تحت رحمة سلطة تكرههم… يناضل الأطفال السوريون في لبنان للتعلّم/ مها شعيب
كثيراً ما تستخدم وكالات الأمم المتحدة مصطلح “الفئات المستضعفة” لوصف اللاجئين. ومع ذلك، فإنها تزيد من ضعفهم من خلال وضع آليات مبهمة مع السلطات اللبنانية في ما يتعلق بالمستقبل الدراسي والأكاديمي للأطفال السوريين.
يعتبر التعليم حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، كفلته الأمم المتحدة ومعظم الحكومات في أنحاء العالم، ومنها الجمهورية اللبنانية. إلا أن هدف أحمد (17 سنة)، وهو طفل سوري لاجئ في لبنان، وحقه في مواصلة تعليمه قضت عليهما الحكومة اللبنانية بمعونة وكالات الأمم المتحدة البائسة وتدخلاتها على مستوى السياسات. تنص اللوائح اللبنانية على أن الطلاب الذين يتقدمون لامتحانات الصفين التاسع الأساسي والثالث الثانوي لا بد أن تكون لديهم إقامة صالحة أو جواز سفر سارٍ ومختوم. أحمد في الصف الأساسي التاسع، ولا يمكنه توفير أيٍّ من هذين المستندَين، ونتيجة لهذا حرم من حقه في التسجيل والالتحاق بالمدرسة. يقدر عدد اللاجئين السوريين في لبنان بحوالى مليون ونصف المليون، منهم 879529 مسجلين في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين. وحوالى 78 في المئة من اللاجئين السوريين المسجلين (فوق سن 15 عاماً) لم تكن لديهم في 2019 تصاريح إقامة قانونية. من بين الأسباب الرئيسية لعدم حصولهم على إقامة تلك التكلفة الكبيرة لتجديدها، والتي تساوي ما يعادل 300 دولار أميركي (450 ألف ليرة لبنانية) للفرد في العام؛ وتتضاعف تلك التكلفة إذا ظلّ المرء مدة شهرين من دون الحصول على إقامة. بالنسبة إلى الحصول على جواز سفر من السفارة السورية في لبنان، فإن تكلفة جواز السفر تصل إلى 325 دولاراً، بينما متوسط الدخل الشهري للأسرة الواحدة من اللاجئين السوريين يصل إلى 267 دولاراً (نحو 400 ألف ليرة لبنانية). من غير المفاجئ إذاً ألا تملك أحمد وكثيرون من زملائه خياراً سوى ترك المدرسة لعجزهم عن تحمّل كلفتها. أرسل أحمد رسالة يقول فيها “قررت ترك المدرسة هذا العام، بداية لشعوري بكوني عبئاً، وثانياً لشعوري بأني أسعى جاهداً بلا جدوى”.
78
%
من اللاجئين السوريين المسجلين (فوق سن 15 عاماً) لم تكن لديهم في 2019 تصاريح إقامة قانونية.
أحمد ليس سوى واحد من 250 ألف طفل سوري ملتحقين بالمدارس الحكومية في لبنان. حين تستمع إلى قصته، تدرك كم عانى وكافح طوال سنوات. ولكن بدلاً من دعمه ساهمت المنظومة التعليمية في سحقه وتحطيمه. كان سنّ أحمد سبع سنوات حين فرّ من أتون الحرب في سوريا، وناضل للالتحاق بالمدرسة في لبنان. ساعدته عزيمته على التسجيل في الصف الأساسي السادس، مع أنه كان أكبر من رفاقه بالصف. يلتحق معظم هؤلاء الأطفال (60 في المئة) بدوام ثانٍ في المدارس الحكومية التي أعدتها لهم خصيصاً الحكومة اللبنانية ووكالات الأمم المتحدة، بتمويل من المجتمع الدولي. وحتى اليوم، أُنفق أكثر من 300 مليون دولار أميركي على هذا البرنامج.
إن التحديات التي يواجهها أحمد ورفاقه للوصول إلى سبل التعليم في لبنان لهي تحديات هائلة. من بين تلك التحديات، على سبيل المثال لا الحصر، إيجاد مكان في المقام الأول، إضافة إلى التمييز وانخفاض جودة التعليم خلال الفترات الثانية، فضلاً عن القيود المفروضة على استخدام المساحات والمرافق المدرسية (كالمراحيض ولوحات الإعلانات والمرافق الرياضية)، ولغة الامتحانات، علاوة على الوثائق والمستندات المطلوبة. وفقاً لإحصاءات وزارة التربية والتعليم العالي اللبنانية، هناك أقل من 1 في المئة يستطيعون المواصلة حتى الصف الأساسي التاسع. وأحمد ليس من هؤلاء الـ1 في المئة.
وبينما تجري وكالات الأمم المتحدة دراساتها لتحديد سبب عدم استمرار الطلاب السوريين في المدارس، فإن من الأسباب الواضحة التي تبرز سنوياً قبيل الامتحانات هي متطلب الإقامة/ جواز السفر للطلاب غير اللبنانيين. في الأعوام الماضية كان بعض مديري المدارس متسامحين وأتاحوا للطلاب الالتحاق بالمدرسة، وإن كانوا غير مسجلين رسمياً، أملاً بإصدار وزارة التربية والتعليم العالي “التماساً” في اللحظات الأخيرة. هذا الوضع الغامض، حيث يتوقف مستقبل مئات الطلاب على رأفة المدير أو التماس اللحظة الأخيرة، سيُغضب أي طالب أو ولي أمره في أي مكان من العالم. غير أن وكالات الأمم المتحدة غضت الطرف وسمحت باستمرار هذا الوضع سنوياً، ما عرّض مستقبل أطفال كثيرين للخطر، وتسبب لهم في كثير من التوتر وأثقل كاهلهم بمزيد من التكاليف الهائلة.
على مدى العشر سنوات الأخيرة، جمعت اليونيسف والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مئات الملايين من الدولارات لإقامة برنامج تعليمي للأطفال السوريين في إطار منظومة المدارس الحكومية اللبنانية. وقد وُضع البرنامج بالتعاون مع الحكومة اللبنانية. ومن ثم، ربما نستطيع أن نفترض أن ضمان الانتقال السلس سيكون شرطاً أساسياً لهذا البرنامج باهظ التكلفة. ومما يدعو إلى الشعور بمزيد من القلق هو أن وكالات الأمم المتحدة تضلل آلاف الأطفال وأسرهم من خلال وعدهم بتعليم لا يخضع لأي قيود بسبب الوثائق. فقد صدرت عن وكالات الأمم المتحدة وثيقةٌ مرجعيّة تتضمن أسئلة وأجوبة، وتنص المادة 10 ص 13 الخاصة بالتسجيل، على أن الطلاب غير اللبنانيين “في الصفين الأساسي التاسع والثانوي الثالث الخضوع للامتحانات الرسمية اللبنانية… حتى وإن لم يمتلكوا الوثائق والمستندات المطلوبة”. بيد أن واقع تجربة أحمد، التي أكدها الطلبة الآخرون ومديرو المدارس الذين أجرينا معهم مقابلات، تكشف عن أن وزارة التربية والتعليم العالي لا تسمح بتسجيل الأطفال السوريين بدون الوثائق المطلوبة، وتمنع العديد منهم من الحضور.
كثيراً ما تستخدم وكالات الأمم المتحدة مصطلح “الفئات المستضعفة” لوصف اللاجئين. ومع ذلك، فإنها تزيد من ضعفهم من خلال وضع آليات مبهمة مع السلطات اللبنانية في ما يتعلق بالمستقبل الدراسي والأكاديمي للأطفال السوريين. إذ يتركونهم تحت رحمة القوانين اللبنانية القائمة على التمييز، ويفرضون عليهم مرتبة أدنى وهم ينتظرون الموافقة- بعيدة المنال- على طلب بالمن عليهم لاستئناف دراستهم. وبينما يسمح عدد قليل من مديري المدارس للطلاب السوريين غير المسجلين بحضور الفصول الدراسية آملين بمنحهم هذا “الاستثناء”، يُفضّل آخرون النأي بأنفسهم عن هذه المشكلات. يصف أحد مديري المدارس الخاصة- الممولة من إحدى المؤسسات الخيرية- الوضعَ قائلاً “عليك أن تعيش في حالة ترقب وقلق مستمرَّين، على أمل أن تسمح لهم الحكومة أو ينتهوا من الحصول على أوراق التسجيل. وإذا كان الآباء غير قادرين على ذلك، يكون الطلاب دائماً غير متأكدين إن كان سيسمح لهم بأداء الامتحانات”.
عندما عصفت جائحة “كورونا” ببلادنا، وتسببت في إغلاق مدارسنا ومكوث أطفالنا في المنزل، شعر جميع الآباء أن مستقبل أطفالهم على المحكّ. وبينما دفعتنا مواجهة فايروس غير مرئي -لا يمكننا أن نعقله أو نتفهمه- إلى الجنون، أتساءل كيف يشعر أحمد وأقرانه حول كل تلك القرارات السيئة التي اتخذها أولئك المسؤولون عن حماية وضمان حقهم في التعليم؟ في حديث أجري معه راهناً، أثنى فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، على المبادرات الإنسانية لزيادة معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي إلى 77 في المئة على مدى العقد الماضي. والواقع أن التعليم الإنساني منح اللاجئين الأمل بالحصول على تعليم جيد ومستقبل أفضل، بيد أنه، نظراً إلى استثمار اليونيسف والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في خطط غير مكتملة في لبنان، لا يستطيع اللاجئون الآن أن يأملوا بالحصول على أكثر من التعليم الابتدائي والالتحاق ببرامج محو الأمية. وبصفتي باحثة أعمل في هذا المضمار على مدى العقد الماضي، كان أكبر مخاوفي أن يكون سقف التعليم في السياق الإنساني هو محو الأمية فقط.
ولكن عند رؤية مستقبل أحمد على المحك، فإن مخاوفي تتحقق. إلا أن أحمد يذكّرنا في رسالة نصية تقول “إذا فقدت الأمل، يمكنكم أن تدعموني (يقصد فريق البحث)، ولكن بالنسبة إليهم (أقراني)، كل شيء ضدهم. فلا يوجد مَن يدعمهم ويقوّي عضُدَهم”. يدير أحمد حالياً مدرسته التطوعية للأطفال غير المسجلين في المدارس، في أحد المخيمات في سهل البقاع شرق لبنان. معلناً أن “أي شخص مرحب به من دون قيود أو شروط بشأن الوثائق”.
– مديرة المركز اللبناني للدراسات في الجامعة اللبنانية الأميركية
درج