المنح الدراسية الأجنبية في سوريا… طريق للهروب الشرعي على مقعد طائرة/ حسنة الإدلبي
في حكايات الزمن القديم، حتى ما قبل الحرب بقليل، كان المدرّس يسأل التلامذة في الصف الأول الابتدائي: “ماذا ستصبح عندما تكبر؟”، وكانوا يجيبون أنهم سيصبحون إما أطباء أو مهندسين، إلخ، ويتبع المجيب خياره بعبارة “لأخدم وطني”. أما أطفال اليوم فيجيبون: “بدي سافر لبرا لأدرس”.
تعددت أسباب الرغبة في الهجرة والهدف واحد: النجاة. لا يهمّ إلى أي دولة أوروبية، أكانت شرقية أو غربية، فالحلم اليوم في البلاد التي أنهكتها الحرب هو الخلاص الفردي.
فوبيا الحرب والرصاص، والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية دفعت السوريين إلى محاربة الموج في البحر المتوسط. مرات كثيرة غَلَبَهم وقضوا على شواطئه، ومرات انتصروا عليه ووصلوا برّ الأمان.
أما مَن يخشى الموج ولا يمتلك آلاف الدولارات للعبور إلى بَرّ السلامة، فيبحث عن وسيلة أخرى، منها اللجوء إلى المنح الدراسية، كوسيلة شرعية للهروب من الوطن المتعب، بعد أن لفظهم. والوجهة الأسهل والمتاحة هي الهرب إلى بلاد “الأصدقاء”، روسيا وهنغاريا.
“أنا بطلة المنحة الهنغارية”
تضحك مها (اسم مستعار)، وهي شابة سورية تبلغ من العمر 32 عماً وتحمل شهادة ماجستير في السياحة، على سؤال رصيف22 عن قصتها مع المنح الدراسية. تقول: “أنا بطلة المنحة الهنغارية، ويمكنني إعطاء دورات تدربيبة في أساليب التقديم عليها”.
بدأت مها بالتقديم على المنحة الهنغارية منذ عام 2016، بعد عام تماماً من توقيع اتفاقية بين جامعة دمشق ووزارة التعليم الهنغارية. تبحّرت في أساليب التقديم، وطرق كتابة الدوافع، والمعاملات التي تتطلبها المنحة. كل عام، تقلب في الشروط، وتقدّم… وتُرفَض. تبحث عن شيء يستدعي رفض محاولاتها ولا تجد، فهي صاحبة معدّل امتياز في ماجستير السياحة. توجّه أصابع الاتهام إلى الشريك السوري “جامعة دمشق”، وتتهمها بتفضيل ناس على ناس آخرين بـ”الواسطة”.
لم تفقد مها عزيمتها. هذه السنة، أعادت التجربة، وحصلت على قبول إشرافٍ من أحد الأساتذة في هنغاريا، ونتنتظر نتيجة المنحة كاملةً.
برأيها، هذه المنحة أفضل من المنحة الروسية، إذ تستطيع إرسال 50 دولاراً إلى أهلها في حال قبولها، لأن راتب طالب الدكتوراه الشهري يبلغ 450 يورو، وبالتالي مساعدتهم على مواجهة الظروف العصيبة في سوريا.
وتتضمن المنحة الهنغارية أيضاً إعفاء الطالب من رسوم التسجيل وتوفير السكن له أو منحه بدل سكن. ويقدّم الراغبون عليها بشكل مباشر، عبر موقع إلكتروني مخصص لها، وبعد انتهاء مهلة التقديم يرسل الجانب الهنغاري أسماء المتقدمين إلى جامعة دمشق لترشح عدداً منهم.
تقول مها: “النتيجة بده واحد من العيلة يضحي، لكن أنا رح كمل الدكتوراه ما رح أهرب، بس ما بعرف إذا برجع”.
هذه هي العبارة التي يرددها كل الشباب السوريين اليوم: “ما بعرف إذا برجع”. كثيرون منهم تجمعهم مجموعات مغلقة على فيسبوك، فيها يفضفضون عن رغباتهم وأمنياتهم، ويساعدون بعضهم بعضاً في التقديم والاستشارات التي تخص المنحة، ولكل منحة “مجموعتها الخاصة”.
بدأت قصة المنحة الهنغارية مع الشريك السوري عام 2015، وبموجبها تستقبل هنغاريا 200 طالب من كافة الاختصاصات وفي كل مراحل الدراسية الجامعية بما فيها الدراسات العليا.
هذا العام، قدّم آلاف الطلاب للحصول عليها، رغم الشروط الجديدة التي فرضها الشريك السوري، وهو امتحان اللغة الموحد المخصص للمنحة الهنغارية (لغة إنكليزية مستوى B-2)، والذي يجري في معاهد اللغات العالية في جامعات سورية، ويبلغ رسمه عشرة آلاف ليرة سورية (حوالي ثلاثة دولارات حالياً)، إضافة إلى شرط العمر حسب كل مرحلة دراسية.
ابن/ابنة البابا
في بلاد العجائب، لا شيء مستحيل على أليس. الحل السحري لكل شيء يقدّمه “فيتامين واو”، كما يسمّي السوريون “الواسطة”. يمكن أن تُنسف كل المعايير المحددة لأي شيء وكل الشروط.
هذا ما حصل مع هديل (اسم مستعار) وهي شابة من دمشق تبلغ من العمر 32 عاماً. دفعت لشخص مبلغاً بالدولار وحصلت على المنحة الروسية قبل عامين. كان هدفها أن تصل إلى أي بلد خارج حدود سوريا بطريقة شرعية، كما تقول لرصيف22.
“تستطيع شراء المنحة الروسية. سعر منحة الطب 5000 دولار والهندسات بين 4500 و4800 دولار”، تقول وتضيف: “يعني مو كلو مشترى طبعاً. في واسطات، وفي حظ بيفلق الصخر”.
في روسيا، تركت هديل منحتها الدراسية ووجدت أن لا نفع لها من دراسة دراسات عليا في الأدب الإنكليزي في روسيا. هي الآن تعمل في مطعم وتتدرب على اللغة الروسية. كانت المنحة وسيلتها للخروج من سوريا فقط. تفكر بالاستقرار في روسيا وتأسيس أسرة، وسوريا بالنسبة إليها اليوم بلد تزور فيه أهلها، لكنها لا ترغب في العودة إليها.
تقول إنها تشعر بكرامة أكثر، ولديها الكثير من الأصدقاء الذين حازوا على المنحة الروسية، ويعملون يومين أسبوعياً ليستطيعوا العيش.
تعفي المنحة الروسية الحاصل عليها من رسوم الدراسة وتمنحه راتباً شهرياً يتراوح بين 1500 و2000 روبل، بحسب الجامعة، في المرحلة الجامعية الأولى، و2000 روبل للماجستير، و3000 روبل للدكتوراه، يعني نحو 40 دولاراً في أفضل الحالات، وهو مبلغ غير كافٍ للعيش بالتأكيد.
ويبدأ الطالب رحلته الدراسية بسنة كاملة لتعلم اللغة الروسية في الكليات التحضيرية للجامعات، ويدفع هو نفقات السفر وثمن بوليصة التأمين الصحي التي تكلّف حوالي 250 دولاراً.
“فيتامين واو” فعل فعله مع علي، وهو شاب من حمص يبلغ من العمر 25 عاماً وطالب ماجستير هندسة مدنية. حصل على المنحة الروسية عن طريق معارف والده، وسافر لأنه لا يريد تأدية الخدمة الإلزامية، حسبما يقول لرصيف22.
لم يكمل علي في منحته الدراسية. تعلم اللغة الروسية ويعمل حالياً في حانة، ويشير إلى أن ما ساعده في الفترة الأولى هو وضع عائلته المادي الجيّد، إذ لم يكن بحاجة إلى راتب المنحة الدراسية.
أما ما يبقى للفقراء فهو المعدّل الدراسي، وضربة الحظ فقط.
“ما تعلّمته في دمشق أفضل”
لم يكن إلياس (اسم مستعار)، وهو شاب يبلغ من العمر 30 عاماً ويحمل ماجستير في الإعلام من جامعة دمشق، يفكّر في أن تكون روسيا البلد الذي يكمل فيه دراسة الدكتوراه. كان يقوي لغته الإنكليزية ويراسل جامعات في إنكلترا.
حصل إلياس على المنحة الدراسية الروسية بطريقة نظامية، وقدّم عليها بعد فشله عدة مرات في الحصول على منحة إلى إنكلترا، “لأني سوري طبعاً”، حسبما يعتقد.
يقول: “ما تعلمته في جامعة دمشق على صعيد البحث العلمي أفضل بكثير مما تعلمته في الجامعات الروسية. ما ينقص جامعة دمشق فقط هو مشاركتها في مؤتمرات عالمية لكن بسبب الحرب توقف كل شيء، وتوقفت حياتنا كشباب، وهاجرنا عنوةً”.
هذا العام، قدّمت روسيا 500 منحة دراسية، عن طريق وزارة التعليم العالي السورية، وقدّمت مثلها في العام الماضي.
واشتهرت المنحة الروسية وزاد الإقبال عليها بعد الحرب، رغم أنها موجودة منذ وقت طويل، لأن كل العالم أغلق بوجه السوريين، ومن الصعب جداً أن ينجح الراغب في الفرار من سوريا عبر باب إكمال الدراسة بالحصول على منحة في دولة أوروبية غربية، خاصةً في ظل معاناة الطلاب السوريين في مسألة إجادة لغة أجنبية.
أما تقديم الطلبات، فيكون إلى مديرية العلاقات الثقافية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تخصص نسبة 10% من المنح لـ”أبناء الشهداء”.
وعدا هنغاريا وروسيا، تقدّم إيران أيضاً منحاً لطلاب سوريين، وهنالك دول تستقبل طلاباً ولكن عبر نظام الإيفاد، أي عن طريق الحكومة ولا يستطيع أي طالب التقديم عليها، وهي الصين وروسيا الهند. كذلك، تقدّم تركيا منحاً ولكن ليس عن طريق الدولة السورية.
“بيكفي!”
أحمد، شاب من مدينة حمص يبلغ من العمر 30 عاماً، قرر مؤخراً السفر. لم يفكر سابقاً لا في الدراسة ولا في المنح الدراسية، لكنّه فرّغ عشرة أيام من شهر كانون الثاني/ يناير 2021 للتقديم على المنحة الهنغارية.
عن السبب يقول لرصيف22: “بيكفي”، مشيراً إلى صعوبة احتمال الأوضاع في سوريا. آخر همه هو الاختصاص أو الجامعة وتصنيفها. وجهته الفعلية هي إلمانيا، أما هنغاريا، فمحطة فقط… لكن طلبه رُفض.
لا يختلف حال هلا (اسم مستعار)، وهي طالبة دراسات عليا في الصيدلة تبلغ من العمر 30 عاماً، عن حال أحمد. هي مجبرة على شغل وظيفتين بجانب الدراسة، لتعيش بكرامة.
تنتقد أسلوب تعامل الأساتذة مع الطلاب في جامعتها، والروتين القاتل، وتبحث عن دراسة “تحفظ كرامة الطالب”، كما تقول لرصيف22. لا تنتقص من القيمة العلمية للدراسة في جامعة دمشق، لكن “المناهج قديمة”. الآن، تدعو الله ليساعدها في النجاة عبر مركب المنحة الهنغارية التي قدّمت عليها.
رصيف 22