شمال شرقي سوريا: اعتقال للمدرّسين وفصل عنصريّ للطلاب!/ بشير أمين
المدرسون المعتقلون لدى الإدارة الذاتية اليوم هم ضحية رفضهم أيديولوجية الإدارة الذاتية وحزبها، وضحية جموح سياسي لمجلس غرب كردستان في صراعه مع المجلس الوطني الكردي.
“تعمدنا الوصول باكراً إلى دروس الرياضيات لنتمكن من كسب بعض الوقت ولعب مباراة كرة طاولة (بينغ بونغ) مع الأستاذ طالب أسعد في المدرسة المجاورة لتمثال حافظ الأسد المحطم. في عامودا المنسية شمال شرقي سوريا كان الأستاذ طالب لا يزال يدرّس بنهم مادة الرياضيات. يشترط أنّ يشتري الخاسر بسكويت للآخر: نلعب ونلهث ويربح هو، ثم يرفض أن نشتري فيعطينا بإصرار بعض النقود لنشتري بسكويت، وما زال متسع من الوقت لنقاش سياسي حاد حول الفيدرالية وإمكانيتها في سوريا؛ نختلف ونرفع أصواتنا ويبقى هو هادئاً يسمعنا حتى يحين وقت الدرس. كان ذلك قبل 8 سنوات وأكثر. أمّا اليوم فالأستاذ طالب معتقل لدى قوات الإدارة الذاتية ليس بسبب نقاش سياسي ما، وإنما لأنه يدرّس الرياضيات، يقوم بمهنته”، هذا ما رواه لنا أحد التلامذة في مدرسة في شمال شرقي سوريا، حيث نفوذ الإدارة الذاتية الكردية.
اعتقلت قوات الإدارة الذاتية في الفترة الأخيرة عدداً من مدرسي مدينة عامودا وتلت ذلك حملة اعتقالات طاولت عدداً من مدرسي مدينة “كركي لكي” التي سبقتها بأيام اعتقالات مشابهة في مدينة الدرباسية والتهمة واحدة: تدريس المناهج الرسمية (مناهج الدولة- النظام) وتهمة خرق قانونٍ لا يسمح بتدريس أي مناهج سوى تلك التي وضعتها الإدارة الذاتية، وإن في دورات خاصة. تضع الإدارة وإعلامها الخبر في إطار جدل حول “كردية” هوية المناهج تلك، ورفض المدرسين المعتقلين لها، لتبدو المسألة وكأن المدرسين ترفضون تدريس مناهج كُتبت للمرة الأولى بلغتهم الأم- الكردية. لكن الأمر هنا يَعْبُر مسألة اللغات، لأن مناهج الإدارة الذاتية نفسها مكتوبة بالعربية إلى جانب الكردية، إنما هناك دلالات كثيرة توّضح الحرب الأيديولوجية التي تخوضها الإدارة الذاتية، واستماتتها من أجل الإبقاء على مناهج مؤلفوها غير معروفين… إذ لا نعرف سوى بعض المعلومات الواردة في صفحاتها الأولى تحمل توقيع “لجنة المنهاج” وبتعديل “لجنة الفوتوشوب”.
أصدرت الإدارة الذاتية مناهجَ متعددة اللغات لتناسب مكونات شرق سوريا، العربية والكردية والسُريانية. لا تهم الإدارة الذاتية مسألة لغة المناهج العربية (مناهج الدولة) التي تُدرّس فهي بالأساس طبعت مناهجها باللغتين العربية والكردية، إضافة الى وجود العروبة كركيزة أساسية في بناء “الأمة الديموقراطية”، ولو إعلامياً. لكن لها مشكلة مع تدريس مناهج مختلفة عن مناهجها في دورات خاصة، وليس فقط مناهج النظام. ويقول المجلس الوطني الكردي إنه طالب بحلولٍ مختلفة ووسطية رفضتها الإدارة الذاتية. ليست مناهج النظام “بعثية النهج” وحدها مرفوضة وإنما مناهج اليونيسيف أيضا كحل بديل ووسطي، طُرح خلال المفاوضات الكردية- الكردية تحت الرعاية الأميركية. بالنسبة إلى الإداراة الذاتية، الموضوع يتعلق بضرورة تدريس المناهج التي تمثل أيديولوجيتها هي حصراً، وبالتالي قرار الإدارة الذاتية بمنع مناهج النظام لا يأتي من منطلق الحفاظ على اللغة الكردية كما يتم الترويج له بقدر ما هو منطلق حزبي شمولي: يأتي من خلال حرصها على احتكار المعرفة من خلال مناهجها.
هناك كتابان لمادة التاريخ في مناهج الإدارة الذاتية، منهاج للكرد ومنهاج آخر للعرب. النسخة الكردية تقدم تاريخاً مختلفاً، يركز في معظمه على حركات التحرر العالمية، الثورات الاشتراكية والكردية، حيث صور غاندي ومانديلا وغيفارا على غلاف الكتاب بعكس النسخة العربية التي تتناول تاريخ المنطقة “تاريخ العرب” مغلفاً الكتاب بصور ثوار ما يُعرف “بالثورة السورية الكبرى”. دلالات عديدة وأبعاد سياسية هامة توضح الحرب الأيديولوجية التي تخوضها الإدارة الذاتية. فما يجب أن يتعلمه الطالب الكردي يختلف عمّا يجب أن يتلقاه العربي.
تبحث الإدارة الذاتية عن سيطرة كاملة على عقول من تبقى من أجيال من خلال مناهجها التعليمية. ولستُ هنا بصدد مناقشة علمية لما تحويه هذه المناهج، فهي تحتاج مقالات ومواد كثيرة، لكنني أركز على كونه أداة أيديولوجية أوجلانية تود الإدارة الذاتية استخدامها. يبدأ كتاب جنولوجيا (علم المرأة)، مثلاً،ـ للصف الأول الثانوي من مناهج الإدارة الذاتية لشرق سوريا وشمالها بتعريف “علم المرأة” بحسب رؤية عبدالله أوجلان منظّر “حزب العمال الكردستاني” والمعتقل لدى تركيا منذ أواخر القرن المنصرم. ويسترسل الكتاب في تعريفات وشرح رؤية أوجلان لوظيفة المرأة ومكانتها في المجتمع. أما كتاب التاريخ لطلبة الثانوي الثالث، فيحوي مقتطفات من حضارات المنطقة والعالم المختلفة معزياً معظم مشكلات المنطقة إلى الاحتلال العثماني قبل نحو 500 عام، ويربط حتى الانتدابات الأوروبية بذلك أيضاً. هذه الطروحات غير الموضوعية حول أفكارٍ كلٌّ منها حقل أكاديمي مستقل ولا تزال أكاديميات العالم تسخّر باحثيها لأجل البحث عن إجابات حولها، تأتي الإدارة الذاتية لتلقن الطلبة إجاباتها الأحادية المطلقة.
للمسألة جوانب تقنية كثيرة أيضاً، بعيداً من الأيديولوجيا الأوجلانية، تؤثر سلباً حتى في الطلاب المؤمنين بفكرها. حَملة شهادة البكلوريا من هذه المناهج لن يكون بوسعهم الانضمام إلى أي جامعات سورية، ولا خارج سوريا أيضاً بالطبع، فالمناهج غير معترف بها. خيارهم الوحيد هو “جامعة روجآفا” محدودة الموارد والفروع والتي لا تختلف طريقة تأسيسها، لناحية التسرّع وغياب المهنية، عن طريقة كتابة هذه المناهج.
الأمر المثير للريبة والأسئلة، هو أن الفصل العنصري المبرر بأفعال لا منطقية، تحوّل إلى فعل عابر في زخم الواقع المزري على ما يبدو. في مدينة مثل عامودا يشكل الكُرد نسبة ساحقة من سكانها تتبنى فيها كلّ المدارس المناهج المكتوبة بالكردية، التي تسبب مشكلة للطلاب العرب وهم الأقلية. فارتأت الإدارة الذاتية تشكيل شُعب خاصة للعرب داخل كل مدرسة يتولى مدّرس يجيد العربية تدريسهم على حدة. وهو فصلٌ على أساس الأصول واللغة يعزلهم عن زملائهم لأنهم مختلفين عن “الغالبية”. فأي مشاعر مضادة ستُبنى لدى هؤلاء الأطفال؟
المدرسون المعتقلون لدى الإدارة الذاتية اليوم هم ضحية رفضهم أيديولوجية الإدارة الذاتية وحزبها، وضحية جموح سياسي لمجلس غرب كردستان في صراعه مع المجلس الوطني الكردي. اعتقال المدرسين أولاً رسالة سياسية للمجلس الوطني الكردي بأن المناهج الدراسية خارج المفاوضات؛ وهو تتويج لاحتكار الإدارة أي ايديولوجيا في المنطقة ثانياً. وثالثاً هو تأكيد لسيطرة الاتحاد الديموقراطي المحكمة وشلّها أي حركة سياسية خلال السنوات الماضية، والتي تظهر جلياً اليوم في عدم قدرة الشارع على المطالبة بمعتقليه. مسألة المناهج من جهة ومسألة الاحتكار الأيديولوجي من جهة أخرى، تشكلان مواضيع بحث واسعة وتستوجب الوقوف عندها ملياً في وقت لاحق، بعد ضرورة إطلاق سراح المدرسين.
درج