إميل سيوران.. التحايل على حياة تتظاهر بالمعنى!/ دارين حوماني
يُصنّف إميل سيوران نفسه كاتب شذرات، وربما شعر، وربما تفكّرات فلسفية، ينفر من الفلسفة والمتفلسفين، ويتجنّب الشعراء، وصراعاتهم المحدودة الضيقة، “كيف يمكن للمرء أن يكون فيلسوفًا؟ كيف يجرؤ على التصدّي للزمن، والجمال، واللـه، وغير ذلك؟ إنه فكر يتورّم. ميتافيزيقا.. شعر.. وقاحات قملة”. هو فيلسوف من النوع التخريبي، وريث نيتشه القرن العشرين، لكن مع روح السخرية “أؤمن بخلاص البشرية، بمستقبل الزرنيخ”، والزرنيخ بالنسبة إليه هو الانتحار الجماعي. “سينقرض الإنسان. كانت تلك حتى الآن قناعتي الراسخة. في الأثناء، غيّرت رأيي، يجب أن ينقرض”. كل ما يفعله سيوران هو إظهار الرفض، وتشريح عبث الوجود، وبؤس الإنسان، وعدم قدرة العالم على فهم نفسه.
ولد إميل سيوران في 8 نيسان/ أبريل 1911 في مقاطعة ترانسيلفانيا، التي كانت لفترة طويلة جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي عام 1918، أصبحت جزءًا من رومانيا، بين والدين متناقضين فكريًا، الأب كاهن أرثوذكسي، والأم ترفض كل ما يتعلّق بالدين واللاهوت. شارك في شبابه في مشاريع سياسية ندم عليها طوال حياته، ولن يستخدم بعدها اللغة الملتزمة التي تبنّاها في أيامه الرومانية. الإعجاب الأعمى الذي شعر به ذات يوم بألمانيا اختفى لاحقًا، “إذا كان هناك مرض واحد شُفيت منه، فهو ذلك المرض”. وكان مغرمًا بهتلر لدرجة أنه كان يريد نقل نسخة منه إلى بلده رومانيا. في رسالة إلى صديقه بيترو كومارنيسكو في كانون الأول/ ديسمبر 1933، كتب: “في رومانيا، فقط الإرهاب والوحشية والقلق اللامتناهي بواسطة نظام ديكتاتوري يمكن أن يؤدي إلى بعض التغيير. يجب القبض على جميع الرومانيين، وضربهم حتى الموت؛ فقط بعد هذا الضرب يمكن لشخص سطحي أن يصنع التاريخ”، وسيكتب بعدها ملاحظة: “إنه لأمر مروّع أن تكون رومانيًا”. وفي حوار له مع الصحافي الألماني، فرِد باكوس، في عام 1990، سيقول: “كانت طفولتي في رومانيا مأساة لا نهاية لها. والدتي كانت تبكي دائمًا بسببي. لو لم أكن قد غادرت رومانيا، لكنت انتحرت. أنقذتني باريس”.
“وُلد سيوران لوالدين متناقضين فكريًا، الأب كاهن أرثوذكسي، والأم ترفض كل ما يتعلّق بالدين واللاهوت”
في الثالثة والعشرين من عمره، نشر سيوران أول كتبه: “على مرتفعات اليأس”، بينما كان يعاني من نوبة أرق مروّعة، وقد لاحقه الأرق طوال حياته. من هناك، بدأت شذراته الفلسفية، وتوسّع بها في كتبه التالية. سينتقل الفيلسوف المخالف إلى باريس في عام 1937، بعد حصوله على منحة لاستكمال الدراسات العليا في الفلسفة. وفي عام 1949، سينشر أول كتبه الباريسية “رسالة في التحلّل”، بعد أربعة كتب بلغته الأم، وسيقطع علاقته مع الرومانية. في فرنسا، بدأ الكتابة والتحدّث باللغة الفرنسية بشكل حصري؛ “أستخدم اللغة الرومانية فقط للشتم”.
الكتابة نوع من التحايل على الحياة
كتب سيوران أكثر من عشرين كتابًا؛ الكتابة بالنسبة إليه نوع من التحايل على الحياة التي تتظاهر بالمعنى، وبالنسبة إليه لا معنى لها على الإطلاق. وغالبًا ما ناقض نفسه، “تمّ الاعتراف به فورًا أنه متناقض”؛ لكنه يرى أن التناقض الذاتي ليس ضعفًا، بل علامة على أن العقل حيّ، ويعتقد أيضًا أن الكتابة لا تتعلّق بالثبات، ولا بالإقناع، أو الحفاظ على الترفيه عن القرّاء؛ الكتابة بالنسبة إليه كما هي بالنسبة لميشيل دي مونتين، قبل عدة قرون، لها وظيفة أداء مميزة: “أنت لا تكتب لإنتاج نص، ولكن للعمل على نفسك، لتجمع نفسك معًا بعد كارثة شخصية، أو لتخرج نفسك من حالة اكتئاب سيئة، للتصالح مع مرض مميت، أو الحداد على فقدان صديق مقرّب. أنت تكتب كي لا تصاب بالجنون، ولا تقتل نفسك، أو الآخرين”.
“في عام 1949، سينشر أول كتبه الباريسية “رسالة في التحلّل”، بعد أربعة كتب بلغته الأم، وسيقطع علاقته مع الرومانية”
في محادثة مع الفيلسوف الإسباني، فرناندو سافاتير، قال سيوران: “إذا لم أكتب، كان بإمكاني أن أصبح قاتلًا”. الكتابة بالنسبة إليه مسألة حياة، أو موت، والوجود البشري، في جوهره، هو الكرب، واليأس اللانهائي، ويمكن للكتابة أن تجعل الأشياء أكثر احتمالًا.
في أعماله، لم يتوقّف سيوران أبدًا عن توبيخ الآلهة، باستثناء إله الفشل. هناك شيء معرفي واضح حول فلسفة سيوران المعادية للكون وطريقة تفكيره. كان مهووسًا بشبح الفشل الذي طارد أعماله بدءًا من كتابه الروماني الأول. وطوال حياته، لم يبتعد عن الفشل. لقد درسه من زوايا مختلفة، وبحث عنه في أكثر الأماكن غير المتوقّعة. يعتقد سيوران أنه لا يمكن للأفراد فقط أن ينتهي بهم الأمر بالفشل، ولكن أيضًا شعوب ودول. الحالة الإنسانية نفسها بالنسبة إليه هي مجرد مشروع فاشل آخر. ويرفض الزاهد السيوراني الأطروحة الكونية، وأن كل شيء منظّم جيدًا؛ عمل سيوران على إثبات أن الكون فاشل.
كان لقمان سليم أول من نقل مختارات من أعمال سيوران إلى العربية، وجمعها في كتاب “توقيعات” (دار الجديد، 1991)، وبعد ذلك قدّم آدم فتحي للمكتبة العربية خمسة كتب عن منشورات الجمل “المياه كلها بلون الغرق” (2003)، و”تاريخ ويوتوبيا” (2010)، و”مثالب الولادة” (2015)، و”اعترافات ولعنات” (2018)، و”تمارين في الاعجاب” (2021). وسنتوقف عند هذا الأخير هنا.
“لا أرغب في الكتابة إلا وأنا في وضع قابل للانفجار، فريسة الانفعال، أو الانقباض، في ذهول متحوّل إلى هيجان، في جوّ انتقام تحل فيه الشتائم محل الصفعات واللكمات. يبدأ الأمر عادة هكذا: رجفة خفيفة لا تلبث أن تشتدّ شيئًا فشيئًا، مثلما هو الشأن بعد شتيمة تلقّيناها، من دون أن نردّ عليها. العبارة تساوي الردّ المتأخر، أو الاعتداء المُرجأ. أكتب كي لا أقع في ردّ الفعل المباشر، وكي أتجنّب أزمة. العبارة تنفيس، ثأر غير مباشر يحقّقه من لا يستطيع أن يصبر على إهانة، وليس له غير الكلام كي ينتفض على أشباهه وعلى نفسه”. يكتب سيوران هذه الكلمات في كتابه المختلف “تمارين في الإعجاب”، كتاب من نوع آخر، لا يمشي على نفس خط الشذرات الفلسفية في أعماله، لكنه محمّل بهواجسه الثابتة تجاه الوجود والأدب والكتابة، جمع فيه هذا المتمرّد مقالاته عن كتّاب آخرين، ويبدو فيها معجبًا أحيانًا، ومنتقدًا أحيانًا أخرى، ثم ساخرًا بحبّ.
جوزيف دو ميستر (1753 ـ 1821)
يفرد سيوران المساحة الأكبر من كتابه للحديث عن الفيلسوف الايطالي، جوزيف دو ميستر، الذي كان في وسع البعض أن يسمّيه “نبي الماضي”، “أما نحن أبناء هذه المرحلة التي تخلّصت من ضلالات كثيرة، فإننا نعرف أنه كان منا على قدر ما كان وحشًا، وأنه ما كان ليبقى حيًا ومعاصرًا لولا ذلك البعد البغيض في عقائده تحديدًا”.
يرى سيوران أن دو ميستر بدّل حماقات التعليم المسيحي بما هو أفضل منها، وقد أسعفته في ذلك موهبته ككاتب أكثر مما أسعفته تقواه. يتطرّق إلى كتابه “في البابا” وكيف بثّ الخوف في الشخص الذي امتدحه “البابا” وأرغمه على أن يقيس تفاهاته وأن يتعذّب بها. أما كتابه “أمسيات سان بطرسبرغ” فهو تنويع على الإدارة الزمنية لحكم العناية الإلهية. يرى دو ميستر أن قادة الثورة ليسوا سوى رجال آليين وأدوات آثمين لدى الروح المطلق. ويسأل سيوران ميستر: “أليست تلك القوة آثمة مثلهم؟ ماذا كانت العناية تفعل قبل 1789؟”. ويعتقد دو ميستر أننا مقيّدون جميعًا إلى عرش الكائن الأعلى بسلسلة مرنة تمسك بنا من دون أن تستعبدنا، وأننا عبيد بِحُريّتنا، نتصرّف وفق إرادة العناية الإلهية، وحسب الضرورة. ويردّ سيوران: “هل يُفترض انسحاب التدخّل الالهي في فترات التوازن، بما أن العناية الإلهية التي لا تحبّذ الغياب طويلًا، لا تتخلّى عن راحتها إلا لتضرب ولتعبّر عن بطشها، ستكون الحرب مجالها”. ثم يذهب في شرح نظرية الجذور الأخلاقية للأمراض التي سينحتها دو ميستر معتقدًا أن كل ألم هو عذاب مسلّط بسبب جرم “إذا لم أميّز بين الأمراض فلأنها كلها عقوبات”، ويرى سيوران أن دو ميستر ضلّ طريقه وهو يحاول أن يبرّر توزيع الأمراض على الأرض، وتبدو له استنتاجاته صحيحة، أما نظرياته وأحكامه القيمية فتبدو لا إنسانية وباطلة، “لو كانت الأمراض عقوبات كما يطيب له أن يعتقد لغصّت المستشفيات بالوحوش، ولكان ذوو الأمراض المعضلة أكبر المجرمين على الإطلاق”. يرى سيوران أن دو ميستر كان بعيد النظر، لكنه أخطأ المرمى في العديد من توقّعاته، “كان يرى أن أوروبا على وشك الموت، وتصوّر أن فرنسا كُلّفت بالتجديد للبشرية، فإذا هي تنخرط في اللائكية”.
بول فاليري (1871 ـ 1945)
يذهب سيوران نحو الشاعر الفرنسي، بول فاليري، الذي “كان اقتحامه سهلًا.. نكبة المؤلف أن يُفهم، فاليري فُهم في حياته وظلّ مفهومًا”. ويرى سيوران أن فاليري لم يكتفِ بأن يكون شارح نفسه، بل إن كتبه كلها لم تكن سوى سيرة ذاتية بدرجات متفاوتة من التمويه. يقول عنه: “فاليري لم يكن شاعرًا في الأصل، وفي العمق.. لقد عجز عن أن يكون شاعرًا بصفة طبيعية، فاتّخذ من عجزه نظرية، واقترحه كمثال، متعلّقًا بالتقنية لإخفاء قصوراته الخلقية، واضعًا الشعرية فوق الشعر ـ وتلك جناية لا تُغتفر”. كما ذهب سيوران أبعد من ذلك في انتقاد سخرية فاليري من الفلاسفة “الحق أن نفوره من الفلاسفة كان مشبوهًا بعض الشيء، فقد كان في الحقيقة مسكونًا بهم غير قادر على عدم الاكتراث لهم، وما انفكّ يطاردهم بسخرية تقارب الشراسة. وقد ظلّ طوال حياته يؤكّد عدم رغبته في بناء نسق، لكن ذلك لا ينفي أنه كان يحمل أسفًا على النسق الذي لم يستطع بناءه”. ويرى سيوران أن كراهية الفلسفة مشبوهة دائمًا، وأنه يمكن أن يتفهّم أن يتحسّر المفكر على الفيلسوف الذي كان يمكن أن يكونه، لكنه سيكون أقلّ تفهّمًا أن تعمل هذه الحسرة أكثر لدى الشعراء. ينتقد سيوران فاليري، أيضًا، في اهتمامه بالرياضيات “الفرق كبير بين أن يُغرم بها، وأن يتمكّن منها. لقد اهتمّ بها لينشئ لنفسه وضعية مثقف لا نظير له. في كلامه عن العلوم نبرة رجال المجتمع، وآخر أصداء صالونات الزمن القديم”. يبحث سيوران في الصنعة التي هي كتابة الكتابة، ويرى أنه من المغالاة اعتبار فاليري كاتبًا متصنّعًا، “لعل من الإنصاف أن نقول إن لديه نوبات تصنّع”. وفي رأي سيوران، الشعر سيصبح في خطر ما إن يُفرط الشعراء في الاهتمام النظري بالكلام.
صموئيل بيكيت (1906 ـ 1989)
ما كتبه سيوران عن الكاتب المسرحي الإيرلندي، صموئيل بيكيت، هو بمثابة كتابة عن صديق حميم، “لا كبرياء ظاهرة، لا علامة ملازمة للفرادة. والأغرب إن لم يكن الأفظع أنه لا يغتاب أحدًا. إنه يجهل الوظيفة الصحية للعدائية وفضائلها المفيدة ومزيتها كمتنفّس. لم أسمعه يومًا يمزّق أصدقاء، أو أعداء. ولا شكّ أنه في لاوعيه يعاني من ذلك. إنه لا يعيش في الزمن، بل يعيش بموازاة الزمن، ويعطي انطباعًا بأنه لا يريد أن يُثبت ذاته البتّة”.
“كتب عن بيكيت “لا كبرياء ظاهرة، لا علامة ملازمة للفرادة. والأغرب إن لم يكن الأفظع أنه لا يغتاب أحدًا. إنه يجهل الوظيفة الصحية للعدائية وفضائلها المفيدة ومزيتها كمتنفّس”
ثمة حديث لسيوران عن حبّهما المشترك للمقابر، وعن براعة بيكيت في وصف المزايا التي يجب أن تتوفّر للممثلة، وحديث عن المشترك بين بيكيت وفيتجنشتاين: “لدى كل منهما المسافة نفسها من الكائنات والأشياء، النزوع نفسه إلى الصمت”. وعن الكتابة التي تعني الفرح لبيكيت فيما “كانت الكتابة عذابًا بالنسبة إليّ”. أما الكلمات “من تراه أحبّها كما أحبّها هو؟ ليس من شك أن فترات إحباطه توافق الفترات التي يخيّل إليه أن الكلمات تخونه، أو تتهرّب منه. في غيابها هو معدم لا وجود له في أي مكان”.
سان جون بيرس (1887 ـ 1975)
أما الشاعر الفرنسي، سان جون بيرس، فيعده سيوران غريب القصيدة الذي لا ينتسب إلى عصر، ولا يتجذّر في أي بلاد “لكأنه يجوب إمبراطورية مجهولة”. بالنسبة لسيوران رؤية بيرس ليست تاريخية، ولا تراجيدية، “تحرّرت رؤيته من الرعب والحنين، فأصبحت جزءًا من القشعريرة، لا ذعر لديه، بل حسيّة الفزع، ونشوة تنتصر على الفراغ”. بيرس على العكس من فاليري وإليوت، على الطرف المقابل من عالمهما، يمتنع عن الإلحاح على نقاوة اللاوجود، وهو شاعر التواطؤ والتعاطف مع الكائنات والأشياء، وهو من أولئك الشعراء الذين يصعب الاقتراب منهم، بنظر سيوران، “الذين يلعبون دور الوساطة في الصراع الدائر بيننا وبين العالم”. إعجاب سيوران ببيرس هو إعجابه بقصيدته التي تتحدّى العدم؛ “ثمة لدى بيرس نبرة من الحكمة الغنائية.. لن يضيع شيء حتى لو اختفى الكون بما أن اللغة ستحلّ محلّه.. لو أمكن لكلمة بسيطة أن تنجو من الغرق الشامل، إذن لتحدّت العدم لوحدها. تلك هي النتيجة التي يبدو لنا أن القصيدة تفضي إليها وتستوجبها”، إنها لغة بيرس وقصيدته..
مارسيا إلياد (1907 ـ 1986)
كان سيوران مشدودًا إلى مواطنه، المفكّر مارسيا إلياد، منذ كان في المدرسة الثانوية، “موهبة إلياد في أن يجعل الفكرة متوهّجة معدية”. وعندما بدأ سيوران بالكتابة، نشر مقالًا بعنوان “رؤية الموت في الفن الشمالي”، فدعاه إلياد إلى تصفية ذهنه، والإحجام عن اكتساح الدوريات بالأفكار الجنائزية. وقد هاجمه سيوران ذات يوم في مقال “الرجل الذي لا قدر له”، الذي ينتقد فيه تقلّب عقله وعجزه عن أن يكون رجل فكرة واحدة، لكن ما أشعر سيوران بتفاهة ما كتبه حين لم يؤاخذه إلياد على ما كتبه، بل استمتع به. يرى سيوران أن هذه السمة تستحق التنويه، لأن الكتّاب، في ظر سيوران، عاجزين عن نسيان أي وقاحة. سيحكي سيوران عن إلياد، الذي فَقَد معنى الإحساس بالخطيئة، وإن كان على بيّنة من مفهومها، فهو أكثر ديناميكية وازدحامًا بالمشاريع. ويرى أن إلياد يقيم على هامش الأديان كلها، يضع كل الأديان على الصعيد نفسه، من دون أن يعتنق أحدها، يصفها ويعلّق عليها بإبداع “يصعب علينا أن نتخيّل مختصًا بالأديان وهو يصلي.. لقد امتصّ عصارتها، وقارن بعضها ببعض، واستخدم بعضها ضد بعض.. نحن كلنا، وعلى رأسنا إلياد، مؤمنون سابقون، نحن كلنا عقول دينية لا دين لها”.
خورخي لويس بورخيس (1899 ـ 1986)
حديث سيوران عن الشاعر والقاصّ، خورخي لويس بورخيس، فيه من الإعجاب واللوم، “لقد أصيب بلعنة المعترف بهم”، وأنه ليس من عقوبة أسوأ من التكريس بالنسبة إلى الكاتب، وإن أولئك الذين يريدون إنصافه بأي ثمن لا يفعلون شيئًا سوى التعجيل بسقوطه. يمثّل بورخيس بالنسبة لسيوران عيّنة من بشرية في طريقها إلى الانقراض، ويجسّد مفارقة المقيم الذي لا يملك وطنًا فكريًا، المغامر الساكن الوحش الرائع المُدان. يرى سيوران أن بورخيس منذور إلى الكونية، بل مرغم عليها، واستطاع أن يوفّق بين العمق وسعة الاطلاع “قد يصبح بورخيس رمزًا لبشرية خالصة من العقائد والنظم، وإذا كان ثمة من يوتوبيا أقبل بها طوعًا فهي تلك التي يسير فيها كلّ على مثال بورخيس، آخر المرهفين”.
أصدقاء سيوران
يكتب سيوران، أيضًا، عن عالم الاجتماع الفرنسي، روجيه كايوا، المفتون بالحجارة الكريمة، وبـ”سكيناتها المتعدّدة”؛ وعن شغف الكاتب والرسام الفرنسي، هنري ميشو، بالشمولي الذي يضع نفسه في صفّ المولودين من تعب؛ وعن الفيلسوف والشاعر الروماني، بنيامين فوندان، وبحثه الذي كان أكثر من حاجة، أو هوس، وعن الحضور الحاسم للفيلسوفة الإسبانية؛ ماريا ثمبرانو، التي لم تبع روحها للفكرة، وتجاوزت الفلسفة؛ وعن الفيلسوف النمساوي، أوتو فايننغر، الذي كان سيوران مفتونًا به، ومدّه بالأسباب الفلسفية لكراهية المرأة الشريفة. سيحكي، أيضًا، عن المفكر والشاعر الإيطالي، غيدو شيرونيتي، الناسك المفتون بالجحيم، الذي يعترف بخيباته، وعن القراءة المفزعة لكتابه “صمت الجسد”، وعن الروائي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد، الذي كان خبيرًا في رثاء الذات، وكان يمقت الكذب “وهذا يعني أنه بلا منفذ إلى الدين”.
امرأة مجهولة
في مقالة معنونة “لم تكن من هنا”، يتحدث سيوران عن إنسانة وقع أسير طيفها الفاتن، لا يعلم أحد كيف كانت تتدبّر أمرها كي تتنفّس، مثقلة بالممتلكات، لكنها تبدو على عتبة شحاذة مثالية “ثمة نوع غابر من اللعنة كان يجثم عليها.. الوداع كان علامة طبعها.. لا على سبيل الاحتشام، بل تضامنًا مع اللامرئي”.
اعترافات أخيرة
في اعترافه المتأخر، لا يتردّد صاحب “اعترافات ولعنات”، في الحديث عن توقفّه عن الإنتاج عندما بدأت هذياناته تخفّ، وأن الكتابة رذيلة “في وسعنا أن نملّها”، و”شئنا أم أبينا، فإن حديثنا عن الله يعني أن ننظر إليه من فوق؛ الكتابة هي ثأر المخلوق، وردّه على خليقة غير متقنة”. يعود سيوران إلى كتابه الأول بالرومانية “رسالة في التحلّل”، وكيف كان نوعًا من الانفجار؛ لم تتغيّر رؤية سيوران للعالم بشكل راديكالي منذ ذلك الوقت، ما تغيّر هو نبرته. وإلى كتابه الأول بالفرنسية، الذي أعاد كتابته أربع مرات، وكيف نشأ لديه غيظ لتعلّم الفرنسية، وقرّر أن يكتب مثل السكان المحليين، وكم كان سعيدًا حين أسرّ له العالم النيويوركي، إروين تشارغاف “بأن لا شيء يستحق الوجود إلا إذا كان مكتوبًا بالفرنسية”، وكم هو حزين “لأن هذه اللغة اليوم في أوج الانحطاط، وأن الفرنسيين غير آبهين بذلك.. أما أنا، زبالة البلقان، فأتعذّب لرؤيتها تهلك”.
***
توفي إميل سيوران في 20 حزيران/ يونيو 1995، إلا أنه كان قد غادر قبل وفاته، فقد عانى لسنوات من الزهايمر. كان قد خطّط للانتحار، لكنه فشل في ذلك، كان المرض أسرع منه. ذات يوم، لم يستطع أن يجد طريق عودته إلى المنزل، ثم بدأ يفقد ذكرياته تدريجيًا، فَقَد إحساسه الفكاهي، ثم لم يعد في إمكانه تسمية الأشياء الأساسية. في النهاية، نسي فيلسوف الفشل من هو، وبقيت كلماته التي ستظلّ فينا: “حين نكون على بُعد آلاف الأميال من الشعر، نظلّ نساهم فيه بتلك الحاجة المفاجئة إلى العواء ـ آخر درجات الغنائية”.
مراجع:
https://lareviewofbooks.org/article/philosopher-failure-emil-ciorans-heights-despair/
http://dukkha-collections.blogspot.com/2018/05/interview-emil-cioran.html
ضفة ثالثة