البورنوغرافيا السورية الجديدة.. جلسات سادية عبر “فايسبوك”/ أدهم حنا
لا يملك السوري جسده. لطالما كان الجسد يحمل الشخص ويحمل حقوقه وإرادته وخياره، هذا كشرط أدنى؛ لكن في “سوريا الأسد” لا يتفاعل الجسد، بل يترقب حصول ما تفرضه الاستجابة عليه. في التأديب الطويل للشخصيّة السورية، اصطبغ الجسد السوري بإيماءات وإشارات محددة ويمكن القول إنه يملك هوية ظاهرية محددة. في الوقت الذي بات فيه الجسد السوري يرتبط بالنزوح والهجرة والغرق بحراً، والتخفي بين الجبال أو تحت قماش الخيم الغارقة في الوحل. لقد أصبح الجسد السوري ببساطة، مرتبطاً بالبرد، وانحناء الأكتاف، والتكوّر والانكماش قهراً في صورةٍ شبيهة بالجثث المحنطة. لكن الأكثر قهراً؛ إذلال الجسد بوصفه أداة إعلامية للنظام في وجه من يدعي النظام أنهم يحاصرونه؛ فلا يستحي أن يغطي إعلامياً الطوابير، أو أن يعرض على تلفازه الرسمي رجلاً يبكي وهو ينتظر أن يصعد إلى باص نقل، أو امرأة تَمُطُّ جسدها وترفعه، وكأنها تكتوي بنار بينما تحاول الوصول إلى نافذة المخبز.
في معالجته لما يبدو اجتماعياً؛ يقول بورديو: “إنّ الإحاطة بالتأمل الطويل للبشر في الشوارع كافٍ لإضفاء دلالة اجتماعية على طريقة وجودهم”. بذلك نرى السوري أكثر انكساراً، ودائم الاستعداد للموت. يمتلك الجسد السوري مظاهر عديدة؛ ليس آخرها أن يكون الجسد متاحاً لما يلائم العصر؛ فعصر الميديا يطرح بُعداً آخر لظهور الجسد، تغيّر معه ما يبدو اجتماعيّاً، أو واقعيّاً خارج الواقع الافتراضي. فالصورة الثابتة أو تلك التي تتغير بانتقائية عبر” فايسبوك” أو غيره، لا تشكل دلالة واضحة لما يبدو عليه الجسد السوري، بالأصل يتم تبادل ما يبدو جمالياً أو فنيّاً بأقل جهد عبر وسائل التواصل. لكن ما يظهر عليه الجسد من وراء الصورة سيكون ميتاً لا محالة، دلالة الصورة تحمل في جوهرها ثباتاً وجموداً، وما يُضاف عليها لا يعدو أن يكون مُتخيلاً أو مختلقاً. الصورة هي موتٌ في أصلها؛ والثبات اللا يقيني الإحالة للصورة في العلاقات بين السوريين، لا يعني سوى الانقطاع، حيث الجذب الجنسي الذي تعبر عنه وتقوده الانطباعات البصريّة الحسيّة يحدد خبايا الشخصية السورية وموتها.
ما وراء جمال الصورة حجم من الموات المنزلي؛ الصعوبة الاقتصاديّة للسوريين، واستحالة ضبط المجتمع بعلاقاته الجنسية ضمن أطر الزواج؛ لصعوبة الزواج، والعنف الذي أدرجه النظام ضمن سياق العلاقة بين الدولة والمجتمع، وانحدار مستوى التعبير عن الحقوق أو حتى عن الحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى أدنى أشكاله. النظام يعصف بأي فعل شخصيّ سوريّ؛ ها هنا تتاح بيئة جيدة للانحراف، الانحراف الجنسي ليس بوصفه تمتعاً رغبوياً متمايزاً، بل ما يبدو تصالحاً غير متسامٍ للإنسان السوري في بحثه عن مخرجٍ لغريزته وعنفه. في مجتمع لا يملك نمطاً تواصلياً بيني الجنسين بحدّه الأدنى، أو مساواة قانونيّة، يلجأ قسم كبير من الشباب السوريّ إلى تمكن جنسيّ مختلف؛ يوصّف بأنّه نتاج مرضي لقهره ودرجات القمع التي يخضع لها. وبعيداً عن السيادة الذكورية السائدة في سورية، فإن حدود الفقر التي يعانيها المجتمع جعلت الذكور أقل قدرة على استخدام ذكوريتهم لإنتاج علاقة مع الجنس الآخر ضمن الحدود الطبيعية، التي يقبلها المجتمع؛ أي تحت مسمّى الزواج. فبدا نمط الإنتاج الاجتماعي بعيداً كل البعد من قدرة الشباب؛ ما دفعهم إلى الهروب منه، لتنمو علاقات جنسية منحرفة تفشّت بصورةٍ عشوائيّة. إنتاج قهري للفيتش الجنسي، الذي تحول بدوره إلى مازوخيّة عامة تتمّ معاينتها سراً وعلناً، ويزداد طلبها.
إن أمراً مريباً في الانجذاب لصور مختلفة عن المعاينة الواقعية للشارع السوريّ؛ فصور الموت والقهر في الشوارع تُزاح عند عودة الناس إلى بيوتهم؛ أي خارج أطر الشارع. الحياة السورية تنمو متعوياً عبر وسائل التواصل، لا يملك السوريين شوارعَ إلا ليُذلّوا فيها صامتين، ما جعل الانطباع البصري الجنسي عبر الصورة، والانطباع الجمالي الميت للتعبير عن الشخصية داخل “فايسبوك”، ينموان بطريقة غريبة جداً. فانتشرت “البورنوغرافيا” بطريقة لا تصدّق، وعملية التسامي وجدت بدورها منفذاً موضوعياً في ظل أزمة المجتمع كله أمام مكبوتاته، والتي تتعاظم مع تعاظم الضغوط النفسية. عشرات الصفحات البورنوغرافية، ولكل المحافظات السورية، أنشئت لاقتياد الذكور الراغبين إلى جلسة تعذيب، وهي غير جنسية أبداً؛ أي أنّها لا تنتهي بعملية جنسية طبيعية. هي مجرد عملية تحفيزية لدى الشخص المضطرب المفتون بالألم.
هنا يوجد اقتسام بين المتعة التي يجدها منحرف ما خارج الإطار الطبيعي، وبين رغبة لا شعورية بتلقي التعذيب لسبب ما. في مجتمع مكبوت وذكوري كالمجتمع السوري يبدو هذا خطيراً، فهو ليس نتيجة انحراف فردي فحسب، بل نتيجة انجذاب “الشخصية السورية” إلى مستوى لا يمكن التسامي فيه أو حجبه بعد الآن، إنه انجذاب حقيقيّ إلى العنف، أو إلى شعور أكثر التصاقاً بالأذية. تجلّى هذا منذ بدء الثورة السورية، التي ترافقت مع موجات التعذيب والعنف والاغتصاب في معتقلات النظام الأمنية وسجونه، ما شكّل اعتياداً وارتكاسات منظمة لمقادير العنف التي أشاعها. مئات الآلاف ممّن عُذبوا، والملايين ممّن شاهدوا التعذيب؛ باتوا أقل قدرة على إنتاج ما يبدو طبيعياً في حيواتهم، الهروب من عنف النظام يمضي نحو عنف اللذة. ثلاثة هواجس يخضع لها السوريون، مجتمع كبتي، وغير قيمي، ومقدار حتمي من العنف، جعل ذلك كلّه التصالح مع الانكسار والذل أمراً حتمياً ومقبولاً. في العلاقة الجنسيّة مع الآخر يظهر الميل إلى العلاقة العبودية من طرف الذكور؛ لاستحالة تشكيل العلاقة الجنسية الطبيعية، بذلك ارتد الذكر السويّ إلى حالة إهانة تُعبّر عنه وتفرّغ ما بداخله بصورة أفضل من ظهوره العلني مهاناً وذليلاً في مواجهة المجتمع. ولم نتحدّث بعد عن مناطق المعارضة، التي تخضع العلاقات الاجتماعيّة فيها لنمط تكفيري دمويّ، لا يحمل أيّ إمكانية لنشوء العلاقات الطبيعية.
أنشئت صفحات في “فايسبوك” لجلسات سادية، تُحرِّم صراحة ممارسة الجنس مع بطلات التعذيب، وتستقبل الضحايا المضطربين لضربهم وتعنيفهم فقط. في الثقافة السورية لا يمكن إنشاء تلك الصفحات واستمرارها، أو توكيدها بأرقام هاتفيّة من دون تغطية أمنية فعلية. الرقابة على كل شيء سوري مازالت حاضرة، إلا أن النظام لم يمنع صفحات التعذيب المأجورة. نفسه الجسد المقتول المهان في الشارع، أصبح يبحث عن عنف اختياري، وبهذا تتشكل عوالم المتعة لدى الراغب، ويُريح النظام من عنف قد يجبره عليه. فالعنف قد انعكس نحو الذات لينجو الجسد من عنف النظام الأكثر تشويهاً. سرّية الجلسات والتواصل عبر “فايسبوك” بشكل آمن للضحية، يُريح النظام أيضاً، فعلاقات المشافهة والانطباعات في الشارع تملك وجهة واحدة، هي السوري الخانع المتحمل المقموع. أما عبر “فايسبوك”، فإنّ للسوري كل الحق برسائله الخاصة أن يُعنَّف أو يُعنِّف. هنا مكمنٌ مرعب فيه الكثير من الخوف الذي نصنعه نحن؛ لأننا لا نستطيع توجيه العنف لدينا نحو قهرنا وصعوبات يومياتنا، ولا نستطيع القيام بأي فعلٍ طبيعي نستحقه كبشر لنشعر بانتمائنا إلى المجتمع. في ورطة دائمة من القهر نحيا، ونملك من هذا القهر ما يجعلنا أسوياء أحياناً، لكن بصعوبة تملك وضغطٍ نفسيٍّ هائل.
في مكانٍ آخر، تشعر النساء السوريات أيضاً بغرابة إضافية، أوضحت ذلك إجابات بعض النساء السوريات وبأعمار مختلفة. المرأة السوريّة لا تعرف أساليب التعامل الاجتماعي، أو التلقي الجنسي لعشرات الرسائل التي تحمل تلميحات جنسية. فتنتقل من الفيتش الطبيعي إلى صور الخضوع والانكسار الأنثوي. هنا يكمن سؤال جنسي أبعد من محاولات الفهم الاجتماعيّة أو إيجاد المسوّغات المختلفة. هذا لا يعني أن المجتمع الأنثوي لا يملك انحرافاتٍ ذات منشأ اضطرابي، لكن المبادرة في مجتمع من دول العالم الثالث، كالمجتمع السوريّ، تبقى أكثر ظهوراً من جهة الرجل. خفايا الشباب السوري يسهل كسرها والبوح بها، لقد احتفظ الذكر السوري بقدرته على البوح، ولو كان انهزامياً أو متردداً، أو حتى من خلال حساب “فايسبوك” مزيّف. في بحثنا عن العنف؛ ينجذب الكثير من السوريين إلى أيّ عنفٍ يختارونه بإرادتهم ورغبتهم؛ فقط ليشعروا بأنّ لهم الحقّ في الاختيار ولو كان المُختار عنفاً وتعذيباً!
المدن