صفحات الثقافة

بيانات المثقفين … سؤال الجدوى/ إيلي عبدو

البيانات، قاصرة عن الإحاطة بتعقيد الأوضاع، حتى بما يخص الموقف، فضلاً عن كونها استكمالا للسلوك الحزبي لدى بعض المثقفين المقتنعين باستمرار وهم الأدوار السابقة…

يكرر مثقفون عرب، توقيع بيانات مشتركة، تحدد موقفاً من حدث ما، وتوجه دعوات ومطالبات إلى الأنظمة أو قوى الأمر الواقع، وأحياناً إلى قوى دولية، انتصاراً لمقموع من نظام أو ضعيف تحت احتلال أو معتقل في سجن أو قتيل برصاص ميليشيات، أو مرهّب من قوى دينية.

وقبل اندلاع الربيع العربي، كانت لهذه البيانات، مشروعية ما، في ظل أنظمة تحتكر السياسة وتختصر الموقف في البلاد التي تسيطر عليها، ما يجعل بياناً موقعاً من مثقفين، لكسر الاحتكار وإحراج الأنظمة وتظهير موقف معارض مضاد، غير متاح، في ظل تحكم “الأخ الأكبر”. مع ذلك، فإن البيان، كان أيضاً كشفاً عن تحول في دور المثقفين، من أفراد ينظرون إلى أنفسهم، كمثقفين عضويين مرتبطين في قضايا مجتمعاتهم، وراغبين في تغيير أوضاعها نحو التقدم والعلمانية والعدالة الاجتماعية، إلى مدبجي بيانات لا أكثر وفاقدين للفاعلية.

وللتحول هذا، أسباب تتعلق بطبيعة الأنظمة التي قمعت الأصوات المعارضة لها بالسجن والترهيب واحتكار المنابر، وأسباب تتعلق بالمثقفين أنفسهم، إذ انهارات الأيديولوجيات التي يؤمنون بها، والمؤسسات التي شكلت روافع لها لا سيما الأحزاب، فبدا البيان، تعويضاً عن قمع السلطة ومكابرة وعدم الاعتراف بتراجع دور المثقف، وقالباً جديداً، يحل محل البيان الحزبي الذي كان يصدر في السبعينات والثمانينات. وهذا ما يفسر أن معظم البيانات الحالية، تطغى عليها لغة إنشائية تكرارية تنطلق من بدهيات ويطغى عليها الطوبى، إذ تفتقر إلى طرح مقاربات وتقديم حلول سياسية، وتكتفي بالموقف والدعوة إلى التغيير.

البيان قبل الربيع العربي، كان موضوعه قضايا واضحة شديدة التبسيط ويتوجه لخصم محدد سواء كان نظاماً أو احتلالاً، لكن الآن باتت القضايا معقدة، في ظل انتفاضات امتزجت مع حروب أهلية وصعود قوى إسلامية راديكالية، وتدخلات خارجية.

كما تنعكس آليات العمل الحزبي على طريقة كتابة البيان، ففي حين أن بعض البيانات يكتب بشكل ديموقراطي حين يتناقله الموقعون عليه ويضيفون فقرة من هنا ويعترضون على فقرة من هناك، للتوصل إلى صيغة توافقية ترضي أوسع شريحة من المشاركين، فإن معظم البيانات الأخرى يكتبها شخص واحد، ثم يتم تدويرها على المثقفين ليوقعوا عليها، أو توضع على صفحة فايسبوكية ما، على طريقة الاستفتاءات. ما يجعلنا حيال رأي واحد، تم التصويت عليه، وهو ليس رأياً مركباً تم تجميع جزئياته، وصوغها انطلاقاً من التعدد والاختلاف. عدا أن البيان في هذا السياق، يحيل إلى حالة عشائرية، تسير برأي المدبّج الأول، عبر وضع الاسم والتوقيع. وبهذا المعنى، البيان يخلق رأياً مستوياً لا يقبل التمايزات، في مفارقة تضعه في مستوى النقيض لوظيفته، أي، مواجهة الرأي الواحد للأنظمة وتظهير ما يخالفها.

والحال، فإن المشروعية السابقة للبيان المتعلقة باحتكار الأنظمة، تغيرت مع الربيع العربي، الذي على رغم إخفاقاته السياسية، لكنه سمح بإنتاج وسائل للرأي واسعة ومتعددة، تبدأ من اللافتة الذكية في التظاهرات مروراً بالتغريدة و”البوست”، وصولاً إلى الفيديو المصور، بات الفرد يستطيع أن يبدي رأيه، عبر وسائط كثيرة من دون أن يزج بنفسه في بيان جماعاتي عام، لا يراعي خصوصية المقاربات الفردية.

عدا أن البيان قبل الربيع العربي، كان موضوعه قضايا واضحة شديدة التبسيط ويتوجه لخصم محدد سواء كان نظاماً أو احتلالاً، لكن الآن باتت القضايا معقدة، في ظل انتفاضات امتزجت مع حروب أهلية وصعود قوى إسلامية راديكالية، وتدخلات خارجية، ما يجعل من الصعب بناء رأي موحد حول كل ذلك، لدرجة أنه قد يقع الاختلاف على جزئية بسيطة، وتتعدد المقاربات حولها.

وعليه، البيانات، قاصرة عن الإحاطة بتعقيد الأوضاع، حتى بما يخص الموقف، فضلاً عن كونها استكمالا للسلوك الحزبي لدى بعض المثقفين المقتنعين باستمرار وهم الأدوار السابقة، عبر قوالب مختلفة، وسط زمن القضايا المعقدة، حيث لكل مثقف بيانه الخاص، وربما، يعاني حتى في بلورته.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى