تحت خط الفقر السوري..ما قيمة القراءة؟ أو قرصنة كتاب؟/ أدهم حنا
يتضاءل عدد المكتبات في سوريا، منذ الخمسينيات نملك هذا الميل لفقد كل ما يبدو مهماً. معالم البلاد وأثرها العمراني الحضاري كان يتلاشى تدريجيّاً، وما بدا راسخاً في الأرض هدمناه؛ لذا لا غرابة في اختفاء المكتبات ومظاهر الثقافة. يختفي ظل المكتبات عن المدن السورية كافّة؛ فقد باتت أقلّ انتشاراً وأهميّة، وبعض المكتبات لا يملك سمة المكتبة بقدر ما يبدو متجراً عادياً؛ فما تبقى هو المتجر، متجر الكتب لا المكتبات.
الثقافة السورية برمّتها باتت تِبعاً لما بدا تافهاً. أمام تجربة الموت الهائلة أصبح كلّ ما كان له قيمة داخل سوريا، بلا معنى. ما هو سوريّ يجد مكانه خارج هذه البلاد؛ لا مكانة للمثقف والكاتب والمترجم هنا، وما تراه في المكتبات –على قلّتها- يمكنك إيجاده في المتجر أيضاً؛ متجرٌ يتابع جيداً ما قد يُباع من كتبٍ مشهورة، وإن كانت تافهة، ثم يأتي بها ليبيعها.
منذ زمن طويل لا قيمة ثقافية حقيقيّة للكتاب في سوريا، البعثيّة الأسدية جعلت الكتاب في حد ذاته بلا قيمة. لم يمنع بشار الأسد إلا القليل من الكتب؛ لم تعد هناك حاجة بعد حكم الأسد الأب، إلى منع الكتب؛ فالشعب قد خضع لعملية تدجين واستلاب فكري مسبقاً. لدى السوري ميل إلى عدم قراءة واقعه أصلاً كمنهج سياسي أو معرفي، فهو يلجأ إلى ما يسمّيه “الفطرة” لتدلّه على ما تبدو فيه البلاد، من بشاعة واتساخ وذل وقهر.
هذا لا يعني أن السوريين لا يقرأون، هناك ميل لدى الشباب الذين مازالوا في مقتبل أعمارهم للقراءة، رغم عدم أهمية الكتاب كظاهرة اجتماعية ذات قيمة. بمعنى آخر وعلى طريقة هايدغر، لا يُحال الكتاب إلى معنى اجتماعي مثلاً، فالقراءة والكتب والثقافة لا تملك حيزاً قيمياً داخل المجتمع. تبدو الثقافة شيئاً غير مستخدم اجتماعياً. والقيمة التي يقدمها الكتاب، تُعدُّ خصوصية ذاتية بالمعنى الأدق، وليست معياراً لتخارج الشخص عن المجتمع، أو لمشروع بحثي اجتماعي قيمي.
الحرب بين دمشق وحلب واللاذقية وحمص
طغت القراءة الأدبية على عموم الشباب. دور النشر السورية، منذ بداية الثورة، نشطت نحو الخارج. هذا ميل عرفناه من كمية الكتب التي يعرضها الناشرون السوريون في دول الخليج أو العراق مثلاً، وعزوفهم عن توزيع كتبهم المطبوعة داخل سوريا، في مدنها؛ إذ يوضع سعر الكتاب بالدولار، ما يمنح الدار أرباحاً مضاعفة من أسواق الخليج، أو حتى من الأسواق الأوروبية التي يحاولون الوصول إليها عبر بيروت. وهذا ما جعل الكتاب المُنتج سوريّاً مستحيل البيع في الداخل. ودرجت نزعة متعجرفة لدى الناشر السوريّ، في تسعير الكتاب ورفض إعطاء المكتبات سعراً معقولاً ليستطيع أصحاب المكتبات بيعه، أو ليتمكّن القارئ السوري من شرائه.
تشتعل حرب بين دمشق وحلب واللاذقية وحمص على الكتاب، منذ بداية العام 2014، غرقت السوق السورية بالمطابع الحبرية الحديثة، فسرقت آلاف الكتب؛ أي طُبعت من دون حقوق بأغلفة وأوراق جيدة؛ أمين معلوف، إليف شافاق، هادي العلوي، علي الوردي، ومئات الكتاب الأخرى المنسوخة أو المقرصنة، بأسعارٍ لا تتجاوز تكلفة الورق والحبر والغلاف، وهامش ربح ضئيل. إلا أن هذا الصراع بات مأساوياً؛ فالملاحقات القانونية غير واردة بخروج سوريا من العالم الملتزم بالقانون أو المحترم للحقوق. وما يُمسى قرصنةً للكتاب، بات أمراً شائعاً عاديّاً. في وسط دمشق وشوارعها تقوم مطابع بطباعة أي كتاب يصلها إلكترونياً، مع مراعاة جودة الورق والغلاف؛ فلا غرابة أن يبدو الكتاب بهيئة أفضل من الهيئة التي صدر بها في دار النشر الأصلية. تنشأ هنا جريمة يُختَلف عليها أخلاقياً، في المعنى والحق وقانونية هذه الأفعال، وحتى الأجر المالي الذي يستحقه الكاتب أو المترجم أو الناشر. لكن كلّ هذه الأمور لا تخضع لنقاش أو محاكمة أخلاقيّة حتى؛، فالأهم في هذه البلاد أن تملك أدنى أشكال الحياة ومقوّماتها الضرورية، التي لا يشملها الكتاب طبعاً.
من الصعب أن يكون الكتاب أمراً جيداً للاقتناء بعد اليوم؛ لأنّ سعر أرخص رواية من دار سورية، بلغ ستة آلاف ليرة سورية، والكتاب مسروق الحقوق سعره خمسة آلاف ليرة سورية كحدٍّ أدنى؛ أي ما يقارب خُمس مرتّب الموظف السوريّ. فماذا عن الشباب الجامعي؟ لوقت طويل احتفى خلاله بالكتاب، لجأ السوري إلى الرواية التي تمتعت بطلب عالٍ، لكن من يسوّق للكتاب الآن؟ في فورة الكتب المقرصنة والمنسوخة، تولى هذه المهمة مهنيون محترفون، يطبعون الكتب ويغرقون السوق بها. انفكاك المثقف والكاتب وعراقة دار النشر عن النوعية أو قيمة الكتاب؛ جعل روايات مترجمة قليلة الأهمية والجودة تنتشر بين السوريين، ورغم أن بعض العناوين الكلاسيكية مازال مرغوباً وتعاد طباعته، إلا أن هذا يبدو أيضاً مؤشراً سلبياً على مستقبل الكتابة والقراءة في سوريا، فضلاً عن سقوط دَور الكتاب في حد ذاته بعد ثقافة المنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الأخطر أنّ سوريا ما عادت تملك مشروعاً للنشر؛ تعاد ترجمات وتظهر ترجمات جديدة، لكن كل هذا في ظل فوضى محمومة، هدفها التصدير إلى دول الخليج، من دون أي اعتبار للقارئ السوريّ. بعض الدور خصص كتباً لتباع بالليرة السوريّة أو بسعرٍ مخصص للسوريين لبعض الوقت، إلا أن ذلك لم يسعف السوريين من غلاء السعر.
لا فرويد ولا سبينوزا ولا العروي
ولا تُطبع كتب الشعر أبداً، مئات النصوص المكتوبة في فايسبوك ترضي غرور الشاعر وتكفيه. فدُور النشر السورية تجاهلت طباعة كتب الشعر إلا في ما ندر، وليس غريباً اختفاء الكتابة المسرحيّة ودور المسرح في الثقافة السوريّة أيضاً. وببحثٍ استقصائي قمنا به، لم نجد كتاباً مسرحياً واحداً لكاتب سوري، نُشر منذ سبع سنوات، أما كتب الشعر فتُنشر بكميات محدودة وغالباً ما تكون على نفقة الشاعر نفسه. بات العائد الربحي من الخليج ولبنان، هو ملجأ أصحاب الدُّور السورية للعيش.
والأخطر بعد، كان تغير طبيعة القارئ السوري الشاب، رغماً عنه، فلا كتب متنوعة في الأسواق، وقد فشل الكتاب الإلكتروني في التسويق لنفسه أيضاً. صلات الإنسان بالأجهزة الحديثة ترتبط بالعلاقات الاجتماعية في غالب الظن، أكثر من ارتباطها بالقراءة ورسم الخط المعرفي للقراءة. سيطرة التجار على طباعة الكتاب المسروق، جعلهم أسياداً على الثقافة السورية، وما تتيحه الصفحات الصفراء عن الكتب هو ما يُطبع داخل سوريا بصورة عشوائية، من دون الاهتمام ببناء خط معرفي للقراءة. ما يبدو قاسياً أن أصحاب المكتبات، خلال سنين الحرب، ندموا لأنهم باعوا كل الكتب الأصلية التي يملكونها بأسعار بخسة. الآن، آلاف العناوين التي وصلت إلى رفوف مكتبات القرّاء لن تعود، وأصحاب المكتبات يخاطبون أصحاب المطابع ومقرصني الكتب، لا أصحاب دور النشر الأصلية. تخلو المكتبات السورية إلا مما يبدو يومياً من دون أي انعكاس اجتماعي أو سياسي أو شخصي حتى. فلن تجد في سوريا كتب فرويد، هيغل، ماركس، سيبنوزا، أو عبد الله العروي أو حسين مروة. لن يجد الشباب إلا ما يبدو متاحاً وإن لم يحمل أي معنى أو أهمية. من جهة ثانية يفرض الواقع المعيشي نفسه؛ فلن يتنازل السوريّ عن بضعة آلاف ليرة لشراء كتاب، بدلاً من شراء حليبٍ لأطفاله. وبعدما أصبح أكثر من ثمانين في المئة من السوريين تحت خط الفقر، ما قيمة أن يقرأ السوريّ كتاباً؟ أو حتى أن يسرق صاحب المطبعة كتاباً؟
المدن