تحقيقات

مازن الحمادة الذي فضح بشار الأسد… عودة إلى دورة العذاب

مازن حمادة.. عذّب بشكل “وحشي” في سوريا ثم عاد إليها لسبب غامض

واشنطن بوست- ترجمة: ربى خدام الجامع

بجسده الهزيل وتعابير وجهه الحزينة ودموعه الغزيرة، تحول مازن حمادة إلى رمز لمعاناة ضحايا التعذيب في سوريا، إذ بعدما هرب من سوريا إلى هولندا، أخذ يسافر في طول البلاد وعرضها، ويحكي قصصاً مرعبة تعرض لها في أحد السجون بدمشق أمام جمهور سمعه في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا.

ولكن بعد كل هذا، ولسبب خفي وغامض، لعله الرغبة بالانتحار، عاد إلى سوريا قبل عام، ليتعرض من جديد لوحشية النظام الذي انتقده بشدة.

اختفى مازن منذ ذلك الحين، تاركاً أصدقاءه وعائلته يعيشون في ألم وهم يفكرون في السبب الذي دفع الشاب الذي عاش تجربة مريرة بالعودة إلى حضن جلاديه، وأكثر ما يخشونه هو أن يعيش كابوساً جديداً داخل منظومة السجون في سوريا.

هل كان سلوكه الغريب يعبر عن صدمة دفعته لاتخاذ قرارات غير منطقية؟ أم أن هنالك من أغراه بالعودة إلى سوريا من المؤيدين للنظام الساعين لإسكات شاهد على جرائم الحرب حسب الشكوك التي أثارها من يعرفون مازن؟

أم أنه بكل بساطة تحرر من وهم الحياة في الغرب ولهذا بات على استعداد للمخاطرة بحياته والعودة إلى بلاده؟ وهل خلق عدم اكتراث العالم وعدم سعيه لوقف سفك الدماء إحساساً لديه بأن بلاده ومحنتها قد تعرضت للخيانة؟

تصب تلك الإجابات في قلب مأساة سوريا، ذلك البلد الجميل المعذب، الذي فشلت فيه الاحتجاجات السلمية ضمن موجة الربيع العربي فشلاً ذريعاً وكارثياً قبل عقد من الزمان. إذ تكشف المقابلات التي أجريت مع معارف مازن والشهادات التي تركها صورة لشاب يتعذب بشكل كبير بسبب الفظائع التي عاشها لدرجة أنه لم يعد يستطيع أن يتكيف مع حياته الجديدة في أوروبا، أو حتى يتقبل فكرة عدم وجود قصاص أو قيام محاسبة أو عدالة تجاه المعاناة التي عاشها.

نشوة القيام ضد النظام

عندما ثار السوريون في عام 2011، كان مازن الذي كان حينها في الثالثة والثلاثين من عمره يعمل فنياً في مجال النفط بالقرب مسقط رأسه شرقي محافظة دير الزور. كان السوريون حينها قد استلهموا فكرة إسقاط الرئيس من تونس ومصر وهكذا نزل الشعب إلى الشوارع في مختلف أنحاء البلاد للمطالبة بخلع بشار الأسد الذي حكمت أسرته سوريا لأكثر من أربعة عقود حينها.

اجتاحت نشوة الثورة مازن في ذلك الحين، ففي المقابلات التي أجريت معه فيما بعد، كانت عيناه تشعان بنور يكشف عن سعادة فريدة وهو يصف الأيام الأولى للاحتجاجات السلمية التي كانت مفعمة بالحماسة والنشوة، حيث قال: “عندما ترى المظاهرات، يطير قلبك من الفرح، أقسم ألا أحد كان يصدق حدوث ذلك” هذا ما ذكره مازن في مقابلة أجرتها معه سارة أفشار، مخرجة الفيلم الوثائقي: “المختفون قسرياً في سوريا” الذي صدر في عام 2016.

لقد أثارت النشاطات التي قام بها مازن في سوريا بوصفه متظاهراً ومواطناً صحفياً أخذ يتحدث إلى المحطات الإخبارية الأجنبية انتباه قوات النظام إليه، تلك القوات التي تلقت تعليمات تقضي باعتقال أي شخص يثبت دعمه للثورة. وهكذا تم اعتقال وسجن الآلاف من الأشخاص الذين شاركوا في المظاهرات السلمية والهدف من ذلك إخماد روح الثورة التي لم يتوقع أحد قيامها في تلك البلاد التي روضها النظام القمعي لعقود من الزمان.

تسبب ذلك باعتقال مازن مرتين ولكن لفترات قصيرة في مدينته دير الزور، قبل انتقاله إلى دمشق في عام 2012، حيث اعتقل هناك مجدداً وعلى الفور، ونقل إلى مقر المخابرات الجوية المخيف في حي المزة، وهناك بدأ الكابوس الذي عاشه.

التصعيد نحو الحرب

تعرضت الثورات التي قامت في عام 2011 في مختلف أنحاء الشرق الأوسط للسحق أو الإخضاع أو تغير المسار، حيث تم إطلاق النار على المتظاهرين، وحبس الناشطين وتعذيبهم، وهكذا ترتبت نتائج عكسية على لحظة الأمل التي عاشتها هذه المنطقة التي يحكمها مستبدون منذ فترة طويلة، بل إن الطغاة أحكموا قبضتهم على العالم العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى.

إلا أن كل البلاد لم تعش ما عاشته سوريا من معاناة، حيث تسبب رد فعل الأسد العنيف تجاه الثورة بظهور دوامة من العنف اجتاحت البلاد التي دخلت أكثر حرب دموية خلال القرن الحادي والعشرين، حيث قامت قوات الأمن بحصد المتظاهرين السلميين واستئصال شأفتهم عبر نيران الرشاشات، وعندما حمل المتظاهرون السلاح وردوا عليهم بالمثل، أتى الجيش بالدبابات والمدفعية التي قصفت المدن والقرى الثائرة بهدف إخضاعها، وبما أن ذلك لم يجد نفعاً، فقد أتت الطائرات الحربية لتسقط براميل متفجرة دمرت أبنية سكنية بكاملها. ومع فشل الغارات الجوية في تحقيق غايتها، استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد المجتمعات المتمردة، وذلك بحسب ما أوردته هيئة الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية.

ثم توقفت الأمم المتحدة عن عد الموتى في عام 2014 بعدما بلغ العدد 400 ألف شخص، كما هرب ستة ملايين شخص من بلدهم، وعبروا الحدود إلى دول الجوار، في حين ما يزال خمسة ملايين نازح يرزحون تحت وطأة ظروف معاشية قاسية، ناهيك عن مليون شخص ركبوا قوارب هشة وعبروا بها المتوسط وصولاً إلى أوروبا، كان بينهم مازن، الذي بدأ رحلته من تركيا إلى اليونان، فإيطاليا، ثم فرنسا، وأخيراً هولندا.

وبعيداً عن عدسات كاميرات المحطات التلفزيونية، تم سوق الآلاف ممن شاركوا في الاحتجاجات إلى معسكرات الاعتقال السورية بطريقة ممنهجة.

ومن بين 145 ألفاً اعتقلوا خلال شهر أيلول من عام 2019، هنالك 128 ألف شخص (أي حوالي 90%) منهم اعتقلهم النظام السوري، بحسب ما أوردته الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي توثق كل حالة اعتقال، في حين اختفى 83 ألفاً دون أن يتركوا أي أثر.

ويعتقد أن معظمهم ماتوا تحت التعذيب أو قتلوا ضمن الإعدامات الميدانية التي وثقتها المنظمات الحقوقية. وقد وصفت منظمة العفو الدولية عمليات القتل بأنها: “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” وقد أجيزت من قبل النظام السوري “على أعلى المستويات”.

بيد أن النظام لم يرد على طلبنا للتعليق عن انتهاكات حقوق الإنسان وعن مكان مازن حمادة.

“لن أرتاح”

بعد وصوله إلى هولندا في عام 2014، انهمك مازن بفضح ونشر فظائع منظومة السجون في سوريا، حيث تواصل مع منظمات دفاع سورية وسافر إلى مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتحدة ليروي تجربته مع تلك المنظومة، كما تحدث إلى صناع القرار في واشنطن وإلى جنرالات في القيادة الأميركية الوسطى بفلوريدا، وإلى طلاب جامعة برينستون، وإلى محققين في مجال حقوق الإنسان، وإلى كثير من الصحفيين.

وصف مازن لكل هؤلاء كيف حفرت السلاسل التي استخدمت لتعليقه من السقف أخاديد في معصميه، وكيف كسر الحراس أضلاعه عندما قفزوا فوق جسده، وكيف أحرقوا جلده بأعقاب السجائر، وكيف كان جسمه يهتز بفعل الصعقات الكهربائية. وعندما كان يصل للحديث عن المشبك الذي وضعوه على عضوه الذكري وكيف تم اغتصابه بواسطة عصا معدنية في ذات الوقت، كان ينهار دوماً، وهذا ما دفع جمهوره في كل مرة للبكاء أيضاً.

وفي تلك اللحظة من التحقيقات استسلم لهم، حيث اعترف لواشنطن بوست في عام 2017 وقال: “عندما بدؤوا بتحريك العصا اعترفت بكل شيء طلبوه مني”.

كان مصمماً على محاسبة النظام السوري على ما اقترفه، ليس فقط من أجل ما تعرض هو له، بل من أجل أولئك الذين رآهم يموتون في السجن أمام عينيه.

أخذت الدموع تنهال كأنهار من عينيه وهو يقول في الفيلم الوثائقي: (المختفون قسرياً في سوريا): “لن أرتاح حتى أراهم إلى المحكمة، حتى ولو دفعت حياتي ثمناً لذلك. سألاحقهم وأحاكمهم، مهما كلفني ذلك”.

دموع كالأنهار

تسببت الدموع الغزيرة التي ذرفها مازن بصدمة لكل من التقى به، وعلى رأسهم عمر أبو ليلى، وهو شاب ديري يعيش في ألمانيا، كان يتواصل مع مازن عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متكرر إلى جانب حضوره لمؤتمر برفقته في عام 2018، وعنه يقول: “أتذكر أنه بكى على المنصة، وعندما خرجنا للاستراحة بكى أيضاً. إن أول شيء بوسعك أن تلاحظه عن مازن هو كثرة بكائه، فهو يتحدث ودموعه تتدفق كالأنهار”.

إلا أن غزارة دموعه اعتبرت دليلاً على تردي حالته النفسية والعقلية، إذ بعيداً عن أعين العامة، لم تكن حياته تسير على ما يرام، فقد كان يعيش بمفرده في شقة محدودة الأثاث بأمستردام قدمتها له الحكومة الهولندية. كان يحضر دروساً باللغة الهولندية، لكنه كان يعاني في تعلم تلك اللغة. وقد لاحظ المقربون منه أنه أصبح يدخن الماريجوانا أكثر فأكثر، بما أنها لا تخالف القانون في هولندا، لكنها باهظة الثمن.

كان أصدقاؤه الذين اتبعوا مسارات مماثلة لمساره يعيشون حالة أفضل من حاله، فقد أمضى كرم الحمد وهو لاجئ أيضاً من دير الزور أمضى أكثر من سنة في سجن دمشق، لكنه نجح في ألمانيا، حيث أسس مشروعاً تجارياً، ثم التقى بفتاة وتزوجها، وخلال هذا الصيف سيبدأ بالدراسة في منحة مقدمة من جامعة ييل.

ويخبرنا كرم بأنه لم يتغلب على الصدمة دون علاج مكثف ومضادات اكتئاب ودعم تلقاه من عائلته وأصدقائه. وبالمقابل، حصل مازن على العلاج في هولندا، لكنه اشتكى لكرم من المعالجين الغربيين الذين لا يتفهمون المعاناة التي عاشها السوريون.

وبالرغم من مرور ست سنوات على إطلاق سراحه، إلا أن مازن لم يستطع التخلي عن عقدة الناجي وإحساسه بالذنب، تلك العقدة التي يحس بها الكثير ممن تجاوزوا مرحلة الصدمة بحسب رأي كرم. إذ خلال آخر لقاء جمعهما في برلين قبل عودة مازن إلى سوريا بفترة قصيرة، يتذكر كرم كيف كان مازن شديد العصبية والانفعال، حيث أخذ يتحدث عن مصير السجناء الذين تركهم وراءه، وكيف كان يحس بأنه مجبر على القيام بشيء ما لإنقاذهم.

ويصف لنا كرم طريقة كلام مازن وحديثه الذي يعبر بشكل واضح عن إحساسه بالضياع فيقول: “كان ضعيفاً، ولهذا سألت نفسي: متى سينتحر هذا الشاب؟ وذلك لأني شعرت أنه لم يكن يفصل بينه وبين الانتحار سوى شعرة”.

أما عمر الشغري الذي أمضى ثلاث سنوات وهو يتعذب في سجون الأسد قبل أن يسافر إلى السويد، فقد التقى بمازن خلال الزيارات التي قام بها كلاهما للولايات المتحدة. وقد حقق عمر نجاحاً منذ أن وصل إلى أوروبا في عام 2015 عندما لم يكن عمره يتجاوز العشرين، حيث تعلم ثلاث لغات، كما أنه سيبدأ الدراسة خلال هذه السنة للحصول على شهادة جامعية من جامعة جورج تاون.

وعن ذلك يقول عمر بأن تلك الفرصة ألهمته ليبدأ حياة جديدة، أما مازن الذي يكبره بعشرين عام تقريباً، فقد بدا عاجزاً عن تحقيق أي تقدم، وعنه يخبرنا عمر فيقول: “استعنت بالصدمة التي تعرضت لها كدافع محرك، أما مازن فقد اعتمد على صدمته ليزيد من اكتئابه أكثر فأكثر. إذ بالنسبة لمازن كانت كل الأمور تسير نحو الأسوأ، ولهذا انعزل وبقي وحيداً، إذ عزل نفسه لأنه شعر بعدم وجود من يهتم بأمره”.

“أريد أن أعود”

لقد زادت المصاعب التي عاشها مازن بسبب عدم وصول قضيته إلى حل، حيث واصلت قوات النظام استرجاعها لمساحات شاسعة من البلاد بعدما كانت بيد الثوار طيلة السنوات الأولى للحرب. كما أن صناع القرار في الدول الغربية الذين تأمل منهم أن يؤثروا على مجرى الأمور، ركزوا بشكل أكبر على محاربة تنظيم الدولة أكثر من مناهضتهم لتمسك الأسد بالسلطة.

وهكذا أخذ مازن يشتكي أكثر فأكثر إلى أصدقائه من أن سرده لقصته لم يكن سوى مضيعة للوقت، كما أن الدموع التي ذرفها الجمهور لم تترجم إلى جهود ملموسة للانتصار للضحايا. ولهذا أحس بضغط كبير واستغلال من قبل المنظمات التي دعته للظهور في مناسباتها.

وبما أنه عربي من محافظة دير الزور ذات الغالبية العربية، لذا فقد بدأ يشتكي أيضاً من تمدد القوات الكردية في تلك المنطقة بما أنها كانت تتعاون مع الجيش الأميركي على دحر تنظيم الدولة.

وفي بث مباشر عبر صفحته على فيس بوك ظهر فيه مشتت الذهن وشديد الانفعال في عام 2017، عبر مازن عن كل ما يقاسيه من مرارة، كما صب جام غضبه على السلطات الهولندية التي جمدت حسابه المصرفي وقطعت عنه المساعدات بعدما قبل بالحصول على راتب متأخر من قبل الشركة التي عمل معها في سوريا، إذ يعتبر ذلك خرقاً للقوانين المفروضة على اللاجئين. وقد وجه أيضاً انتقاداته للولايات المتحدة وأوروبا بسبب إرسالهما للطائرات الحربية التي تقوم بقصف تنظيم الدولة.

وعن ذلك قال وهو يبكي ويمسح دموعه بمنديل ورقي: “أريد أن أعود إلى بلدي..يكفي، حتى لو كان ذلك يعني العودة إلى مناطق النظام، لأن ذلك أفضل من البقاء هنا. لا أريد أن أندمج! الأكرم لي أن أموت في بلدي”.

أدلة دامغة

إن حالة الإحباط التي عاشها مازن هي ذاتها التي يعيشها الكثير ممن أطلقوا حملات -دون أن يحققوا أي نتيجة تذكر- لتوجيه تهمة ارتكاب نظام الأسد لجرائم حرب، وذلك بحسب رأي ستيفن راب الذي يقوم بإجراء تحقيقات في جرائم الحرب بسوريا منذ أن كان سفيراً للعدالة الجنائية الدولية أيام إدارة أوباما، إلى أن أصبح منذ مدة قريبة أحد الأعضاء رفيعي المستوى في متحف تذكاري مخصص لضحايا الهولوكوست. وقد التقى هذا الرجل بمازن في مناسبات عديدة ووجد شهادته مقنعة ومؤثرة للغاية. وكغيره، يتذكر السيد راب الدموع التي خنقها مازن وهو يروي قصته.

ولقد قام المحققون بجمع أكوام من الأدلة التوثيقية لجرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، ويشمل ذلك صوراً لجثث 55 ألف ضحية تعذيب تم تهريبها من سوريا على يد المنشق الذي يحمل الاسم الحركي: قيصر، إلى جانب أكثر من 600 ألف وثيقة حول الأساليب التي اتبعها النظام لقمع الثورة، وتشمل تلك الوثائق مذكرة اعتقال بحق مازن مؤرخة في 2012، وذلك لمشاركته في المظاهرات حسبما أورد السيد راب، الذي علق على ذلك قائلاً: “هنالك أدلة دامغة وإثباتات حول جرائم الحرب التي ارتكبها النظام، وبعد كل ذلك لم تشاهد أي دولة في العالم تقوم برفع تلك الأدلة إلى محكمة، بالرغم من الفظائع التي حدثت لك ولأصدقائك ولبلادك، أي أنه من الصعب ألا تحس بالإحباط بعد كل هذا، لأنني أشعر بذلك كل يوم”.

إن الحكم الذي صدر في ألمانيا خلال الأسبوع الماضي بحق مسؤول سابق في المخابرات السورية اتهم باعتقال المتظاهرين اعتمد على شهادة أدلى بها شاهد عيان كتلك التي قدمها مازن حمادة. فإذا تم الأخذ بالاتهامات التي تتصل بجرائم الحرب ضد الأشخاص المرتبطين بفرع المخابرات الجوية حيث اعتقل مازن، أو في مشفى 601 العسكري حيث كان مازن شاهداً على بعض الفظائع المروعة، عندها سيصبح مازن شاهداً مهماً للغاية حسب رأي السيد راب.

إلا أن الوقائع على الأرض تدفع المرء لاستبعاد محاسبة شخصيات رفيعة من النظام في سوريا، بحسب رأي جيفري فيلتمان، وهو معاون سابق لوزير الخارجية الأميركي بالنسبة لشؤون الشرق الأدنى، والذي أصبح الآن عضواً زائراً لدى معهد بروكينغز، وصار يدافع عن توجه جديد بالنسبة للسياسة في سوريا، بعدما توقع احتمال بقاء نظام الأسد في المستقبل المنظور، وعن ذلك يقول: “يستحق الأسد أن يمثل أمام محكمة في لاهاي أو أمام محكمة دولية، كما يستحق أن يحاكم في لاهاي..هل سيحصل ذلك؟ كلا لن يحصل”، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن روسيا التي تعتبر أقوى حلفاء الأسد، تعرقل أي محاولة يقوم بها مجلس الأمن الدولي لإنشاء محكمة دولية.

“حالة نفسية سيئة”

خلال الأشهر الأخيرة من عام 2019، وصلت مشكلات مازن المالية إلى ذروتها، فلم يعد بوسعه دفع إيجار بيته، كما تم إخراجه من الشقة التي يقيم فيها، فسكن مع شقيقته وزوجها بما أنهما كانا يقيمان في أمستردام أيضاً. ويخبرنا صهره عامر العبيد بأن تجربة الذل التي ذاقها مازن عندما خسر بيته زادت من إحساسه بالمرارة، كما لعبت الدور الأكبر في اتخاذه لقرار العودة إلى سوريا، ويعقب على ذلك بالقول: “لقد أحس مازن بالخيانة، كما كان في حالة نفسية سيئة”، إذ أصبح مازن نكد المزاج مستعداً للشجار دوماً مع أي شخص يلتقي به، ولهذا أصبح يقول للناشطين المعارضين من أصدقائه: “أجد النظام أفضل منكم ومن أمثالكم”، وعن ذلك يقول صهره: “لقد بلغت به الأمور إلى فقدان الثقة بالكثير من الناس”.

أقام مازن أيضاً مع ابن أخيه زياد الحمادة لبضعة أسابيع، بما أن الأخير يقيم في مدينة بغرب ألمانيا، وهناك أمضى مازن ساعات وهو يحدثه عن التعذيب الذي تعرض له قبل ست سنوات.

وهكذا عرف زياد للمرة الأولى بأن العضو الجنسي لعمه قد تضرر بفعل التعذيب بشكل كبير، لدرجة لم يوردها في أي حديث أعلنه على الملأ. فقد التقى زياد بامرأة اعتقد أنها تناسب مازن، واقترح عليهما فتح زجاجة ويسكي للاحتفال بزواجهما المرتقب، فرفض مازن ذلك، وجن جنونه، ثم شرح له السبب، حيث أخبر زياداً بأنه كان يتمنى أن ينجب أطفالاً لكنه لم يعد قادراً على ذلك، ثم بكى وهو يروي له ما حدث، وبعدها سمح لزياد برؤية الضرر الذي تعرض له في الحمام، وهناك بكى مجدداً، وعن ذلك يخبرنا زياد فيقول: “كان يبكي في كل الليالي التي أمضيناها سوية، وكان التعذيب هو الموضوع الوحيد الذي يتحدث عنه”.

العالم لم يسمع

في صبيحة يوم 22 شباط من العام 2020، قام لاجئ سوري في ألمانيا بنقل صديق له بسيارته إلى مطار شونيفيلد ببرلين حتى يسافر إلى بيروت ومنها إلى دمشق. وكان من بين من صعدوا على متن تلك الطائرة مازن الحمادة الذي لم يتعرف عليه إلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وظهوره في المناسبات كناشط حسبما ذكر ذلك الشاب الذي تحدث شريطة ألا يتم الكشف عن اسمه لأنه يخاف على أمن أهله المقيمين في سوريا.

وبما أنه لم يصدق بأن هذا الشخص المعروف الذي انتقد النظام في سوريا كثيراً يمكن أن يسافر في تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، اقترب هذا الرجل من مازن وسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ فتهرب مازن من الإجابة، ثم اتخذ موقفاً دفاعياً، وأنكر سفره إلى سوريا حسبما يخبرنا ذلك الشاب الذي قال: “بدا جسده منهكاً كلياً، كما ظهر بمظهر الحزين العليل، ولم يكن يتحدث بما هو لائق، لذا كان بوسع أي شخص أن يكتشف بأنه لم يكن على ما يرام”.

وبما أن هذا الشاب انزعج لما رآه، لذا اتصل بصديقة له اسمها ميسون بيرقدار وهي ناشطة سورية معروفة تقيم في ألمانيا منذ 27 عاماً واشتهرت بحلها لهذا النوع من المشكلات، ولهذا تعقبت معارف مازن ووصلت إليه ولكن بعد وصوله إلى بيروت، بيد أن محادثتهما المسجلة تكشف الكثير من الأمور، إذ فيها قال مازن لميسون: “ذهبنا إلى أميركا وأخبرناهم بكامل القصة، وسافرنا إلى ألمانيا وأخبرناهم بكامل القصة، وسافرنا إلى هولندا وفرنسا بل حتى إيطاليا، لم يصغ الناس لنا، بل كل العالم لم يسمعنا”.

ثم تحول إحباطه لغضب، فأكد لها بأن دمشق وجهته بالفعل، وذكر لها بأنه تعب من محاولته إقناع العالم بالوقوف ضد الأسد، وبأنه يرغب بإيجاد السبل الكفيلة بالتوصل إلى حل سياسي للحرب، كما أخبرها بأنه يرغب بطرد الكرد والأميركان الذين اتهمهم باحتلال المحافظة التي ينتمي إليها، إلى جانب السعي لإطلاق سراح السجناء السياسيين الآخرين، وذكر بأنه على استعداد للتضحية بنفسه لوقف حمام الدم المستمر.

وبعدما توسلت إليه ميسون حتى لا يسافر، أخبرته بأن الاحتمال الأرجح هو أن يعتقل ويتعرض للتعذيب من جديد، بدلاً من أن يتم الترحيب به كمصلح يسعى نحو السلام وذلك من قبل النظام الذي سبق له أن انتقده على العلن، فما كان منه إلا أن رد عليها بالقول: “سنموت على أية حال”.

قضايا وقرائن

إن أقارب مازن وأصدقاءه على قناعة كاملة بأن مؤيدين للنظام قاموا بإقناعه ليعود، وهدفهم من ذلك إسكاته ومنعه من الإدلاء بشهادته حول الفظائع والجرائم التي اقترفها النظام. ولكن ليس ثمة أي دليل على ذلك بحسب اعترافهم، سوى ما ذكروه حول اختفاء مازن بشكل مريب في فترات التقى خلالها بأصدقاء له دون أن يذكر أسماءهم، فضلاً عن ثقته الواضحة التي بدت في محادثاته الأخيرة، بأن أحداً لن يمسه بسوء في حال عودته.

يذكر أن مازن زار السفارة السورية في برلين ثلاث مرات على الأقل قبل شهر من رحيله بحسب ما ذكره صديق العائلة الذي أقام معه إبراهيم أسود خلف الله، حيث أخبره مازن بأنهم أكدوا له بأن اسمه غير موجود على قائمة المطلوبين في سوريا.

هذا وقد صدر تقرير خلال العام المنصرم من قبل شركة محاماة بلندن، وتم توزيعه على أربع وكالات حقوقية تابعة للأمم المتحدة وحمل هذا التقرير النظام السوري مسؤولية الاختفاء القسري لمازن بعد وصوله إلى دمشق، كما طالب الأمم المتحدة بالمساعدة في معرفة مكان مازن، مستشهداً بمنشور على فيس بوك ذكر أن صهره شاهده وورد فيه بأن امرأة تعمل لدى السفارة السورية قامت بمرافقة مازن إلى مطار برلين. فإذا كان موظفون لدى النظام السوري أو موالون له قد لعبوا دوراً في عودة مازن ومن ثم اعتقاله، عندها ستوجه لهم تهمة الاختطاف، بحسب ما ذكره المحامي توبي كادمان من شركة المحاماة تلك.

ومنذ وقوع تلك الحادثة انتشرت شائعات حول اعتقال مازن واحتجازه في عدة سجون، أو حول وفاته في السجن، غير أن كل تلك الشائعات بقيت بلا تأكيد بحسب ما ذكره معاذ مصطفى المدير التنفيذي لدى فرقة العمل السورية للطوارئ في واشنطن، الذي قام بتنظيم زيارات لمازن إلى الولايات المتحدة وأصبح صديقاً له. إلا أنه بالرغم من كل ما حدث يعتقد بأن مازن أغري بوعود كاذبة أكدت له أنه سيكون بأمان، فقط حتى يقتادوه للسجن، وعن ذلك يقول معاذ: “اكتشف أشخاص موالون للنظام ضعفه فاستغلوه، وجعلوه يتواصل مع السفارة، ويبدو أن السفارة وعدته بشيء ما، ولهذا أدرك في نهاية الأمر عندما وصل إلى مكتب تفتيش الجوازات بأنه مطلوب للتحقيق، ما يعني عودته إلى الثقب الأسود”.

هل كان مازن يعي بأنه يعرض نفسه للخطر؟ يبدو من خلال مكالمتين هاتفيتين تلقاهما بعد وصوله إلى مطار دمشق بأنه كان يدرك ذلك فعلاً، لكنه أدرك ذلك الخطر متأخراً.

كانت المكالمة الأولى من ابن أخيه زياد الذي تواصل معه بعد وصوله إلى دمشق بفترة قصيرة. كان صوت مازن يرتجف وأسنانه تصطك حسبما يذكر زياد، ويبدو أن هنالك شخصاً بجانبه يلقنه ما يجب أن يقوله، حيث يقول زياد: “كان ذلك واضحاً تماماً، إذ سمعت أحدهم يقول له: تكلم.. تكلم! وسمعت أشخاصاً بجانبه يقولون له: قل هذا.. قل ذاك”.

وفي تلك المكالمة، ذكر مازن بأن موظفي الهجرة في المطار أخبروه أنه يمكن أن يعتقل على ذمة التحقيق في حال دخوله إلى البلد، كما ذكر أنه يحاول أن يجد بطاقة سفر بالطائرة على الرحلة المقبلة، وكانت وجهتها إلى السودان، فشجعه زياد على السفر في تلك الرحلة، وعندها قال له مازن قبل أن ينقطع الخط: “ادع لي يا ابن أخي العزيز.. ادع لي”.

وبعد ثوان اتصل مازن بصديقة أميركية في الولايات المتحدة، وهي نتاليا لاريسون مديرة المساعدات الإنسانية لدى فرقة العمل السورية للطوارئ، غير أنها لا تتكلم العربية، ولهذا لم تفهم ما الذي كان مازن يقوله لها عندما كان في مطار دمشق، إلا أنها أحست بوجود شخص بالقرب منه أخذ يلقنه ما يقول، وكان بوسعها أن تسمع أنفاس ذلك الرجل الذي كان يعطي مازن تعليمات وأوامر قبل أن يتحدث.

بعد ذلك أنهى مازن المحادثة، وذكرت لاريسون بأنها حاولت أن تتواصل معه عدة مرات عبر تطبيق واتساب الذي كانا يستخدمانه للتواصل بينهما، إلا أنه لم يرد.

وبعد مرور أقل من ثلاث ساعات، أصبح حسابه غير متصل بالشابكة، وكذلك كل حساباته الأخرى على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد أي منها نشطاً منذ تلك اللحظة.

المصدر: واشنطن بوست

تلفزيون سوريا

—————————-

مازن الحمادة الذي فضح بشار الأسد… عودة إلى دورة العذاب

بجسده الهزيل وعينيه الداميتين الممتلئتين بدموع غزيرة، ووجهه الذي يكسوه حزن أبدي، اشتُهر مازن الحمادة، أحد المعتقلين السابقين في مسالخ التعذيب البشرية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد. وعدت منظمات حقوقية ودولية قصته المأسوية دليل إدانة إضافياً للنظام الوحشي.

الأكثر غرابة في قصة الحمادة (33 عاماً)، الذي تعرض للإذلال في سجون الأسد، أنه وقع ثانيةً في حضن جلاده، عقب نجاته في المرة الأولى، ولا يزال مختفياً قسرياً منذ نحو عام، وتحديداً منذ وصوله سوريا من هولندا التي كان يتمتع باللجوء فيها.

في حين أن ظروف عودة الحمادة تظل غامضة وغير مفهومة، ويمكن اعتبارها انتحارية، يتألم ذووه وأصدقاؤه وهم يعيشون رعب معاناته مرة أخرى من كابوس التعذيب في سجون نظام شجبه بشدة في المحافل الدولية.

في تقرير لها، عبر صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، في 4 آذار/ مارس، تساءلت الصحافية ليزا سلاي: هل كان سلوك الحمادة المريب علامة على أن الصدمة دفعته إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية؟ هل يمكن أنه تم استدراجه للعودة إلى سوريا، كما يعتقد من عرفوه، من قبل سوريين موالين للحكومة حريصين على إسكات أي شاهد محتمل على جرائم الحرب؟ أم خاب أمله في الحياة في الغرب لدرجة أنه كان مستعداً للمخاطرة بالعودة إلى الوطن؟ هل شعر بالخيانة من لامبالاة العالم تجاه محنة بلاده وفشلها في وقف إراقة الدماء؟

وسعت الصحافية للحصول على أجوبة عن أسئلتها عبر المقابلات مع أشخاص مقربين من الحمادة والشهادات التي تركها وراءه.

ما قصته؟

عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان الحمادة يعمل تقنياً في شركة للنفط قرب منزله في محافظة دير الزور (شرق سوريا). انضم إلى السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد للمطالبة بالإطاحة بالأسد، الذي كانت عائلته قد توارثت حكم سوريا لأكثر من أربعة عقود آنذاك.

في مقابلة أجريت معه لاحقاً، قال بابتهاج عن الأيام الأولى من الاحتجاجات الشعبية السلمية، لسارة أفشار، مخرجة الفيلم الوثائقي: “السوريون المختفون” في عام 2016: “عندما ترى التظاهرات، كان قلبك يطير”.

سرعان ما لفتت أنشطته، كمواطن صحافي تحدّث إلى وسائل إعلام أجنبية، وكمحتج، انتباه السلطات التي كانت لديها تعليمات باعتقال أي شخص يؤيد الانتفاضة.

كان الحمادة واحداً من عشرات الآلاف من السوريين الذين اعتقلهم النظام على خلفية المشاركة في التظاهرات السلمية. اعتقل الرجل ثلاث مرات بين عامي 2011 و2012. وكانت الأخيرة أطولها وأقساها.

خلال اعتقاله، تعرض الحمادة لأشكال التعذيب الجسدي والنفسي كافة، وفق ما روى لاحقاً. وصف كيف خُلع معصماه بفعل السلاسل المستخدمة في تعليقه بالسقف، وتكسير ضلوعه من قبل رجال الأمن الذين حرقوا جلده بالسجائر، وصدموه بالكهرباء أيضاً. وأكثر ما تعرض له فظاعة كان وضع كماشات على أعضائه التناسلية، وهو ما أدى إلى تمزّق قضيبه، كما تم اغتصابه بعصا معدنية.

عام 2017، قال لـ”واشنطن بوست”: “حين بدأوا في إدخال العصا، اعترفت بكل شيء طلبوه”.

عزم على المساءلة

رغم بشاعة ما تعرض له، كان الحمادة عازماً على محاسبة الحكومة السورية على جرائمها بحقه وبحق الذين كان شاهداً على تعذيبهم وموتهم في المعتقلات.

لذا، دأب منذ هروبه إلى هولندا عام 2014، على التنقل بين الدول حيث شارك الناس في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا قصصاً عن الفظائع التي تعرض لها في سجون الأسد. وارتبط منذ ذاك الحين بجماعات المجتمع المدني السورية.

تحدث الحمادة إلى مشترعين في واشنطن، وجنرالات في القيادة المركزية الأمريكية في فلوريدا، وطلاب في جامعة برينستون البحثية الأمريكية، ومحققين في مجال حقوق الإنسان وصحافيين وغيرهم.

في فيلم أفشار، قال: “لن أستريح حتى أحيلهم (أي مسؤولي النظام السوري) إلى المحكمة، حتى لو كلفني ذلك حياتي. سوف أُطاردهم وأجلبَهم إلى العدالة، بغض النظر عن أي شيء”.

مصير مغاير لمصائر رفاق المحنة

لكن حال الحمادة تبدل كثيراً؛ لاحظ المقربون منه أنه كان يدخن الماريجوانا بكثرة وهو أمر مكلف رغم أنه مشروع في هولندا. قال عمر أبو ليلى، سوري من دير الزور يعيش في ألمانيا، وقد تواصل بشكل متكرر مع الحمادة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحضر مؤتمراً معه عام 2018، إن الحمادة حين كان يتحدث كانت دموعه تفيض مثل النهر.

كانت هذه الدموع إشارة إلى أنه لم يكن على ما يرام. في حين كان رفاقه – المعتقلون السابقون – الذين مروا بمسارات مماثلة إلى حد ما أفضل حالاً. كرم الحمد، لاجئ آخر من دير الزور، قضى أكثر من عام في أحد سجون دمشق. لكنه حين هاجر إلى ألمانيا، ازدهرت حياته وبدأ مشروعاً تجارياً وتزوج قبل أن يتلقى هذا الصيف منحة دراسية في جامعة ييل الأمريكية.

قال الحمد إنه تغلب على آثار الاعتقال عبر العلاج المكثف ومضادات الاكتئاب ودعم الأسرة والأصدقاء. في المقابل، تلقى الحمادة بعض العلاج في هولندا، لكنه اشتكى للحمد أن المعالجين الغربيين لم يفهموا ما مر به السوريون أمثاله.

أوضح الحمد أن الحمادة بدا غير قادر على التخلص من “ذنب الناجي” الذي يشعر به كثيرون ممن يعانون اضطراب ما بعد الصدمة رغم مرور ستة أعوام على هروبه من سوريا.

في لقائهما الأخير في برلين، قبل وقت قصير من عودته إلى سوريا، لاحظ الحمد أن الحمادة كان يتحدث كثيراً عن مصير السجناء الذين تركهم وراءه، وكيف شعر بأنه مضطر لفعل شيء لإنقاذهم.

عمر الشغري، الذي قضى ثلاث سنوات في أحد “المسالخ البشرية” – الاسم المتعارف عليه لمعتقلات تعذيب النظام السوري – قبل أن يفر إلى السويد، كان قد التقى الحمادة خلال زيارات إلى الولايات المتحدة. منذ وصوله إلى أوروبا عام 2015، في سن العشرين، تعلم الشغري ثلاث لغات وهو على وشك الحصول على درجة البكالوريوس في جامعة جورج تاون.

انبثق الإلهام الذي استغله الشغري لبدء حياة جديدة من معاناته. قال: “لقد استخدمت صدماتي كقوة دافعة. استخدم مازن صدماته ليصبح أكثر وأكثر اكتئاباً. بالنسبة لمازن، ساءت الأمور أكثر فأكثر. تم عزله وكان وحيداً. عزل نفسه لأنه شعر أن ‘لا أحد يهتم‘”.

عدم القدرة على الإنجاب هو السبب؟

زادت محنة الحمادة النفسية جراء تدهور وضع الثورة في سوريا. خلال السنوات الأخيرة، تمكن النظام من استعادة مساحات واسعة كانت المعارضة قد سيطرت عليها.

اشتكى الحمادة بشكل متزايد لأصدقائه من أن سرد قصته بات “مضيعة للوقت”، وأن دموعه لم تترجم إلى جهود ملموسة لتحقيق العدالة للضحايا. بل شعر بضغط واستغلال حتى من قبل المنظمات التي دعته إلى مناسباتها لفضح جرائم النظام السوري.

في الأشهر الأخيرة من عام 2019، وصلت مشاكل الحمادة المالية إلى الذروة، وأصبح غير قادر على دفع بدلزالإيجار. أخيراً، طُرد من شقته وانتقل للإقامة مع أخته وزوجها، اللذين كانا يعيشان في أمستردام أيضاً.

قال صهره، عامر العبيد، إن التجربة المهينة لفقدان منزله زادت من مرارته وربما لعبت دوراً كبيراً في قراره المتصل بالعودة إلى سوريا. وأضاف: “كان في حالة نفسية سيئة، أصبح الحمادة عنيفاً وصعب المراس، ويتشاجر مع كل شخص يلتقي به تقريباً. كان يقول ‘أرى النظام أفضل من أمثالك‘”، خلال حديثه إلى نشطاء المعارضة الذين كانوا أصدقاءه.

مكث الحمادة أسابيع عديدة رفقة ابن أخيه زياد الحمادة، الذي يعيش في بلدة في غرب ألمانيا. قضى ساعات يحدثه عن التعذيب الذي تعرض له قبل ست سنوات. لأول مرة، علم زياد مدى خطورة إصابة الأعضاء التناسلية لحمادة.

قال الحمادة لابن أخيه إنه لا يستطيع أن يتزوج، مبرزاً توقه الشديد إلى إنجاب الأطفال، وعجزه عن ذلك. قال زياد: “كان يبكي طوال الليالي التي قضيناها معاً، كل ما كان يتحدث عنه هو تعذيبه”.

قال الحمادة ذات مرة وهو غارق في الدموع: “أريد أن أعود إلى بلدي، كفى. حتى لو كان ذلك يعني العودة إلى مناطق النظام، فهو أفضل من هنا، لا أريد الاندماج! أشرف لي أن أموت في بلدي”.

عودة إلى الجلاد

صباح 22 شباط/ فبراير عام 2020، شوهد الحمادة في مطار برلين شونفيلد قبل صعوده على متن طائرة متجهة إلى بيروت ومنها إلى دمشق. حين سأله لاجئ سوري أين كان ذاهباً، حاول إنكار سفره إلى سوريا.

قال اللاجئ الذي رفض كشف هويته إن الحمادة “بدا منهكاً. كان حزيناً ومريضاً. لم يكن يتحدث بشكل صحيح”.

اتصل الرجل بصديقته ميسون بيرقدار، وهي ناشطة سورية مشهورة تعيش في ألمانيا منذ 27 عاماً وتتمتع بسمعة طيبة في حل المشاكل. تتبعت اتصالات الحمادة وتواصلت معه بعد أن وصل بيروت.

قال لها في تبادل للرسائل النصية: “ذهبنا إلى أمريكا وأخبرناهم القصة كاملة. ذهبنا إلى ألمانيا وأخبرناهم القصة كاملة. ذهبنا إلى هولندا وفرنسا وحتى إيطاليا. ولم يستمع الناس. العالم كله لم يستمع”.

عقب إظهار الإحباط والغضب، أكد الحمادة لها أن دمشق هي وجهته، مؤكداً أنه سئم من محاولة إقناع العالم بالانقلاب على الأسد، ويريد إيجاد طرق للتوصل إلى حل سياسي للحرب.

لم يستمع الحمادة إلى مناشدات بيرقدار ألا يذهب لدمشق، وتحذيراتها من أنه كان أكثر عرضة للسجن والتعذيب هذه المرة، وإن كان ساعياً إلى إيجاد حل لا المعارضة.

اكتفى بالإجابة: “نحن نموت على أي حال”.

تم استدراجه؟

حتى الآن، يبدو أن أقارب وأصدقاء الحمادة مقتنعون بأن الموالين للنظام أقنعوه بالعودة لإسكات صوته عن رواية الفظائع التي ارتكبها النظام السوري. وهم يقرون بعدم وجود دليل على ذلك، إلا ما أوضحه الحمادة في محادثاته الأخيرة، بأن لديه ضمانات بالأمان إذا عاد.

زار الحمادة السفارة السورية في برلين ثلاث مرات على الأقل قبل شهر من مغادرته، بحسب إبراهيم خلف الله، صديق للعائلة أقام معه فترة من الزمن إذ أخبره الحمادة أنه تأكد أنه ليس على قائمة المطلوبين في سوريا.

لكن محادثتين هاتفيتين مع الحمادة بعد هبوطه في مطار دمشق تؤكدان أنه ربما يكون قد أدرك، بعد فوات الأوان، أنه بات في خطر. الأولى كانت مع ابن أخيه، زياد، الذي قال إن صوت حمادة كان يرتجف و”أسنانه تصطك”، وكان يبدو أن “هناك رجلاً بجانبه يخبره بما يقول”.

قال حمادة في المكالمة إن ضباط الهجرة بالمطار أخبروه أنه سيُحتجز للاستجواب إذا دخل البلاد، موضحاً لزياد أنه كان يحاول العثور على تذكرة للرحلة التالية التي كانت متجهة إلى السودان، طالباً من ابن أخيه “صل من أجلي، صل من أجلي…”. ثم انقطع الخط.

بعد ذلك بلحظات، اتصل الحمادة بصديقة أمريكية داخل الولايات المتحدة، وهي ناتالي لاريسون، مديرة المساعدات الإنسانية لفريق الطوارئ السوري. برغم أنها لا تتحدث العربية، فهمت أن الحمادة كان يقول إنه في مطار دمشق. شعرت لاريسون أن شخصاً كان قربه ويخبره بما يقول.

بعدا أُغلق الخط، فشلت لاريسون في الوصول إلى الحمادة عبر واتساب كما اعتادا التواصل.

بعد أقل من ثلاث ساعات، لم يعد هاتفه متصلاً بالإنترنت، واختفت جميع حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. ولم ينشط أي منها إلى الآن.

ويتزامن تسليط الضوء على قصة الحمادة مع نشر تقرير أممي، هذا الأسبوع، يؤكد أن عشرات الآلاف من الذين اعتقلهم النظام السوري على مدى عشر سنوات من الحرب الأهلية في عداد المفقودين، وأن بعضهم تعرضوا للتعذيب أو الاغتصاب أو القتل. وهذه الأمور كلها تُصنّف في خانة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

رصيف 22

—————————-

قلق دولي حول مصير ناشط سوري أصبح “رمزا للمعاناة” في بلده

أثار اختفاء ناشط سوري تعرض للتعذيب على يد نظام الرئيس بشار الأسد قلقا واسع النطاق، بعد عودته إلى سوريا بعد تمكنه من الهرب والوصول إلى أوروبا.

وكان مازن الحمادة من بين آلاف السوريين الذين أضطروا إلى مغادرة البلاد خوفا من التعرض للقتل والتنكيل على أيدي الأجهزة الأمنية السورية، بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام 2011.

وحسب تقارير صحفية، عاد مازن فجأة إلى بلده، ولا يزال مصيره مجهولا.

وقال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن “نخشى أن النظام انتقم منه فيما يقول إنه بخير”.

وحتى سبتمبر 2016، اعتقل النظام السوري أكثر من 128 ألف شخص، وفقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، بينهم 83 ألفا  اختفى أثرهم تماما.

ولم يقتصر الأمر على الاعتقال والتشريد، بل إن النظام السوري لم يتورع حتى عن مهاجمة شعبه بالكيمائي وكافة أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، حسب تقارير دولية.

بعد وصول مازن إلى أوروبا وتحديدا هولندا، عبر رحلة محفوفة بالمخاطر، تمكن من سرد قصص  التعذيب الوحشي الذي تعرض له، لعدة منظمات حقوقية.

وقد قال لـ برنامج وثائقي بعنوان “سوريون مختفون” إنه لن يستريح حتى يحيل جلاديه وجلادي الشعب السوري إلى المحاكمة “ولو كلف ذلك حياتي”.

ومن بين أنواع التعذيب التي تعرض لها الحمادة، الحرق والصعق والتنكيل بأجهزته التناسلية لدرجة أنه اصبح غير قادر على الإنجاب، بحسب ما نقلت الواشنطن بوست عن مقربين لمازن.

ووصفت منظمة العفو الدولية جرائم النظام السوري بحق شعبه بأنها “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” تمت الموافقة عليها على “أعلى مستويات” الحكومة السورية.

وقالت صحيفة واشنطن بوست إن الحكومة السورية لم ترد على طلب للتعليق على انتهاكات حقوق الإنسان وأماكن وجود الناشط السوري.

قصة الناشط السوري أثارت ردود فعل واسعة على مواقع التواصل.

سارا بوكسر قالت في تغريدة “كل كلمة في هذا التقرير تشعرك بوجع. لابد من قراءته”.

    Every word of this is excruciating. It must be read, for Mazen al-Hamada. https://t.co/inDzSWnBCj

    — Sarah Boxer (@Sarah_Boxer) March 5, 2021

في أوروبا، لم يكن الوضع النفسي لمازن، جيدا.

وقال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن إن “مازن كان يمر بحالة نفسية، ووضعه المالي أيضا لم يكن جيدا”.

ونقلت واشنطن بوست عن مقربين من الناشط السوري إنه كان “حزينا لعدم وجود رد فعل رادع لجرائم الأسد بحق أبناء الشعب السوري وأنه يفضل العودة لوقف معاناة شعبه بالتصالح مع النظام”.

رامي عبد الرحمن قال إن كلا من يثق بالنظام السوري وأجهزته الأمنية “مخطئ. هل من المعقول نعود لنظام نكل بأبناء الشعب السوري وقتل أكثر من 104 آلاف معتقل تحت التعذيب؟”.

وأضاف “أنا عذبت من نظام حافظ الأسد، وصار لي 21 في بريطانيا لأني لا أثق في هذه الأنظمة الديكتاتورية الإجرامية. أفضل العيش بعيدا عن أحضان نظام مجرم مهما كانت المغريات”.

وقالت مي السعدني في حسابها على تويتر إن الألم الذي تعرض له الناشط السوري “تعجز الكلمات عن وصفه”.

    “We went to America & told them the whole story. We went to Germany & told them the whole story. We went to the Netherlands, France & even Italy. And people didn’t listen.”

    Pained beyond words to read @LizSly’s piece on Syrian activist Mazen al-Hamada https://t.co/Aw80lKIYTC

    — Mai El-Sadany (@maitelsadany) March 4, 2021

وينشد تقرير قدمه مكتب محاماة في لندن إلى وكالات دولية تابعة للأمم المتحدة، مساعدتها في تحديد موقع الناشط السوري الذي أصبح “رمزا للمعاناة” في بلاده.

الحرة

واشنطن بوست: ما الذي يدفع معارضاً سورياً أصبح صوت المعذبين في سجون الأسد للعودة إلى جلاديه في دمشق؟/ إبراهيم درويش

لندن- “القدس العربي”: خصصت صحيفة “واشنطن بوست” محورا لمناقشة اختفاء مازن الحمادة، الناجي من “مسالخ” بشار الأسد وعودته إلى سوريا رغم تحذير شقيقته له بعدم العودة. وكان آخر تواصل بينهما هو طلبه منها “ادعيلنا” وأن “ما بصير إلا اللي كاتبه الله”.

وفي التقرير الطويل تقول ليز سلاي، إن مازن حمادة تحول بوجهه النحيل ودموعه إلى صورة عن معاناة السجناء في سجون نظام بشار الأسد.

وبعد هروبه من سوريا إلى هولندا، سافر بشكل مستمر وشارك تجربته مع الجماهير في الولايات المتحدة وأوروبا، وقصّ عليهم معاناته في سجون الأسد. ثم اختفى بشكل غامض وربما انتحاري قبل عام تقريبا وعاد إلى سوريا مخاطرا بحياته وإمكانية تعرضه لوحشية الحكومة التي شجبها بقوة.

وترك حمادة عائلته وأصدقاءه يتساءلون عن سبب عودته إلى جلاديه وما يخشون أنه كابوس جديد في سجون النظام السوري. وتساءلوا إن كانت تصرفاته الغريبة دليلا على صدمات دفعته لاتخاذ قرار غير منطقي، وهل تم جره إلى سوريا من قبل الداعمين للحكومة من أجل إسكاته، حسبما يشك المقربون منه؟ أم أنه لم يعد يطيق العيش في الغرب وكان مستعدا للمخاطرة بحياته؟ أم أنه شعر بخيانة العالم له وعدم مبالاته بمأزق بلاده وفشله في وقف حمام الدم فيها؟ والإجابة على هذه الأسئلة تذهب إلى قلب المأساة في سوريا والعذاب الذي حل بها بعد ثورات الربيع العربي ومطالبات التغيير السلمية التي تم قمعها بالقوة الغاشمة.

وتظهر مقابلات مع أصدقائه ومعارفه صورة عن رجل لم يستطع التخلص من الرعب الذي عاشه. فمن الحماسة التي رافقت الثورات العربية والأمل بالتغيير والتظاهرات التي دعت لإسقاط نظام بشار الأسد الذي حكمت عائلته سوريا منذ عقود، وهو ما دفع الموظف في قطاع النفط في سوريا، البالغ من العمر 33 عاما للانضمام إلى التظاهرات.

وفي مقابلة مع سارة أفشر التي أعدت عام 2016 فيلم “المختفون السوريون” قال حمادة: “عندما ترى المظاهرات يطير قلبك من الفرح، وأقسم أن أحدا لم يصدق هذا”. ونظرا لنشاطاته كمواطن صحافي تحدث للمؤسسات الإعلامية الأجنبية، أثار حمادة انتباه السلطات السورية التي أصدرت تعليمات لملاحقة أي شخص له علاقة بالثورة، وتم اعتقال عشرات الآلاف ممن شاركوا في التظاهرات ووضعوا في المعتقلات كي يتم إطفاء نار الثورة التي اشتعلت في قلوبهم بعد سنوات من الخنوع.

واعتُقل حمادة مرتين في محافظته دير الزور قبل انتقاله عام 2012 إلى دمشق، حيث اعتقل مرة أخرى ونُقل إلى مقرات المخابرات في حي المزة حيث بدأ الكابوس. وفي كل أنحاء العالم العربي، قُمعت الثورات وسُجن الناشطون وعذبوا، وعادت أجهزة القمع للسيطرة من جديد. ولكن القمع لا يقارن بما جرى في سوريا التي مارس فيها نظام الأسد أكثر الثورات المضادة دموية في القرن الحادي والعشرين. فقد حصدت قوات الأمن التابعة للنظام بالرصاص، أرواح الآلاف من المتظاهرين، وعندما حمل المتظاهرون السلاح للدفاع عن أنفسهم، أحضر النظام الدبابات وقصف معاقل المعارضة وحاصر المدن والقرى من أجل تركيع سكانها. وعندما فشل، ألقى البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية، واستخدم السلاح الكيماوي عندما لم تنفع البراميل المتفجرة. وتوقفت الأمم المتحدة عن إحصاء الجثث في 2016، حيث كان عدها الأخير هو 400 ألف شخص. وهاجر الملايين إلى الدول المجاورة، فيما ركب مليون سوري القوارب المتداعية واتجهوا عبر البحر المتوسط إلى أوروبا. وكان حمادة واحدا منهم، حيث فر إلى تركيا ثم اليونان وإيطاليا وفرنسا ثم هولندا.

وبعيدا عن عدسات التلفزيون، تم سجن الآلاف وتعذيبهم في “الغولاغ” السوري. ومن بين 145 ألفاً اعتُقلوا حتى أيلول/ سبتمبر 2019، و128 ألفاً اعتقلهم النظام حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان والتي تسجل حالات الاعتقال في داخل سوريا، اختفى منهم 83 ألفاً بدون أثر، وربما ماتوا تحت التعذيب. حيث وصفت “أمنستي انترناشونال” القتل بـ”الجريمة وجرائم ضد الإنسانية” وتمت المصادقة عليها من “مستويات عليا” في الحكومة السورية.

وبعد وصوله إلى هولندا عام 2014 انخرط حمادة بشكل كامل في النشاط من أجل الكشف عن رعب سجون نظام الأسد، وسافر إلى الدول الأوروبية وأمريكا، وقابل المشرعين في الكونغرس وتحدث مع الجنرالات في القيادة المركزية الأمريكية بفلوريدا، والطلاب في جامعة برينستون، والمحققين في مجال انتهاكات حقوق الإنسان وعدد من الصحافيين. ووصف كيف شُبح من معصميه، وكيف تكسرت أضلاعه بسبب قفز الحراس على جسده، وكيف أطفأ المحققون سجائرهم في جسده، واهتز بسبب الصعقات الكهربائية. وعندما وصل إلى الجزء الذي تم فيه وضع عضوه الذكري في كلّاب واغتصب أكثر من مرة بإدخال قضيب حديدي في فتحة الشرج كان يجهش بالبكاء ويُبكي معه الحاضرين.

وعند هذه اللحظة استسلم كما أخبر صحيفة “واشنطن بوست” في 2017، وقال: “عندما بدأوا بشد البرغي اعترفت بكل شيء طلبوا مني الاعتراف به”.

وكان حمادة مصمما على محاسبة النظام السوري على ما فعله به وبغيره ممن ماتوا في أقبية السجون. وقال في الفيلم: “لن أرتاح حتى آخذهم إلى المحكمة. وحتى لو كلفني ذلك حياتي فسألاحقهم وأقدمهم للعدالة مهما كان الأمر”. وأدهش بكاؤه الدائم من عرفوه مثل عمر أبو ليلى الذي يعيش في ألمانيا وتواصل معه عبر منصات التواصل الاجتماعي وشاركا معا في مؤتمر عام 2018، وقال: “أتذكره وهو يبكي على المسرح، وبكى في فترة استراحة القهوة. والشيء الوحيد الذي تلاحظه على مازن هو بكاؤه، فهو يتكلم وعيناه مغرورقتان بالدموع، يتحدث والدموع تتدفق مثل نهر”.

وأخفت الدموع خلفها حالة من عدم الاستقرار العقلي التي كان يعانيها حمادة. فبعيدا عن الناس، كان يعيش في شقة بدون فرش كثير وفّرتها له السلطات الهولندية. وبدأ بدراسة اللغة، ولكنه واجه صعوبات في تعلمها، ولاحظ أصدقاؤه أنه يدخن كثيرا المارجوانا المسموح بها في هولندا لكنها باهظة الثمن. غير أن أصدقاءه حققوا حياة أفضل، فكرم الحمد من دير الزور والذي عانى مثل حمادة، وصل إلى ألمانيا وافتتح تجارة ناجحة وتزوج وسيبدأ هذا الصيف الدراسة بمنحة في جامعة ييل. وقال كرم إنه لم يستطع التغلب على صدمته بدون العلاج النفسي والحبوب المضادة للاكتئاب ومساعدة الأهل والأصدقاء.

وتلقى حمادة علاجا نفسيا في هولندا، لكنه اشتكى لكرم من أن المعالجين النفسيين في الغرب لا يفهمون ما مرّ به السوريون من معاناة. ومع مرور ستة أعوام على خروجه من السجن، لم يكن حمادة قادرا على التخلص من عقدة الناجين التي يعاني منها. وفي آخر لقاء بينهما في برلين، كان حمادة “عصبيا” وظل يتحدث عن السجناء الذين تركهم في السجون وضرورة عمل شيء ما لمساعدتهم، و”كان حزينا وضعيفا من الطريقة التي تحدث فيها وبدا واضحا أن هذا الرجل ضائع” و”تساءلت متى سيقتل هذا الرجل نفسه؟ وشعرت أنه على حافة الانتحار”.

والتقى عمر الشغري، الذي قضى سنوات في سجون الأسد وعُذب قبل هروبه إلى السويد مع حمادة أثناء زيارة قاما بها إلى الولايات المتحدة. ونجح الشغري بالوصول إلى أوروبا عام 2015 وهو في سن العشرين. وتعلم ثلاث لغات، وسيبدأ نهاية العام بالدراسة في جامعة جورج تاون. ويقول الشغري إنه وجد دافعا لبداية حياة جديدة، أما حمادة فيبدو أنه غير قادر على التحرك للأمام. يقول الشغري: “استخدمت صدمتي كقوة دافعة، أما مازن فاستخدمها ليصبح أكثر كآبة”. و”بالنسبة لمازن أصبح كل شيء أسوأ. كان معزولا ووحيدا، عزل نفسه وشعر أن أحدا لا يهتم به”.

ومع تقدم قوات الأسد وسيطرتها على مساحات واسعة من البلاد، بدأ حمادة بالشكوى لأصدقائه أن رواية ما جرى له إلى الغرب كان مضيعة للوقت. ولم تترجم دموعه أمام الحاضرين إلى جهود لتحقيق العدالة للمظلومين. وشعر بالضغط والاستغلال حتى من المنظمات التي دعته للمشاركة في مناسباتها. وبدأ بالشكوى من تقدم الأكراد في سوريا الذين تدعمهم القوات الأمريكية إلى محافظة دير الزور.

وفي شريط فيديو وضعه على صفحته في فيسبوك عام 2017، هاجم السلطات الهولندية لأنها أغلقت حسابه وقطعت الدعم عنه بعدما قبل رواتب متأخرة من الشركة التي عمل فيها في سوريا فيما اعتبرته السلطات خرقا للقواعد المطبقة على اللاجئين. وهاجم حمادة الغرب وأمريكا لإرسالها مقاتلات لضرب المناطق الخاضعة لتنظيم “الدولة”، قائلا: “أريد العودة إلى بلدي، يكفي. حتى لو كانت تعني العودة إلى مناطق النظام، أحسن من العيش هنا.. لا أريد الاندماج… من الأشرف لي أن أموت في بلدي”.

يقول ستيفن راب، الذي عمل سفيرا متجولا في إدارة باراك أوباما من أجل العدالة الجنائية الدولية، إنه التقى مع حمادة ووجد قصته مقنعة وشهق من البكاء لأنها مثيرة. وتم جمع عشرات الآلاف من الوثائق والأدلة، منها 55 ألف صورة لسجناء ماتوا بسبب التعذيب والتجويع هرّبها “قيصر”. وأكثر من 600 ألف وثيقة فيها تفاصيل عن نظام التعذيب في سوريا، منها أمر بالقبض على حمادة في 2012 كما يقول راب.

وقال إن هناك أدلة صلبة ومدعّمة تؤكد جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، ولكنك لا ترى تحركا من العالم لإرساله نحو المحكمة رغم الرعب الذي حدث، مضيفا: “من الصعب عدم الشعور بالإحباط في كل يوم”. وكانت إدانة ألمانيا الأسبوع الماضي لمسؤولين في النظام السوري دليلا على تحرك في هذا المجال، لكن من المستبعد تقديم مسؤولين بارزين حتى لو تمت محاسبتهم كما يقول جيفري فيلتمان، مبعوث إدارة دونالد ترامب السابق إلى سوريا. وقال: “يستحق الأسد أن يجُرّ أمام المحكمة في هيغ أو الجنائية الدولية. هل سيحدث هذا؟ لا لن يحدث”، وذلك لأن روسيا حليفة الأسد ستعطل أي تحرك في مجلس الأمن.

وفي الشهر الأخير من عام 2019، وصلت متاعب حمادة المالية ذروتها، ولم يكن قادرا على دفع أجرة شقته، حيث أُخرج منها، واضطر للعيش مع أخته وزوجها اللذين يعيشان في هولندا، مما زاد من مرارته ودفعه للعودة كما يرى صهره عامر العبيد. وقال: “شعر بالخيانة وكان في حالة نفسية سيئة”. وأصبح صداميا ويفتعل المشاكل مع كل من يلتقيه، و”كان يقول: أرى النظام أفضل من أمثالكم” في إشارة للمعارضة، و”وصل إلى نقطة فقد فيها الثقة بالكثير من الناس”.

وقضى حمادة أشهرا مع ابنه عمه زياد في غرب ألمانيا، وظل يحدثه عن العنف الذي تعرض له في السجن. واكتشف زياد حجم الضرر الذي تعرضت له أعضاء حمادة الخاصة، فقد اقترح أن يقدم له فتاة يقيم معها علاقة. وعندما اقترح فتح زجاجة شمبانيا للاحتفال، غضب وكشف له أنه لا يستطيع الزواج وإنجاب أطفال، وأراه ما حدث له في السجن. وقال زياد: “كل الليالي التي قضيناها كان يبكي، وكل ما كان يتحدث عنه هو التعذيب”.

في 22 شباط/ فبراير، أرسل لاجئ سوري في ألمانيا صديقا إلى مطار شونيفلد ببرلين كان مسافرا إلى دمشق مرورا ببيروت، وكان من بين المسافرين حمادة الذي عرفه من منصات التواصل الاجتماعي. وشكك في قيام ناقد شديد للنظام برحلة خطيرة كهذه، وتحدث إلى حمادة الذي راوغ في الإجابة ونفى رحلته إلى سوريا. وقال اللاجئ: “بدا كل جسده منهكا، وبدا حزينا وصحته ليست جيدة، لم يتحدث جيدا، ويمكنكم ملاحظة أنه ليس في وضع جيد”.

وشعر اللاجئ بالقلق، واتصل مع ميسون بيرقدار، الناشطة السورية المقيمة في ألمانيا منذ 27 عاما ولديها معرفة في حل المشاكل. واستطاعت الاتصال مع حمادة عند وصوله إلى بيروت. وأخبر حمادة بيرقدار في المكالمة المسجلة: “ذهبنا إلى أمريكا وأخبرناهم القصة. ذهبنا ألى ألمانيا وأخبرناهم القصة، ذهبنا إلى هولندا وفرنسا وحتى إيطاليا ولكن الناس لم يستمعوا والعالم كله لا يستمع”. واعترف أن وجهته دمشق وأنه تعب من محاولة إقناع العالم بالعمل ضد الأسد، ويريد البحث عن طرق لإنهاء الحرب.

وقال حمادة إنه يريد إخراج الأكراد والأمريكيين من محافظة دير الزور والعمل على إطلاق سراح السجناء السياسيين حتى لو أدى الأمر “للتضحية بنفسي ووقف حمام الدم الجاري”. وناشدته بيرقدار بعدم الذهاب إلى  دمشق لأنه سيتعرض للاعتقال والتعذيب، فردّ عليها: “نحن نموت على أية حال”. ولدى عائلته وأصدقائه قناعة أن عودته جاءت من خلال الموالين للنظام. ورغم عدم وجود أدلة، إلا أنهم يتحدثون عن “غياب” مستمر لمقابلة “أصدقاء” لم يسمّهم، وتأكيده أنه تلقى ضمانات بسلامته. وزار حمادة السفارة السورية في برلين 3 مرات قبل مغادرته، حسب إبراهيم أسود خلف الله، صديق العائلة. وأخبره أن المسؤولين أكدوا أن اسمه ليس على أي قائمة مطلوبين.

وفي تقرير قدمته شركة محاماة في لندن لأربع وكالات حقوق إنسان في الأمم المتحدة، اتهمت فيه الحكومة السورية بالتغييب القسري لحمادة. وطلب من الأمم المتحدة تحديد مكانه. ويشير إلى صفحة فيسبوك جاء فيها أن امرأة من السفارة السورية رافقت حمادة إلى مطار برلين. ولو صحّ تورط مسؤولين سوريين في اختفاء حمادة، فإنهم يواجهون تهم الاختطاف حسبما يقول توبي كادمان، من شركة كورنيكا 37 القانونية في لندن. وانتشرت شائعات حول سجن بل ووفاة حمادة، لكن لم يتم التأكد منها كما يقول معاذ مصطفى، من قوة المهام السورية الطارئة في واشنطن، التي نظمت رحلة حمادة إلى العاصمة الأمريكية. لكنه يعتقد أنه تم جرّ حمادة إلى سوريا بوعود عدم التعرض له وتم سجنه.

هل كان واعيا لما سيحدث له؟ مكالمتان معه بعد وصوله مطار دمشق تشيران إلى أنه اكتشف متأخرا المخاطر. فقد اتصل به ابن عمه زياد بعد هبوط الطائرة وكان صوته مرتجفا وأسنانه تصطك وحوله من يطلبون منه قول أشياء. وقال حمادة إن مسؤولي الهجرة أخبروه أنه سيُعتقل لو دخل البلد، وأنه يحاول البحث عن رحلة أخرى متجهة إلى السودان، ونصحه بأخذها، ورد عليه حمادة: “ادعيلي ابن عمي ادعيلي”.

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button