب الشيوعي من خلال مؤتمره الثالث 1972. أما المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري فانعقد في 1969 وشكّل بداية الخلاف بين أكثرية المكتب السياسي للحزب بقيادة رياض الترك من طرف وقيادة خالد بكداش من طرف آخر. وفي كلا المؤتمرين لعبت القضية الفلسطينية والوحدة العربية دورا بارزا.
هزيمة حزيران وتزاوج التيارين القومي والماركسي، أدى إلى جعل بوصلة اليسار السوري هي القضية الفلسطينية و”الإمبريالية العالمية”، وبات اليساريون السوريون يبنون سياساتهم ليس على واقع سوريا بل على مواقف الإمبريالية الأمريكية، حيث يتجلّى موقفهم ببساطة بمعارضة المواقف الأمريكية واتخذا مواقف معاكسة.
والأسوأ أن ذلك جعل الحدود بين السلطة السورية والمعارضة واهية جدا. والحال أنه منذ وصول البعث إلى السلطة في سوريا، اختفت الحدود الفكرية والسياسية بين الفئتين. فعلى الضد من معظم التجارب الدولية، ينتمي كلا السلطة والمعارضة إلى الجذور الاجتماعية والفكرية ذاتها. وهما، متكاملين، يشكلان جزءا مما يسمى بحركة التحرر الوطني التي ندين لها بالتغيير القسري للمجرى الطبيعي للتاريخ في العديد من الدول الآسيوية والأفريقية، والتي تقبع الآن، مصادفة، في أسفل السلم الحضاري والاقتصادي العالمي. وتعود السلطة السورية، في جذورها التاريخية على الأقل، إلى البنية الاجتماعية التي نشأت عليها المعارضة. فهي ترجع إلى الفئات الريفية التي تعلمت وهاجرت إلى المدينة، فالتحمت مع مثقفي الطبقة الوسطى المدينية الذين كانوا يبحثون عن حلول اجتماعية لمشاكلهم الروحية؛ ولقد وجدوا تلك الحلول، وهم الذين درسوا في فرنسا ودولا أوروبية أخرى، في النظريات التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك.
***
فاجأت الانتفاضة السورية المعارضة الغافية على حدود فلسطين، ولذلك تجدها فشلت في اللحاق بركب الثورة، وانقسمت بين من زايد عليها ومن بقي في منطقة الحكومة. وقد رأينا الانقسام يحدث في اليسار السوري وفي الحزب الواحد نفسه، فكثير من قواعد الشيوعيين انضمت إلى الانتفاضة بينما كان قادتها يجلسون في مكاتب الجبهة الوطنية التقدمية ويقارعون الاستعمار من هناك. وكذلك انقسم حزب العمل الشيوعي بين تيارين، انتقل أحدهما إلى صفوف الانتفاضة، بينما بقي الآخر في منطقة “الدفاع عن الوطن”.
وكما فاجأتنا الانتفاضة، فاجأنا تحوّلها إلى العنف واستخدام السلاح. ويمكن القول ثقة أن الحكومة تتحمل المسؤولية الكبرى في اللجوء إلى السلاح كحلّ، من خلال القمع الدموي العنيف للمحتجين السلميين، ولكننا لا يمكن أن نغض الطرف عن تدخلات القوى إقليمية التي كان من مصلحتها عطف الثورة باتجاه حرب أهلية.
ويسود اليوم سؤال: أكان الأمر يستحقّ كلّ ذلك؟ في مسرحية “يعيش يعيش” للرحابنة تسأل هيفا (فيروز) السؤال نفسه: “اللي بيندفع حقه ناس هو أغلى من ه الناس؟” والحال أن هذا سؤال وجودي أكثر منه سياسيا. وقد سألت نفسي هذا السؤال منذ إطلاق أول رصاصة. وانقسمت داخليا في الجواب: فالقسم الإنساني كان يؤكد بوضوح على أن لا شيء يستحقّ التضحية بطفل أو صبية أو رجل أو امرأة لهم أسرة وأصدقاء ومحبون. السياسي الذي داخلي كان يقول إن الثورة لو لم تحدث اليوم لحدثت بعد سنوات، ولكان وقعها اشد مرارة. وأعتقد اليوم أن ذلك ما سيحدث بعد سنوات أو عقود.
***
لم تقسم الحرب السورية اليسار السوري فحسب، بل واليسار العربي والعالمي أيضا. وقد رأينا في تونس مؤخرا متظاهرين يساريين يرفعون صور الرئيس السوري بشار الأسد أثناء احتجاجاتهم على حكومتهم. ومعظم اليسار الحاكم في أمريكا اللاتينية وغيرها يؤيد ما يرونه “ممانعة” سورية للإمبريالية العالمية. بالمقابل، ثمّة العديد من اليساريين والمثقفين في العالم والدول العربية الذين يقفون إلى جانب حقّ السوريين في تقرير مصيرهم وفي رفضهم لحكم أو نظام معين.
ووجد قسم آخر من اليسار، الذي يستند إلى البوصلة ذاتها، نفسه في مواقع يتحالف فيها مع تيارات إسلامية متطرفة، منها حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. ولعلّ مرد ذلك أن هذا القسم لا يزال يهتدي بنجم الشمال الذي هو موقف هذه القوى “المعلن” من القضية الفلسطينية وإسرائيل والإمبريالية.
والآن، هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري”؟ لا يمكن للحياة السياسية ولا المجتمعية أن تتقدّم بدون حوار وجدال وصراع بين المحرك إلى الأمام والقوّة التي تريد المحافظة على الواقع. ولئن اتفق على تسمية الفئة الأولى يسارا، فإن هذه القوّة ستظلّ موجودة وستظلّ تلعب دورا في عملية التغيير. غير أن المفاهيم لن تكون ذاتها، واليسار التقليدي (وخاصة اليسار الشيوعي الذي لا يستطيع التمييز بين روسيا بوتين وبين الاتحاد السوفييتي) سيتحوّل إلى معاقل اليمين بدون خجل. أما اليسار المتجدّد الذي يرى في الحركة إلى الأمام قدر السوريين، فسيظلّ موجودا، وسوف يجمّع نفسه قريبا في حركة واضحة المعالم تسير على طريق واضح ومحدّد.
————————-
سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”
أجرى الحوار غسان ناصر
لا شك أنّ انهيار المنظومة الاشتراكيّة، وخصوصًا الاتّحاد السوفيتيّ، شكّل مفصلاً هاماً في التحوّلات التي شهدتها تيّارات اليسار العربيّ عامّة، والسوريّ على وجه الخصوص. لدرجة أنّ المفكر اليساريّ الراحل سلامة كيلة رأى أنّ هذا اليسار دخل “أزمة موت.” وفي سوريا التي انتفض شعبها ضدّ الاستبداد والطغيان في آذار/ مارس 2011 بقي اليسار “في الهامش”، وتجاوز الربيع السوريّ اليسار القائم في البلاد، خاصّة بعد انحدار وضع الأغلبية المجتمعية نحو الفقر والبطالة والتهميش ما أدى إلى أن تكون كلّ قوى اليسار في سوريا بعيدة عن الشعب.
وللوقوف على واقع الحال وأسبابه ومآلاته التقينا مع الكاتب والباحث الأكاديميّ في العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة سلام الكواكبي، المدير التنفيذي للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، ومدير بحوث ونائب مدير سابق في «مبادرة الإصلاح العربيّ» المهتمة بحركة المجتمع المدني.
غسان ناصر: أبدأ معكم بسؤالكم: ما الذي تبقى اليوم من “يساريّة” اليسار السوريّ؟
سلام الكواكبي: أخشى أن أجيب بأنّ مختلف العوامل تكاتفت على إجهاض التيّار اليساريّ السوريّ بمختلف تنويعاته منذ أمد بعيد نسبيًّا. وكذلك يؤسفني أن أشدّد على أنّ من ساهم بشكل فاعل في هذه العمليّة، هو البنية التكوينيّة هشة التقاليد الديمقراطيّة للأحزاب والجماعات اليساريّة من جهة، وكما هم بعض رموز اليسار نفسه من جهة أخرى. فالبنية الأساسيّة، قامت على قواعد غير متمكنة من المفاهيم الأساسيّة المكونة لحركة اليسار تاريخيًّا عدا استثناءات بأسمائها تم تهميشها أو القضاء عليها رمزيًّا. وصارت التجارب التوتاليتاريّة في الدول التي اغتصبت مفاهيم اليسار، وطوّرت له ممارسات شاذة، هي المرجعيّة لدى الكثير من اليسار السوريّ. أما وقد مرّ على البلاد عقود من الممارسات الأمنوقراطيّة، فقد صار اليسار مهجّرًا أو مسجونًا أو شهيدًا. ومن تبقى في المشهد العامّ، فقد كان إمّا مستقطبًا سلطويًّا أو مصابًا بنخبويّة مرضيّة عزلته عن حس وحراك المجتمع.
غسان ناصر: برأيك إلى أيّ مدى كان هذا اليسار فاعلًا في الحياة السياسيّة العامّة في سوريا بعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970؟
سلام الكواكبي: لقد كان مفعولًا به ومقسّمًا ومشتتًا في الإطار العامّ. أمّا الحديث عن يساريّة الحزب الحاكم، فهو يخرجنا من الجديّة في الطرح لما من ممارساته من صفات متعدّدة لا يمكن أن تكون اليساريّة إحداها. فهي رأسماليّة الدولة الأمنوقراطيّة الزبائنيّة. ولا يمكن ربطها باليسار بأيّة صورة ولو ساهم في ذلك كتّاب السورياليّة الكبار.
أمّا الشيوعيّون الرسميّون، فإضافة إلى فساد جزء لا بأس من قياداتهم، وانصياع الجزء الآخر للخوف المهيمن، وانشقاق الجزء النقيّ ليجد نفسه مسجونًا أو منتهكًا بكلِّ الأساليب، فتجربتهم السوريّة تحتاج إلى مجلدات لا تفوح منها روائح مريحة البتة للأسف الشديد. من ظلَّ متمسكًا بمبادئه، كالماسك على الجمرة براحة الكف، فألمه لا يمكن وصفه، وتشفّي “رفاقه” النظريين به يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الثقافة السياسيّة التي هيمنت على المشهد السوريّ. وعلى الرغم من هذا المشهد السلبيّ للغاية، إلّا أنّ الحراك الداخليّ الوحيد الفاعل سلميًّا بعيدًا عن التجربة العسكريّة للإخوان المسلمين، كان يعتمد على الأنقياء في المجموعات اليساريّة التي غلب عليها طابع العمل السريّ والهروب المستمر من الرقابة الأمنيّة. ولكن فعاليّته لا تُذكر إلّا من خلال الإنتاج الفكريّ المتميّز. لبعض رموزه وعلى الرغم من محدوديّة انتشاره.
غياب ممارسة النقد..
غسان ناصر: ماذا عن حضور اليسار النظريّ، بعد كلِّ القمع الذي تعرض له، والفشل الديمقراطيّ العلمانيّ المتراكم في سوريا؟ والعلاقة غير السويّة بين الأحزاب اليساريّة خاصّة رابطة العمل الشيوعيّ (صار اسمها “حزب العمل الشيوعيّ”) والحزب الشيوعيّ السوريّ – المكتب السياسيّ (صار اسمه “حزب الشعب الديمقراطيّ”)؟
سلام الكواكبي: في الأساس، فإنّ العلاقة غير السويّة والتنافسيّة بطريقة الإلغاء وغير الديمقراطيّة بين مختلف رموزه ساهمت بشدة في إضعافه وفي إستضعافه. أمّا الحضور النظريّ، فقد عابه عدم ممارسته النقد، ليس الذاتيّ، فهو مطلب كبير في الثقافة المشرقيّة، بل نقد تجارب الدول التي شوهت اليسار عبر الممارسات الشموليّة المكتنزة فسادًا وقمعًا في بلدان مرجعيّته كالاتّحاد السوفييتيّ ومن دار في مساره. ومن تمت ملاحقتهم وسجنهم، فإن كان ليس من الانصاف انتقادهم عمومًا، لكنّهم في المشهد السوريّ يستحقون الإشارة إلى ممارساتهم الفرديّة وسعيهم لفرض آرائهم على مجمل المشهد الحزبيّ الذي انتموا إليه. كما برز ضعف هيكلي في عمليّة تطوير الفكر اليساريّ النظري ليُجاري الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والدينيّ المحليّ.
غسان ناصر: هل كان لقوى اليسار حضور في الأوساط العماليّة والفلاحيّة ما قبل الثورة، أم كانت بعيدة عن القاعدة الاجتماعيّة في عموم سوريا؟
سلام الكواكبي: اُحيل إلى كتابات المؤرخ المُجدّ أطال الله في عمره الدكتور عبد الله حنا للسعي إلى الحصول على إجابة دقيقة لا أمتلكها حول هذا التصنيف. لكنّني أعتقد بتحفّظ شديد، بأنّ الحَضور، ولأسباب موضوعيّة متشابكة، كان ملموسًا أكثر في الأوساط العماليّة عمومًا، وفي بعض الأوساط الفلاحيّة المتميّزة دينيًّا واثنيًّا.
غسان ناصر: هل استطاعت قوى اليسار أن تؤثر فكريًّا في الثقافة وتجذب الأجيال الجديدة؟
سلام الكواكبي: الجزء الأكبر من المثقّفين السوريّين يعرف نفسه باليساريّ ولكن دون أن يعرف جزء منهم ربما ما هي المعايير الدقيقة لهذا التعريف. وعمومًا، فاليسار السوريّ أنتج أدبًا وفنًا أكثر مما أُتيح له أن يُنتج فكرًا لخضوعه لمناخ مهيمن تمتزج فيه التسلطيّة السياسيّة والأمنيّة مع التركيبة الدينيّة المحافظة التي ارتاح لانهماكها في العبادات وتفاصيلها أهل الحلّ والعقد من أصحاب الرتب أو أصحاب اللحى.
اليسار كونيًّا في أزمة نظريّة وعمليّة..
غسان ناصر: أسألكم عن موقف اليسار من الأزمة السوريّة. وماذا عن الأحزاب اليساريّة التي أعلنت عن ميلادها خلال سنوات الثورة مثل (حزب اليسار الديمقراطيّ السوريّ)؟
سلام الكواكبي: ضعف اليسار السوريّ أدى به إلى خيارين أحلاهما مرّ: الأوّل، القبول بإملاءات قوى محافظة والخضوع لها في محاولة غير ذكّيّة لتبنّي الواقعيّة السياسيّة من جهة. والثاني، رفض الانخراط في العمل العامّ تأنفًا أو ترفّعًا أو تكبّرًا، والقفز في كلِّ شاردة وواردة لادّعاء امتلاك الحقّ ومعرفة مآل الفشل المتوقع وتقريع الآخرين بالقبول بفتات الموائد. وعمومًا، فالتشكيلات السياسيّة اليساريّة الجديدة لا يمكن أن يكون لها أيّة فاعلية في ظلِّ الانسحاب الجماعيّ للشباب من المشهد الحزبيّ والتوجه أكثر فأكثر نحو التجمعات المدنيّة. الانتماء إلى أيّ حزب صار أمرًا غير مغري على الصعيد الفكريّ والصعيد السياسيّ.
غسان ناصر: أين اليسار العربيّ الدوليّ من دعم الثورة السوريّة؟
سلام الكواكبي: اليسار كونيًّا في أزمة نظريّة وعمليّة، وعندما نتابع بعض مواقفه من قضايا تحرر الشعوب من الطغيان، نكاد نقول بأنّ الجانب الأخلاقيّ يمكن أن يُضاف إلى مكوّنات أزمته. فالتجربة البافلوفيّة المرتبطة بتصرفات الحيوان الجائع، وجدت لها مرتعًا خصبًا في مواقف وردود أفعال الكثير من أصحاب اليسار الأوروبيّ عمومًا والعربيّ خصوصًا تجاه الثورة السوريّة. يكفي أن نراجع في عجالة مواقف اليسار التونسيّ أو المغربيّ أو الجزائريّ، لنجد منطقًا بافلوفيًّا هائل التخلي عن المعايير الأخلاقيّة والإنسانيّة، ليتشبث بمفاهيم حجريّة تربط أوتوماتيكيًّا بين نظريّة المؤامرة وبين الإمبرياليّة وبين الإسلاميّة. وكما أنّ السعي إلى الحرّيّة والعدالة يُعتبر نظريًّا من ركائز فكر اليسار، إلّا أنّ النوم تحت بسطار العسكر والطغيان أثبت بأنّه الأكثر ممارسة ممن يدّعون وصلًا باليسار في الدول العربيّة. ما هو منتظر نظريًّا من المنتمين إلى اليسار في أن يكونوا مؤمنين بمفاهيم الحرّيّة والعدالة لأنفسهم ولأقرانهم، غاب تمامًا عن تصريحات وأفعال اليسار العربيّ الذي طالما تناول زعماؤه الطعام على موائد الطغاة من صدام حسين وصولًا إلى القذافي. وأكاد أن أجد في اليسار الأوروبيّ تميّزًا عن اليسار العربيّ في هذا المجال بحيث نجد فئات تروتسكيّة أو يساريّة معتدلة أو من ينتمون إلى “الخضر” هم من مناصري الربيع السوريّ الموؤد. في حين، من النادر أن نجد مجموعات سياسيّة يساريّة عربيّة تتبنى هذا الموقف. ربما نجد أفرادًا.
غسان ناصر: أخيرًا، برأيكم هل يمكن اليوم تأسيس يسار سوريّ جديد يحاكي تطلعات وآمال الشعب السوريّ الذي يواصل نضاله من أجل الحرّيّة والعدالة والمساواة في سوريا الجديدة؟
سلام الكواكبي: الحلّ الوحيد، إن كان من حلّ يومًا ما، هو أن يُعيد اليسار إنتاج نفسه من خلال التبنّي الكامل للديمقراطيّة، رغم عدم مثاليّتها وإشكاليّاتها وضرورة إعادة إنتاجها هي نفسها في ظلِّ الخيبات الجديدة في المشهد الكونيّ. قيم الحرّيّة والعدالة والمساواة، كما قيم الحقوق البشريّة والدفاع المبدئيّ، وليس الانتقائيّ، عنها، هي من صلب تعريف اليسار كما أراه. إنّ النمط القائم على احترام الحرّيّات وتطوير العدالة الاجتماعيّة قانونًا وممارسةً هو الأفضل لإنقاذ ما تبقى من يسار.
اليسار الفرنسيّ الذي حكم لعشرات السنين، انهار بصورة كرتونيّة في السنوات الأخيرة، فانبثق عنه متطرفون شعبويّون سرعان ما انضمّ جزء منهم إلى يمين متطرف عنصريّ لضعف تكوينيّ وهشاشة في الوعي. واليوم، تنطلق حركات يساريّة مزجت في مبادئها الحرّيّة والعدالة وحماية البيئة الكونيّة وليس الوطنيّة فحسب، وذلك على اكتاف مجموعات شبابيّة تستند إلى مقومات فكريّة واعية كحركة الفيلسوف الشاب رافائيل غلوكسمان الجديدة.
أختم بالقول بأنّ اليسار الديمقراطيّ الاجتماعيّ هو الحلّ الأنسب لمشاكل المجتمعات قاطبة.
——————————
نايف بلوز /الماركسي المختلف 1931-1998/ الهيثم العطواني
كان من أوائل الشيوعيين السوريين الذين اتسموا بثقافة موسوعية وامتلكوا منهجاً نقدياً متطوراً نقدوا من خلاله سياسة الحزب، داخلياً وخارجياً، ومواقفه من مجمل القضايا الملحة آنذاك، كما أنه من الأوائل الذين انتقدوا “عبادة الفرد”. لقد كان يحاضر في جامعة دمشق بكل ثقة دون القراءة من أي كتاب، وكان أستاذاً متميزاً مختلفاً على صعيد المعرفة والسلوك، وكان له الدور البارز في تشكيل الوعي الفلسفي لجيل من الأساتذة والطلاب، وهو من الأوائل الذين أدخلوا المنهج الجدلي الماركسي إلى قسم الفلسفة، جامعة دمشق، دون أية نزعات أيديولوجية شيوعية، وكان يسخر مما كان يسميها (النزعة التخطيطية للمنهج الماركسي المتداول)، وكان نهماً للقراءة ومقلاً جداً بالكتابة، إن مسيرته تشبه مسيرة الفلاسفة الكبار الذين لم تستوعبهم أحزابهم، مثل الياس مرقص، وروجيه غارودي وهنري لوفيفر.. وغيرهم الذين طردوا من أحزابهم الشيوعية نظراً لسعة آفاقهم المعرفية والفلسفية والعلمية والتي لا يمكن أن تتكيف مع الأطر الضيقة للأحزاب الأيديولوجية ولا لأي أيديولوجية دوغمائية.
درس في ألمانيا في مطلع الستينات من القرن الماضي، وأنجز أطروحة الدكتوراه في الفلسفة في (جامعة هومبولدث)، وهي بعنوان “الإسلام ونشأته وفرقه ومدارسه” مهتماً بالمرحلة الأولى من الإسلام، حيث كانت تتسم بالحيوية، قبل مرحلة التقديس والانقسامات، مستخدماً المنهج الماركسي بمرونته من أجل قراءة التراث العربي الإسلامي عبر تطوراته التاريخية، معتقداً أن الإسلام جاء ضمن الظروف الموضوعية التاريخية في وقته الطبيعي، وحين ظهر الإسلام في مجتمع الجاهلية العربية في أوائل القرن السابع الميلادي، لم يظهر بشكل مفاجئ منقطع الأسباب والصلات عما كان يعتمل في حياة تلك الجاهلية، أو كما كان يتحرك في ذلك المجتمع بشكل ظاهرات اقتصادية واجتماعية ودينية وبيانية، شعر، خطب، وقد آن الأوان كي يتغير ذلك المجتمع القبلي من الأساس، وكانت تلك الظاهرات، إيذاناً بالأمر المنتظر الذي سيخرج من رحم الواقع الجاهلي نفسه، لينطلق نحو العالم كله خارج شبه الجزيرة العربية، ومن هنا لم تكن المفاجأة التي حدثت، بظهور الإسلام، والتي لم تقتصر على صعيد شبه الجزيرة العربية فقط، وإن ما حدث، شكل اقتحاماً واختراقاً لأسس النظام القبلي البدائي الذي يعيش في ظله مجموعة من قبائل مبعثرة، وإن هذا التبعثر القبلي سيتحول بحكم الضرورة الموضوعية إلى كيان آخر مختلف كلياً، أي إلى زمن يتأطر فيه عرب الجزيرة بإطار من التوحيد يجمعهم نواة لشعب عربي أو يشكل إرهاصاً لأمة عربية، بهذا المعنى كان يرى أن الإسلام الأول في سياقه التاريخي شكّل نقلة نوعية تقدمية في تاريخ الفكر الديني، ومن خلال رؤيته المنهجية النقدية كان يرى بلوز، العمق الثوري للإسلام وهو ينطلق انطلاقته الكونية، منذ أربعة عشر قرناً، مستجيباً للضرورات التاريخية لحاجة أهل الجاهلية العرب، في شبه الجزيرة إلى ذلك التحول الكبير.
كان يعتقد أن الإسلام في عصرنا لا يمكن أن يقدم أجوبة على التساؤلات التي يطرحها هذا العصر، ولا يمكن أن يكون هو الحل، للقضايا الشائكة المعقدة التي تواجه الإنسان المعاصر، ربما نستطيع تكثيف مأثرته في المحاور: السياسي والمعرفي والعلمي الأكاديمي، من خلال منهجه النقدي، المفعم بطرح التساؤلات والشك في كل شيء، في زمن -عبادة الفرد- والاستكانة إلى ما يبدو أنها حقائق نهائية، وكان موقفه نقدياً من الفكر والفلسفة والدين، وحتى من نفسه، حيث كان ناقداً لاذعاً، وقد قدم دراسة نقدية عالية الأهمية لكتاب حسين مروة “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” حيث كان يتساءل دوماً، بعد قراءته لذلك الكتاب، عن مدى “حيازة التقدميين العرب لكفاءة نظرية وحرية في التحرك ورحابة في الرؤية تسمح لهم بوضع منجزاتهم الفكرية ولاسيما ما يدور منها على قضايا التاريخ الإسلامي. والحاضر العربي موضع التحليل والنقد العلميين”١. وهو يرى ضرورة مواجهة الصعوبات النظرية والسياسية مواجهة صريحة غير عابئة بشيء سوى مقتضيات الدقة العلمية ومطلب الحقيقة المضيئة للفكر والعلم، وإن هذه المراجعة النقدية البناءة التقدمية، وهذا الانصباب على الذات ليس أمراً مرغوباً فحسب بل إنه حاجة ضرورية على المستوى الفكري والسياسي، وقد يكون المستقبل مرتهناً لدرجة إسهام كل من السجال النظري الديمقراطي، والانفتاح الحي على الواقع، في صنع الوعي التنويري وصياغة الاستراتيجية العربية التقدمية، بهذه الرؤى، احتل بلوز موقعه المتميز بين المفكرين العرب، من خلال سعيه إلى ربط الفكر بالسياسة، وربطهما معاً بالواقع، عقلنة الفكر العربي وتحديثه من أجل عقلنة السياسة العربية وتحديثها، من أجل عقلنة المجتمع العربي وتحديثه مؤكداً على الدور النقدي التجديدي للفلسفة كي تكون بديلاً عن النظريات التقليدية التي تسعى لفهم الواقع وامتلاكه معرفياً فقط، بينما المطلوب هو تغيير هذا الواقع، ومن هذا المنظور النقدي قرأ العلاقة التي تربط جدل هيغل وجدل ماركس، معتقداً أن نظرية ماركس الاجتماعية ليست منفصلة عن فلسفة التاريخ الهيغلية. ومفردات العقل والحرية والتقدم تدلل على وجود التقاطعات بينهما، فالفكرة القائلة بأن التاريخ العالمي له علاقة بتوغل الحرية والعقل وتطور البشرية يمكن أن نلمح لها درجة من الترابط بين ماركس وهيغل، وقد نستطيع القول “إن الفيلسوفين يؤكدان على أن العقل يسود العالم في النهاية، وإن بأشكال مختلفة، هيغل يدع العقل والحرية يحددان العملية التاريخية، لكن ماركس يعتقد وحده أن قضاء البروليتاريا على البرجوازية يمكن أن يفهم بمثابة انتصار العقل على اللاعقل والظلم في العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية” ٢.
وقد كان بلوز يلح على الأهمية الخاصة للنشاط النقدي في دراسة النصوص ودراسة الواقع، خصوصاً في تناوله النقدي للنصوص الماركسية، فمن المعروف أن التأويلات الماركسية في الواقع العربي يمكن إجمالها في مسارين، تمثل المسار الأول في النزعة الميكانيكية التي تمظهرت من خلال التأكيد الحاسم لدور البنى التحتية (الاقتصادوية)، وينظر إلى التاريخ على أنه تقدم مطلق لا مكان للإنسان فيه، لأن الاقتصاد هو المحرك الأساسي للتاريخ، بحسب هذا المنظور. والمسار الثاني يتمثل في النزعة الإرادوية، تلك التي تجعل من إرادة الإنسان محركاً للتاريخ.
وقد سعى بلوز من خلال منظوره النقدي إلى تجاوز ثنائية الاقتصادوية والإرادوية، وإلى الكشف عن علمية النظرية الماركسية بوصفها منهجاً للبحث وعبر تميزها عن الفلسفات الميتافيزيقية، المثالية الأخرى، وأراد أن يؤكد تميز الماركسية بوصفها علماً، وهذا ما بدا واضحاً في كتابيه مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، ومناهج البحث في العلوم الطبيعية، إضافة إلى كتابه، علم الجمال، الذي قدم فيه محاضرات من كتابه المترجم لجورج لوكاتش عن الألمانية (دراسات في الواقعية 1972).
وقد كان يطرح السؤال ما أهمية المنهج الماركسي، وماذا يمكن أن يقدم اليوم لليسار، وكان يظن أن الفكر الماركسي لا يزال محافظاً على طموح الشباب وقوتهم الحاسمة ولا يزال يمتلك حيوية وقدرة كبيرة على الإلهام والسعي للتغيير، وإن هذا الفكر ينطوي على حافز يهيب بنا أن نواجه مشاكل عصرنا كما واجه ماركس مشاكل عصره، حيث أن دور ماركس يتضمن منهجاً عاماً يكمن خلف المشكلات المعالجة ورؤية نظرية توجه أسلوب معالجة هذه المشكلات. إن المشاكل الملتهبة اليوم هي التي يمكن أن نسترشد بالمهنج المادي الجدلي من أجل معالجتها بروح الماركسية المعاصرة (ويمكن اعتبار الماركسية اليوم موقفاً معاصراً للثقافة الأوربية المحدثة) ٣، وقد تكون عودة ماركس بقوة الآن إلى المسرح الثقافي العالمي مؤشراً على موقف نقدي من الرأسمالية المعاصرة.
انطلاقاً من رؤاه السابقة جعل من الواقع السوري موضوع معرفة منطلقاً من علاقة الفكر بالواقع، زاعماً أن هذه العلاقة ليست ذاتية فحسب، بل هي علاقة ديالكتيكية بين الذات والموضوع، وقد سعى إلى تفكيك مقولات ترسخت في الثقافة السورية، ورؤانا الفلسفية والسياسية، من أجل النهوض بالمجتمع عبر كل مؤسساته وجامعاته من خلال التنوير والنقد، ورأى أن الكتابات الماركسية الدوغمائية مقولات روج لها على أنها تقدمية ومحايثة لروح العصر، بينما التمحيص الدقيق لها يكشف أنها أيديولوجية جامدة، تدعم سلطة النص المدافع عنه على حساب الفهم النقدي والمثمر للنص وللواقع، فالأساس النظري الذي انطلق منه بلوز هو المفاهيم الماركسية التي أعاد إنتاجها وأنتجها بوصفها أدوات بحثية، فتحولت لديه إلى دليل يكشف من خلاله، تجدد المفاهيم، ومنطق حركة التاريخ ومحاولة الإجابة على أسئلة الواقع المتجددة والمتجدد أبداً، كما أنه كان يعتقد أن ماركس في رؤيته لم يكن يهدف إلا إلى تحقيق حرية الإنسان، وهذا الهاجس نفسه هاجس بلوز، وانعتاقه من عبودية العمل، وجعله حقاً من حقوقه لا فرضاً عليه.
الهوامش
[1] – بلوز وآخرون، الماركسية والتراث العربي الإسلامي، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروتـ لبنان، 1980، ص167.
[2] – النهج، صيف 1998، السنة 14- العدد 51، بحث د. نايف بلوز بعنوان “البيان الشيوعي وعصرنا” ص103.
[3] – النهج، مرجع مذكور، ص130.
مراجع البحث
[1] – بلوز وآخرون، الماركسية والتراث العربي الإسلامي، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروتـ لبنان، 1980.
2- النهج، صيف 1998، السنة 14- العدد 51، بحث د. نايف بلوز بعنوان “البيان الشيوعي وعصرنا”.
—————————
اليسار السوري.. التباس الهوية والخطاب/ عامر فياض
يلتبس تعريف اليسار في سورية، فمن النادر أن نجد حزباً يسارياً راديكالياً أو واضح الهوية والتوجه، إذ إن أحزاب اليسار بمعظمها باتت هجينة ورمادية، تفتقر إلى ماهية واضحة، حتى أنها تتماهى مع اليمين أحياناً.
يُجمع العديد من السوريين على أن أفكار اليسار خلال العقود الماضية كانت أقرب إلى “الطوباوية والوردية الحالمة”، وقد عجزت تلك الأفكار التي وعدت الناس بمجتمع مثالي عادل، عن تطبيق أيديولوجياتها وتصوراتها.
الموظف المتقاعد والشيوعي السابق خالد عماد يرى أن “جميع أيديولوجيات اليسار قد فشلت، رغم أنها بنيت على أفكار نبيلة وعادلة، وذلك لأن الممارسة لم ترتق إلى مستوى التنظير والشعارات، والتصورات جاءت من رؤيا جاهزة ومعلّبة لم تستقرئ طبيعة وظروف المجتمع السوري، ما جعلها عاجزة عن إحداث التغيير المنشود”. ويصف خالد التجربة الشيوعية السورية بأنها كانت “أشبه بعملية استيراد للشيوعية السوفيتية والعالمية، دون محاولة تكييفها وتطويعها لتتلاءم مع الواقع السوري”.
فيما تعزو خريجة علم الاجتماع عبير أبو محسن فشل أحزاب اليسار إلى “هيمنة النزعة الفردية والشللية داخل الحزب نفسه”، وتستقي رأيها هذا من تجاربها الشخصية: “معظم أعضاء الأحزاب اليسارية الذين التقيتهم كانوا يكيلون الاتهامات لبعضهم البعض ويشوّهون سمعة من يخالفهم الرأي من زملائهم، كوصفه بالعمالة للمخابرات”. وتشبّه عبير بعض الأحزاب اليسارية بـ “الطوائف الدينية”، كونها “تبني قوتها وقواعدها عبر انتقادها ونسفها للأحزاب النظيرة، وتحاكي قياداتها أدوار رجالات الدين بتكريم المقربين منها وتخوين من يشذَّ عن القاعدة أو ينتقد سلوكياتها وممارستها، كما تحتكر القيادة وتتناقلها بالوراثة، لتحاكي بذلك سياسة السلطة” بحسب أبو محسن.
وبالمقابل يرى سامر عواد، الموظف في شركة قطاع خاص، جانباً مضيئاً للتجربة الشيوعية “فهي ساهمت، رغم شللها وعجزها سياسياً، في نشر حالة من الثقافة وعادات القراءة بين الناس، وزرعت بعض الوعي والأفكار الثورية في أذهان الكثيرين، كالوقوف في وجه الظلم والسعي نحو فكرة العدالة “. ويضيف عواد “التجربة أنصفت الكثير من النساء وحررتهن من قيود الدين والمجتمع، حيث خلقت حالة مدنية في بعض المجتمعات المصغَّرة وجابهت العادات والتقاليد فيها، كما حررت بعض العقول الرجعية من التخلف، فمن نشأ في بيتٍ شيوعي كان أكثر تنوراً وثقافةً وانفتاحاً من غيره”.
أما الماركسي معتز عيسى، الذي يعمل في ورشة صناعية، فيرى أن حزب العمل هو التجربة الفدائية الوحيدة التي “اتخذت نهجاً راديكالياً مقاوماً يُذكِّر بأدبيات اليسار، في وقت نهجت فيه معظم أحزاب اليسار نهج السلطة، بل وجلست في حضنها”. مشيراً إلى أنه “كان يمكن للتجربة أن تحدث تغييراً سياسياً حقيقياً لو تمكنت من تأسيس أرضية صلبة ومتينة لها، لكن اعتقال معظم كوادر الحزب ساهم في التسريع في موت التجربة”.
اليسار بين السُبات والشلل
تم تقزيم وتقييد معظم أحزاب اليسار مع بدايات السبعينيات بضمِّها إلى “الجبهة الوطنية التقدمية” التي يقودها حزب البعث الحاكم، ويحتل أكثر من نصف مقاعد قيادتها، وهو أمرٌ “قصم ظهر اليسار وأصابه بالشلل والمرض” وفقاً لرأي المحامي ياسر (اسم مستعار) الذي يسخر من الأمر متسائلاً ” كيف ليسارٍ يدّعي مناصرة الفقراء والمظلومين والنضال ضد الاستبداد أن يكون تحت جناح حزب سلطوي؟ وكيف لقياداته أن ترضخ تحت وصاية من اشتراها بإشراكها نظرياً في بعض المناصب الهامشية والشكلية، بطريقة تضمن عجزها عن رفع صوتها السياسي أو التدخل في صنع أي قرار؟”.
ويصف المحامي ياسر انضمام الحزب الشيوعي إلى الجبهة بـ “التنازل المذل”، مشيراً إلى أنه “فتح باب الانشقاقات داخل الحزب وأسهم في انحسار نفوذه وخسارته للكثير من جماهيره التي فقدت الثقة به، فقلّ بذلك عدد المنتسبين إليه وفشل باستقطاب منتسبين جدد، باستثناء من ورث الانتماء الحزبي عن عائلته”.
ونتيجة شلل الدور السياسي للأحزاب اليسارية خلال نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، توجه معظمها نحو النشاط المدني والأهلي، كعقد عدّة اجتماعات شكلية، وتقديم الندوات والمحاضرات الثقافية، وإقامة الرحلات والحفلات الفنية، بالإضافة للاحتفال ببعض المناسبات والأعياد الوطنية.
يقول الكاتب اليساري أحمد -الذي فضل عدم ذكر اسمه الكامل- في وصف تلك المرحلة: “ابتعدت خطابات اليسار عن معترك السياسة ووجع الشعب المقموع، لتتبنى قضايا خارج الساحة السورية، كالقضية الفلسطينية ومناهضة الرأسمالية والإمبريالية العالميتين وانتقاد النفوذ الأمريكي المهيمن عالمياً”. مضيفاً” اكتفى بعض اليساريين بتشكيل تيارات سياسية ذات توجه عالمي كـ (تيار مناهضة العولمة) بالإضافة لتأسيس منتديات وتجمعات مصغرة ذات صبغة ثقافية مدنية، لا تتبنى أي خطاب سياسي”. وعن تجربة إعلام الأحزاب الشيوعية يقول الكاتب أحمد “باستثناء تجربة المناشير والجرائد السرية، كـ(الراية الحمراء ونداء الشعب(، لم يقدم الإعلام الرسمي لليسار أي خطاب سياسي فاعل أو مؤثر”. ويعطي أحمد مثالاً عن هذا جريدتي “قاسيون” و”النور”، فخطاب الأولى اقتصر برأيه على “بعض الانتقادات الخجولة، كالحديث عن الواقع المعاشي والاقتصادي وغلاء الأسعار والبطالة، فيما أفردت معظم صفحاتها للحديث عن اليسار العالمي والمشاريع الإمبريالية وغيرها”. أما جريدة “النور” فهي”تشبه الصحف الحكومية كالثورة والبعث، مع فارق أنها تتطرق إلى بعض مشاكل المجتمع والخدمات بشكل سطحي، وتتناول بعض المواضيع الثقافية وقضايا المرأة” بحسب أحمد.
اليسار بعد عام 2011
مع انطلاق الحراك الشعبي في سوريا، تلقى اليسار بمعظم أحزابه وتياراته انتقاداتٍ واسعة من قبل من توقعوا منه أن يكون في طليعة المنخرطين بالحراك أو الداعمين له على الأقل، إلا أن اليسار خذل من آمن به أو وثق بأفكاره وعجز مرة أخرى عن لعب دور فاعل، باستثناء بعض أفراده، الذين انضموا للحراك انطلاقاً من مواقف شخصية خارجة عن رؤية وتوجه أحزابهم.
يقول المهندس مازن عروة عن حال اليسار خلال هذه المرحلة “اقتصر خطاب قسم كبير منه على انتقاد تجمعات المتظاهرين الخارجة من دور العبادة، إذ رأى فيها تهديدًا للعلمانية التي يزعم أنه يتبناها، دون أن يقدم خطاباً ثورياً مدنياً بديلاً يوافق تصوراته وأفكاره التي نظَّر لها طويلاً”، ويضيف مازن ذو النشأة الشيوعية” قسم آخر غلبته النزعة البراغماتية، فركض خلف مصالحه لينال قسمته من أرض الواقع على ما في ذلك من تنازلاتٍ أيديولوجيةٍ وأخلاقية، فيما ترك بعض اليساريين، رغم نزعتهم الثورية، الساحة لقوى الأمر الواقع ليكتفوا بالتنظير والتحليل وكتابة مؤلّفاتهم”.
وبرأي الفنانة التشكيلية سلوى، التي فضلت عدم ذكر كنيتها، منحت هذه المرحلة الأحزاب الشيوعية التقليدية “فرصة ذهبية”، كان يمكن أن تعيدها إلى صفوف اليسار الحقيقي، لتسترجع احترام من فقد الثقة بها “لكنها فضلت الاستبداد المألوف على التغيير المجهول” بحسب تعبيرها.
وتنتقد سلوى، ذات التوجه اليساري، “حزب الإرادة الشعبية”، قائلةً “رغم تنظيره عن معاناة الشعب المضطهد، وقف الحزب موقف المتفرج على ما يجري في البلاد، وبدا وكأنه يعيش حالة فصام، فهو يريد أن يكون في السلطة وفي ذات الوقت يسارياً ومعارضاً لها، إذ كيف لأمينه العام أن يصبح وزيراً في الحكومة التي لطالما انتقد سياساتها سابقاً؟”.
من جهته ينتقد المدرس وليم حسون تحالفات بعض أحزاب اليسار، كتحالفها مع الأخوان المسلمين ضمن “المجلس الوطني السوري”، واصفاً تلك الأحزاب بـ”الخائنة لتاريخها النضالي”. كونها “تجاهلت فكرها وشعاراتها ومبادئها لتلتقي مع قوى يمينية ورجعية -كانت تناضل ضدها في مراحل سابقة- تحت حجة “ضرورات المرحلة” و”الغاية تبرر الوسيلة”، ويقول حسون “خضعت بعض تيارات اليسار لتبعية الغرب وسياساته وتلقت دعماً خارجياً، ما جعلها تقع في فخ الأجندات السياسية التي أوجدها المال السياسي، وبذلك حادت عن مسارها اليساري متخذةً مساراً ليبرالياً لطالما حاربته في خطاباتها السابقة”.
عامر فياض موسيقي وكاتب سوري – دمشق
————————
نحو مادية ديالكتيكية “مثاليّة” للضياع العربيّ الأخير!/ د. علي محمد اسبر
“يُقال: إنَّ الظلامَ هو غيابُ النُّور،
ولكن في النورِ الخالصِ
لا نرى أكثر ممّا نرى في الظلامِ الخالصِ”
(لينين، خلاصة علم المنطق لهيغل)
يجب من أجل فهم القيمة الحقيقيّة للتجربة الماركسيّة في العالم العربيّ استحضار الياس مرقص؛ ذلك أنَّ طريقة تفكيره داخل اليسار العربيّ تُعَدُّ ثورة ثقافيّة على هذا اليسار نفسه، فكيف يكون الأمر إذن بالنسبة إلى بقية الاتجاهات أو التوجّهات؟
إنَّ الماركسيين العرب في رأيه مثاليون لم يعرفوا المعنى الحقيقيّ للماديّة، لذلك فشلوا في تغيير الواقع العربيّ، لكن لم يفشلوا فقط بسببٍ من عجزهم عن تحقيق أيِّ تغييرٍ سياسيّ؛ بل بسبب عجزهم أيضاً عن فهم الماركسيّة بصفتها فلسفةً تنبني، أساساً، على تغيير العالم. لذلك اضطر مرقص إلى العناية بالتفسير عوضاً عن العنايةِ بالتغيير، أي وجد نفسه مرغماً على العودة إلى موقف فلسفيّ كلاسيكيّ تناقضه الماركسيّة نفسها، أعني به التفسير؛ لكن وجدَ هذا المفكّر مسوّغاً لنزعته الماركسيّة التفسيريّة في تجاوز النزعة المثاليّة عند الماركسيين العرب، ولئن كانت تسمية الماركسيين العرب ذات عموميّة كبيرة تفتقد إلى التحديد، إلا أنها كانت مصطلحاً اعتاد مرقص على استخدامه، وهدفه من ذلك الإنباه إلى فشل الماركسيّة العربيّة بعامّة، والماركسيّة السوريّة بخاصّة.
هذا، ومن أجل الإقدام في موقف تفسيريّ عميق لم يجد مرقص ضالته في ماركس؛ بل في هيغل، أي آثر الرجوع إلى ينبوع دافق من ينابيع الماركسيّة، أعني به المثاليّة الهيغليّة، أو بالأحرى الجدل المثالي الهيغليّ، إذ اكتشفَ مرقص أنَّ ذلك ملائمٌ للواقع العربيّ، بمعنى أنّه ينبغي على الماركسيين العرب أن يتدرّبوا على فلسفة هيغل قبل التمسّك بأهداب ماركس؛ ذلك أنَّ ماركس عصيٌّ على فهمهم بمعزل عن هيغل؛ غير أنه يمكن القول: إنَّ مرقص وجد في فلسفة هيغل أمراً مناسباً لأنطولوجيا الواقع العربيّ، على أساس أنَّ هيغل فهم العالم الشرقيّ ومنه العالم العربيّ على أنّه ملكوت العهد الحيوانيّ للروح المطلق أو للفكرة الشاملة.
إذن، العالم العربيّ هو المطلق في حيوانيته، في مقابل العالمِ الجرمانيّ الذي هو المطلق في إنسانيته، علماً أنه لا قيمة للمطلق نفسه في فلسفة هيغل إذا لم يرتقِ إلى الإنسانيّة، أي إذا لم يثبت أو يُحقّق أو يؤكد ذاته في الإنسانيّة، وبما أنَّ المطلق في حيوانيته في عالم العرب، فإنَّ الماركسيّة ليست صالحة في هذا الاتجاه، لأنها متقدّمة على الثقافة العربية، إذ إنَّ الماركسيّة، أساساً، قوّضت تاريخ الفلسفات المثاليّة الغربيّة، ومنها فلسفة هيغل عندما قلب ماركس الديالكتيك الهيغليّ المثاليّ المعبّر عن عقل الألوهيّة، ليجعله ديالكتيكاً ينبثق من أعماق المادّة وينظم العالم على أساس هذا الانبثاق.
هذا، ورغم انقلاب ماركس على هيغل، إلا أنَّ مرقص عاد إلى هيغل، لكن مُؤوَّلاً على طريقة لينين في “الدفاتر الفلسفيّة”. إذن، وكما يقول مرقص نفسه في مقدمة ترجمته لكتاب روجيه غارودي فكر هيغل: “هيغل هو الماديّ، وخلفاء بوغدانوف العرب وأقرانهم في أوروبا وعلى امتداد العالم الثالث هم مثاليون ذاتيون، حاملو المثالية الأسوأ..” (١).
لم يقتنع مرقص بتنظيرات الماركسيين العرب ولا بفهمهم لمعنى الماركسيّة، إذ إنَّ تعويلهم على المنهج الماركسيّ، في حركيّة تكامله، استناداً إلى الماديّة الديالكتيكيّة والماديّة التاريخيّة والاقتصاد السياسيّ العلميّ، -أقول: إنَّ تعويلهم على هذا المنهج نفسه ليس إلا ادعاءً فارغاً؛ ذلك أنهم خدعوا أنفسهم باعتقادهم أنهم صاروا ماديين بمجرد اتخاذهم موقفاً إلحاديّاً إزاء الدِّين. غير أنّهم وقعوا في شِراك أكثر خطورة. يقول مرقص في مقدمته نفسها: “لنعترف بأنَّ أصحابنا “الماركسيين العرب صورة (كاريكاتوريّة، مضخّمة، نوعيّة، جاهلة، شرقيّة) عن وضعٍ دوليّ”(٢).
يعني كلام مرقص هنا أنَّ الماركسيّة العربيّة ضربٌ من المستحيل، إذ إنَّ مصطلح “ماركسيّة عربيّة” ينطوي على ضربٍ من السُّخرية، إذ إنّه لا يمكن تكوين أيّة ماركسيّة في مجتمعات ليست إلا انعكاساً لملكوت العهد الحيوانيّ للروح المطلق!
إنَّ مرقص يسخر سخرية مريرة من أعرق التجارب الماركسيّة في العالم العربيّ، سخرية تثير مشاعر اليأس والقنوط وفقدان الرجاء، إذ إنَّ سخريته تنبعُ من موقفٍ نقديّ لا يُعنى بأعداء الماركسيّة من العرب بقَدْر ما يُعنى بنقد الماركسيين العرب أنفسهم. ويمكن أن نجازف بالقول: إنَّ مشكلته الرئيسة تكمن في الماركسيين العرب، وليس في أعداء الماركسيّة من العرب. إنّه يواجه أبناء جِلدته من الماركسيين العرب، لأنّه معجب جداً بعبارة عميقة جداً للفيلسوف اليونانيّ هِرقليطُس قال فيها: “إنَّ العيون والآذان شهود سيئون عندما تكون النفوسُ بربريّةً”، بمعنى: أنه لن يثق بحواس أو بماديّة الماركسيين العرب، لأنَّ نفوسهم أو عقولهم مثاليّة؛ لذلك ذهب في نقده للماركسيين العرب إلى حدّ بعيد-قد يكون غير مقبول أحياناً-إذ قال في كتابه “نقد العقلانيّة العربيّة” عن خالد بكداش: “…بكداش إمام الماديّة والعلميّة والإلحاد. بكداش يجهل موقف ماركس من هذا المصطلح…-”ماديانيّة“…”(٣).
إنَّ الماركسيين العرب لم يعرفوا ماركس، لأنهم لم يفهموا معنى الوجود في جملته الجامعة على أساس لفظة بسيطة ومُركّبة في آن، أعني بها، استناداً إلى مرقص “العمل”. إذ إنَّ “العمل الخلّاق” وفقاً لاصطلاح ماركس نفسه، هو المعنى النهائيّ لوجود الإنسان، ولا يوجد، ماركسيّاً، ما هو أبعد من ذلك.
إنَّ ما يريد مرقص تأسيسه عند العرب هو أنطولوجيا ماركسيّة للعمل، أو علم وجود ماديّ للعمل، فإذا كانت الأنطولوجيا، وفقاً لتعريفها الكلاسيكيّ، هي علم الوجود بما هو موجود، فإنَّ الوجود لا يتجلّى إلا إنسانيّاً، ولأنّه كذلك، فإنّه موجود بوساطة العمل، لذلك لا يوجد مكان هنا للحديث عن علل أو أسباب أو ماهيّات يمكنَ إرجاع الوجود إليها، ذلك أنَّ الوجود في مُختلف درجاتِ تَنَاسُبِهِ أو هرميته، لا معنى له بمنأى عن الإنسان، لذلك هو-أعني الوجود-بذاته وفي ذاته ومن أجل ذاته ليس إلا إنسانيّاً، وما هو إنسانيّ لا قيمة له، إلا على أساس العمل، أو على حدِّ تعبير إلياس مرقص “الشُّغل”. إذن ما يشغلني بصفتي إنساناً هو العمل؛ ذلك أنَّ الإنسان هِرمينوطيقيّاً أو تأويليّاً، هذا إذا أخذنا التأويل بالمعنى الماديّ، أي بمعنى تفجُّر ينابيع الحقيقة الأنطولوجيّة للمادّة، هو في نهاية المطاف مادة تعمل، أو عمل يصير مادة، أي مادة تعمل على تكوين نفسها، وهنا تتجلّى نزعة مرقص الهيغليّة –هذا إن أصاب كاتب هذه السطور- أعني أنّها تتجلّى في فهم هيغل للمعنى النهائيّ للوجود: موضعة الذات وتذويت الموضوع، أي وفقاً لقلبٍ ماركسيٍّ للهيغليّة، بوساطة لينين، لا بدّ من ترسيخ العمل، أنطولوجيّاً، في الثقافة العربيّة، في أفق الصياغةِ الماركسيّة لها؛
لكن مرقص، انطلاقاً من هيغليته، يريد أن يُبيّن فشل الماركسيين العرب، لأنهم لم يؤصّلوا العمل أنطولوجيّاً، كما يريد في الوقت نفسه أن يُبيّن فشل الإسلامويين العرب، لأنهم أيضاً لم يؤصّلوا الله أنطولوجيّاً، يقول مرقص: “الله مُغيّب! لا سيما في خطاب “الأصوليين الرجعيين” الذين قرروا البقاء أو التفاعل مع الفكر القوميّ” (٤). إذن، هناك فشلٌ متضافر عند العرب، ماديّاً ومثاليّاً، أو بالأحرى، ماركسيّاً ودينيّاً، وهنا تظهر ثقافة مرقص الضاربة بجذورها عميقاً في حقيقةِ الأمور، إذ إنّه يتوسّل المعطيات كلّها، انطلاقاً من مَرجِعِيَّتيه الهيغليّة واللينينيّة، فالعالمُ العربيّ منسوجٌ بالمثاليّة والماديّة معاً، لكن الماديّة، كما فهمها لينين الذي يعاني من الطبيعة الإقطاعيّة لروسيا التي تجعله، أحياناً، يعمل على تعديل المنهج الماركسيّ الذي يحتاج لتطبيقه، ثوريّاً، إلى دولة مثل بريطانيا وليس مثل روسيا، لذلك العالم العربيّ في رأي مرقص بحاجة إلى هيغل بقدْر حاجته إلى ماركس، ولذلك هو أساساً بحاجة إلى لينين. يقول مرقص معبِّراً بذكاء بالغ عن هذا التداخل بين الماديّة والمثاليّة في العالم الشرقيّ: ” براهما (“الإله-الكلمة “) يُخيم علينا (وعلى غيرنا). واللوجوس هو، نوعاً ما، كلّ الفلسفة. اللوجوس أي الربط، العقل، النطق، الكلام، الحساب. هيراكليت، وهيبوقراط، أفلاطون وأفلوطين، القبالة اليهوديّة Kabbalah والصوفيات والباطنيات، وعرب هذا الزمان وثوارهم“(٥) .
الهوامش
١- مقدمة الياس مرقص لترجمة كتاب روجيه غارودي، فكر هيغل، دار الحقيقة، بيروت، بدون تاريخ، ص:8-9.
٢ -المصدر نفسه، المعطيات السابقة نفسها.
٣ -الياس مرقص، نقد العقلانية العربيّة، دار الحصاد، دمشق، 1997 ص:462.
٤ -مرقص، نقد العقلانيّة العربيّة، مصدر سابق، ص: 374.
٥ -مقدمة ترجمة مرقص لكتاب روجيه غارودي: فكر هيغل، ص:50.
د. علي محمد اسبر: باحث وأكاديمي سوري. من مؤلفاته: التحليل الأنطولوجي للعدم دار بدايات 2006، ماهية الوعي الفلسفي دار التكوين 2009، مارتن هيدغر أو الفشل المنهجي دار التكوين 2015. إضافة إلى مقالات وأبحاث نشرها في صحف دوريات ومجلات متعد
——————————–
رابطة العمل الشيوعي في سورية بعض ما لها وما عليها/ جمال سعيد
تشكلت حركات اليسار الجديد ومن بينها رابطة العمل الشيوعي، في سياق -أعتقد- أن من بين أهم ملامحه العربية هزيمة حزيران/يونيو 1967 المدوية، التي تركت أثراً موجعاً للغاية في المجتمعات العربية، وعلى نحو خاص في مصر وبلدان المشرق العربي، حيث أوقدت وعود الإعلام القومي (الناصري والبعثي) حماس وآمال وإيمان الجماهير بالتحرير.
بعد الهزيمة، أعادت النخب التي لم يشلها اليأس، طرح العديد من الأسئلة المتعلقة بتحرير الأراضي العربية المحتلة، وإقامة نظام يضمن العدالة الاجتماعية، وطرحت مشكلات المجتمعات العربية التي تفتقر إلى الديمقراطية والحداثة والعقلانية، محاولة الإجابة عن أسئلة ترتبط بكيفية الالتحاق بركب الحضارة العالمية لتتحرر المجتمعات العربية من الفقر والجهل والتخلف، وكيفية إقامة نظام يضمن حرية التعبير وتشكيل الأحزاب وإشراك الشعوب فعلياً في اجتراح الحلول لتجاوز أزمات تلك المجتمعات.
ازداد عدد الفصائل اليسارية في منظمة التحرير الفلسطينية، ومثلت تلك الفصائل أحد الأطر المهمة للنضال والحوار ولملمة الأحلام الوطنية والقومية ضمن لبوس ماركسي هذه المرة، كما شهدت حقبة نهاية الستينيات أحداثاً ألهبت العواطف وخصوصاً لدى الشباب: من بينها مقتل غيفارا وتحوله إلى أيقونة عالمية، وثورة 1968 في فرنسا، ومواقف النخب الأوربية منها، وفي الوقت نفسه برزت تيارات مختلفة ومتباينة في الحركة الشيوعية العالمية، وبدأ الخروج على النهج الستاليني، والسوفييتي عموماً، يعبر عن نفسه في أطروحات بعض الأحزاب الشيوعية في أماكن متعددة من العالم. العديد من الدلالات تشير لتعدد وصراع المفاهيم ضمن الميدان النظري والسياسي للحركة الشيوعية العالمية، من بينها أن الكثيرين كانوا يرون في الشيوعية (بصفتها نظرية ثورية) منطلقاً للخلاص العالمي، وأن كل تيار كان يرى أنه هو الممثل الأصيل للفكر الشيوعي، ومن بينها أيضاً أن الشيوعية تحولت في مواطن كثيرة من أداة نظرية إلى ضرب من ضروب الإيمان والتدين.
في هذا السياق ولدت ظاهرة اليسار الجديد العالمية، والعربية. وقد تباينت قوى اليسار في العديد من المواقف، ومن بينها “صناعة الثورات الاشتراكية”، ففي حين استلهمت بعض القوى حرب العصابات وقدست “العنف الثوري” مثل “الألوية الحمراء” في إيطاليا، و”التوبوماروس” في الأورغواي، و”بادر ماينهوف” أو جماعة “الجيش الأحمر” في ألمانيا الغربية آنذاك الساحة الفلسطينية شهدت تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقادها جورج حبش الذي اعتبر ضمير الثورة الفلسطينية أو/و رمز النقاء الثوري فيها، وعرف عنها اختطاف الطائرات، وبرزت فيها أسماء تم تطويبها كأبطال مثل وديع حداد وليلى خالد. وفي سورية حاول أعضاء المنظمة الشيوعية العربية البدء بحرب عصابات لضرب المصالح الأميركية، إلا أن المنظمة طوقت في مهدها إثر إعدام خمسة من قادتها، والحكم على أعضائها الآخرين بالسجن المؤبد.
كانت ظاهرة الحلقات الماركسية جزءاً من موجة اليسار الجديد، وقد تحدر أغلب أعضائها من أحزاب التيار القومي، الذين صبوا بعض لومهم على الأدوات المعرفية القديمة، وتابعوا بحثهم الجاد عن أخرى جديدة، ورأوا في الماركسية ضالتهم، فعكفوا على قراءة التراث الماركسي، وعلى استخدامه بصفته أداة أحياناً وبصفته عقيدة وإيماناً في أحيان كثيرة، بهدف تقديم “تحليل ملموس لواقع الملموس” للوصول إلى كيفيات وسبل التحريروالتغيير. تطورت ظاهرة الحلقات الماركسية وتزامن تطورها مع انقسام الحزب الشيوعي السوري، لحزبين يدعي كل لنفسه الشرعية التنظيمية والسياسية، وعُرف كل منهما باسم أمينه العام (جماعة بكداش وجماعة الترك).
وكانت الحلقات الماركسية في سورية تفكر بالحوار مع الشيوعيين الآخرين، ولكن قيادات الحزبين رغبت في أن ينضم أعضاء الظاهرة الجديدة إلى الحزب (سواء الترك أو بكداش) فرادى، وادعت قيادة كل من الحزبين أن حزبها هو الإطار “الحقيقي” -بحسب وصفها- للنضال الشيوعي في سورية، وحصل بكداش على صك الشرعية السوفييتي، واعتبر الترك أنه يمثل الشرعية الثورية.
في مطلع عام 1976 دخل الجيش السوري إلى لبنان بطلب من بيير الجميل وحلفائه، وموافقة جامعة الدول العربية، مع معارضة الفلسطينيين وقوى اليسار اللبناني أو ما يعرف باسم “الحركة الوطنية اللبنانية” التي كان يتزعمها كمال جنبلاط، وترك ما ارتكبه الجيش في تل الزعتر وجسر الباشا بحق المقاتلين الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين، تأثيراً كبيراً في تسريع تشكيل رابطة العمل الشيوعي في سورية، وهي المنظمة التي انبثقت عن اللقاء الثالث الموسع للحلقات الماركسية الذي انعقد في 28 آب 1976 في مدينة حلب.
تبنت الرابطة أغلب الموضوعات الاستراتيجية التي انبثقت عن الحلقات الماركسية، وتمت العناية بإصدارها لاحقاً في كراسات طُبعت في لبنان ليتم تهريبها إلى سوريا لاحقاً. وتدل عناوين تلك الكراسات على الموضوعات التي اهتمت بها الحلقات وهي: ملامح الصراع الطبقي العالمي، الأممية والحركة الشیوعیة العالمیة، العنف الثوري وأشكال الانتقال إلى الاشتراكیة، الثورة العربیة والحزب الشیوعي العربي، القضیة القومیة، القضیة الفلسطینیة، البرجوازیة الصغیرة والسلطة السوریة، الجبھة والتحالفات، الطبقة العاملة السوریة، الحركة الشیوعیة المحلیة، كما ألحق بهذه المجموعة كراس بعنوان: الجولان، عشر سنوات على الاحتلال.
وقد نوقشت في إطار الحلقات وفي إطار الرابطة (وهذه هي التسمية المختصرة الشائعة) موضوعات عدة من بينها: البيروقراطية في الأحزاب الشيوعية، الفرق بين التنظيم اللينيني والتنظيم الماركسي، نمط الإنتاج الآسيوي أو أنماط الإنتاج في الشرق، بالإضافة إلى تحرر المرأة وطبيعة الأسرة البطريركية إلخ ..إلخ.
لم تخل الأعوام التي امتدت منذ آذار/مارس عام 1977 حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2005 من وجود معتقلين لرابطة-حزب العمل الشيوعي في السجن، فالقمع كان سبباً جوهرياً لشل فاعلية التنظيم، ولعل حملة اعتقالات شباط/آذار فبراير/مارس 1992 التي اعتقل فيها القياديان الطبيبان: عبد العزيز الخير وبهجت شعبو وآخرين، قد شلت التنظيم، إلى أن تم إحياؤه من جديد على يد مجموعة ممن خرجوا من السجن أو عادوا من المنافي. ويفتقر التنظيم بطبيعة الحال إلى الروح الشابة النشطة التي لعبت دوراً مشهوداً في الحياة السياسية في الفترة بين 1976 و1992، وعلى نحو خاص في فترة الثمانينيات.
يطول الحديث عن علاقة الرابطة بباقي الأحزاب القومية اليسارية مثل حزب العمال الثوري وحزب البعث الديمقراطي “23 شباط” وتيار جمال الأتاسي، والاشتراكيين العرب (التيار المعارض الذي قاده عبد الغني عياش)، والتي لم تسفر عن اتفاقات قيّمة طوال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد. ولذا سيقتصر تناول المقال لعلاقة الرابطة بالشيوعيين السوريين الآخرين.
في بداية تشكل الرابطة اتخذ الحزبان الشيوعان السوريان (بكداش والترك) موقفاً سلبياً من التنظيم الجديد الذي كرس إلغاء منصب الأمين العام، وكان لكل من الحزبين أسبابه. فبكداش متحالف مع النظام تحالفاً يباركه الرفاق السوفييت، ويرى في من يعارض النظام خادماً للإمبريالية العالمية، ومن جهة أخرى كانت النسخة البكداشية من الحزب تعاني حالاً من الترهل النضالي، لا يقبل بموجبه الروح الكفاحية العالية لشيوعيين آخرين إلا بصفتها مرضاً يسارياً طفولياً يخدم العدو الإمبريالي في المحصلة. أما العلاقة بين الرابطة والمكتب السياسي (الاسم الذي يميز جماعة رياض الترك) فكانت تناحراً وتنافساً، وأعتقد أن التنظيمين ادعيا الشرعية الثورية. ومع ذلك رفض الترك عرضاً للرابطة بالاندماج مع حزبه شريطة أن يقدم الحزب لأعضائه منبراً داخلياً يمكنّهم من طرح وجهات نظرهم السياسية والتنظيمية.
و نشأ التنظيمان بطريقتين مختلفتين فالمكتب السياسي (حزب الشعب لاحقاً) تربى سياسياً وتنظيمياً في المدرسة الشيوعية الرسمية، وخرج عليها حاملاً بعض سماتها، في حين كان من بين أسباب نشوء الرابطة- (حزب العمل لاحقاً) التصدي للبيروقراطية وعبادة الفرد والانغلاق الأيديولوجي الحاد، وهي من الأمور التي أدت إلى فشل الحركة الشيوعية الرسمية من وجهة نظر الرابطة. جرى حوار مع تيار مراد يوسف الذي انشق عن بكداش، وحمل اسم منظمات القاعدة، ومع تيار حنين نمر الذي غادر المكتب السياسي (الترك) ومع تيار بدر الدين السباعي الذي يسعى لوحدة الحزب الشيوعي السوري المبدئية، ومع كل التيارات التي انشقت عن الحزب الشيوعي لاحقاً، إلا أنها لم تسفر عن أية اتفاقات لها قيمة في الحقل السياسي، وكان أغلب الذين حاورتهم الرابطة يرون “أنها تحمل السلم بالعرض” وأنها أكثر راديكالية مما يحتمل الواقع.
في ثمانينيات القرن الماضي، وبعد تطور الصراع بين النظام والحركة الدينية (الطليعة المقاتلة والأخوان المسلمون)، كان الخلاف قد أخذ بعداً سياسياً أعمق بين الرابطة والمكتب السياسي، ففي حين رأى المكتب فيما يجري “حركة شعبية”، رأت الرابطة أن الأخوان “جزء من حلف رجعي أسود يحارب دكتاتورية عسكرية تمثل البرجوازية بيروقراطية”، ورأت أن الشعب السوري أضحى بين مطرقة النظام وسندان الأخوان، داعيةً إلى تكوين قطب شعبي ثالث، بعيداً عن الدكتاتورية العسكرية ممثلة بالنظام والحركة الفاشية ممثلة بالأخوان. رغم هذا، فإن نقطة تقاطع مهمة بقيت بين شعارات الحزبين، ففي حين كان يدعو المكتب لـ”التغيير الديمقراطي” كانت الرابطة تدعو إلى “دحر الدكتاتورية والظفر بالحريات السياسية” إلا أن الخلاف حول الصراع الذي يجري على الأرض، كان أقوى من الاتفاق النظري هنا أو هناك.
وتميز أعضاء الرابطة بروح كفاحية عالية، وخاض أغلبهم تجربة سجن مريرة أو تجربة تخفي مديدة، وتوفي بعضهم تحت التعذيب، ويعد محمد عبود الذي توفي في أواخر عام 1980 أول شهداء رابطة العمل الشيوعي، كما تميزت الرابطة بمشاركة ملحوظة من مناضلات سوريات، خضن تجربة الاعتقال المديد بدورهن. وتمتع التنظيم منذ تشكله بروح تطهرية، إذ تقرر عدم قبول أية مساعدات مادية من أي جهة، حتى من اليسار الفلسطيني، لكي لا يخضع لأحد، وكانت قيادة الرابطة تفتقر إلى عمق التجربة السياسية، حيث كانت تحل في أوقات كثيرة المطالب الاستراتيجية محل الخطوات التكتيكية. وأرى أن هناك وجه حق في وصف أغلب أعضاء الرابطة بأنهم حالمون وفرسان وشعراء أكثر مما هم سياسيون، فقد كان التنظيم عموماً أبعد القوى السياسية عن البراغماتية.
واستطاع التنظيم أن ينتشر في كل المحافظات السورية وفي أغلب البلدات والمدن، ولكن القمع الشديد والمديد شل فعاليته، كما شل فعالية باقي القوى والتنظيمات اليسارية وغيرها.
وكان يمكن للرابطة أن تطور الرؤية اليسارية المختلفة عن الرؤية اليسارية الرسمية، فقد اجتهد أعضاؤها وطرحوا أسئلة خارجة على الترسيمة السوفييتية، وعاشت الرابطة وضعاً تنظيمياً مختلفاً عن الحال الذي عرفته أحزاب اليسار، بإحلال القيادة الجماعية محل الأمين العام والقبول بتيارات مختلفة ومتباينة داخل التنظيم، على أن يضبط الفعل السياسي بالخضوع للأغلبية من جهة، وعلى أن يتاح لتيارات الأقلية وأهمها التيار التروتسكي، منبراً داخليا (جريدة داخلية) تعبر فيها عن رأيها، وتسعى لاستقطاب أعضاء الحزب والتحول إلى أكثرية إن استطاعت.
أما الآن، فيبدو أن الناشطين في الحقل السياسي من الشخصيات التي لعبت دوراً في تأسيس الرابطة، أصبحوا يمثلون تيارات وتوجهات متناقضة فكرياً وسياسياً: فالبعض غادر الماركسية إلى غير رجعة، لاجئاً إلى الفكر الليبرالي، في حين يرى آخرون أن الماركسية لم تنهر بانهيار جدار برلين بل البيروقراطيات الاشتراكية هي التي انهارت. وفي السياسة يصبح التمايز أشد وأقسى ، حيث تتناقض المواقف من مسائل عديدة : الموقف من التدخل الغربي في سورية، الموقف من الحوار مع النظام، الموقف من الحوار مع فصائل المعارضة الفاعلة وخصوصاً المسلحة منها. والحقيقة هي أن الذين حاوروا النظام أو اقتربوا من المعارضة المسلحة أو طالبوا بالتدخل الغربي (الأميركي خصوصاً) لا يمثلون ولا يدعون تمثيل حزب العمل الشيوعي، حيث أسس بعضهم أو انضم إلى منظمات جديدة مثل فاتح جاموس الذي تم فصله من الحزب وأسس (أو انضم إلى) طريق التغيير السلمي. وآخرون ممن يخالفون الحزب -الذي لا يزال له كيان رسمي في موقفه الرافض للتدخل الخارجي ولتسلح الثورة وتطييف الصراع- ويمكن معرفة مواقف حزب العمل الشيوعي (الرابطة سابقاً) من افتتاحيات النشرة التي يصدرها تحت عنوان “الآن” عبر صفحة الحزب على ” فيسبوك “.
تركت الرابطة ومن ثم حزب العمل الشيوعي بصمة مهمة في سياق الصراع السياسي في سورية، فهي مثال على تجمع ضم مناضلين من مختلف الطوائف والأقوام في سورية ممن توافقوا على رؤية سياسية، وفي الوقت الراهن يعد عبد العزيز الخير من أبرز معتقلي الحزب، وكان قبل اعتقاله من أبرز ناشطيه.
أرى حالياً أن حزب العمل، شأنه شأن كل القوى السورية التي تمثل العقلانية والحداثة والديمقراطية في سورية، غير قادر على لعب دور فاعل في المدى المنظور، ولا أعتقد أن هذه القوى مجتمعة، قادرة على لعب دور سياسي فاعل في ظل القمع والعنف والتطييف وتدويل الصراع الذي تشهده سورية، مع أن خلاص سورية مرتبط برأيي بالعقلانية والحداثة والديمقراطية التي تفضي إلى دولة القانون المدنية، والتي تحتاج إلى إعادة تفعيل تلك القوى.
جمال سعيد – كاتب سوري – مولود عام 1959 .اعتقل لمعارضته النظام السوري قرابة 12 عاماً، أمضى قسماً كبيراً منها في سجن تدمر العسكري. بعد إطلاق سراحه تخرج من قسم الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، وصدرت له مجموعة قصص قصيرة في سورية عن عام 1993 عن وزارة الثقافة حين كان أنطون مقدسي مديراً لدائرة التأليف والترجمة في الوزارة المذكورة. عمل في إخراج وتصميم أغلفة الكتب مع العديد من دور النشر الخاصة، وعمل في إدارة ومتابعة الإنتاج وساهم في تقييم العديد من المخطوطات في دار الطليعة الجديدة في دمشق. نشر العديد من المقالات والقصص القصيرة والقصائد في العديد من الدوريات العربية، وترجم إلى العربية رواية القصة التالية لسيس نوتبوم (صدرت عن دار إيمار -دمشق-2004) وكتاب النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود لجون ماينارد كينز (صدر عن دار الفرقد – دمشق 2014)، وكتاب بعد الحرب – تاريخ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية – للمؤرخ البريطاني توني جت، والذي سيصدر عن دار ترجمان – بيروت. يقيم حالياً في كندا.
———————————
اليسار السوري والمواقف المعاكسة للرؤى اليسارية والثورية/ أمل نصر
زاوجت تجربتي الخاصة بين نشاطي مع رابطة النساء السوريات منذ التسعينات (لكل فصائل الأحزاب الشيوعية المتحالفة مع الجبهة الوطنية التقدمية)، وانخراطي سياسياً – سرياً ثم علنياً- في حزب العمل الشيوعي المناهض لدكتاتورية النظام تاريخياً.
كيف يمكن أن نَنظّر الى انخراط يساري حقيق ومبدئي في زمن تغلغلت فيه كل الأجندات الإقليمية والدولية والتمويل والدين السياسي، فكان انعكاسه المباشر تجريد اليسار من ثوريته النضالية والتخلي عن برنامجه واستراتيجيته؟ وما الذي يعنيه لنا تحديداً ارتباط ما يحدث في سورية بهذا اليسار التاريخي؟ الذي ينقسم بين أحزاب متحالفة مع النظام منضوية في الجبهة الوطنية التقدمية من جهة، ومن جهة أخرى لأحزاب وتيارات يسارية معارضة منقسمة بين ثورية يسارية معارضة جذرية، وثورية يسارية معارضة متحالفة مع اليمين الإسلامي، وثورية يسارية قومية (عربية وكردية) وقعت في أزمة ما بين هويتها اليسارية الوطنية الجامعة والهوية القومية الضيقة.
اذاً ما الذي يميز حقيقة في كل ذلك اليسار التحرري الماركسي عن الاشتراكي البعثي ، الذي تمثلت به أحزاب اليسار المتحالفة مع النظام ، في دفاعها عنه ، في حين توجهت بخطابات تنتقد فيها الدكتاتوريات العربية، وعنفها الممارس ضد مطالب شعوبها مساندة بذلك ثورات الربيع العربي وثورية الأحزاب اليسارية المعارضة ( خطابات الاحزاب الشيوعية السورية المتحالفة مع بعثية ودكتاتورية النظام السوري ، ضد نظام السودان وممارساته ، مساندة بذلك ثورية الحزب الشيوعي السوداني المعارض ، ومخالفة بهذا المطلب والحق الأحزاب اليسارية السورية المعارضة في مطالبها ضد النظام السوري ).
ما هي علاقة اليسار بالحرية التي انتفضت لأجلها السوريات والسوريون؟
إذا أردنا رسم خارطة واقعية لمواقف اليسار المعارض التقليدي تجاه مطالب السوريين بالحرية سنجد أنفسنا أمام تناقضات جوهرية يمر بها اليسار السوري عموماً. فمنذ سبعينيات القرن الماضي،وقعت التيارات اليسارية السورية المعارضة ما بين مطرقة قمع النظام وسندان اليسار المتخاذل المتحالف معهتحت مظلة “الجبهة الوطنية التقدمية”التي هيمن عليها حزب البعث الحاكم وصادر هويتها وثوريتها. مما أضعف هذا من قدرة “اليسار السوري على تطوير استراتيجيتة الفكرية والتنظيمية، ولم يعد بإمكانه أن يكون لاعباً فاعلاً في الساحة السورية، وبالطبع كان من المتوقع أن تساهم الأحزاب والتيارات اليسارية المزودة بالأدوات النظرية والفلسفة الماركسية ، بلعب دورٍ نهضويٍ وتحرري في سورية، لولا الطابع السوفيتي (الستاليني) الذي بلورته الأحزاب اليسارية المتحالفة مع النظام منذ نشوئها، والخلافات التي أصابت التيارات والأحزاب اليسارية المعارضة، حول تطبيق مفهوم النظرية الثورية، وترويج شعاراتها المناهضة للنظام، والتي تم قمعها بوحشية في أواخر السبعينات والثمانينيات.
النساء واليسار السوري سياسياً وقيادياً
يحتاج الوقوف على قضايا برامج اليسار السوري والتحليل المرحلي لاحتياجاتها إلى إعادة النظر بمسار اليسار الإيديولوجي لنضالها الطبقي والتحرري، الذي بنى عليه رؤيته الثورية لبناء وعي اجتماعي نخبوي، كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية والمنعطفات التي غيرت من هوية بعض الأحزاب اليسارية وآليات عملها وتحالفاتها. فقد أثرت القضية الفلسطينية على علاقة بعض الأحزاب اليسارية بمسألة الهوية القومية، فيما ابتعدت بعض الأحزاب عن نضالها الطبقي ، وبُعدها عن الانخراط بين العمال والفلاحين بسبب سرية عملها، واهتمامها باختراق الجيش من أجل إسقاط ديكتاتورية النظام كما حصل في أواخر السبعينات، في ذات الحين رفضت هذه الأحزاب “التقدمية” مفهوم النضال التحرري النسوي، وجعله قضية مستقلة منفصلة عن مهامها المجتمعية التحررية ككل.
وهنا نجد مفارقة كبيرة بين مسار الأحزاب اليسارية التقليدية المتحالفة مع النظام السوري والتي اتسمت بنشاطها العلني ، حيث تبنت نضالا جاداً وانخراطاً حقيقياً في دعم حركات تحرر النساء والدفاع عنها، وأصدرت العديد من الأدبيات الحزبية الخاصة بمتطلباتها المرحلية بشكلها المستقل، من خلال إنشاء منظمات خاصة للنساء والشباب (رابطة النساء السوريات، واتحاد الشباب الديمقراطي، الذي حملوا نفس الاسم للحزب الأساسي وتياراته المنشقة عنه). في حين أنّ الأحزاب اليسارية المعارضة، التي تبنت العمل السري، نأت بنفسها عن تبني قضايا النساء والشباب في معاركهن/م المجتمعية بشكلها المستقل، رغم أنّ هذه الأحزاب والمنتمين/ات إليها لم يتراجعوا عن مبدئيتهم اليسارية وسعيهم الجاد لخرق العادات والتقاليد، ومحاربة الجهل، وتهديم البنى الاجتماعية القائمة على عدم المساواة بين النساء والرجال. ورغم أنّ المعتقلات السوريات اليساريات سُجنَّ مالا يقل عن ثلاث سنوات في سجون النظام السوري، إلا أنّ وجودهن في صفوف كافة قيادات الأحزاب اليسارية المعارضة في تلك المرحلة بقي ضعيفاً (أو شبه معدوم). وبالإضافة الى ضعف التمثيل على مستوى التنظيم السياسي، نجد فقراً واضحاً في الأدبيات الحزبية والفكرية الخاصة بالمرأة وانخراطها السياسي والقيادي في المجتمع، باستثناء ما صدر من قبل بعض المثقفين اليساريين كالمناضل والكاتب اليساري الراحل (بو علي ياسين 1942-2000) الذي قدّم أدبيات هامة على مستوى النظرية والواقع لتحرر المرأة العربية عموماً والسورية خصوصاً، نشرها في خمسة كتب.
وحتى بعد الانتفاضة وانخراط العديد من اليساريات بقوة في الحراك، لم تتغير مفاهيم الأحزاب اليسارية حول أهمية تفعيل انخراط النساء في قيادة الأحزاب، وتدعيم دورهن في تفعيل الحل السياسي الغائب حتى الآن، ويكاد إشراك النساء يقتصر على ما فرضته الأمم المتحدة بإلزامها تمثيل النساء ضمن هيئة المفاوضات. وبالطبع يشبه وضع النساء اليساريات المنخرطات في التحالفات الحالية للمعارضة وضع الرجال اليساريين ممن قبلوا بالأجندات (السعودية أو القطرية أو التركية أو الروسية)، وتبدو مشاركتها خجولة وليست على قدر الطموح والتمثيل.
في نهاية عام 2012 وأثناء لقاءٍ جمع بعض النساء العربيات (السياسيات والناشطات مدنياً) في الأردن على خلفية نشاط نسوي عن الديمقراطية ودور النساء فيها قيادياً، طرحت بعض اليساريات السودانيات على اليساريات العربيات آنذاك مشروعاً لبناء تحالف نسوي يساريضمن الربيع العربي، لتكون قوة ضاغطة على الشارع المنتفض لحريته، إلا أنّ هذه الفكرة لم تلق استحساناً أو قبولاً من الأحزاب اليسارية المعارضة متذرعين أننا في مرحلة نضالية متكاملة لا يمكن أن تطرح فيها السياسيات اليساريات نضالاً مستقلاً . ويبدو أن سبب هذا الرفض هو ضعف رؤيتهم لضرورة بلورة هيكلية قيادية نسوية نخبوية، لأنّ هذه الأحزاب لم تصل الى مرحلة تكون فيها بديلاً حقيقياً وممثلاً لمطالب الشعب، ولأنّ بعض قيادات تلك الأحزاب لا ترى في المرأة عموماً -سواءٌ كانت يسارية أو لم تكن- بأنها جديرة وصاحبة كفاءة لتولي مناصب قيادية، وهذا ما تجلى تاريخياً وحالياً بتمثيل الأحزاب اليسارية في قيادة تحالفاتها لرجالٍ فقط.
الهوية اليسارية بعد 2011
بقي اليسار خارج الساحة السورية بعد وصول الأسد الابن الى السلطة عام 2000، وحتى عندما دخلت سورية ربيعها المنتفض عام 2011، عادت الانقسامات التاريخية مجدداً بين اليسار السوري التقليدي المتحالف مع النظام وأحزاب اليسار المعارض بكل أحزابه وتياراته. ورغم أن التيارات اليسارية المعارضة حافظت على تاريخها الجذري المعارض للنظام، إلا أنّ تطورات الأحداث والصراع العسكري تمخض عنه مؤخراً ولادة هيئة التفاوض، التي جمعت جميع المتناقضات من اليسار المعارض واليميني المتطرف إيديولوجياً وعسكرياً، في طبخة اقليمية ودولية تحت عباءة السعودية ودعم ومساندة تركية في سابقة تاريخية قلٌ مثيلها في تاريخ اليسار الجذري. هناك أيضاً تيارات وتشكيلات يسارية متعددة ارتأت لنفسها تحالفات أخرى مثل تيار “اليسار الثوري” الذي انضم الى مجلس سورية الديمقراطي مع بعض اليساريين المستقلين.
تعود أسباب هذه التحالفات المتخبطة للتيارات اليسارية السورية إلى اضطراب اليسار، وعجزه عن بلورة برنامج سياسي ذا استراتيجية طويلة المدى لنضاله السلمي منذ أواخر سبعينيات العقد الماضي، حيث دفعت سياسات النظام القمعية ببعض الأحزاب اليسارية للتطرف والتعاطف مع قوى رجعية أصولية مثل الاخوان المسلمين في صراعهم المسلح ضد النظام ، حيث اعتبرت هذا الصراع بمثابة ثورة شعبية ضد السلطة، في ذات الفترة وعلى النقيض منها جمدت رابطة العمل الشيوعي شعار اسقاط النظام، مستبدلة إياه بشعار دحر الدكتاتورية العسكرية والظفر بالحريات السياسية بشكل مواز في مواجهة الفاشية الرجعية المتمثلة بالإخوان المسلمين. وباعتقادي لا يمكننا الحديث الآن عن هوية بنيوية جذرية يسارية للأحزاب والتيارات الموجودة على الساحة السورية. إلا فيما ندر سواء داخل سورية أو خارجها، إذ يكاد يقتصر حضورها على مجموعات صغيرة أو أفراد انسلخواعن أحزابهم اليسارية ولا زالوا متمسكين بمبادئهم وهويتهم اليسارية، فوجدوا أنفسهم في مفترق طرق مع تلك الأحزاب اليسارية التي تراكضت لاقتسام التمثيل السياسي الوهمي عبر المحاصصة الطائفية بين أطراف المعارضة المتوافق عليها اقليمياً ودولياً.
هل كان الوعي السياسي لليسار بحجم ما يحدث في الشارع السوري؟
يجعلنا هذا السؤال نقف أمام أزمة هوية متصدعة بنيوياً، تتكشف عن حقيقة ما تمارسه هذه الأحزاب من سلوكيات معاكسة لبرامجها ورؤاها اليسارية الثورية التي انطلقت منها في بناء تنظيماتها، وما بين النظرية والواقع يكمن غياب هذه القوى والأحزاب في تقديم رؤية حل سياسي، وبرنامج عمل قابل للتطبيق يستقطب الشارع المنتفض دون الانخراط في تحالفات مع التيارات اليمينية المتطرفة المناقضة لها.
إذاً انقسم موقف اليساريين ما بين داعم ومعارض للانتفاضة التي تعسكرت ثم تحولت إلى صراع مسلح، وبالإضافة إلى مسؤولية النظام عن تفريغ الساحة السياسية المعارضة له بالارهاب والترهيب والاعتقال على مدى عقود ، يتحمل اليسار المعارض بكافة أحزابه و تياراته التي تخلت عن أخذ دورها الريادي في توحيد صفوفه وتنظيم قوى الحراك الشعبي المنتفض ، لتأخذ دورها التاريخي في قيادة الحراك الذي استحوذت عليه القوى الاسلامية والجهادية.
فكيف يمكن ليساريتنا الثورية المبدئية أن تساهم وتبني من جديد مواقعها ومنابرها لطرح برامجها؟ سؤال من الصعوبة الرد عليه ولكنه ليس بالمستحيل، وقد يكون الملف الذي طرحه صالون سورية بمثابة فرصة لمواجهة مثل هذه الأسئلة والتفكير بالمستقبل.
أمل نصر: يسارية سورية مستقلة
————————————-
مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية/ أنور بدر
حين استسلم الحزب “الشيوعي السوري” لامتيازات “الجبهة الوطنية التقدمية” التي أنشأها الرئيس حافظ أسد في 7 مارس/ آذار 1972، بقيادة حزب البعث وتشجيع من القيادة السوفيتية آنذاك، كان رياض الترك يعدّ للانشقاق الأول في تاريخ الحزب، ليقوده بعد شهر من ذلك رافضاً التحالف مع النظام.
وبهذا أعلن الترك خروجاً عن طاعة الكرملين، تنظيمياً وبرنامجياً، مؤكداً على التيمة الرئيسية لموضوعات الخلاف التي أثيرت في المؤتمر الثالث للحزب 1969، والقائمة على متلازمة الديمقراطية والمسألة القومية وخفض سقف التبعية للكرملين، وهي القضايا التي سبق سماع أصدائها في بعض أروقة الأحزاب الشيوعية الأوربية، بُعيد ربيع براغ.
لم يتأخر رياض الترك بعقد المؤتمر الرابع للحزب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، حيث حافظ فيه على اسم الحزب الشيوعي مع إضافة لاحقة “المكتب السياسي”، تعبيراً عن شرعية تمثيله أغلبية أعضاء المكتب السياسي بهذا الانشقاق، إضافة لشرعية انتخابه أميناً عاما للحزب القديم/ الجديد.
وقد شكلت هذه التجربة، حالة نضالية فارقة في مسيرة اليسار السوري عموماً،تميزت بالراديكالية والكفاحية العالية في مواجهة النظام، وبشكل خاص بعد التدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن هذه الراديكالية لم تحمِ الحزب الشيوعي- المكتب السياسي من الهزات القادمة، بل ربما بسببها، خرجت مجموعة يوسف نمر وصبحي أنطون من المكتب السياسي للحزب قبيل المؤتمر الخامس عام 1978، ليشكلوا منظمة باسم “اتحاد الشيوعيين”.
بالتوازي مع ذلك، كان الترك يطور هوية الحزب الفكرية والأيديولوجية مبتعداً عن الماركسية اللينينية، باتجاه تكريس خطاب شعبوي عروبي وإسلامي، انعكس بالضرورة على خطه السياسي، وعلى تحالفاته في تلك الفترة. وبدأت تتضح ملامح هذا الخط السياسية تدريجياً، منذ أن اكتفى الحزب بإدانة النظام في تعليقه على مجزرة مدرسة المدفعية في حلب حزيران/ يونيو 1979، باعتبار أن “رد فعل الإخوان العنيف، إنما هو بسبب قمع واستبداد النظام”، رافضاً بذلك توجيه أية إدانة لجماعة الإخوان، في سياق العنف المتبادل بينها وبين النظام على أساس الانقسامات العمودية والطائفية في المجتمع، وصولاً إلى مطالبة اللجنة المركزية لحزبه، في رسالة داخلية بتاريخ حزيران/ يونيو 1980، بتشكيل “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”.
مقابل هذا الإصرار على التحالف مع الإسلاميين، أبدى الترك تشنجاً ورفضاً قاطعاً للتحالف أو التنسيق مع رابطة العمل الشيوعي في تلك الفترة، رغم أنها الأقرب إليه بالمعنى الراديكالي والنضالي والاستعداد للتضحية، وبالمعنى السياسي أيضاً في موقفهما الرافض للتدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية. حدا هذا الموقف بالرابطة لتقديم تقريظ عالي للمكتب السياسي ضمن كراس “جدل بناء الحزب الشيوعي الثوري في الساحة السورية” 1977، اعتبرت فيه أن المكتب السياسي هو الفصيل الأقرب إليها سياسياً وبرنامجياً، مشيرة إلى حديث عن مبادرة للانضمام كأفراد فقط إلى “المكتب السياسي”، لكن قيادة “المكتب” رفضت المبادرة، وأوقفت الحوار دون أي تعليل، مكتفية ببث اتهامات سيئة في كواليس العمل السياسي، لا تتعلق بالتحليل المادي والتاريخي للواقع والسياسة.
رغم هذا، سحب المكتب السياسي الفيتو على أي تعاون أو تنسيق مع رابطة العمل، إلى مطبخ المعارضة السورية، والتي كانت بصدد تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي” عام 1979، حيث أصرّ رياض الترك على إقصاء الرابطة من التجمع، وفرض رأيه بقوة التعنت الديمقراطي على فرقاء التجمع الآخرين، كما أكدت عدّة حوارات لاحقة في “سجن صيدنايا العسكري”، مع أشخاص قياديين ساهموا مباشرة في تلك النقاشات التي أفضت إلى تأسيس التجمع.
انتظر المكتب السياسي طويلاً خروج كوادره، ومن ثم الأمين العام من السجن في أيار/ مايو 1998، ليبدأ التحضير لانعقاد المؤتمر السادس للحزب في نيسان/ إبريل 2005، وفجر هذا المؤتمر مفاجأة في أوساط اليسار السوري تحديداً، حيث تخلى الحزب عن تسميته الشيوعية ليصبح “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، وتخلى رياض الترك عن الأمانة العامة للحزب لينتخب عبد الله هوشي أميناً عاماً له، تزامن هذا مع خروج مجموعة جديدة من صفوفه بقيادة محمد سيد رصاص وجون نسطه، حافظت بدورها على مسمى “الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي”.
جاءت مع ذلك ولادة “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، والذي لقي ترحيباً من أغلبية قوى المعارضة السورية والشخصيات الوطنية، كما رحبت به قيادة الأخوان المسلمين.
إلا أن رياض الترك، وبعكس نتائج المؤتمر، بدأ يعمل على تعطيل دور القيادة الجديدة وأغلب المؤسسات، من خلال الهيمنة على اللجنة المركزية للحزب، مما دفع الأمين الأول المنتخب عبد الله هوشة لتقديم استقالته بعد أشهر على انتخابه، وهو الذي سبق له قيادة العمل السري للحزب و”التجمع الوطني الديمقراطي” لعشرين سنة حين غيبت السجون رفاقه، كما كان لهوشة دور مهم في الإعداد للمؤتمر السادس للحزب الذي صنع التحول باتجاه “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، لكنه”لم يستطع التكيف مع بقايا العقلية الستالينية في الحزب، فاستقال من الأمانة ومن اللجنة المركزية” على حدّ تعبير رفيقه في التجربة عبد الله تركماني، في نعوته للرفيق عبد الله هوشه، الذي وافته المنية في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2018.
أعتقد أن سنوات الاعتقال المديد لرياض الترك ولفيف من رفاقه، حولته إلى إحدى أهم أيقونات المعارضة السورية، التي كان يمكن أن تبني خطاً يسارياً وطنياً للحراك الثوري الذي اندلع في آذار 2011، لكنه فشل في الاستجابة لحراك السوريين العفوي في تلك اللحظة، وخاض حرب إشاعات ضد “لجان التنسيق المحلية”،وكان قد تخلى عن “التجمع الوطني الديمقراطي” ليتركه في هشاشة “هيئة التنسيق الوطني”، ذاهباً بإعلان دمشق إلى خياره الأول للتحالف مع الإسلاميين، عبر تشكيل “المجلس الوطني السوري” في اسطنبول صيف 2011.
وبهذا قاد معه “إعلان دمشق” إلى ذات الفشل الكارثي، مما اضطر كوادر “الحزب” وقيادات “إعلان دمشق” لتدارس مأزق عجزها التاريخي عن بلورة آليات عمل ديمقراطية، وطبيعة تحالفاتها الكارثية، وهو ما بدأ يظهر للعلن مع تشكيل “قيادة مؤقتة” منذ عام 2014، طالبت بإسقاط الشرعية عن قيادة أو هيمنة رياض الترك، وحملته كامل المسؤولية عن سنوات الثورة العجاف.
لكن القائد -الذي لا يقبل النقد- سارع إلى معاقبة “الخراف الضالة في حزبه”، بأوامر التنبيه والإنذار، وتعليق العضوية وإسقاطها عن بعضهم، متهماً إياهم بالتآمر و”التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”، ولم ينس الترك أن يستعير من النظام -الذي أمضى حياته في مقارعته- الإشارة إلى تورط أطراف خارجية تدّعي تمثيلها للثورة.
إثر ذلك ذهبت “القيادة المؤقتة” إلى “لجنة التحكيم الوطنية” للاعتراض على قرارات القيادة بحقّهم، باعتبارها صاحبة الاختصاص للفصل في المنازعات الحزبية، وفقاً للنظام الداخلي، وأعلنوا قبولهم المسبق بما تصدره اللجنة من أحكام أياً كان مضمونها.
لكن القيادة التاريخية استعارت ثانية من نظام البعث مبرراً لكل تجاوزاتها للنظام الداخلي/ الدستور، بحالة الطوارئ، وفق المادة 59 من النظام الداخلي، حتى أنها فرضت إجراءاتٍ عقابية بحق “لجنة التحكيم الوطنية” نفسها، المنتخبة من قبل المؤتمر.
يكاد الحزب الآن أن يتشظى، فيما لازال يُصر رياض الترك على شرعيته البائدة، منكراً كل ما يوجه له من اتهامات، وفي أول حوار له مع صحيفة “القدس العربي:3/9/2018″ بعيد وصوله إلى فرنسا، يتنصل الترك من العسكرة والأسلمة التي حصلت في الثورة السورية بقوله:”نحن من جهتنا في الحزب وفي إعلان دمشق لم ننخرط في أي عمل مسلح، ولم نرتبط بأي جهة أجنبية، لكن غيرنا انخرط منذ البداية في العمل المسلح، وكانت له امتدادات إقليمية ودولية”!
هل نسي رياض الترك أن جورج صبرا هو الذي ردّد في لحظة انتخابه “رئيسا للمجلس الوطني السوري” مساء 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012: “نريد سلاحاً نريد سلاحاً نريد سلاحاً”! وأنه في لحظة انسحاب “لجان التنسيق المحلية” من المجلس الوطني رفضاً لسيطرة الإخوان المسلمين، كان صبرا يُصرح بأن المجلس يضم أهم مكونات المعارضة السورية للنظام؟
بالتأكيد لم يكن جورج صبرا في يوم ما قاذف آر بي جي في “جبهة النصرة”، لكنه هو الذي دافع عن “جبهة النصرة” وعن سلاح النصرة، باعتباره “جهداً عسكرياً كبيراً في دعم مسيرة الثورة لإسقاط النظام والدفاع عن السوريين”.
وهل نسي رياض الترك أن صبرا مُنح الجنسية التركية لعلمانيته؟ وهل سمع بأن صبرا ما زال يراهن باسم “حزب الشعب” و”إعلان دمشق” على “المجلس الإسلامي السوري” لمهمّة إعادة إحياء “الوطنية السورية”، وأن يكونوا “المظلة التي تُنبت القيادة السورية الجديدة”؟
أليس هذا الصوت رجع الصدى لما حاكه رياض الترك سنيناً طويلة؟
أليس مفاجئاً أن يتابع الترك حملته على “لجان التنسيق المحلية” وأيقونتها رزان زيتونة، بمغالطات كالحديث عن حضور مؤتمر “أنطاليا”؟ فيما كان هو يشرف على دور ممثليه من “إعلان دمشق” في هذا المؤتمر، أنس العبدة وعبد الرزاق عيد؟
يبدو أن علينا الاعتراف ولو متأخرين، بأن الكفاحية العالية والنضالية التي تميزت بها بعض تجارب اليسار، كانت عقيمة بكل أسف، لأنها لم تقترن بالديمقراطية في مستوى التعامل مع أعضائها كأفراد ومنظمات أيضاً، أو فيما بينها كقوى سياسية، مما يفسر جزءاً من أسباب تصدعات هذه التجارب وانقساماتها المتكررة، وعجزها عن مواكبة زخم الحراك الثوري الذي اجتاح سوريا.
—————————–
اليسار السوري وسؤال الفعالية/ غسان ناصر
تبدو قوى اليسار السوري المتعددة، ضعيفة تتسم بالتشرذم والتيه الفكري، رغم أن حدثًا تاريخيًا -وهو انتفاضة السوريين بعد عدّة عقود من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة والمتفاقمة، وغياب الحريات العامة وتكميم الأفواه- كان ملائمًا لتطور هذه القوى اليسارية وتبوئها موقع الصدارة في تاريخ سوريا الحديث، غير أن ذلك لم يحدث! ما دفعنا لسؤال عدد من الشخصيات الوطنية والسياسية والإعلامية السورية من مختلف المشارب، عما تبقى الآن من “يسارية” اليسار السوري، وعن حضوره في المشهد السياسي السوري منذ نصف قرن، والقمع الذي تعرض لهبعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وهل كان فاعلًا في أوساط السوريين بمختلف أعمارهم وشرائحهم في العقد الأخير، وماذا عن موقفه من الأزمة السورية المشتعلة منذ نيف وسبع سنوات؟
شعبو: قوى اليسار السوري ضعيفة ومعزولة
يقول الطبيب والكاتب راتب شعبو والذي قضى 16 سنة متّصلة في سجون النظام السوري: “حين رفع السوريون صوتهم في المظاهرات تكلموا لغة وطنية ويسارية، تكلموا عن شعب سوري واحد وعن ديموقراطية وحرية وكرامة وعدل، غير أن القوى اليسارية مع ذلك لم تستطع قيادة الحراك، ولا حتى أن تكون جزءًا مؤثرًا في قيادته. تصدرت الحراك قوى تكفر بالديموقراطية وبالحرية وبوحدة الشعب السوري، وهذا يقول إن الحاجة الفعلية والعميقة للشعب السوري (يسارية)، وإن القوى الفاعلة تشد الدفة إلى اليمين ثم اليمين المتطرف. لكن لماذا يفشل اليسار في أن يكون قوة فاعلة في ثورة (يسارية) في العمق؟”.
يضيف صاحب رواية «ماذا وراء هذه الجدران»: “لا يكفي “سوء اليسار السوري لتعليل هذه المفارقة، وإنما يجب توسيع دائرة البحث، فمن الملاحظ أن اليسار السوري بكامل طيفه قد فشل، من كان منه مبدئيًا ومن كان براغماتيًا، من كان واقعيًا ومن كان نصوصيًا، من تحالف مع الاتحاد السوفييتي ومن مال إلى الشيوعية الأوروبية ومن استهدى بأصولية ماركسية، من عارض السلطات القائمة وطالب بإسقاطها، ومن هادن السلطات القائمة وتحالف معها، من قبل العمل مع المعارضين الإسلاميين ومن رفض العمل معهم.. إلخ. كما لو أن تربتنا غير صالحة لنبتة اليسار”.
وبهذا يرى شعبو أن مشكلة اليسار السوري “ليست في صواب أو خطأ خياراته، المشكلة في أن خياراته لا تجد- بفعل القمع المستمر- فرصة كافية لتموت، أو لتختبر قابليتها للحياة. هذا الواقع لم يؤد فقط إلى تهميش مزمن للقوى اليسارية المعارضة، بل أدى إلى حرمان هذه القوى من تطوير ذاتها، فبقيت ضعيفة ومعزولة، ولم تراكم أية خبرة يعول عليها، فلم تكن في ثورة 2011 أفضل حالًا منها في سنوات الصراع العنيف على السلطة الذي شهدته سوريا بين 1979 و1982، الاصطفافات نفسها، والتنافر نفسه، والفشل نفسه”.
الأتاسي: جردة حساب لمسيرة انحدارية
من جهته، يقول المهندس نشوان الأتاسي: “شكّل مصطلح اليسار في سوريا – على غرار مصطلح الاشتراكية- عباءة فضفاضة انضوت تحت غلالها فرق وجماعات وأشباه أحزاب، كما شخصيات، متنافرة ومتناقضة؛ من يسار البعث (بأجنحته المتعددة والمتصارعة)، إلى اليسار الناصري الهيولي، إلى اليسار القومي العربي المتمركس، وأخيراً وليس آخراً، اليسار الماركسي المتفتت الذي تشظى إلى فرق شتى”.
ويردف صاحب كتاب «تطور المجتمع السوري 1831 – 2011» مضيفاً “المشترك الوحيد بين كل تلك الأجسام كان رفع ذات اللافتة/الشاخصة، بيد أنها اختلفت وتباينت وتصارعت في كل ما عدا ذلك، بل إنها عمدت إلى تصفيات بينية، كلما سنحت لها فرصة ذلك، بطرق أشد عنفًا وهمجية من تلك التي مارستها مع من يفترض بهم أن يكونوا أعداءها (الطبقيين)، وقد تمظهر ذلك في أشد صوره وضوحًا إثر اندلاع ثورة السوريين عام 2011، الحدث الذي ساهم في استكمال تشظي هذا اليسار وانقسامه عموديًا ما بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام على أسس، أبعد ما تكون عن الفكر والثقافة أو النهج السياسي، إن لم نقل على نقيضهما!”.
ويتابع الأتاسي: “بناء على هذا وفي التحليل النهائي، يتعذر القول بوجود (أيديولوجية) أو فكر محدد كان يحكم مسارات تلك الأجسام وأساليب عملها السياسية، الأمر الذي لم يكن خافيًا على معظم (الجماهير) التي ادعت تلك الأجسام تمثيلها، ولهذا لم يكن لها من تأثير يذكر عليها، لا من الناحية الفكرية والأيديولوجية، ولا من الناحية التنظيمية. لقد كان اليسار السوري في المحصلة محاولة مبتسرة ومشوهة لتقليد روح عصر ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، لهذا لم يتمكن من الصمود أمام تحديات الداخل والخارج، ولا أمام الضحالة الفكرية والسياسية للذين حملوا لواءه والأهم، أمام المغريات التي قدمتها السلطة لمن تمكنوا من الاستيلاء عليها لاحقًا باسمه، فانقلبوا عليه إثر استيلائهم عليها…. بل على مجمل الشعب”.
ويختم الأتاسي بقوله: “قد يجد البعض في شبه التطابق الزمني بين اضمحلال اليسار السوري والأزمة التي يعاني منها اليسار العالمي، نوعًا من الإغراء الذهني في تجنب تحميل الذات مسؤولية ما حصل، لكن ما يدحض هذا التطابق هو أن يسارنا لم يكن يوماً جزءاً عضوياً من اليسار العالمي ولا امتداداً له” مستدركاً “ما سبق ليس تحميلًا للمسؤولية لأحد ولا جلداً للذات، إنما هي مجرد (جردة حساب) لمسيرة انحدارية امتدت على مساحة زمنية قاربت نصف القرن”.
سعدو: تمزيق التابوات اليسارية (البكداشية)
بدوره قال الصحافي والمحلل السياسي أحمد مظهر سعدو: “إن اليسار السوري يشبه في واقعه وحركته إلى حد كبير اليسار العربي عموماً، بما عاشه وتعرض له من قمع وعسف، ويلتقي معه أيضاً في مسألة تقبل الشارع لطروحاته، وقيمه وأيديولوجيته التي حملها، لكن (اليسار السوري) إن صحت التسمية، جاء بالأساس كإيديولوجيا بعيدة عن موروث المجتمع، ومنفرة في بعض الأحيان، للكثير مما يحمل الناس من قيم لاهوتية يصعب تجاوزها، خاصة وأن منظري اليسار الأُوَل لم يستطيعوا هم أنفسهم الخروج من هذه الإشكالية، فكانوا في حالة تصادم واضح المعالم مع قيم وعادات ومنتجات الأديان في الشارع السوري كما العربي”.
ويتابعسعدو قائلًا: “كل ذلك لم يحل دون ولوجهم (الثوري) إلى غير منعطف من منعطفات الواقع المتحرك في سورية، ودون تمظهر العديد من نخبهم ذات التوجه الوطني الديمقراطي التي استوعبت المرحلة، وفكت ارتباطها أمميًا، مدركة أنه ليس بالضرورة إذا ما غيمت في موسكو أن تنزل مطرًا في سورية. فعرفت بعض النخب ومن اصطف إلى جانبها كيف تتعامل مع الواقع عبر رؤيا حداثية، ممزقة التابوات اليسارية (البكداشية) وخارجة كلية من اليسار التقليدي، بل وخرجت عليه، أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ ورياض الترك وعبد الله هوشة وآخرين، ممن أنتجوا حالة جديدة ومتجددة، ساهمت في كشف المسارات (البكداشية) الانتهازية، الوصولية، التي لم تعد تعنيها ديكتاتورية البروليتاريا، بقدر ما يعنيها الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وبأي طريق، فأصبح اليسار السوري إبان ذلك يسارين، يساراً مدجناً كلاسيكياً وموالياً للاستبداد، ويساراً ثورياً وطنياً ديمقراطياً، بأفكار جديدة متنورة، إلا أنه مقموع مسحوق، تعج به أقبية النظام السوري القامع لكل الأفواه المعارضة، وهو من ألغى السياسة من المجتمع أصلًا، مع ظهور حراك الأخوان المسلمين أواخر السبعينات من القرن الفائت، حيث زج معظم قادة اليسار الثوري في السجون، كما جرت تصفيات للكثير منهم، ومن ثم اتهامهم بالانحياز إلى جانب الإخوان المسلمين زوراً “.
قرقوط:تشظي اليسار السوري من داخله
الكاتب والسيناريست حافظ قرقوط يقول: “لم تستفد قيادات الأحزاب الشيوعية من التجارب وكرست الديكتاتورية حتى في قيادة أحزابها، وللأسف بشكل عام، الأحزاب الشيوعية المختلفة رأت في الإنسان الفرد مجرد أداة لأجل المنظومة السياسية الأممية، وليس هدفًا للتنمية والعمل على نيله حقوقه كونها لب الموضوع في سبيل نيل المجتمع حقوقه، وبالتالي بنية الدولة والإدارات”. ويتابع قرقوط: “تشظى اليسار السوري من داخله بسبب تركيبته الصماء، ولم يبق من عمله السياسي الطويل سوى ذكريات، يعتقد ورثته بأنها ذات قيمة نضالية في مسيرته، بينما هي جزء من منظومة فكرية ساهمت ككل الأيديولوجيات بتهميش الإنسان كقيمة فاعلة، ولهذا لم ينل شعبية كافية تحميه من بطش السلطات، التي عاملت عدداً من أفراده بقسوة شديدة في المعتقلات”.
ويضيف الكاتب: “الكثير من الشخصيات التي عبأت جعبتها الثقافية بالفكر اليساري رأت في نفسها أنها نخبة، وتعاملت مع المجتمع بفوقية المثقف لا بعقلية السياسي الذي عليه أن يكون لسان حال مجتمعه، وبعضهم أصبح بوقاً للاتحاد السوفييتي السابق، ولهذا لم يتجاوز الفعل السياسي بأحسن حالاته لتلك الأحزاب العشرات من الشباب الحالمين بعالم أفضل بين ركام الشعارات التي جعلته منفصلاً عن الواقع، وغريبًا عن الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين ممن ادعى نضاله لأجلهم”.
ويختم قرقوط بالقول: “أظن أن الأحداث التي رافقت الثورة السورية أثبتت أن اليسار العربي كان على صراع مع الأنظمة للوصول إلى السلطة، وليس نضالًا لأجل مجتمع مسحوق، ولهذا كان اليسار بعيداً عن فهم قيمة الثورة السورية وشعبيتها، وانحاز لصف النظام بدلاً من المظلومين، وهذا يعيدنا إلى بدايات تشكيله وغربته عن الواقع الذي كان عليه أن يترسخ به، وأظن أن موقفه هذا سيؤثر كثيراً على سقف نموه السياسي في المستقبل، كون كلمة يسار أصبحت مرادفة لكلمة ديكتاتورية، في حال لم يعدل من رؤيته الفكرية والسياسية”.
سفر: اليسار في مرحلة جديدة
أماالصحافي والكاتب بسام سفر، وهو معتقل سابق، فيقول:”تاريخياً في سوريا، أحزاب اليسار بعضها داعم للنظام السوري عبر الجبهة الوطنية التقدمية، والآخر منها ضد سياسة النظام في القمع والديكتاتورية والحريات السياسية والإعلامية وحقوق الإنسان، وعدم الاهتمام بمصالح الفئات الفقيرة والمهمشة من السوريين”.
ويتابع سفر، عضو المكتب السياسي في “حزب العمل الشيوعي” وعضو المكتب التنفيذي في “هيئة التنسيق الوطنية”، حديثه قائلًا:“لعب القمع والسجن الطويل لأحزاب اليسار السوري منها (حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي، حزب البعث العربي الديمقراطي (23 شباط/فبراير).. إلخ)، دوراً كبيراً أضعف وأنهك هذه الأحزاب، حيث قُدم أفرادها إلى محاكم استثنائية حكمتهم لسنوات طويلة، وأبعدوا عن الفعالية السياسية والاجتماعية والتأثير بالناس، وجعل القمع منهم هياكل تنظيمية غير قادرة على إقناع الأجيال الجديدة في دخول معترك الحياة السياسية، خصيصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهزيمة الاشتراكية المحققة فيه. فيما بعد، صار حضور هذا اليسار أكثر واقعية عبر خطاب سياسي واقعي بعيدًا عن الخطاب واللغة الخشبية”. ويستدرك سفر ” لكن فعاليته الجماهيرية ضعيفة بين الناس نتيجة اللغة السياسية العالية التي يستخدمها هذا اليسار، وجاءت محاولات تجديد لغته وخطابه السياسي مع الثورة السورية في العام 2011، وما بعده حيث جدد هياكله التنظيمية ليصبح ملائمًا للمرحلة الجديدة، ولم يوفق بذلك حتى الآن، رغم حضوره السياسي في الهيئات السياسية السورية من هيئة المفاوضات العليا، وهيئة المفاوضات الحالية الممثلة للمعارضة السياسية التي تفاوض النظام وذلك عبر القرارات الأممية التي اتخذها مجلس الأمن الدولي، لتكون الأساس للحل السياسي عبر مسار جنيف التفاوضي”.
————————————–
حوار مع محمد (أبو علي) صالح (١): حزب العمل الشيوعي والاعتقال وربيع دمشق
حوار من جزئين أجراه عمر عباس
-1-
الجزء الأول
يعد أبو علي صالح أحد أهم شخصيات الحراك السلمي الأهلي والمصالحة في مدينة حمص، ومن الشاهدين على أحداثها من ثورة وحرب، وفي هذا اللقاء، يشارك أبو علي صالون سورية تطور الأحداث التي خبرها هناك، إضافة لتجربته السياسية في صفوف حزب العمل الشيوعي وما شهده في المعتقل.
كيف يمكن أن تُلخّص تاريخك السياسي؟
تربيت في بيت له تاريخ طويل في العمل السياسي، إذ كان أبي من الاشتراكيين العرب (جماعة أكرم الحوراني). ولعائلتي تاريخ صراع طويل في العمل السياسي، منذ أن شارك أجدادي بالنضال ضد فرنسا وابراهيم باشا قبلها، فنحن من بقايا الفاطميين الذين جاؤوا من مصر، أي أن بيتنا بيت سياسي بالضرورة.
كيف انضممت لحزب العمل الشيوعي؟
هذا السؤال صعبٌ وسهلٌ في آن معاً. من بين الأحزاب الشيوعية السورية، لم يقبل حزب العمل الشيوعي بالتسوية مع الكيان الصهيوني، وكانت هذه مسألة هامة جداً بالنسبة لي. فأنا لا أقبل بالاعتراف بدولة الكيان، وهذا كان العامل الأساسي الذي ميز الحزب بالنسبة لي عن البقية الذين يتلقون الأوامر السوفييتية. فحزب العمل لم تكن له مرجعية خارجية، وإنما كانت مرجعيته ذاتية تتبع لشعبه. وكي لا أتهم الآخرين، أريد أن أوضح أنً هذا رأيي الشخصي بالموضوع وهذا ما رأيته. بالإضافة إلى ذلك فالحزب لم يتنازل أمام السلطات، وكان ملتزماً بمبادئ الديمقراطية منذ اللحظة الأولى، علماً بأنّ فهمنا للديمقراطية اختلف من فترةٍ لأخرى، فالديمقراطية التي كنا ننشدها هي الديمقراطية الشعبية الموجودة في دول المعسكر الاشتراكي، والفكر الديموقراطي الذي نريده لم يكن ناضجاً تماماً، وإنما نضج لاحقاً مع حركة التاريخ بشكل عام.
هل ما زلت ناشطاً بالحزب؟
منذ عام الـ٢٠٠٠ لم تعد لي أية علاقة بالمطلق مع أي تنظيمٍ سياسي، لكني في الوقت نفسه لم أقطع العلاقة تماماً مع أي تنظيم سياسي، فأنا أتعامل مع الجميع من اليسار إلى اليمين ومن الإسلامي للماركسي. أسباب عدم انخراطي المباشر كثيرة، أهمها عدم تبلور فهم جديد أو برنامج مقنع للمرحلة القادمة، هناك برامج مرحلية لي علاقة مع من يقومون بصياغتها، لكن ليس عندي برامج، ولا أعتبر نفسي مخططاً استراتيجياً كي أعد برامجاً معهم أو مع غيرهم. أما الهدف المرحلي بالنسبة لي فهو إقامة نظام جديد في سوريا، نظام علماني يحترم حق الناس ويضمن المواطنة المتساوية، وهذا البرنامج الذي أود أن أعمل عليه مع أي شخص مهما كان توجهه. واللقاء مع أشخاص آخرين لتحقيق هذا الهدف مرحلي لحظي، وقد لا يستمر عندما تتحقق مطالبنا المشتركة، إذ قد يكون لكل منا برامج مختلفة، إلا أن العمل على إنجاز هذه المهمة هو الخطوة الأساسية للتأسيس.
هل تستطيع أن تتكلم عن تجربة الاعتقال؟
تجربة الاعتقال طويلة، في عام ١٩٨٧ شهدنا حملة اعتقالات شرسة بدأت بشهر آب/أغسطس ضد ما كان يسمى آنذاك بتنظيم العمل الشيوعي، ووصل فيها عدد المعتقلين لأكثر من أربعة آلاف، اعتقلت أنا في آخر الحملة يوم ١٢ شباط/فبراير ١٩٨٨. لم أتعرض للتعذيب قياساً لما قاساه بقيّة الشبان كوني دخلت السجن آخر الحملة، وقد اكتشفت هذا عندما التقيت بالرفاق في سجن صيدنايا وبدأ كل منا يروي تجربته. كانت تجربة الاعتقال بالنسبة لي تجربة بسيطة نسبياً، بالرغم من تجربتي للكرسي الألماني الذي يشدونك من الظهر عليه وهو يضعف المنطقة القطنية وبالتالي يسبب مرض الديسك الذي ما زلت أعاني منه بسببه، وقد أحصينا ٣٦ سجينا بسجن صيدنايا يعانون من الديسك بسبب هذا الكرسي. بعد تمضية فترة اعتقال في فرع فلسطين لبضعة أسابيع، تمّ نقلي إلى سجن صيدنايا فيما بقي رفاق لي لفتراتٍ أطول في ذلك الفرع.
في صيدنايا كان الوضع مختلفاً كلياً، فقد كان السجن جديداً افتتح منذ أشهر فقط، واجهنا بعض الصعوبات للتأقلم مع الحياة الجديدة ضمن السجن لكننا اعتدنا عليها فيما بعد، كما عشنا في نوعٍ من الرفاهية بالمقارنة مع السجون السورية الأخرى، حيث اشترينا كحزب مكتبة تتجاوز الخمسة آلاف عنوان من مصاريفنا الشخصية لنحسن نوعية الكتب الموجودة في السجن. ولم تمانع إدارة السجن، فكل ماكان يهمها هو أن يكون الكتاب مختوماً من مكتبة الأسد بدمشق أو وزارة الثقافة، وكنا نجلب الكتب من المكتبات والمعارض التي تقيمها وزارة الثقافة أو المكتبة وأحضرنا كتباً نوعية كثيرة من جميع الاختصاصات. وبالإضافة للقراءة كنا نعقد في السجن حلقات للنقاش بالإضافة إلى لعب الرياضة والشطرنج. فقد كنا عبارة عن مجموعة في بيت مغلق، لا أحد يتدخل بشؤوننا باستثناء الشكاوى أو حملات تفتيش.
فيما يتعلق بتواصلنا مع العالم الخارجي، كانت الإذاعات مسموحة أما التلفزيون ومصادر الأخبار الأخرى فكانت محظورة، لذا شكلنا مجموعات للاستماع للراديو، مثلاً مجموعة لنشرة راديو مونتي كارلو الدولية، وأخرى لإذاعة لندن وغيرها من الإذاعات العربية، بعدها كنا نقارن الأخبار بشكل يومي حيث ينقل كل شخص ما سمعه على إذاعته المخصصة، ولكل حدث عالمي كنا ننظم ندوة لنعطي آراءنا بما يحدث، وشهد ذلك الوقت أحداثاً كبيرة، كغزو الكويت من قبل صدام حسين، وانهيار جدار برلين. وأتذكر الفرحة العارمة التي حلت بيننا بسبب بسقوط تشاوشيسكو.
ما هي طبيعة عملك؟
كنت مهنيا أعمل بالكهرباء منذ أن كنت في سنتي الجامعية الأولى، عملت أيضا في شركة الأسمدة العامة لمدة ثلاث سنوات. قبل الاعتقال كنت مطلوباً، فلم أستطع أن أتحرك علناً، بعدها عملت في مجال التعهدات العامة والطاقة المتجددة سواء رياحية أم شمسية لنحو ست سنوات في محافظة حمص.
هل لعبت دوراً في “ربيع دمشق”؟
تابعت إعلان “ربيع دمشق” من حمص مع الأصدقاء والمعارف، كنا نلتقي بشكل دوري لمناقشة الوضع. لم أتفق مع إعلان ربيع دمشق إلا بخمس كلمات: “نحو تغيير وطني ديمقراطي سلمي تدريجي.” كنت متفقاً تماماً مع هذه الكلمات وكانت بالنسبة لي مهمّة جداً. كانت لدي نظرة معينة ليست كاملة، لكني كنت خائفاً، وأريد حركة تدرجية، فقد تربيّنا على ذات الفهم للسلطة والمعارضة، ولدينا خلفية ثقافية واحدة، الحاكم يرى نفسه مالك البلد وليس مدير لشؤونها وتشاركه المعارضة الفهم ذاته. فمن يصل لمنصب الأمين العام، يعتقد أنه يمتلك الحزب ويحيي ويميت أعضاءه، وعندما يحصل التغيير المفاجئ، يخرج التافهون ليقودونا وهذا ما حصل بالفعل.
قلت للعديد من المعارضين لا تتركوا الزعران يقودونكم لأنهم سيخربون القضية، سيتمسكون بمناصبهم ولن يتوانوا عن ارتكاب المجازر ليبقوا فيها، وسيبقى حامل السلاح يغامر بحياة البشر، معتقداً بأنّ وجوده يعطيه القدرة على أن يحيي ويميت، حتى لو كانت مكانته صغيرة، فالمنطقة التي تقبع تحت سيطرته باتت من أملاكه. تجلى هذا لاحقاً فيما شاهدناه من عمليات نهب من قبل المسلحين (معارضة أو سلطة، عرباً أو كرداً) وفي المقاطع المصورة التي تنتشر على الإنترنت. فهؤلاء المسلحون يعتبرون أنّ نهب ممتلكات الآخرين من حقهم، طالما أن المنطقة تحت سيطرتهم. هذا ما كان يخيفني، كنت أريد الانتقال إلى نظامٍ جديد وليس مجردّ التحرر من قبضة حديدية لأخرى أو الحياة ضمن انفلات وفوضى أمنية.
قلت للوفد الروسي، نريد دولة تقود الأمن لا أمناً يقود الدولة كما هو الحال الراهن، هذه المنظومة الأمنية كالزعران التي تقود الدولة، وهذه النقطة تخيفني من الانهيار. نحن نقول إنّ النظام الحالي سيء ونعمل على بناء البديل، ونريد للمنظومة الأمنية أن تضمحل، ولكن عندما تقوم منظومة بتبني ممارساتها تحل الكارثة التي نعيشها.
أقول الكلام الذي كان علينا أن نقوله من البداية، وفعلت الحد الأدنى الذي نستطيع القيام به، كان رجال الأمن السوري يسألوننا “أين أنتم من هؤلاء الذين يخربون ويقطعون بالشارع؟” كنت نرد: “أودعتمونا بالسجن وهم في الخارج كل هذه الفترة، تركتم لهم المجال، فأنتم من زرعتم هذا الخراب، ومن يزرع الخراب ماذا سيحصد؟ نحن سنحاول زراعة شيء آخر.”
و من هذا المنطلق ورداً على الضخ الطائفي والتوتر ولكي نكون جاهزين إذا ما حصل شيء، حاولنا تأسيس تجمع في حمص عام ٢٠٠٦، لكن الأمن حاربنا بشدة، كان تجمعنا صغيراً يتألف من جميع المكونات السورية السياسية والطائفية إلا أنه لم يستمر لأكثر من بضعة أشهر، لم نتفق على كل شيء، ولا بد طبعاً من وجود تباينات، ومن مهمتك أن تتحاور مع من يختلف معك لا من يتفق معك، فهذا هو الحوار، ولذلك بعد عام ٢٠٠٠ قلت لرفاقي اليساريين يجب ألا نبقى نجتمع مع نفسنا، وألا يبقى الإسلاميون يجتمعون مع أنفسهم. علينا أن نشرع فيحوار بيننا، فلعلّ الحوار يرفع نسبة المشترك بيننا فوق الـ ٢٠-٢٥٪ الموجودة حالياً، اليساريون قد يتفقوا فيما بينهم على ٧٠-٨٠٪ من الأمور، والإسلاميين كذلك، فلم لا نوجد شيئاً مشتركاً فيما بيننا؟
لقد حذرت أنّ ما هو آتٍ أسوأ من الإسلاميين الموجودين بكثير وأكثر تطرفاً وقد أثبتت الأيام ذلك. ذكرني بذلك مجموعة من المهندسين البعثيين، فقبل فترة قالوا لي إنهم كانوا يسخرون من كلامي قبلاً، ولم يكونوا على دراية بما سيحصل، ففي عام ٢٠٠٢ حذرت من أن هناك تطرفا قادما، داعياً للسماح للإسلاميين الوسطيين برؤية النور، لأنّ التطرف لا يكبر إلا في الظلام. حاولنا في تلك الفترة العمل معاً، لكن ضمن الحدود الدنيا، لأن عملي لساعات طويلة جداً منعني من التواصل الأسري والعمل المجتمعي، والوضع الاقتصادي السيء يصب في مصلحة أعدائك، فعليك أن تشتغل دواماً إضافياً وعليك ألا تفكر بالسياسة، لم يكن ذلك مصادفة وإنما نتيجةّ لتخطيط وتفكير من النظام.
*نهاية الجزء الأول من الحوار. في الجزء الثاني يتحدث أبو علي صالح عن معاينته المباشرة لأحداث محورية في مسار الانتفاضة السورية، كالمظاهرات التي شهدتها مدينته، حمص، والتحريض الطائفي، واعتصام الساحة، وظروف اعتقاله على خلفية نشاطه ومعارضته للنظام السوري.
——————–
الجزء الثاني
——————–
كيف كان الوضع في حمص عند بداية الحراك؟
لم أكن موجوداً عند بداية المظاهرات، إذ كنت في مدينة السلمية بسبب وفاة والدتي، لكن كما كل معتقل سابق، تولدّ لدي الأمل بكلمة الـ ”لا” التي لم نتوقع سماعها ونحن على قيد الحياة. كنت آمل أن يتحسن الوضع وأحذر من حمل السلاح، كان مطلبنا ديمقراطياً حقيقياً، لا لحلول ديكتاتور محل آخر. لم نكن نريد حدوث اقتتال، لأنّ الانقسام والدم يجلبان الكراهية وهي بدورها تسفك المزيد منه، لذا حاولنا أن نبعد فكرة التسلح قدر الإمكان. لم أقرأ قبلاً عن ديمقراطية أتت بالسلاح، نحن نريد ديمقراطية وليس مجرد استبدال سلطة مستبدة بأخرى، ولهذا كنت أختلف مع شعار إسقاط النظام الذي كنت أدعو لاستبداله.
بدأت ألتقي بمن تربطني معهم علاقة سابقة من اليساريين بشكل أساسي، وبعض الإسلاميين غير المتطرفين، التقيت بالشيوعيين والإسلاميين والقوميين ولم يكن لدي أية مشكلة مع الشخص الذي ألتقي به طالما أنه صادق، فهذا البلد أو الوطن أو سمه ما شئت لنا جميعاً وعلينا أن نعيش معاً سواءٌ أعجبنا ذلك أم لا، ويجب أن يقرر من يسكن على هذه الأرض كيف يحكمها. لا أقبل أن أميّز بسبب انتمائي، وكذلك لا يمكن أن أميز أحداً بسبب انتمائه. حاولنا في بعض المناطق أن ننسق بعض الشعارات، وكنا نوصل ما هي رؤيتنا لمن يمسك بالأمور، بعد الشهر السابع من العام ٢٠١١ لم يعد يحصل ما تمنياه. بدأت آنذاك تنتشر الجرائم من خطف متبادل، وتبادل أسرى، وقتل رهائن، إضافة لعمليات القتل على الهوية الطائفية. يوم العار كان في ١٦ من شهر تموز حيث قتل ٣٠ شخصاً مقابل ٢٤ شخصاً من الطرفين، وَجهتُ آنذاك مناشدات لأهلنا بالخالدية، “ماذا يعني لكم خطف الناس الذاهبين للكراجات أو إلى عملهم؟” فهي كانت طريق ممر للوصول لأعمالهم، وكانت تشهد العديد من عمليات الخطف، الأهالي رحبوا بالرسالة لكن لم يتغير شيء. هناك مناطق أخرى، لكن هذه المنطقة لا يمكن تفاديها وخاصة كراج الانطلاق. وبدأت تزداد حالات القتل على الهوية، فأحياناً تُكتشف ثلاثين جثة، وكان القتل لحسابات شخصية، كأن ينتقم شخصاً قُتل فرد من عائلته بقتل أعداد كبيرة من عائلة أخرى من الطرف الآخر. ساهم بزيادة انتشار هذا الجرائم معرفة القتلة بأنهم سيفلتون من العقاب ولو مرحلياً، كما كان الشحن الطائفي غير مسبوق. المجزرة الكبيرة التي شهدتها المدينة حصلت إثر قبول مبادرة الجامعة العربية في شهر نوفمبر ٢٠١١، حيث نزل بعض الحثالات ممن أسميتهم “شبيحة الثورة” إلى الشوارع، وقتلوا بضعة أشخاص يستقلّون سيارات عامة، وخطفوا أباً وابنه وقتلوهما، فكان الانتقام رهيباً وخارج القانون والأخلاق في ساحة الزهراء حيث تم قتل ٣٤ شخصاً من قبل عناصر من الشبيحة التابعين للأمن الجوي، بما بات يُعرف محلياً بمجزرة “الفندي”، نسبة للعقيد هيثم فندي، وكان القتل قد حدث على أساسٍ مذهبي، وأنا أروي هذه القصة تحديداً لأني أعرفها عن قرب وأعلم كيف حصلت.
تعرّض العديد للخطف لساعات تعرضوا أثناءها للتعذيب والنعت بألقاب بذيئة، وسمعت هذا كله من أصحاب العلاقة وعائلاتهم. وفي بعض الأحيان كان الشخص الغريب عن الحارة يُقتل عند دخوله إليها لرعونة المسلحين من اللجان الشعبية وبسبب الخوف، وليس قتلاً طائفياً، قُتل مثلاً أشخاص من نفس الطائفة لكنهم غرباء عن الحي، كما ولو أنك في غابة تطلق النار على أي حركة غريبة من الخوف، وقد كان غياب الأمن في تلك الفترة مقصودا لدب الرعب. بعد الشهر السابع تصاعد القتل الطائفي كثيراً، ليشهد الشيعة تهجيراً ممنهجاً في حي البياضة، وأصبحت الأحياء أكثر تماثلاً طائفياً، إما سنية أو من بقية الطوائف بسبب الخوف المسبق والتهديد المباشر. قليلة فقط الأحياء التي حافظ على تنوعها المختلط طائفياً، منها الوعر وطريق الشام وعكرمة والجامعة وحي الادخار.
جاء مسلحون لمنازلنا وهددونا مباشرة، وقالوا لنا: “لا نريد إلا سُنة بين بابا عمرو وطريق الشام”، ونقل رفاقي لنا رسالة: “أنتم جيدون لكن لديكم عشرة أيام لتخلوا المنزل لأننا لا نريد غير السنة”. لاحقا جاءني شخص لا أعرفه وسألني: “من يزعجك؟” أبلغته عن اسم المجموعة التي هدّدتني، فحّل الإشكال وزال عنّا التهديد. بقي في حينا بيتان أو ثلاث من غير السنة، بعد أن كان موزعاً بالمناصفة تقريباً. في الحي نفسه قتلت مجموعة مسلحة معارضة مهندساً لأنه علوي ومن ثم مهندس آخر لأنه شيعي، كنت أعرفهم شخصياً، لكني لم أكن أعرف انتماءهم المذهبي قبل ذلك. ثم خطف مسلحو المعارضة شخصاً آخر مسيحياً، استطعنا إخراجه قبل أن يقتل، كما قتل جاري وصديقي الدكتور مصطفى سفر أمام مدخل عمارته في حي الشماس في ٣٠ كانون الثاني/ يناير ٢٠١٢، بالرغم من أنه سني. أعتقد أنّ عمليات الاستهداف الطائفي هذه لم تكن مجرّد مصادفة. أذكر في شباط ٢٠١٢ أني قد ذهبت لزيارة أقربائي في منطقة الساحل بعد مقتل جاري، وسمعت بعد وصولي أنه قد عُثر على جثتين بالقرب من المركز الثقافي، وعندما عدت لأتفقد بيتي وأخذ بعض الأغراض، استفسرت عن هوية الجثتين؟ فعرفت أنهما قتلة الدكتور مصطفى سفر، وهما أخوان من عشيرة تابعة لطراد الملحم التي تتبع لقبيلة عنزة وهذا كل ما أعرفه. لم يكن واضحاً ما هدفهم من القتل، سمعت العديد من الروايات المتناقضة حول هوية القتلة، شباب الجيش الحر في الخالدية قالوا إنهما تابعان لهم، وتمت تصفيتهما من قبل مجموعات مسلحة أخرى. في يوم ٣ شباط/فبراير حدثت مجزرة كبيرة في حي الخالدية عندما سقطت قذيفة هاون ليلاً، وعندما تجمع الناس لإسعاف الجرحى سقطت أخرى ليصل عدد الضحايا إلى المئة، كان قد سبق المجزرة هجوم من أبناء الحي على حاجز المستوصف. بعد ثلاثة أيام بدأ القصف على حي بابا عمرو، وكانت الحملة العسكرية الكبيرة التي استمرت لنحو عشرين يوم وانتهت بتهجير الأهالي والمقاتلين بشكل شبه كامل.
عندما رأينا الدمار الذي حصل في المناطق الأخرى، أصبحنا نقول أنّ حيّنا لم يتدّمر كثيراً رغم ما فيه من دمار، لكن بالمقارنة مع غيره كان بسيطاً. عدت لحيي إلا أن نسبة السكان الذي عادوا إليه لم تتجاوز خمسة بالمئة، سكان حي الجندلي أيضا خرجوا ولم يبق فيه أي أحد، وطبعاً تمت سرقة كل شيء يمكن حمله.
تم تطويق المسلحين في حمص القديمة، وفي حي الخالدية مع عائلاتهم، وشهد حركات نزوح إليه من حي النازحين ومن كرم الزيتون، وكان آخر يوم استطعت الدخول إليه في ٢٣/١/٢٠١٢، حيث حصلت مناوشات والشباب محاصرون بالداخل. سافرت من حمص الى دمشق مرتين كل يوم، سعياً مني لتأمين هدنة لحماية حمص من التهدّم على رؤوسنا، وبجهود كبيرة تم انقاذ مدنيي الوعر، وبقي الأهالي والمقاتلين في الداخل وحواجز الجيش، وأخبرني من بقي من الأهالي أن الجوع كان شديداً ولم يبق شيء في الشارع لم يتم أكله، بينما يأتي الطعام الساخن للمسلحين يومياً من الخارج بشكل منتظم، وأميل لتصديق ذلك لأن شخصاً محاصراً من عسكر المعارضة طلب مني دخان، فقلت له كيف سأوصلها لك، وليس لدي أية علاقات؟ فأجابني: ضعه عند حاجز الجيش السوري عند القلعة وقل لهم “أنه للشباب”. ليس بالضرورة أن تكون هذه العلاقة عمالة، فهناك عدّة احتمالات أخرى للعلاقات المشتركة منها القرب والمال والمصالح. التقيت بأكثر من عائلة وروت لي ذات القصص رغم أنهم لا يعرفون بعضهم، ومقاطعة هذه القصص جعلتني أصدق ما قيل لي.عندما خرج جميع المسلحين من المدينة القديمة، دخلنا ورأينا الدمار ومن بقي لآخر لحظة بالمدينة القديمة، وفي تلك الأثناء جرت محاولات كثيرة ممن يهمه وقف المذابح من كل الأحياء بغض النظر عن التوجه السياسي والانتماء الطائفي، دخلت أنا بتشكيل ما سمي “بلجنة التضامن الأهلي” وكان مؤلفاً من حوالي ثلاثين شخصية من حمص من مختلف التوجهات الموجودة لكن الأغلب يساريين. لم تكن للجنة فاعلية كبيرة وكان أغلب رموزها مؤيدين للحراك الشعبي، لم يكن معنا أحداً موالياً للنظام بالحقيقة، فحتى غير المؤيد للحراك الشعبي كان أقرب للحياد، وهذه نقطة ليست جيدة برأيي، فالمجموعة الأهلية يجب أن تتضمن مؤيدين لتحقيق سلم أهلي بين أطراف متعددة. لم نستطع أن نجلب مواليا ً لصفّنا وفي الوقت نفسه لم نكن نستطيع أن نقول لمن يطلق الرصاص من المعارضة أن يفعل شيئاً، فكيف كنا سننجح في تحقيقٍ سلمٍ أهليٍ في الوقت الذي يرفض فيه من يحمل السلاح الاستماع إليك؟
إن دعيتَ لحوارٍ وحلٍ عبر محاكم الجمهورية العربية السورية طالباً وقف القتال، في الوقت الذي يواصل فيه خصومك عمليات القتل فإن تأثيرك سيكون شبه معدوم، ورغم ذلك استطعنا إطلاق سراح العديد من المخطوفين وحققنا إنجازاً في هذا المجال، وإن كان محدوداً. لكن توفير نقطة دم واحدة كانت بمثابة إنجاز، وقد تمكّنا من الإفراج عن بعض المخطوفين دون مقابل كبير، معتمدين على جهودنا وإمكانياتنا المالية المحدودة، فاعتمادنا كان ذاتياً، وولم يكن بمقدور أحدٍ منا دفع مبالغ كبيرة. كانت تأتي مطالبات بفدية تصل إلى ملايين الليرات سورية (قبل انهيار الليرة) لإطلاق سراح مختطفين، لكن سقف قدرتنا كان بحدود العشرة والعشرين ألف ليرة، وفي إحدى المرات عبئت برميل مازوت لشخص مقابل الإفراج عن مخطوف، وقد كلفني ذلك خمسة عشر ألف ليرة. كل أعضاء اللجنة وضعهم المادي مثل وضعي أو أقل قليلاً، وهذا كان في البدايات عندما كانت لدينا المقدرة المادية، لكن الآن أصبحنا ننتظر العشرة ليرات لنشتري رغيف الخبز، فالوضع أصبح أكثر سوءاً، ولم يعد هناك إنتاج أو عمل، والتقصير كبير.
لست قادراً على تجاوز النقص بالمعلومات التي أرويها، لأننا لم نصل للمرحلة التي أستطيع فيها أن أتكلم بحرية بعد، وهذه إحدى المشاكل الهائلة، ألا تكون قادراً على إيصال ما تحب أن توصله. في عام الـ٢٠١١ حضرت بالصدفة اشتباكاً بين الجيش والمسلحين فتكلمت عن هذا بمداخلة شاركت بها في قناة البي بي سي البريطانية، فضُربت سيارتي برصاصة واحدة بعد ذلك. احتجوا جماعة التسليح من المعارضة، وسألوني لم أتكلم عن المسلحين وهم لم يقرروا الإعلان عن تسلحهم بعد؟ أجبت أنني لست ملزماً بهم، فنحن لم نتفق ولا يوجد بيننا توافق ولا أنتمي لجماعتهم، وأنا لن أقول إلا ما رأيت، فأنا لست بالسياسي الذي يخفي أو يكذب أو ينكر القتل الحاصل، دوري توصيل ما يحدث من كل الحقائق. في البدايات كان من حمل السلاح وقتل وخطف من حثالات المجتمع السوري، ومن قاموا بالاغتيالات بحينها هم من مروجي المخدرات والقوادين، ممن لهم تاريخ طويل في السجون وهم من حمل السلاح. هناك من هو مستعد أن يفعل أي شيء من أجل المال وضمن ذلك القتل. هذا ليس من طرف واحد بل طرفي الصراع، وعندما قلت للمحافظ، لماذا تسمحون لهم أن يحملوا السلاح؟ قال لي “كلب يعوي معك أفضل من أن يعوي عليك”، وعندما سألتهم نفس السؤال بحي بابا عمرو، أجابوني بالجواب ذاته، نفس الثقافة والنهج من الطرفين. وهذا يدل على الافتقار لأي هدف سام بمعنى دولة ديمقراطية أو عدالة، بل البحث عن سلطة وأنا لست معنياً بذلك، أنا أنشد إدارة تدير هذه الدولة ببعض العدالة، لا يهمني الأسماء لكن يهمني ألا يكون لديه سوابق إجرامية.
في كرم الزيتون، حدثت مجازر مرعبة خلال ٤٨ ساعة أثناء طرد المقاتلين منها، وكل نقطة دم كانت تفرقنا عن بعضنا أكثر فأكثر، لم تحدث الأمور بسرعة فكان من الواضح أن المطلوب هو سفك الدماء، وإلا لماذا يحدث الحسم السريع عندما يريدون حسم الأمور؟ فيما بأماكن أخرى يبقى القنص والقتل والقصف مستمراً؟ هناك أسئلة يجب أن يسألوها أحفادنا كي لا يتكرر ما حدث، إعلاميا كان يتم غرس الكراهية بطريقة غير مسبوقة، ولا نعلم إلى متى ستبقى آثارها، على الرغم من تعالي الكثيرين عن الكراهية والمحافظة على تعاملهم الإيجابي، إلا أن الأشياء السيئة تبرز عن الجيدة. في السنوات الأخيرة، أثناء مفاوضات خروج مقاتلي المعارضة من حمص القديمة(٢٠١٤) حصلت دعوات من قبل أهالي المخطوفين لعرقلة الاتفاق حتى يتم الإعلان عن مصير أولادهم لكن لم يتم ذلك، وقد أخبرني أحد المقاتلين أنه قد تمت تصفية جميع المخطوفين قبل الاتفاق، لكن لا أعرف إن كان الكلام صحيحاً، كما تمت تصفية الكثيرين من الطرف الآخر، للأسف التنافس بين الأطراف المتنازعة بات حول من يقتل أكثر ومن لديه الإمكانيات ليثبت أنه الأسوأ.
شهدت مناطق وأحياء الوعر والريف الشمالي والقرى التي كانت متعايشة تهديداتٍ لا طائفية فحسب وإنما عرقية أيضاً إذ تم استهداف الشركس المتواجدين من قبل البدو، الذين قالو لهم “سنعيدكم إلى القوقاز حفاة كما أتيتم، فهذه أرضنا وسنسترجعها”، ولم يكن هذا الموضوع سياسياً بل عبارة عن أخذ غنائم وسرقات وهذا مجرد جزء مما حصل. حتى بين من يريدون إسقاط النظام، كان لكل طرفٍ هدف مختلف عن الآخر، وهذه إشكالية في فهم السلطة والحق، فالسلطة تبدو وكأنها أداة لنهب المنطقة المسيطر عليها وليست معنية بإدارتها أو تحقيق رفاهية السكان، وهنا لا أستثني أحداً، فالجميع نهب ولدينا تجارب مباشرة مع كافة الأطراف. أعتقد أنه ليس لدينا وعي حقيقي للدولة، وقد سعت النخب السياسية للحافظ على مصالحها ومنع المنافسة.
هل كنت موجوداً باعتصام ساحة الساعة؟
وضعي الصحي لم يكن يسمح لي بالمشاركة، لكنّ أعداداً كبيرة من أصدقائي وأقربائي شاركوا في اعتصام ساحة الساعة. جاء العديد من المعتصمين من الدفن بعد مقتل العديد من الشباب الناشطين في وقتٍ سابق، وأقاموا الخيم والاعتصامات، يومها زحفت حمص للساحة لتعيش ساعات جميلة، وكان هناك إرباك حقيقي وغير مسبوق للسلطة في حمص.
كان في الاعتصام مشاركين من جميع الطوائف وجميع الاتجاهات السياسية، ولكن حدثت بعض الإشكاليات التي أزعجتني، فمثلاً تمّ تقديم أحد الشبان الذين أعرفهم ليخاطب المعتصمين بصفته ” ضيفنا العلوي بساحة الساعة.” وهذا برأيي من أسوء التعبيرات، لا أعلم لم غير السني هو “الضيف”؟ علماً أنّ المقدم علماني له تاريخ سياسي طويل وممن أعتبرهم جيدين فتخيل ما يدور برأس غير الجيدين، كان سلوكه جيداً ومحترماً، لكن هذه العبارة تخفي وراءها الكثير. بقي الكثير من الناشطين يعتبرون الناشطين العلويين ضيوفاً على الثورة، ومنهم من غادر وانتقل لمواقع أخرى من السلوكيات الطائفية.
لم يحسن منظمو الاعتصام إدارة المكان ولم يُقدّروا حجم الخطر أو يُعدوا أي خطة للطوارئ، إذ بدأوا بإخلاء المكان حوالي الساعة ١٢ ليلاً، وعندما انخفض عدد المعتصمين بدأ هجوم قوات النظام، وتسبب صوت الرصاص بهروب بقية المعتصمين. لو بقي الجميع لما استطاع النظام اقتحام المكان بسبب كثافة أعداد المعتصمين. للأسف، لا توجد أخبار مؤكدة عن أعداد الضحايا، لدي تأكيدات بمقتل سبعة أشخاص تلك الليلة، إلا أنه مازال هناك ١٩٠ مفقوداً من الاعتصام، لا نعرف مصيرهم حتى اللحظة. حوالي الساحة السادسة صباحاً، مررتُ بالساحة ورأيت الدم على الأرض وهو يغسل وشاهدت أعمال التنظيف وإزالة البقايا والخيم، وحوالي الثامنة والنصف صباحاً مررت مجدداً وكانت أعمال التنظيف مستمرة. لم أتجرأ على التصوير رغم عدم وجود أية عناصر أمنية أو شرطة في كل المدينة أثناء ذلك اليوم، كان يوماً خاصاً جداً. لم يكن هناك حتى شرطة مرور في الطرقات، فاستغل بعض المراهقين (١٥-١٦ عاماً) الوضع لنصب حواجز وبدأوا يطلبون هويات المارّة.
بعد الاعتصام خرج قانون التظاهر، وقدمت طلباً من أجل السماح بتظاهرة تخرج من حي باب السباع وتصل لحمص القديمة، رفض طلبي مدعيّن أن المظاهرة تخرج من المسجد، وذلك غير مسموح، رغم أننا لم نقل أنها ستخرج من المسجد أبداً، أيضاً تحججوا بأننا لم نستطع حماية الأماكن العامة، رغم أن ذلك ليس من مسؤوليتنا. بحثنا عن ممثلين من طوائف متعددة ليشاركوا معنا، لكن أنا من تقدمت بها وأنا من تلقيت الرفض، وقد عرفت أصلاً أن الجواب سيأتي بعدم الموافقة.
كان الخوف كبيراً، وجاءتنا تهديدات مباشرة وتهديدات للناشطين، أنا تلقيت تهديدات من السلطة ومن المسلحين، وجاءني تهديد مرتين يطلب مني أن أترك حارتي، كي تخلو المنطقة من غير السنة، لكني ما زلت في بيتي و لم أتركه أبداً، ورغم رحيل المسلحين لكن الحي أصبح سنياً بعد أن كان فيه من جميع الطوائف، بقيت أنا وأحد أقربائي فقط، حتى ابني خرج مع عائلته من الحي خوفاً من أرعن، وقد شكل هذا عبئاً اقتصادياً هائلاً، فأجار بيت ابني خمسين ألف ليرة سورية وراتبه خمسة وثلاثين ألف، وكان لدي العديد من الرفاق الذين قضوا معي سنوات السجن، إلا أنهم خرجوا جميعاً، ولم يبق منهم أحد، بقيت وحدي.
لماذا اعتقلت عدّة مرات بعد الحراك؟
اعتقلت للمرة الأولى يوم ٢١/٩/٢٠١١، وقبل هذا التاريخ بأربعة أيام كنا نتحضر لعقد مؤتمر لهيئة التنسيق، حضرت المؤتمر وغادرت لأن الجو لم يناسبني، ولم يكن الحاضرين قادرين على أخذ قرارات صحيحة، وأنا في طريق عودتي للمنزل اتصل بي من تبين أنهم أعضاء الوفد الروسي الذي زار محافظة حمص، كانوا يريدون لقاء أحد المعارضين في بيت المحافظ، وعندما نقلت للوفد ما تطالب به المعارضة أمام وسائل الإعلام، اعتقلت. كان الزائر نائب رئيس مجلس الدوما الروسي وسألني ما هو برأيك الحل؟ قلت له: إن الحل هو حسب الدستور السوري المادة ١٣، الرئيس السوري يدعو لتأسيس جمعية عمومية من ٢٠٠ شخص على الأقل، ويوقف العمل بالدستور للعمل على صياغة دستور جديد مع قوانين انتخابية جديدة وانتخابات رئاسية تحت إشراف أممي، وانتهى اللقاء هنا، وبعد يومين تم الاعتقال لكنه دام يوماً واحداً، حيث أفرج عني بسبب تدخلات روسية، بعدما عرفوا أنني اعتقلت بسبب لقائي معهم.
في عام الـ٢٠١٥ اعتقلت بحجة تمويل الإرهاب، لأنني أعطيت مئة ألف ليرة لشخص بالوعر، حولها لليورو ليوصلها لشخص من العائلة يعيش في باريس، المنطقة كانت محاصرة، فقالوا إن الأموال قد تصل للإرهابيين، وتقديري أنها حجة كي يحققوا معي بموضوع النشاط الإعلامي، فليس هناك حكم قانوني يجرم إجراء لقاء مع الإعلام، ولذا اضطروا لإيجاد ذريعة أخرى، وتمويل الإرهاب عقوبتها كبيرة.
اعتقلت أيضاً في الشهر العاشر عام الـ٢٠١٧ لستة عشر يوماً من جهتين أمنيتين لإغلاق ملف من ٢٠١٢، وكانت المذكرة صادرة من قبل، لكنها كانت حجة، وما أزال قيد المحاكمة حتى هذه اللحظة.أما الاعتقال الأول فكان من ١٢ شباط/فبراير ١٩٨٨ حتى ١ آذار/مارس ٢٠٠٠.
أثناء اعتقالي كنت أتعرض للتحقيق حول عن المكالمات العديدة التي تأتيني من خارج سوريا، وقد كنت أتواصل مع قنوات من اليابان حتى السي إن إنباسمي الشخصي وليس باسم حركي، وموقفي واضح، أنا ضد استخدام أي سلاح سواء من قبل السلطة أو المعارضة، وضد سفك أي دم سوري، وعندما أحمل طرفاً المسؤولية هذا لا يعني أنني موافق على الطرف الآخر.
فإن أدنت المعارضة كُنتُ أسأل “وهل يعجبك الجيش؟” فأجيب “لا، فأنا أدين جميع الجرائم وأتكلم عن الجميع”. وقد قلت من البداية لا أتمنى أن يحرز أحداً نصراً عسكريا على الإطلاق، لا أرغب بالحسم العسكري، فالمصلحة ألا ينتصر أحد وتكون التسوية والدستور، إذ أنّ انتصار أحد يعني أن الكارثة آتية، والنصر العسكري ضمن حرب أهلية هو الكارثة.
بالنسبة للمعتقلين، كان نشاطي تأمين المحامين وأشياء بسيطة فلم يكن لدي تأثير أكبر من ذلك، الأمن لا يقبل بي أن أمثل الثورة على خلفية طائفية، وكوني لا أقبل أن أعمل ببعض الأشياء، ركزت على السلم الأهلي والعلاقات الأهلية، سواء معنوية أو مادية، ليس لي أية علاقة بالائتلاف ولا بهيئة التنسيق، إلا أنني أتواصل معهم دون أن يكون لي أي دور فيهما.
هل تستطيع التكلم عن دورك بالأعمال الخيرية؟
عندما بدأ الخطف على الهوية تدخلت من خلال علاقاتي الاجتماعية والسياسية، نجحت في بعض المرات بتنسيق عمليات لتبادل المختطفين وفشلت في مناسبات أخرى، وكنت أنجح بالتبادل بدون أي مقابل مادي، فما عملت عليه لم يدفع مقابله أي شيء من الأهالي، أنا دفعت، لكن ليس عندي قدرة كبيرة.
كنت أشحن رصيد الموبايل أو أملأ خزان مازوت أو أقدم خدمات طاقة شمسية، وكل ما دفعته لم يتجاوز الأربعة آلاف دولار، ولم يعرف أهل المخطوفين بهذا، كنت أداوم عند الخاطفين لأيام. في إحدى المرات في العام ٢٠١١ مشيت ٢٠٠ متر وأنا مغطى العينين لأوصل دواء لشخص مخطوف، تواصلت مع المخطوفين وتمكنت من خلالهم إيصال الدواء للشخص المريض، كنت أحاول التواصل دوماً وفي جميع أوقات الصبح والليل حتى أحصل على مطالب الخاطفين. كانت أصعب اللحظات عندما يقولون أنهم قتلوا المخطوف، وكان علي إخبار الأهل، هذه لحظة قاسية ومؤلمة، والأفرع الأمنية لا تتخذ أي إجراء، وهناك أشياء لا تحكى كي لا تستغل لتأجيج المشاكل.
الحدث الطائفي في حمص دفع أشخاصاً للتحول إلى مؤيدين كي لا يذبحوا، هناك أمور تحتاج لوعي غير متاح للأمور السياسية. النظام بالتأكيد لن يسمح بتواجد بديل ككل أنظمة الطغيان، لكن كان على المعارضة أن تبتكر شكلاً للقاء، والوعي والقيادات تبقى فاشلة حتى الآن، لا لسوئهم بالضرورة لكن لعجزهم.
أنا أدخلت أول شحنة مساعدات على مدينة تلبيسة يوم ٤/٦/٢٠١١ أثناء أول حصار، نقلت حمولة سيارتين أرجعوني على الحواجز ولم يدخلوها، فوزعت الشحنة على المفرج عنهم في العفو الصادر آنذاك، كانت مجموعة كبيرة من الأساسيات كلفتني فقط ثلاثين دولار. قدمت أكثر من مئة مقعد للمعقدين بالإضافة لفرشات طبية للمقعدين وعكازات وأدوية حليب حتى هذه اللحظة، لست أنا من يشتري الأدوية لكني أوصلها من خلال أصدقاء وصديقات، وهناك من تبرع بثمن الكراسي، أنا اشتريت اثنين فقط، لكني أوزعهم على مدنيين تأثروا من القصف العشوائي بغض النظر عن المصدر. أحاول تأسيس جمعية لتركيب الأطراف الصناعية الذكية، يجب أن تكون مرخصة والعمل شفافاً، لكنها تتعرقل حتى الآن بسبب اعتقالي أولاً ثم للمشاكل المالية الكبيرة التي أعاني منها، فدخلي لا يكفيني، العمل لا يكفيني أكثر من عشرة إلى خمسة عشر يوم، ولا تستطيع أن تؤسس لشيء دون موارد، ولا أستطيع استلام مساعدات دون أن يكون لي ترخيص، هناك العديد ممن عرض علي المال لأوصل المساعدات لكنني أرفض إن لم أعرف الشخص، إلا إن كانت تبرعات عينية.
————————————
اليسار التائه بين شعارات متنافرة/ حسيبة عبد الرحمن
تحول اليسار إلى مصطلح فضفاض ضبابي، دون محددات نظرية وسياسية ومنظومات فكرية أو ومرتكزات اجتماعية، وعليه أصبح من الصعب تحديد اليسار بمروحته الواسعة. ولأن المصطلح يحمل لغزاً سحرياً غامضاً مازال يجذب إليه بعض الفئات الشابة المتنورة رغم أن مساحة حضوره تضاءلت، فأضحت كواحة فاتتها الأمطار زمناً، ولم يبق منها إلا شجر خريفي باهت. وكان سقوط الاتحاد السوفيتي كسهم أصاب اليسار، وأضعفه في العالم ككل، وفي سوريا، بغض النظر عن إيمانك بالتجربة السوفيتية أو كفرك بها، قربك وبعدك عنها، فرمزية الخزان الاشتراكي تشظت، وكأن التاريخ يخرج لسانه لنا كما فعل الله على مسرح البولشوي (تفاحة آدم)، فانقلب اليسار على رأسه ماشيا، ليصل المنقلبون إلى من هزمهم، ويعلنوا التوبة وطلب الرحمة سواء في الخارج أو الداخل، قبل أن يستظلوا بظل رايات المنتصر” الحضارية” و”الإنسانية” و“الديمقراطية “. أما من بقي مغرداً خارج هذا السرب، فلا تزال خطواته متعثرة، وهو ماض في طريق متعرج مليء بالأفخاخ والحفر، ليصل إلى كوة مشكاة ضوء خافت، لا يعلم إن كانت حقيقة أم سراباً، محاولاً شق طريق غامض من جديد.
وشكل سقوط الاتحاد السوفيتي المفصل والمنعطف الرئيس فى مسار نكوص اليسار العالمي (1990)، فالكثير من الظواهر والمواقف والتوهان والتفكك ترتب على هذا التاريخ، رغم أن بعض الظواهر والانشقاقات سبقت هذا التاريخ وشقت طريقها نحو مقاربات نظرية وسياسية جديدة، بما فيها اليسار السوري بشقيه الكلاسيكي، أو ما عرف باليسار الجديد (آنذاك) رابطة العمل الشيوعي. فأصبحنا أمام عودة ضالة إلى التنوير، ومرحلة الدعاوة مشفوعة بتجربة الشعوب النضالية في العالم ككل، من نجاحات وإخفاقات بعد الهزائم المتكررة له بفعل موضوعي وذاتي.
ولكن من بقي يسارياً؟ ووفق أي تعريف ومنظومات تتحدد هويته؟ هل هو انتماؤه الفكري؟ أم نهجه السياسي ؟ برنامجه ؟ لمن يتوجه وما هي استهدافاته الطبقية ؟ ولذا أضحى من الصعب تحديد تعريف اليساري الجديد“، هل هو الاشتراكي؟ الماركسي؟ الشيوعي؟ القومي؟ ورغم ذلك فالأسئلة المطروحة تدور في الفلك الفلسفي الماركسي وتعبيراته السياسية الواسعة، وهي تعبر عن أزمة اليسار ككل، والأدق غيابه عن الفعل النظري والسياسي، وتحديدا في منطقتنا العربية، ونخص سوريا. إذ شكل اليسار السوري طوال عقود خلت واحة غناء للجدل الفكري والسياسي والثقافي ووسمها بمفرداته ورؤاه، نتيجة حضوره ووزنه، حيث استطاع نقل قوى وأفراد من ضفة لأخرى خلال “مرحلة الصعود” نتيجة الانتصارات الكبرى للفكر الاشتراكي، إثر هزيمة السوفييت لألمانية النازية وحرب كوريا، ومن ثم حركات التحرر ضد الاستعمار أواسط الخمسينات وستينات القرن الماضي، مروراً بظاهرة تشي غيفارا للعمل الثوري المسلح، والحركات الطلابية (1968) في فرنسا وأوربا وأمريكا وتشيكوسلوفاكيا (ربيع براغ)، وانتهاء بانتصار الفيتناميين (1975) وتمدد اليسار الجديد الذي عبر عن أزمة في الفكر الاشتراكي السوفييتي والمركز الأممي.
و تراجع اليسار العالمي بدءاً من مرحلة السبعينات وبشكل خاص في الدول العربية، رغم ظهور قوى سياسية وفكرية جديدة بعد هزيمة حزيران (1967) كرد عليها، إلا أن قوى اجتماعية واسعة من الطبقة الوسطى والفقيرة عادت إلى ملاذات تقليدية (كما تظن) آمنة وأبرزها الدين. وذلك استكمالا لهزيمة القوميين (الناصريون والبعثيون) التي توّجت بمجيء السادات والأسد وسياستهما ضد القوى اليسارية من قمع واضطهاد، وفتح الرتاجات لنشاط الإسلاميين وبناء الجوامع وغير ذلك كجزء متتم للسياسات الغربية للانقضاض على المد الاشتراكي بأموال الخليج العربي، مما أعاد الروح ثانية للقوى الإسلامية التي أفاقت من غفوة طويلة، كي تكبر وتتجبر وتتوعد، وكان لنجاحها الكبير في هزيمة السوفييت بأفغانستان، صدى تردد في البلدان الإسلامية ككل، فانتعشت هذه القوى واشرأبت برؤوسها.
و تزامن ذلك مع انتفاضة إيران وسقوط الشاه وصعود الإسلام السياسي “الثوري” واليمين المحافظ والمعولم في بريطانيا (تاتشر) وأمريكا (ريغان)، ليتراجع اليسار بعد مرحلة ازدهار، ويأفل نجمه مع تداعي الاتحاد السوفييتي، ويغادر جزء من قواه مواقعه إلى الضفة الأخرى التي حاربوها زمنا، وفي طليعتها الضفة النيو–ليبرالية والدفاع والانتصار لكل سياسات الغرب الاقتصادية والسياسية والنيو–كولونيالية والعولمة المتوحشة، بحجة مسميات حقوق الإنسان ومجتمع مدني (الشعارات التي سوقها للعالم من أجل مصالحه).
و بهذا فقد اليسار بوصلته ومعاييره التي نشأ عليها، وأهمها مناهضة الغرب الاستعماري ومركزه الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية، وباقي الحواضر الغربية، والدفاع عن الفقراء والمهمشين والاستقلال الوطني في حالة تغريبية عجيبة ، وأصبح حلم معظم هذه القوى –وحتى الأفراد– العمل كوكلاء مؤجرين وأحيانا بالمجان عن مصالح تلك البلدان بوجه شعوبهم المقهورة والمسحوقة، والجزء الثاني التحق بالإسلام سواء السياسي أو الدعوي، ولم يبق خارج الاتجاهين سوى تجمعات وأفراد يتعثرون في قناعاتهم.
كل هذا يعني أن اليسار فقد برنامجه الثوري التغييري، ولم يعد أداة تمثل مصالح الطبقات الفقيرة، وما كان ينشده ويعمل لأجله من تعليم مجاني وصحة ومساواة قد تغير إلى الفكر الليبرالي واقتصاد السوق، وكيف يمكن الإثراء أجيراً ووكيلاً لدى الليبرالية والنيوليبرالية؟ حاملا ومدافعا عن برنامجها، في ارتكاسة على منجزات اليسار، إذ لم يعد لديه سوى كلمات محددة، كالديمقراطية، متناسيا أنها مرتبطة بالمحتوى الاجتماعي، في استنساخ ممسوخ لشعارات عدوه الطبقي والسياسي – إلى وقت قريب– متعاطيا مع الديمقراطية كحل سحري لكافة المشاكل والأزمات، كما كان يسوق للاشتراكية من قبل دون قراءة للواقع ومعطياته .
وإذا أردنا القيام بمراجعة لأهم مواقف اليسار السوري وتحديدا مع بداية الانتفاضة السورية نجد:
الحزب الشيوعي السوري الرسمي وهو حليف النظام السوري إلى الآن، وقد تعرض لانشقاقات متعددة عبر تاريخه، كما غادر تلك الأحزاب معظم الكوادر والأعضاء متجهين إلى المجتمع المدني وسواه كـ“رابطة النساء السوريات“، وانسلخوا عن الفكر الشيوعي، و أمسوا سياسيا عند الائتلاف السوري بعصبه الإيديولوجي الإخواني (إثر انتفاضة 2011) ومن تبقى منهم في الأحزاب الرسمية، لا يزال لديهم مصالح مع البرجوازية البيروقراطية في دمشق، ويدافعون عن النظام.
أما حزب الشعب أو المكتب السياسي (سابقاً) وهو انشقاق الحزب الشيوعي السوري (1972)، فقد انخرط بالحراك السلمي ودافع عن التسليح والتطييف، و جاء موقفه متسقاً مع التطورات العالمية والمحلية. ويسجل للحزب كحزب شيوعي (حتى ذلك الحين) أنه أول من دعا للتحالف مع القوى الإسلامية الجهادية المتشددة الصاعدة عام (1980) في مرحلة الصراع المسلح مابين هذه القوى و النظام السوري، وكان رد الإسلاميين واضحاً، إذ صدر عنهم بيان وزع في مدينة حلب بعنوان “عودوا إلى أوكاركم أيها الشيوعيون“، وقد تعرض الحزب آنذاك لحملة اعتقالات واسعة. وفي ذات التاريخ صدر موقف شهير للتجمع الوطني الديمقراطي، وهو تجمع المعارضة اليسارية القومية والماركسية، وصف ما يجري من صراع في سوريا بالانتفاضة الشعبية والليبرالية، وقد خرج عن هذا النسق رابطة العمل الشيوعي، التي اختطت لنفسها طريقاً ثالثاً بعيدا عن القوى الإسلامية الظلامية وعن النظام القمعي الديكتاتوري الشمولي.
وبالتالي لا عجب من تحالف حزب الشعب مع الإسلام السياسي والمتطرف إثر الانفجار السوري الكبير (2011) وبعد مغادرة التنظيم التجمع الوطني الديمقراطي، والالتحاق بالمجلس الوطني والائتلاف الوطني (مركز الثقل فيه للإخوان المسلمين والباقي يدور في فلكهم) لأسباب سياسية، براغماتية، قائمة على الحقد على النظام، إضافة لتوجهات إقليمية ودولية، وبالنتيجة هو تحالف ما يدعى ببعض قوى اليسار مع الإسلام السياسي وحتى الراديكالي. وقد سبق ذلك، التنسيق بينهم وبين الإخوان المسلمين فيما يعرف بإعلان دمشق ، وتبادل رسائل الإعجاب بالتوجهات المدنية للإخوان. فحزب الشعب غير رؤيته لطبيعة الثورة وقواها وبرنامجها، وأصبحت القوى المضادة للثورة ثورية وحليفة، لأنها تريد إسقاط النظام بكل الوسائل والأدوات، ورغم ذلك لم يستطع الحزب توسيع قاعدته الجماهيرية وإعادة إنتاج ذاته كحزب قوي وفعال.
هناك أيضاً تنظيم حزب العمل الشيوعي (رابطة العمل) الذي سبق وشكل المعارضة اليسارية الأساسية في سوريا منذ تأسيس الرابطة (1976) وإلى حين تصفية التنظيم (1992) إثر حملات الاعتقال المتتالية، والذي أعاد نشاطه ثانية عام 2005، فقد انخرط بالانتفاضة السورية عندما كانت سلمية، ورفض السلاح والتطييف كباقي أحزاب هيئة التنسيق باعتباره مكونا أساسيا بها، والتنظيم يتأرجح بين ماضيه الشيوعي(بما يتضمن من برنامج لصالح الفقراء والديمقراطية) وبين وجوده في الهيئة العليا للتفاوض، حيث القوى المضادة للثورة من إسلاميين ومسلحين ومرتزقة، ودول مناهضة لحرية واستقلال الشعوب. واستطاع التنظيم في بداية الانتفاضة استقطاب كتلة شبابية، لكن متغيرات الشرط السوري من حرب وقمع وتهجير هجرت معظمهم ، كما أدت الحرب المجنونة إلى انكفائهم، كما حصل للشعب السوري ككل، وبقي القليل منهم في التنظيم، وبهذا فشل الحزب في التحول إلى حزب جماهيري رغم رمزيته النضالية. وفي سياق ذكر حزب العمل الشيوعي ونتيجة حيويته الفكرية والسياسية، لابد من التطرق إلى توجهات بعض أعضائه السابقين ممن لهم السبق في مغادرة الشيوعية والمراجعة النظرية داخل معتقلات النظام، والتي بدأت مع حركة (ليش فاليسا) واستكملت بناءها النظري بحروب أمريكا في المنطقة، فأصبح بعضهم منظر الاحتلال “التقدمي” الإنساني لقتل مئات آلاف البشر للتخلص من ديكتاتور و المجيء بواجهات حضارية من أحزاب وقوى طائفية تدمر ما تبقى من بلدان وأوطان، وتكاثر المريدون لهذا التوجه من ماركسيين وقوميين، وأصبح حزبا كبيرا دون تنظيم ببرنامج واضح، وهو انتظار الغزو القادم من الغرب، ليهللوا له، وشكل البعض منهم تجمعي“مواطنة” و حركة “معاً” وكلاهما يصب في الطاحونة الغربية.
بقيت القوى القومية (المهزومة أيضاً) وبالأحرى الاتحاد الاشتراكي الذي انخرط ا بالانتفاضة الشعبية، وشكل العصب الرئيسي لهيئة التنسيق، ولكن بعض أعضائه لم يشذ عن السياقات العامة، فترك التنظيم و التحق بالائتلاف وبالقوى الإسلامية الجهادية، واعتنق أيديولوجيتهم . وبعد أن استطاع الإسلام السياسي استثمار طرق اليسار في الاستقطاب الجماهيري بتقديم الخدمات وبناء شبكات أمان اجتماعي، وباستخدام العنف (عنف القوى المضادة للثورة) الجهادي الذي أخذ حرب العصابات ووظفها لتحقيق أهدافه المتساوقة مع الغرب بمعظم الحالات . أما اليسار فوجوده بقي رمزيا بلا حضور ولا برنامج ، لأنه لم ينهض من كبوته بعد، ولم يعد إنتاج نفسه وفق برنامج وآليات عمل جديدة ، ولذا فشل في الاستثمار بالانتفاضة السورية وتوسيع قاعدته الشعبية، خصوصا وهو مكشوف الظهر، بل عار، في حين يفتح الإعلام، و تتدفق الأموال إلى القوى الإسلامية المسلحة للاستثمار فيها من الخليج العربي وتركيا بدعم أمريكي غربي، ليغير موقع سوريا التحالفي من الشرق إلى الغرب، وهذا كله طبعاً ليس من أجل حرية الشعب السوري الذي قتل الكثير منه بنيران السلاح السوري الروسي “الغبي” والسلاح الأمريكي “الذكي“؟
حسيبة عبد الرحمن كاتبة وناشطة سورية أمضت ثماني سنوات في السجن، لثلاث اعتقالات. أصدرت روايتين عن سجن النساء (تجليات جدي الشيخ المهاجر) ومجموعة قصص قصيرة بعنوان (سقط سهواً) وكتاباً عن المجتمع المدني بعنوان (غزو المصطلحات) كما نشرت مقالات في جريدة السفير وتنشر الآن في جريدة حزب العمل الشيوعي
————————-
المنهج الماركسي لا يزال حياً وقابلاً للحياة/ سحر حويجة
تشكلت التيارات والأحزاب السياسية في سوريا في سياق النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وقادت النضال والعملية السياسية قوى تمثل البرجوازية والتجار وأصحاب الأملاك. أول الأحزاب الأيديولوجية التي تشكلت، كان الحزب الشيوعي السوري في عام 1924، والحزب القومي السوري في1932، والإخوان المسلمين في 1932 وحزب البعث في 1940 والحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني في 1940. اندمج الأخير مع حزب البعث وشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1952. لم يبرز دور الأحزاب الأيديولوجية إلا بعد الاستقلال، مع اتساع الفئات الوسطى، ممثلة بالجيش والمعلمين والمحامين والمثقفين وقادة الحركة الطلابية والنقابات وغيرهم، من خلال الاستفادة من الحريات المكتسبة حينها.
في الخمسينات كان الحزب الشيوعي السوري يمثل اليسار، ويحظى بشعبية حقيقية خاصة بين الأقليات والأكراد. تعاون مع الوطنيين في النضال ضد الاستعمار وربط بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الإقطاع والبرجوازية، وقاده الجمود العقائدي إلى الاعتقاد أن الطبقة العاملة قادرة ومستعدة لإسقاط البرجوازية، واعتبر القضية القومية من قضايا البرجوازية وتقود إلى التعصب. وتشكلت منذ 1948 رابطة النساء السوريات واتحاد الشباب الديمقراطي، وهي منظمات رديفة للحزب مستقلة تنظيمياً عنه، وهي جزء من فروع اتحادات دولية.
بدأت الانقلابات العسكرية المتتالية، منذ عام 1949 وتحولت سوريا مسرحاً للصراع بين العسكر والحكم المدني، حيث كانت القوى التقليدية ممثلة بحزب الشعب والكتلة الوطنية تُعارض دخول العسكر في السياسة، بينما وجدت أحزاب البرجوازية الصغيرة ضالتها في الجيش بسبب عجزها عن الحصول على النفوذ الجماهيري، خاصة بين الفلاحين، وفي مرحلة الخمسينات ساد مناخ شعبوي وسيطر المد القومي وبدت المسألة الديمقراطية بوصفها إطاراً للمسألة القومية، حتى أن خالد بكداش غير موقفه من المسألة القومية في عام 1957.
تُوج المد القومي بموافقة الحكومة والقوى السياسية الممثلة بالبرلمان على الوحدة مع مصر في عام 1958، غير أن حل الأحزاب السياسية وقمع الحريات، والتدهور الاقتصادي قادوا إلى الانفصال، وتركوا وراءهم نفوذ الاشتراكية الناصرية في الجيش والسياسة. وقد كان حزب البعث من المدافعين عن الحياة البرلمانية لكن جاء انقلاب الجيش بغطاء سياسي من حزب البعث، تحت مسمى ثورة ضد الرجعية؛ فتم حل البرلمان وأممت الصناعة وأعلنت الأحكام العرفية وأصبحت القيادة بيد مجلس اسمه مجلس قيادة الثورة يتم تعيينه. وبعد انقلاب 1963 حصلت صراعات وتصفيات بين الأجنحة العسكرية مختلفة الولاءات السياسية وبين الجناح العسكري والسياسي في حزب البعث والتي انتهت بانقلاب 1970 مما منح القوة للعسكر على حساب السياسيين، ويمين حزب البعث على حساب يساره، وتحول السياسيون إلى واجهة للعسكر لا أكثر.
دخلت البلاد في مرحلة جديدة واستطاع النظام من خلال تشكيله الجبهة الوطنية التقدمية، الهيمنة وإلحاق الأحزاب السياسية المكونة لها بسياسته. ومع تشكيل هذه الجبهة انشطرت الأحزاب المكونة لها إلى قسمين قسم مؤيد وآخر معارض. وتشكل اليسار المعارض من الرافضين للدخول في جبهة النظام، إضافة الى الانشقاقات المتلاحقة في صفوف الحزب الشيوعي. وأدى عدم شرعية وجود أحزاب خارج الجبهة، إلى جعل أي انشقاق في صفوف القوى الرسمية، يُوصف كمعارضة.
تميزت هذه المرحلة بأزمة اليسار السوري على أكثر من مستوى؛ فعلى الصعيد التنظيمي أشارت طبيعة الانشقاقات من القمة إلى القاعدة إلى غياب الديمقراطية في الحياة التنظيمية لهذه القوى. وعلى صعيد برامج وشعارات وأهداف المعارضة اليسارية فقد تقاطعت مع جبهة النظام في قضايا رئيسية كمناهضة الإمبريالية وتحرير الأراضي المحتلة والاشتراكية، وهذا أدى إلى أن القاعدة الجماهيرية التي سعت المعارضة اليسارية لاكتساب دعمها، كانت نفس القاعدة التي يعتمد عليها النظام.
دفعت عدة أسباب كـ(التطورات الداخلية، وتزايد أعداد المغادرين صفوف أحزاب اليسار بسبب أزمته السياسية والنظرية والتنظيمية، والتطورات التي طرأت على الحركة الشيوعية العالمية) باتجاه تشكيل الحلقات الماركسية على أساس من السجال السياسي والنظري بين أعضائها. هذه السمة ميزت مرحلة الحلقات الماركسية ورابطة العمل الشيوعي، وضعفت مع تشكيل الحزب في عام 1981 بسبب الاعتقالات المستمرة أو انسحاب كوادر التنظيم، الذي تشكلت قواعده الأساسية من الشباب، خاصة الطلاب وأغلبهم يفتقر الى تجربة سياسية، ويتميزون بالحماس والاستعداد النضالي العالي. وفي حقيقة الأمر لم يخرج الحزب في فهمه الديمقراطي عن الأصولية الماركسية، ودعا لتشكيل الجبهة الشعبية التي تضم القوى المعبرة عن الطبقات الشعبية من أجل الوصول إلى السلطة.
في عام 1979 شهدت الساحة السورية تطورات هامة فتحت آفاقاً جديدة، قوامها مواقف وسجال وحراك سياسي، على خلفية الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين نذكر منها تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي من الأحزاب المنشقة عن جبهة النظام. ونشير إلى الإضراب العام الذي عم معظم المدن السورية عدا دمشق خلال النصف الثاني من شباط والنصف الأول من آذار عام 1980. هدف التجمع الوطني الديمقراطي حينها إلى تطوير الإضراب حتى يصل إلى عصيان مدني عام، يتم من خلاله فرض التحول الديمقراطي. غير أن الإخوان المسلمين استطاعوا تحويله الى حركة وتمرد وأحداث شغب، وانتهى الإضراب بزج كبار المحامين والقضاة والنقابيين في السجن، وعلى إثره كانت آخر مظاهر الاستقلالية للحركة النقابية في سوريا قبل تحويلها الى أبواق للسلطة.
وبدأ العنف المتبادل بين السلطة والإخوان. وبعد القضاء على الإخوان قامت السلطة بملاحقة الأحزاب اليسارية بهدف تجميدها، أو تصفيتها.
توجهت المعارضة اليسارية مجبرة بسبب القمع السافر إلى العمل السري، الذي شكل طوقاً خانقاً حجمّ من دورها، وفرض قيداً شديداً على التنظيمات السياسية وحدّد آليات عملها قسرياً، على حساب المبادئ التي يدعو التنظيم إليها، سواء في حياته التنظيمية الداخلية، أم في علاقته بالآخرين، حيث تتقدم العلاقات الشخصية المبنية على الثقة على حساب العلاقات التنظيمية، ويسيطر هاجس الرقابة الأمنية، والمخاوف المستمرة من الخروق الأمنية، التي يلعب النظام على وترها.
وانعكس تأثير النزيف المستمر للكوادر والقيادات نتيجة الاعتقالات على صعوبة تجديد البنى التنظيمية وصعوبة عقد الاجتماعات والمؤتمرات. وفي ظروف الملاحقة أو حملات الاعتقالات، تحولت العلاقات التنظيمية إلى علاقات خيطية، لنقل آخر الأخبار. وفي حال الملاحقة أو التعرض للمراقبة، كان أمام الأعضاء خيارين إما التخفي أو تجميد العضوية.
وهذا أدى إلى اقتصار النشاط السياسي في ظروف العمل السري على دائرة ضيقة من العلاقات الوثيقة مع أشخاص مقربين، لذا فقد اتخذ النشاط طابعاً عائلياً يعزز العلاقات الشخصية، وأثر هذا التغيير على بنية الأحزاب وأدائها السياسي. فتح العمل السري المجال للتشكيك، وإلقاء التهم والتخوين لأتفه الأسباب، مما وتّر العلاقات بين هذه القوى وبين الأفراد في التنظيم الواحد.
شكل السجن مكاناً ملائماً بين المعتقلين للحوار والتواصل، سواء بين أعضاء الحزب الواحد أو بين الأحزاب المختلفة. وعانى المعتقلون من غياب الدعم المعنوي نتيجة حالة الانحسار الجماهيري، ولم يطالب أحد بهم، سواء من الناس أو المنظمات أو الأحزاب. وكان الدعم المادي يقتصر على دعم الأهل، والكثير من الحالات فقدت دعم أهلها لأسباب مختلفة منها: عدم القدرة المادية أو لاعتراض الأسر على مواقف أبنائها السياسية. هذه الأسباب إضافة لظروف السجن القاسية، والاعتقال لمدة طويلة، وتراجع دور الأحزاب ونشاطها خارج السجن، دفعت مجموعات من المعتقلين، للتململ والمساومة مع النظام.
وكان لانهيار الاتحاد السوفيتي دور مؤثر على صمود الكثير من المعتقلين اليساريين وعلى تحولهم الفكري من موقع لآخر. وبدأ النظام بإصدار أحكام قاسية بحق المعتقلين بعد سنين ليبرر اعتقالهم، ومن سخرية القدر أن تتم محاكمتهم بتهمة مناهضة النظام الاشتراكي .
شكل عقد التسعينات، مرحلة مخاض صعبة لمرحلة ما بعد السجن، حيث بدأت الأحكام تنتهي، وعلى التوالي خرج المعتقلون من السجن بعد سنوات طويلة، وكانت واضحة المتاهة التي آلت اليها الأمور، حالة الفوضى في الأفكار والرؤى، ظاهرة الندم على سنين ذهبت سدى، والعمل بأقصى ما يمكن و بكل المتاح لتعويض ما فات من خسارات في العمل والدراسة والحياة الخاصة. لمس الكثير من الأشخاص عدم التقدير والاحترام لتجربتهم، وعانى الكثير من الضغط الاجتماعي والحصار الأمني بعد خروجهم من السجن من دون أن يتلقوا أي حماية، وكانت مرحلة أشبه بالكمون السياسي. كما برزت حالات من الشللية للثرثرة بعيداً عن السياسة والهم العام، وكان من الواضح التوجه والنكوص الى التكوينات الأولى الطائفية والعائلية، وانتشرت المهاترات والإساءات الشخصية، إضافة إلى التشكيك والإقصاء وغيره من العوامل الضاغطة.
أما الموقف من المرأة فقد سيطر عليه عقل ذكوري، بإقصاء النساء قصداً عند بعض القوى اليسارية، بذريعة الخوف عليهن وحماية لهن من الاعتقال، ولتكون مهمتهن تربية الأطفال ودعم الزوج في حال اعتقاله. اختلف الوضع عند حزب العمل حيث شكلت النساء ثقلاً في عداده منذ الحلقات الماركسية، وزادت في فترة تشكيل الحزب. وكان لتوجه الحزب للشباب وخاصة الطلاب دور في اكتساب النساء كما أنه تميز بخطاب ثوري ضد العادات والتقاليد والدفاع عن المساواة بين المرأة والرجل، وكنا نلحظ الاحترام والتقدير من قبل الذكور للنساء المناضلات في صفوفه سواء المتخفيات أو المعتقلات، مما شجع على التحاق النساء بالحزب، إضافة الى نشاط النساء في صفوف الحزب، لكن أعتقد أن الدور الكبير لموقف حزب العمل المختلف من النساء يُعزى لبنية الحزب المكونة من الشباب\الطلاب التي تميزها عن الأحزاب الأخرى. لكن آثار النظرة الذكورية التقليدية للنساء عادت للظهور بعد خروج كثير من المعتقلين\ات الذين كانوا من جيل الشباب من السجن. أسمح لنفسي بالقول إن تلك كانت المرحلة الأسوأ في تاريخ اليسار الثوري العاجز عن نقد ذاته وتجربته، والذي اتبع سياسة الهروب إلى الأمام.
جاء ربيع دمشق الذي حرك الساكن وأعاد الروح بعد موت وقام الناس من جديد، وكان اليسار جزءاً هاماً من المشهد. وكان من سمات هذه المرحلة الانتقال إلى العلنية، مع الاستعداد لتحمل كلفة ذلك، وبروز دور الأشخاص وليس الأحزاب، وساد خطاب تم التركيز فيه على الحوار مع النظام من أجل الانتقال الديمقراطي. وكانت دعوات الحوار تتجه إلى جهاز الأمن وليس لطرف سياسي من النظام، وإلى جانب المنتديات نشطت حركة معارضة في الكتابة والإعلام. وصارت الديمقراطية هي البند الوحيد الذي تدعو له المعارضة بكافة أطيافها، كما ظهرت للوجود هيئات ومنظمات حقوقية تدافع عن قضايا المرأة وحقوق الإنسان والمعتقلين لمؤسسيها جذور أو انتماءات يسارية.
كان ربيع دمشق حركة نخبوية ضمت رموزاً وأصحاب تجارب سياسية أو اعتقالية سابقة، وكان اهتمام الشباب بها ضعيفاً، لكن كان هناك مشاركة واسعة لليسار الثوري المعارض. ونظراً لغياب رؤية واضحة فقد وقع اليسار ورموزه في فخ التحالفات والمشاركة في إعلان دمشق عام 2005، الذي غاب عنه مشروع مجتمعي وتم التركيز فيه على الديمقراطية في الوقت الذي انتشرت فيه مقولة انتهاء عهد الأيديولوجيات، حيث تحولت الديمقراطية إلى إيديولوجيا تغيب عنها التحديات التاريخية الموضوعية وتغيب عنها الرؤية المستقبلية للقضية الاجتماعية.
واعتبرت القضايا الأخرى ثانوية، ومنها، الصراع الاجتماعي، والحداثة وقضية الحريات، هذه القضايا في واقع الأمر تتقدم وتتراجع معاً، ضمن الفهم الجدلي لحركة التاريخ.
جاءت انتفاضة الشعب السوري في غفلة عن الأحزاب السياسية، ومثلت هيئة التنسيق بمكوناتها اليسار، لكن لم يبرز دور أحزابها كأحزاب قادرة على تصويب الشارع أو قيادته ولم تتميز بشعارات خاصة، باستثناء شعاراتها ضد العسكرة وضد التدخل الخارجي بعد فوات الأوان، ولم تستطع أن تعبئ الشارع ضمن أطرها التنظيمية، بل انقسمت على ذاتها أكثر من مرة، لكنها اكتسبت شرعية ما دولياً.
وفي نفس الوقت تشكلت منظمات مجتمع مدني على هامش الهيئة أو بمبادرة من أعضائها، لكن كانت بمعظمها لا تمثل في الواقع نضال المجتمع المدني، بل استخدمت من أجل اكتساب مواقع أو تعزيز أدوار شخصية.
نحن بحاجة ليسار عقلاني يحتل مكانة مرموقة لا أن يكون على هامش المجتمع، وأن يكون دوره الكشف والقبض على المشكلات الأساسية في المجتمع، حيث إن ضعف اليسار لا يعود إلى شدة نفوذ قوة الإيديولوجيا التقليدية فحسب، بل بسبب عجزه التاريخي عن وضع الديمقراطية في العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة الوطنية. وجاء إخفاق المشروعين اليساري والقومي بسبب النخبوية وعدم كشف الروابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني، من أجل وضع الديمقراطية في سياق المشروع النهضوي.
يمكن القول إن الكثير من المقولات الماركسية التي أنتجها واقع وعالم مغاير لواقع وعالم اليوم أصبحت شائخة يجب استبدالها بما يلائم واقع اليوم، ولكن يبقى المنهج الماركسي (القائم على الجدل والتفاعل بين الظواهر والقوى) حياً وقابلاً للاستفادة منه في حل التناقضات القائمة في المجتمع الإنساني سعياً لغد أفضل.
سحر حويجة محامية وكاتبة وسجينة سياسية سابقة بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي. نشرت العديد من اﻷبحاث القانونية والسياسية وعشرات المقالات، وصدر لها كتاب المرأة السورية في ظل النزاع (٢٠١٦) عن دار الرحبة
صالون سورية
—————————
=======================