الناس

التزويج المبكر يحاصر اللاجئات السوريات بلبنان…/ طارق عبد الجليل – مزنه الزهوري

حرمان من التعليم ومأساة

لا تخفي جواهر عساف ندمها الشديد على تزويجها ابنتها في سن مبكرة، “ما باليد حيلة، لا أملك سوى أن أزوجها، لأتدبر أمر أخواتها”…

“زوّجتُ ابنتي صفا (17 سنة)، في ظلّ انتشار جائحة كورونا، وتطبيق سياسة الإغلاق العام في البلد. ببساطة، لأتخلص من مسؤولية فرد من أفراد عائلتي، على رغم أنّني ضد التزويج المبكّر”، تقول الأربعينية جواهر عساف، مختارة مخيم 019 في سهل سعدنايل، في محافظة البقاع شمال شرقي لبنان، مبررة زواج ابنتها للمرة الثانية، بعد طلاقها العام الماضي عقب زواج استمر أقل من سنة.

عساف التي فقدت زوجها في سوريا منذ آذار/ مارس 2013، وتعاني حالياً من مرض السرطان، مضى على لجوئها 9 سنوات، وهي من منطقة أبو الضهور بريف محافظة إدلب شمال غربي سوريا. وهي تعيش مع ضرتها، الأم لطفلين أيضاً، في خيمة واحدة.

“كورونا” يفاقم عمالة الأطفال وزواجهم

“عادة ما تلجأ الأسر إلى استراتيجيات تكيّف خلال الأزمات أو حالات الطوارئ”، كما توضح ليزا أبو خالد المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، “من بينها تزويج الأطفال دون الثامنة عشرة، وبيع الأصول المنتجة، وإخراج الأطفال من المدرسة وتقليل الإنفاق على التعليم والصحة”. يضاف إلى ذلك “التسول والقبول بوظائف عالية الخطورة أو إرسال الأطفال إلى العمل”، كما تقول أبو خالد لمعدي التحقيق.

وقد تسببت سياسة الإغلاق لاحتواء تفشي وباء “كوفيد-19” في انهيار الحالة الاقتصادية للسوريين في لبنان، ما دفع عدداً كبيراً من العائلات إلى وقف تعليم أبنائها عموماً، والتخلص من عبء الفتيات خصوصاً بتزويجهن وهن في مراحل عمرية صغيرة.

تتراوح السن القانونية الأدنى للزواج في لبنان بين 14 و17 سنة، وتختلف الشريحة العمرية بين الأديان والطوائف، على رغم أنه يمكن أن تنخفض السن المسموحة، بموافقة ولي الأمر، وذلك وفقا لما رصدته مبادرة “فتيات لا عرائس” (Girls not Brides)، وهي شراكة عالمية تضم أكثر من 1500 منظمة مجتمع مدني ملتزمة بإنهاء زواج الأطفال وتمكين الفتيات من تحقيق إمكاناتهن.

وكشف تقيّيم حديث أعدته كل من “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” و”برنامج الأغذية العالمي” و”يونيسف” عام 2020، عن أن 9 من أصل كل 10 أسر سورية لاجئة في لبنان تعيش حالياً في فقر مدقع.

إذ لاحظت الدراسة الزيادة الحادة في نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر المدقع، بسبب الانكماش الاقتصادي وتفشي وباء “كورونا”. إذ وصلت إلى 89 في المئة عام 2020، بعدما كانت 55 في المئة قبل عام واحد فقط. وتعيش هذه الأسر حالياً بأقل من 308 آلاف ليرة لبنانية للفرد الواحد في الشهر، أو ما يعادل 20 دولاراً (وفق سعر الصرف في السوق الموازية)، أي أقل من نصف الحد الأدنى للأجور في لبنان.

التكّيف مع الظروف يدفع نحو تزويج الأطفال

“بدي أتزوج”، تقول بيان ذات الثلاثة عشر عاماً فحسب بعينين دامعتين، “لحتى أهرب من أهلي. كتير عم يشغلوني، وعم أتعب من شغل الأرض”. لتردّ عليها والدتها: “إنتي مفكرة بيت حماكي رح يريحوكي؟ بالعكس رح يشغلوكي أكتر”.

تعيش بيان، وهي من الريف الجنوبي في محافظة حلب، في سهل مجدل عنجر في منطقة البقاع. وقد انقطعت عن الدراسة منذ انتشار جائحة “كورونا”، ويرسلها أهلها للعمل في الأراضي الزراعية منذ أربع سنوات.

فيما تزوجت جمانة (18 سنة)، اللاجئة من مدينة حمص، والتي فقدت والدها في سوريا قبل خمس سنوات وأصرت والدتها على تزويجها “خوفاً من أن يلحقها العار” بحسب ما نقلت الوالدة. وقد أجبرها زوجها على العمل في الحقول، وتعرضت لـ”ضرب وتعذيب متكرر” على يديه، بحسب وصفها، وحاولت الانتحار ثلاث مرات لرفض أهلها طلاقها. “لم أكن أعرف معنى كلمة طلاق”، تقول جمانة. إذ “كنت صغيرة جداً ولم يكن أمامي حل سوى الموت لكي أتخلص من حياتي”. وعندما أنجبت جمانة، أجبرها زوجها على الذهاب إلى العمل بعد ثلاثة أيام فقط من ذلك، ومنعها من إرضاع طفلها منذ اليوم الأول، “حتى لا نعتاد على بعض” كما تصف جمانة.

وعلى رغم كل ما عانته، وقفت والدتها بوجهها ولم ترضَ تطليقها من زوجها، كما روت جمانة، وجميع الأقارب والعائلة انضموا لوالدتها خوفاً من العار الذي تجلبه كلمة “مطلّقة”.

بعد ذلك أصرت جمانة على زوجها لتطليقها شفهياً، وتمزيق الورقة التي كتبها رجل الدين كعقد زواج. ثم طردها من المنزل وحرمها طفلها. فيما لم تتمكن من رفع دعوى قضائية، ولم تستطع أن تفعل شيئاً يعيد لها حقوقها، حتى عائلتها اكتفت بالصمت.

لم توفّر جمانة وسيلة لطرق أبواب الرزق، وكان آخرها العمل في مطعم، لكن بسبب “كوفيد- 19″، والإغلاق العام الذي يشهده البلد، توقفت جمانة عن العمل في مطعم، فاستغلت أسرتها هذا الظرف لتضغط عليها بشكل أكبر، لتزويجها مجدداً و”الخلاص من همّي” كما قالت.

أم حسين زوجت ابنتها في سوريا وعمرها 13 سنة، “لأنني كنت قلقة عليها من المجتمع المحيط بنا، خصوصاً بعد وفاة والدها”. لكن زوج الطفلة توفي في ظروف الحرب في سوريا، “فزوجتها مرة أخرى بعد لجوئنا إلى لبنان، وهو ما أندم عليه طيلة الوقت وأتمنى لو كان هناك مدارس لكنت علمتها”.

ووفقاً لغيثاء عز الدين، الناشطة السورية العاملة في أحد برامج دعم الفتيات اللاجئات، فإن 70 في المئة من الفتيات في مخيمات مجدل عنجر في البقاع اللبناني يعملن في مشاغل الخياطة والزراعة وتعليب المنتجات الزراعية ومعامل حفاضات الأطفال.

ويضيف: “في الغالب، تعيش أسرة لاجئة في خيمة أو غرفة صغيرة تكون مأوى لحوالى سبعة أشخاص. وهؤلاء الفتيات عرضة لمخاطر الاستغلال والتعنيف والتحرش، كما أنّ ظروف العمل لا تقل مأساوية عن ظروف السكن والمعيشة”.

وقد سجلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بحسب ليزا أبو خالد، زيادة بنسبة 6 في المئة في زواج الأطفال منذ الربع الثالث من عام 2020 في كل مناطق لبنان، استناداً  إلى نظام GBVIMS، الذي تستخدمه المفوضية لجمع البيانات ورصد الاتجاهات المتعلقة بحوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وفيما لا يتوفر إحصاء دقيق لحالات تزويج القاصرات اللاجئات السوريات، إذ يصعب الوصول إلى المخيمات أو أماكن اللاجئين في المجتمعات المضيفة بسبب إجراءات الإغلاق التي فرضها انتشار فايروس “كورونا”، فإن الأوضاع ازدادت سوءاً مقارنة بالأعوام السابقة، وفقاً لأبو خالد، إذ “يلجأ أولياء الأمور إلى تزويج بناتهم في سن 13 و14 سنة، مقارنة بعام 2019 عندما كان متوسط سن الفتيات المتزوجات بين 16 و17”.

ضعف الإمكانات يحول دون تحقيق الأحلام

يبدي مسؤولو إغاثة وباحثون ونشطاء قلقهم، لأن فتيات كثيرات لن يعدن إلى الدراسة عندما تفتح المدارس أبوابها مجدداً أمام الطلبة. إذ يتسبب الوباء في جعل الفقراء أكثر فقراً، الأمر الذي يقود بدوره إلى ارتفاع حاد في زواج الأطفال، بدافع الحصول  على مهر العروس إضافة إلى التخلص من تكاليف إطعامها.

يضاف إلى ذلك، بحسب محاسن مدلله، المتطوعة في “منظمة لجنة الإنقاذ الدولية” (IRC)، أن المدارس الرسمية لا تستطيع تغطية الاحتياج الحقيقي على الأرض للطلبة السوريين، فقسم كبير منهم على لوائح الانتظار. وعلى سبيل المثال، في مدرسة المرج في البقاع حيث تعمل مدلله متطوعة لمساعدة الطلبة اللاجئين، تمّ تسجيل 950 طالباً للعام الدراسي الحالي، لكن بقي 450 طالباً منهم على لوائح الانتظار.

وعزت مدلله “قدرة الاستيعاب الضعيفة جداً” إلى “ضعف الموارد المالية لبناء مدارس إضافية”. وبذلك يكون خيار الأطفال غير المحظوظين بمقعد دراسي في المدارس الرسمية، البقاء “في منازلهم وخيامهم من دون تعليم، أو الذهاب إلى برامج التعليم غير الرسمي أو الترفيهي، وهي برامج لمنظمات محلية غير معترف بشهاداتها في وزارة التعليم اللبناني”.

وإضافة إلى الفقر، بما في ذلك “عدم قدرة الأهالي على تغطية نفقات المواصلات لأطفالهم”، تلفت مدلله إلى عقبات أخرى تمنع الأطفال من اللاجئين السوريين من الالتحاق بالمدارس، تتمثل في غياب “الأوراق الثبوتية الرسمية، والخوف وقلة الأمان”، بحكم تعرض الإناث خصوصاً للتحرش “أثناء الذهاب إلى المدرسة والعودة منها، والذي يعتبر من أبرز الأسباب التي تمنع الأهالي من إرسال بناتهم إلى المدارس وتدفعهم لتزويجهن”.

“بدي أتزوج”، تقول بيان ذات الثلاثة عشر عاماً فحسب بعينين دامعتين، “لحتى أهرب من أهلي. كتير عم يشغلوني، وعم أتعب من شغل الأرض”. لتردّ عليها والدتها: “إنتي مفكرة بيت حماكي رح يريحوكي؟ بالعكس رح يشغلوكي أكتر”.

بدورها قالت راكيل فرنانديز، المتحدّثة الرسمية باسم اليونيسف في لبنان أن “الأطفال على اختلاف جنسياتهم في لبنان” واجهتهم “تحديات في الوصول الى التعلّم من بعد، استناداً إلى عوامل مختلفة، بما فيها نقص أجهزة التعلّم وانقطاع الكهرباء وعدم القدرة على الاتصال الجيّد بالإنترنت”. موضحة أن غالبية أسر اللاجئين لا تمتلك هواتف ذكية، بحيث يتم تشاركها أحياناً بين أكثر من أسرة لديها أطفال من أعمارٍ مختلفة بحاجة الى مساعدة. ما يعني أن إمكان وصول الأطفال إلى الهواتف الذكية محدودة”.

وبحسب تقييم المفوضية شؤون اللاجئين حول الوضع العام للاجئين السوريين في لبنان (VASYR) فإن 33 في المئة من الأطفال السوريين اللاجئين في لبنان في سن التعليم الابتدائي (6-14 سنة) لم يتابعوا تعليمهم خلال العام الدراسي 2019 /2020.

يلفت تقييم المفوضية أنه منذ آذار/ مارس 2020، وَجب على التعلم أن يكون عبر الإنترنت بسبب إغلاق المدارس المترتب عن وضع “كوفيد-19”. ومن بين أولئك في سن التعليم الدراسي (6-17 سنة) والمسجلين، حوالى 35 في المئة فقط من الطلبة السوريين تمكنّوا من التعلم من بعد، أما الباقون 65 في المئة فتابعوا الدراسة شخصياً، ما يعني أنهم لم يتلقوا أي تعليم أثناء إغلاق المدرسة. ولم يتمكن ثلث أولئك في سن التعليم الدراسي (بين 6 و17 سنة) الذين حضروا دروساً عبر الإنترنت من متابعة هذه الدروس، ويرجع ذلك في الغالب إلى نقص الإنترنت أو عدم كفايته.

تبعات الزواج المبكّر وعواقبه

بحسب محاسن مدلله، شهد مجتمع اللاجئين السوريين في البقاع خلال الجائحة، ارتفاع نسب الطلاق، محذرة من أن “فترة الزواج تستمر لأشهر قليلة، لتنتهي بطلاق، في ظل عدم وجود أوراق ثبوتية لبعض حالات الزواج، ما يزيد الطين بلة ويجعل القضية أكثر تعقيداً” .

قدّرت اليونيسف في دراسة أجريت عام 2016 أن 39 في المئة من اللاجئات السوريات في لبنان تزوجن قبل الثامنة عشرة. في منطقة البقاع الغربي، 47 في المئة من جميع النساء السوريات المتزوجات، اللواتي تتراوح أعمارهن بين 20 و24 سنة، كن قاصرات عندما تزوجن، بحسب الدراسة ذاتها. بينما تقول دراسة لصندوق الأمم المتحدة للسكان أن 13 في المئة كن تحت الخامسة عشرة.

واعتبرت الأمم المتحدة في تقريرها الصادر منتصف شباط/ فبراير 2020، أن زواج الأطفال هو أحد أنواع العنف داخل الأسرة وعلى مستوى المجتمع.

بحسب محمد العراجي، محامي واستشاري لعدد من المنظمات فإن كل طائفة في لبنان تقوم بتحديد سن الزواج. يقول العراجي لمعدي التحقيق: “لا يوجد قانون بل مبادرات من المجتمع المدني والجمعيات النسوية، لحماية المرأة، والحد من تزويج القاصر هو جزء من هذه الحملة. لا بد من صدور قانون”.

وبالنسبة إلى التركيبة الديموغرافية، فإن الشريحة الأوسع من اللاجئين السوريين هم من المسلمين السنّة وفقاً لعراجي، الذي أوضح أن “عقود الزواج العرفية تنتشر بين اللاجئين، ما يؤدي إلى مشكلات قانونية للمطلقات، لأن المحاكم الشرعية لا تعتد بهذا العقد، ما يؤدي إلى مشكلات بخاصة بالنسبة إلى القصّر، لأن هذه الزيجات شفهية”.

فاقم الزواج العرفي، من مشكلة جمانة وسلبها أدنى حقوقها، وكذلك جميع المطلقات اللاتي وثّقت حالاتهن “منظمة لجنة الإنقاذ الدولية”.

لا تخفي جواهر عساف ندمها الشديد على تزويجها ابنتها في سن مبكرة، “ما باليد حيلة، لا أملك سوى أن أزوجها، لأتدبر أمر أخواتها”.

أُنجز هذا التحقيق بإشراف بدعم “المركز الدولي للصحافيين” و”مشروع فايسبوك للصحافة”.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى