نقد ومقالات

أدب السجون السوري: سرديات الأسرار الذائعة.. ووثائق اللحم والدم/ ميسون شقير

من أجل محاولة فهم جدلية العلاقة بين السياسة والرواية ومحاور قوتها، عرّف جورج لوكاش الرواية بأنها “ملحمة العصر”، وذلك لأن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر قدرة على تحليل وهضم الأحداث السياسية، ثم إعادة انتاجها ضمن رؤى مختلفة للحدث نفسه.

مع بدء انتشار الأنظمة المستبدة في العالم، خصوصاً خلال القرن العشرين، بدأت روايات سياسة عالمية تنتشر وتشكل عمقاً حقيقياً في وجدان الإنسان وفكره، ولأن مقاومة الديكتاتوريات “السياسية والدينية والاجتماعية والطبيقية منها”، هي الإيديولوجيا الحقيقية للطبقات المسحوقة في العالم، فقد وجد المثقف العربي، الذي هو جزء من هذا العالم، نفسه، مسجوناً بأنظمة ديكتاتورية قمعية، سرقت منه نشوة الاستقلال ونشوة النهضة العربية التي كانت قد بدأت في مرحلة الستينات، مما مهد لظهور عدد كبير الروايات العربية المشغولة بأدب السجون. ولعل رواية “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، كانت أوضح وأكثر الروايات انتشاراً، تحدثت بشكل واضح عن سجون الرأي العربية، التي تنبأ فيها بالثمن الذي على الشعوب العربية أن تدفعه كي تصل الى الديموقراطية، ولأنه “يلزمنا جيش من الكتّاب الذين يكتبون عن فقد العدالة والديموقراطية في العالم العربي”، ظهر العديد من روايات السجن العربية مثل رواية “شرف” لصنع الله إبراهيم، و”تلك العتمة الباهرة” للكاتب المغربي الطاهر بن جلون، و”السجينة” لمليكة أوفقير، و”مذكراتي في سجن النساء” لنوال السعداوي.

تقول الكاتبة كيت ميشيل، أن الرواية تقدّم “معنىً جديدًا للأحداث الماضية من خلال جمعها بين ما يُرى على أنه حقيقة، وبين ما كان يُمكن أن يحدث، وذلك من خلال تناولها السجلات المفقودة في التاريخ”، حيث يخفي السياسيون الحقائق التي تدينهم أخلاقياً، ويقدم المؤرخون ما يستطيعون الحصول عليه، لكن توثيقهم يأتي على شكل هياكل عظمية. في حين أن الرواية قادرة على اختراق المحظورات السياسية والدينية والاجتماعية، وعلى تقديم الحقائق بلحم ودم، وعندما نتكلم عن قدرة الرواية على “تقديم السجلات المفقودة من التاريخ”، لا يمكن لنا إلا أن نتذكر روايات السجون السورية، لأن التاريخ السوري الحديث هو تاريخ السجلات المفقودة من التاريخ بكل امتياز، الأمر الذي جعل الشاعر السوري ومعتقل الرأي فرج بيرقدار يقول: “سيرشحنا المستقبل كأكبر تراث عالمي في أدب السجون”.

إن الأهمية التي اكتسبها أدب السجون في سوريا، جاءت من كون البلاد، وطوال 40 عاماً من حكم آل الأسد، لم تعرف مصدراً للأخبار سوى وكالة “سانا” الرسمية التي تأسست العام 1965، كما أن الصحف الثلاث الحكومية الصادرة، كانت تعيد تكريس مبدأ القائد الواحد والحزب الواحد. وبعد استلام الوريث بشار الأسد، الحكم، ظهر صحف خاصة، لكن الأمن السوري أغلق معظمها، لتظهر مكانها صحف خاصة تابعة للنظام، كما ظهرت قناة “الدنيا”، المملوكة لمحمد حمشو المقرب من الأسد.

ضمن هذا التعتيم الإعلامي، تأتي أهميّة روايات تلك الفترة التي تحولت إلى كتاب تاريخ كامل من لحم ودم وصديد وقيح وأهات ونتف من اللحم ومن الأنفاس.

أكثر من مئة رواية ومسرحية وكتاب تحدثتْ عن السجون السورية، وقد تعددت الروايات المكتوبة بأيدي كاتبات سوريات مثل رواية “خمس دقائق وحسب. تسع سنوات في السجون السورية” لهبة الدباغ. و”الشرنقة” لحسيبة عبد الرحمن، و”عينك على السفينة” للفلسطينية السورية مي الحافظ، وكتبت روزا ياسين الحسن “نيغاتيف.. من ذاكرة المعتقلات السياسيات السوريات”…

كما يمكن أيضاً أن نصنف الروايات التي تناولت سجن تدمر تحديداً، لأن هذا السجن يشكل جوهر حكم الأسد الاستبدادي ومنتهى همجيته.

أول كتاب ظهر عن سجن تدمر هو كتاب “شاهد ومشهود” للمعتقل الأردني سليم حمادة، ثم أصدر علي أبو دهن رواية حملت اسم “عائد من جهنم” العام 2012، كما كتب الأردني أيمن العتوم رواية “يسمعون حسيسها”، وعبد الله الناجي “حمامات الدم” في سجن تدمر، ويمكن اعتبار روايتي “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة من أهم الأمثلة على الزلازل التي أحدثتها كل من مجزرة حماة ومجزرة سجن تدمر في المجتمع السوري، حيث تناولت هاتان الروايتان الحدث من رؤى متعددة، وذلك من أجل ﺘﻭﺠيه ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻨﺤﻭ ﺍﻟﻤﻨﺎﻁﻕ ﺍﻵﻤﻨﺔ ﻓﻲ ﺤﺭاكه ﺍﻟﺘﺨﺒﻁﻲ. ولدينا راوية “السجن” للروائي السوري نبيل سليمان، ورواية “الفقد” للمعتقل والناشط السياسي لؤي حسين، ثم صدرت “قهوة الجنرال” للكاتب المعتقل السياسي غسان جباعي.

ولعل رواية “القوقعة” من أكثر الأعمال تأثيراً ضمن مدونة السجن السورية، لأنها صرخة تقول إن النظام هو من مهّد لتلك الثورة “التي يصادف هذا الشهر عيدها العاشر”، وأن اللحظة الحاليّة كانت آتية لا محالة. و”إذا كانت روايات ما قبل الفاجعة يمكنها أن تخبرنا بشيء فستخبرنا بحتمية الثورة”.

لقد انتشرت رواية السجون سراً داخل المجتمع السوري، في الفترة التي بدأت فيها أول ثورات الربيع العربي، وازدادت انتشاراً بعد بدء الثورة في سوريا، حتى أن الشباب المشاركين في الثورة وصفوا “القوقعة” مثلاً بأنها إنجيل الثورة.

أما الروايات التي صدرت بعد الثورة، فكان من الطبيعي جدا أن تتناول الاعتقال السياسي وسجون الرأي، لأن أكثر من نصف مليون سوري اعتقلوا منذ آذار 2011. وقد مثلت رواية “تقاطع نيران” لسمر يزبك، الرواية التوثيقية الأولى، إذ تناولت ظاهرة الاعتقال السياسي والقتل تحت التعذيب، كما توضحت العودة إلى تناول سجون الرأي في رواية “ليل العالم” لنبيل سليمان، و”الخائفون” لديما ونوس، ولدينا رواية “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، ورواية “السوريون الأعداء” لفواز حداد، ورواية “جنة البرابرة” لخليل صويلح، والعديد من الروايات الأخرى.

ويمكن القول إن رواية السجن السورية حملت أهمية خاصة من خلال العوامل التالية:

– تحول رواية السجن السورية إلى وثيقة لإدانة النظام السوري 

لقد استطاعت رواية السجن السورية أن تؤرّخ وبشجاعة نادرة، لحقبة مندثرة من التاريخ الحديث لسوريا، حيث قدمت للإنسان السوري الحقائق التي كان يخفيها النظام السوري، وبلا رتوش، لا سيما أن العديد من كتّابها هم سجناء رأي، عاشوا سنوات في زنازين الأسد، وهذا ما جعل القارئ يثق فيها.

– توثيق رواية السجن السورية للسجن الذي وصف بأنه الأسوأ في العالم

لقد شكلت روايات السجن السورية إضافة إلى كتاب “سوريا: الدولة المتوحشة” للفرنسي ميشيل سورا”، المفتاح الحقيقي للتعرف على الوضع السياسي والحقوقي في سوريا خلال العقود الماضية، مؤكدة على أن حجم التعذيب في سجن تدمر كان أكبر من الخيال، وكان يمارس بقرار صادر من رأس السلطة وبموافقته. وتبعاً للمنظّرة حنة أرندت: “فإن فقدان الشعور الإنساني الذي يحمل في طيّاته الخضوع والذلّ، كان هدفًا أساسيًّا لسياسة التعذيب”. وهذا التوثيق هو التعبير المكتوب عما وثقته الصور التي سرّبها “قيصر” سوريا، العام 2015، فلم تكن الصور بعد القراءة إلّا بانوراما بصريّة عاكسة لرواية السجن السورية، التي شاهدها العالم كله وصمَت.

– توثيق رواية السجون السورية لإعدام المعتقلين في سجون النظام

تحدثت رواية السجون السورية عن تفاصيل الإعدامات الممنهجة التي كانت ولا تزال تتم في أقبية نظام الأسد، وكشفت بشكل خاص عن الإعدامات في سجن تدمر، إضافة الى المجزرة التي حصلت في السجن، ولم يعرف بها أحد في وقتها.

– توثيق الأيديولوجيات في المجتمع السوري 

تحاول الرواية “تقديم الواقع في محاولة منها لتفسيره ومن ثم تغييره” بحسب الناقد الاجتماعي بيير زيما، وهذا ما فعلته روايات السجون السورية. فالكثير من الكتّاب هم معتقلون ماركسيون مثل مصطفى خليفة وياسين الحاج صالح وغسان جباعي ومي الحافظ، لكن معظم رواياتهم جعل من أبطالها المعتقلين ينتمون إلى طبقات المجتمع السوري كافة بتنويعاته الأيديولوجية.

– إنصاف اتجاه الظلم المفرط الذي تعرض له كل من اتهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين أو كل من كان يعيش في حماه وضواحي حلب وحلب المدينة

ولعل أكثر الروايات مثالاً على هذا المحور هي “القوقعة” حيث جعل الكاتب البطل مسيحياً، لكنه يعتقل بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، وهذا يقود القارئ منذ الصفحات الأولى الى معرفة كم هم كثر أولئك الذي دخلوا السجن وعذبوا وقتلوا بتهمة الانتماء للاخوان المسلمين، وهم في الحقيقية مظلومون، وكيف أن نظام الأسد أباد جيلاً كاملاً بحجة معاقبة الجناح العسكري من الإخوان المسلمين.

– توثيق رواية السجون السورية للبنية الطائفية لضباط الجيش والمخابرات

وضحت غالبية روايات السجون السورية، البنية الهرميّة العسكريّة التي تسيطر على تفاصيل النظام الأسدي، كما أنها أضاءت على فكرة شديدة الأهمية، وهي التدهور الأخلاقيّ الذي سبّبه النظام في المجتمع السوريّ، مؤكدة على أنّ جوهر النظام الشموليّ يكمن في استخدام العنف غايةً في حدّ ذاتها، بهدف تحويل الناس إلى أدوات للسلطة.

– توثيق روايات السجون السورية لتورط الجيش في عمليات التصفية والتعذيب

إن معظم الروايات تتقاطع مع ما كتبه الباحث السياسي حنا بطاطو في كتابه “فلاحو سوريا”: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم، حول سيطرة أبناء طبقة الفلاحين، على الجيش وعلى الأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا، وكيف كان يتم تحويلهم لوحوش “فاقدي الانسانية”.

– فضح أدب السجون لحجم حالة اليأس التي كان قد وصل المجتمع السوري

إن حالة الضياع و”اللاشيء” التي عايشها معظم أبطال الروايات بعد خروجهم من السجن هي حالة المجتمع السوري كله، ورد هذا بشكل خاص في “قهوة الجنرال” لغسان جباعي و”الفقد” للؤي الحسين و”حراس الهواء” لروزا الياسين و”الخائفون” لديما ونوس.

وفي النهاية، قدمت رواية السجن السورية دراسة حقيقية عميقة عن الخوف الذي يضرب جذوره ويتأصل في نفس المعتقَل، وعلاقته العضوية بالخوف العام المستشري في المجتمع، رابطة منطق السلطة السورية وأداتها الرئيسية بهذا الخوف، وواضعة قارئها أمام نفسه، حيث جعلته غير قادر على الصمت أكثر، غير قادر على اللامبالاة، كما أن غالبية الروايات الصادرة خلال الأعوام العشرين الماضية، ممنوعة من النشر والتداول من قبل السلطة السورية، وهذا يدل على العلاقة التضادية بين الرواية والسلطة. وأخيراً، يجب أن نعترف بأن وضع القمع المرعب في مرحلة ما قبل الثورة السورية، بالاضافة إلى التعقيدات التي جاءت طول سنوات الثورة، أفرزت نصّاً روائياً هجيناً، هو مزيج من التوثيق والتخييل، إذ اتجه معظم الروائيين السوريين في هذه الفترة، مرغمين ربما، نحو رواية التوثيق، أو رواية الحرب، كما لو أنهم يكتبون سيرة الخوف والتعذيب والدمار والقتل.

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button