يسار إسلاموي أم زمن المكارثية الفرنسية؟/ بوعلام رمضاني
لم يَعُد في إمكان المثقفين الفرنسيين، اليوم، حسب كثيرين، التحدث باستهزاء عن المكارثية الأميركية التي طالت في الثلاثينيات من القرن الماضي الشيوعيين في عِزّ سياق الحرب الباردة. لماذا؟ ببساطة شديدة، لأن مُعادل السيناتور جوزيف مكارثي، الذي طالب بمُطاردة المثقفين والفنانين الشيوعيين والمواطنين المتعاطفين معهم انطلاقًا من 1950، هو وزيرةُ التعليم العالي الفرنسية، فريدريك فيدال، التي طالبت، الأسبوع الماضي، في جلسة لأعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) بالتحقيق في ما أَسمته بتيار “اليسار الإسلامي”. ويُفهَم من كلامها “أنه أصبح سرطانًا يجب وضع حدٍّ لانتشاره في المجتمع الفرنسي بوجه عام، وفي الجامعات والمراكز البحثية، ومنها المركز الوطني للبحوث العلمية”.
الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الغربي والشرقي في عِزِّ الحرب الباردة، أو الترويج لما أسماه المكارثيون بـ”الخوف الأحمر”، هو نفسُه الصراع الأيديولوجي المحموم الدائر بين أنصار اليمين واليمين المتطرف، واليسار المتطرف، كما تُصوِّرُه وسائل الإعلام الفرنسية منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، والذي بلغ ذِروَتَه في فرنسا إثر الاعتداءات الإرهابية التي عرفتها فرنسا في السنوات الأخيرة.
الفرق اللافت الوحيد بين سياق الفترة الأميركية المكارثية المذكورة، والسياق الفرنسي الراهن، يتمثل في لونٍ ثانٍ يُضافُ إلى اللون الأحمر الذي يقصد به أنصار اليسار المتطرف، أو المغالي، وذلك بعد أن أصبح الخطر الذي يتهدد فرنسا مُزدوج الهوية واللون في نظر الوطنيين السياديين الفرنسيين، إثر تحالف اليساريين المتطرفين مع الإسلاميين المتطرفين الخضر على حد تعبير الكاتب الصحافي الراحل الشهير، إريك رولو، لكاتب هذه السطور، بمناسبة حديث عن خلفيات وآثار هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أنظر كتاب “11 رؤية في 11 سبتمبر”).
تكريسًا لتقليد تغطية القضايا والأحداث الثقافية التي تهزُّ فرنسا، وخاصة تلك التي لها علاقة بالعالم العربي والإسلامي، تقف “ضفة ثالثة “هذه المرة عند الضجة المرشحة للاستمرار، بعد أن مهَّدَت لها وزيرة التربية، إثر تحميلها اليسار المتطرف مسؤولية السكوت على خطر انتشار الإسلاموية في المؤسسات التعليمية، بعد مقتل الأستاذ صمويل باتي على قارعة الطريق.
في ما يلي، إحاطة بالقضية اعتمادًا على رصد صحافي لأهم ما قِيل عنها من مُمثلي الأطراف التي ما زالت تتبادل التهم المجانية عند بعضهم، والحقيقية عند بعض آخر، وعلى ردود بعض المثقفين الفرنسيين والعرب الذين قَبِلوا الإجابة على هذا السؤال الثلاثي الأضلاع: كيف تعلقون على تصريح وزيرة التعليم العالي؟ وما هو هامش الحقيقة من الوهم في تصريحها؟ وهل هو إعلان مكارثي صريح؟
كما كان منتظرًا، لم يَرد بعض المبدعين العرب والفرنسيين على السؤال، الذي يكشف في تصوُّرِنا عن حرج وجودي غير مسبوق، وخاصة للمثقفين اليساريين الذين اصطفوا في طابور التقاطع مع مكارثيين فرنسيين باسم محاربة التطرف الإسلامي وحده، من دون الأنواع الأخرى من التطرف.
فرنسوا بورغا (بروفيسور وكاتب مستعرب): الجمهورية تسير نحو الوراء!
جمهورية فريدريك فيدال، وزيرة التعليم العالي، وجيرالد درمانا، وزير الداخلية، تسيرُ جيدًا للوراء، ولكن على رأسها، ونحو الأسوأ. تسميةُ اليسار الإسلامي ظهرت في السنوات الأخيرة، وهي وصمةُ عار في جبين أصحابها الذين يَسعون إلى تشويه المثقفين غير المسلمين الذين يُساندون مطالب المنحدرين من المستعمرات. خلفية القضية ليست جديدة، إذا عرفنا أن بعض الزملاء، الذين يُشكلون أقلية أكاديمية، أصبحوا يرفضون القواعد الإدارية التقليدية التي تأتي بشكل أحادي من الأعلى لتقييم أعمالهم. التشويه الذي طال الزملاء لم يَقُده إعلام اليمين المتطرف فقط، بل شاركت فيه الحكومة من خلال وزيرة التعليم العالي، الأمر الذي أفاض الكأس. الأدهى والأمر في القضية، ورغم عدم اعتبار التعبئة التي يعرفها المركز الوطني للبحث العلمي أمرًا مرفوضًا قانونيًا، فإن كُرَّاس شُروط الطلب الذي أُرسِل إليها مُخيف حقًا. وزيرة التعليم العالي، التي قالت: “ليس هناك ما يستدعي القول إن اليسار الإسلامي الذي انتشر في المجتمع كالسرطان.. لا ينتشر في الجامعة”، راحت تستبق بشكل فُجائي التحري المطلوب علميًا، بتأكيدها صحة انتشار ما تسميه باليسار الإسلامي في الجامعة، وكأنها تطرح فرضية انتشاره كحقيقة في شكل: هل تثبت صحة وجود ظاهرة اسمها “اليسار الإسلامي”؟ بهكذا طريقة مقززة ومرفوضة لم تعرفها المؤسسات العلمية من قبل، تكون الوزيرة قد حَظيت بتزكية غير محدودة لإضفاء الطابع العلمي على ادعائها بدعم الأقلية من الباحثين الذين رقُّوها.
ما قامت به الوزيرة يندرج ضمن تدخل الدولة في تسيير الشأن الديني، بتحديد ما هو الإسلام الجيد، وغير الجيد. هذه العملية خطيرة، وتتناقض مع كل المبادئ التي تدَّعيها الحكومة الحالية، وعلى رأسها حرية التعبير في الجامعة. هذه الجمهورية هي فعلًا تسير، لكن على رأسها نحو الوراء.
سلام الكواكبي (كاتب وباحث): الوزيرة تنافس اليمين المتطرف
تصريح الوزيرة إما هو خروج عن النص الحكومي، أو هو بالون اختبار لجس نبض الحقل الأكاديمي، ومعرفة مدى تأثير مستشاري الحكومة العلميين، مثل جيل كيبال، وبرنار روجييه، الذي يعود فضل اختراع المصطلح لهما، أو تجديد العمل به على الأقل، لأن اليمين المتطرف يدعي أُبُوّته، وهذا أقرب إلى الدقة.
ويبدو من خلال تراجع جُل أعضاء الحكومة عن دعم الوزيرة، إضافة إلى تصريحات مستشاري الرئيس الناقدة لموقفها، على أنه قد جرى تنبيه الوزيرة إلى عدم فتح ملف تصادمي جديد مع الحقل الأكاديمي، في حقبة مليئة بتوترات اجتماعية واقتصادية ناجمة عن الحالة الصحية الكارثية، وفي ظِلِّ أولوية معالجة الوضع المأساوي النفسي والاقتصادي لمئات الآلاف من الطلاب الجامعيين. وحده وزير الداخلية أثنى على شجاعتها، وهو معروف بأنه يحمل طموحات سياسية تتجاوز إيمانويل ماكرون في المدى المتوسط. كما أنه عُرِف بمواقفه الأشد تطرُّفًا على يمين التجمع الوطني اليميني المتطرف. وسبق لوزير التربية بلانكير أن استعمل المصطلح نفسه، لكنه غاب عن تصريحاته الأخيرة، ولم يخرج ليؤيد زميلته في مغالاتها غير المحسوبة. وعبَّر مجلس رؤساء الجامعات، كما مدير المركز الوطني للبحث العلمي، عن صدمتهما وإدانتهما للعقلية التي تقف خلف اللجوء إلى تبني خطاب يميني متطرف، في سعي إلى جذب الانتباه من قبل وزيرة لم يكن اسمها يَرِدُ حتى في الصفحات الداخلية للصحف المحلية. إن توقفت الأمور عند هذا المستوى، مع إجماع شبه كامل في الأوساط البحثية والجامعية على إدانة تصريحها، فلن يخشى من توجهات مكارثية. أما إن احتاج الخطاب الرسمي، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، إلى مزيد من التشدد، ومنافسة اليمين المتطرف، ففرنسا مقدمة على فترة حرجة سيتصدى لها المجتمع المدني بما فيه الأكاديمي، بكل تأكيد.
ألان غريش (كاتب وصحافي): مفهوم فارغ!
مفهوم “اليسار الإسلاموي” مفهوم فارغ، كما أكدته ندوة رؤساء الجامعات، وهو مفهوم اليمين المتطرف الذي يوظفه ماكرون منذ عدة شهور، وقبل الوزيرة فريدريك فيدال، استعمل وزيرا التربية والداخلية المفهوم نفسه.
وقبل تصريح وزيرة التعليم العالي، طالب 100 جامعي بصيد الساحرات، ومن بينهم برنار روجييه، وبيار فيرميرين، ومارسيل غوشيه، وبيار هنري تاغييف. وعليه، لا يجب أن نُفاجأ بخرجة وزيرة التعليم، بعد أن رأى وزير الداخلية دارمان أنّ مارين لوبان كانت مرِنة، وغير قاسية بالقدر الكافي مع الانفصاليين الإسلاميين. كل هذا يدخل في مزايدات الأغلبية الحالية قبل الانتخابات الرئاسية. ويجب الإشارة إلى أن اليسار يسير على ترددات أمواج اليمين التقليدي نفسها، باسم محاربة الإرهاب، الأمر الذي يزيد من تغذية الخوف من الإسلام، وتشويه المسلمين.
صادق سلام (مؤرخ وأستاذ جامعي): شيطنةُ الإسلام بعد توظيف الذاكرة الاستعمارية
لا يجب إخراج تصريح وزيرة التعليم العالي عن انتشار ما أسمته باليسار الإسلامي عن سياق هذه الفترة التي تُعدُّ حملة سياسية للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى العام المقبل، سيما وأن حصيلة حكم الرئيس ماكرون منذ 2017 تعد هزيلة وناقصة.
انطلاقًا من هذا المعطى، الرئيس ماكرون مُضطرٌّ لأن يبحث عن مخارج وأشكال جديدة لاصطياد الأصوات الانتخابية، وهذا ما قام به سلفه، الذي وجد نفسه في الوضعية التي يعرفها الرئيس ماكرون. عام 2011، راح الرئيس السابق ساركوزي يُشيطن الإسلام لصيد أصوات الإسلاموفوبيين والاستئصاليين الأمنيين، وفعل الشيء نفسه مانويل فالز، وزير الداخلية السابق، مستفيدًا من هجمات 2015 الإرهابية.
الترويج لليسار الإسلامي، واتهام جامعيين وباحثين بتمثيله، يندرج في إستراتيجية انتخابية مماثلة للتي انتهجها ساركوزي، وهي الإستراتيجية التي تشمل، أيضًا، توظيف الذاكرة الاستعمارية، وقانون الانفصالية، بهدف خطف أصوات انتخابية من مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف. كما أن هذه التهمة تستهدف عرقلة جان لوك ميلانشو، قيادي حزب “فرنسا غير الخاضعة” المناهض لليسار واليمين واليمين المتطرف في الوقت نفسه.
في اعتقادي، هنالك انعكاسات سلبية لهذه الإستراتجية، لأن السعي لانتزاع أصوات انتخابية من مارين لوبان بالقول إنها لينة مع الإسلاميين، أمر لا يخدم بالضرورة أصحاب إستراتيجية انتشار اليسار الإسلامي في الأوساط الأكاديمية. ويُمكن، في ظل ذلك، أن تذهب أصوات المسلمين الأكثر عدديًا من متطرفي الجبهة الوطنية إلى الجهة المستهدفة التي تُعادي تدخُّل الحكومة الحالية في تسيير الديانة الإسلامية.
أخيرًا، أضيف أن رد فعل الباحثين الأكاديميين السلبي، والمدعوين إلى الاشتغال حول مفهوم اليسار الإسلامي قد يخدم جان لوك ميلانشو.
أحمد شنيقي (بروفيسور وكاتب وصحافي): دعوة الوزيرة وتقرير سطورا حول ذاكرة الاستعمار
أحدثت وزيرة التعليم العالي ضجة سياسية وإعلامية وفكرية بطلبها، الذي يعد فضيحة، إلى تسليط الرقابة على البحث الأكاديمي الذي يعنى بفترة ما بعد الحقبة الكولونيالية والدراسات الثقافية. دعوة الوزيرة لا تخرج عن إطار الحملة الإعلامية والسياسية لليمين واليمين المتطرف ضدَّ الدراسات الثقافية والاجتماعية المذكورة، والمبرمجة في الجامعات العالمية الكبيرة.
رؤساء الجامعات، ومسؤولو المركز الوطني للأبحاث العلمية، نددوا بعملية صيد الساحرات، وبالحملة المكارثية الهادفة إلى نزع الشرعية العلمية عن دراسات فكرية ومعرفية. هذه الحملة غير منفصلة عن مسألة الذاكرة الاستعمارية (أنظر تحقيق “ضفة ثالثة” الأسبوع الماضي)، وليس من المُصادفة بروز دعوة وزيرة التعليم العالي مباشرة بعد الضجة التي تسبب فيها تقرير المؤرخ بنيامين سطورا، الذي صدر أخيرًا بطلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
قبل دعوة الوزيرة، دعا 100 جامعي قبل شهور إلى تصفية الجامعة من اليساريين الإسلاميين المتخصصين في دراسات ما بعد الحقبة الكولونيالية، قبل أن يرد عليهم حوالي ألفي جامعي منددين بشرطة الفكر، على حد تعبيرهم في البيان الذي أصدروه. هذه الدعوة الهادفة إلى الكشف عن قائمة الباحثين “المندسين” تستهدفُ في الجوهر عرقلة، بل ومنعَ الفكر الثقافي والاجتماعي الذي يعنى بالحقبة الكولونيالية، فهل يجب القضاء على فوكو، وألتوسير، ودريدا، ودولوز، وهمبولدت، ولاكان، وبارت، ورونسيير، وموران، وعلى آخرين تخصصوا في الأنثربولوجيا، وفي تحليل الخطاب والفلسفة؟
عمر أزراج (شاعر وكاتب وصحافي): ترهيب فكري يرفض أصحابه التعددية الفكرية
سيُحرِّك تصريح وزيرة التعليم العالي، من دون شك، آلية التحقيق في الجامعات الفرنسية، لرصد ما تدعوه بالفكر الإسلاموي. تصريحها لا يخرج عن إطار الرفض النمطي الذي يقوده اليمين المتطرف، بمختلف أشكاله، في عدد كبير من الدول الأوروبية، ومن بينها فرنسا، ضد التعددية الثقافية والفكرية والروحية، الأمر الذي يُؤكِّد صحة الهوس المتفاقم لليمين الفرنسي بالآخر الأجنبي وثقافته المختلفة. ويعتبر هذا النوع من الترهيب الفكري تكرارًا نمطيًا لتدخلات اليمين الغربي المتطرف لمحاربة الفكر المخالف الذي لا ترضى عنه الأيديولوجية اليمينية، مثلما حصل في عهد المكارثية الأميركية.
موقف الوزيرة الفرنسية لم ينزل من الفراغ، بل هو إسقاطٌ نفسي معاصر لبقايا مخزون السلوك الصليبي القديم الذي لا يزال حيًا في لاوعي قطاع واسع من المكون البشري لليمين الأوروبي الغربي المعادي للمسلمين بشكل سافر. الغريب في الأمر أن اليمين الأوروبي ينشط بقواعده وأحزابه السياسية عَلنًا بحماية من قوانين دول الإتحاد الأوروبي، وفي غياب أرضية مشتركة بينها تسمح بمواجهة الإخلال بالأمن الاجتماعي والثقافي للجاليات المسلمة، وفي صدارتها الجالية المغاربية. ففي بريطانيا، مثلًا، يَنشط اليمين المتطرف المنظم، ويعادي جهرًا الجاليات المسلمة، وهو الذي أعاد “صنم الوطنية” الإنكليزية المغلقة إلى المسرح السياسي بقناع فصل بريطانيا عن أوروبا القارية.
إن دعوة الوزيرة الفرنسية صادرة عن ذهنية متأصلة في السلوك الكولونيالي الذي ينُصُّ على إخضاع الآخر لقوالب ومعايير الثقافة الفرنسية، من دون أن نسمح له بالتقدم بتطوير هويته خارج هذه القوالب. وجهُ الاختلاف بين اليمينين الفرنسي والبريطاني يتمثَّلُ في سعي الثاني إلى احتواء الآخر المسلم، وإبعاده عن هويته الثقافية البيضاء، وعن فضائه الطبقي، ومن ثمة تجهيزه لاستخدامه حين يحتاج إليه في معاركه داخل البلدان الأصلية المسلمة، وكلُّ ذلك في إطار تفعيل عدم تغييره، بل إبقائِه كما هو في المنزلة الدنيا.
فاروق مردم بيك (مسؤول سلسلة “سندباد” في دار “أكت سود”): الحكومات الفرنسية والمسألة الإسلامية
تصريحُ وزيرة التعليم العالي دليلٌ جديد على إمعان الساسة والإعلاميين في وأد المبادئ الديمقراطية التي تتلخص في شعارات الحرية والمساواة والإخاء، وذلك باسم تثبيتها والدفاع عن العلمانية. جوهر الأمر يَكمُن في عجزِ الحكومات الفرنسية المتعاقبة عن حل المسألة الإسلامية، بأبعادها الاجتماعية والسياسية والدينية والأمنية، ويكفُل في وقت معًا ممارسة المسلمين شعائر دينهم بكرامة، واندماجهم في المجتمع الفرنسي، وحمايتهم من الدعوات الجهادية والانفصالية. أدى ذلك إلى هستيريا تنصَبُّ يومًا على الحجاب، ويومًا على اللحم الحلال، وتسعى الآن إلى تطهير الجامعات والمؤسسات البحثية من الدراسات التاريخية والاجتماعية التي لا تتوافق مع الأيديولوجية الاستعمارية العنصرية السائدة في أوساط اليمين، وبعض اليسار. انحطاط سياسي وأخلاقي مضحك حينًا في إسفافه، ومبكٍ في عواقبه.
مارك ويتزمان: اليسار الإسلاموي حقيقة في الجامعة!
تجسيدًا لتوازن يضمن الرأي والرأي الآخر، ندرج شهادة الصحافي مارك ويتزمان، الذي راح يُؤكد في ندوة القناة الخامسة التلفزيونية العمومية حقيقة رواج اليسار الإسلامي في الجامعة، مذكرًا بحضور حورية بوثلجة، الناشطة الجزائرية الأصل، ومؤسسة جمعية “أهالي الجمهورية”.
الصحافي الذي دافع عن اليسار الإسلامي، كمصطلح حقيقي نظَّر له بيار هنري تاغييف في نظره، بقي مصرًا على رأيه، رغم ردِّ الأستاذة والباحثة الاجتماعية، سارة عزوز، التي برهنت له أنه يَخلِط بين الدروس الأكاديمية غير المرادفة للأيديولوجيا، كما يُوحي، وبين النشاطات الفكرية التي تنظم على هامشها.
الأستاذ ميكولا أوتنباخ، زميلها في جامعة ليل، أكد هو الآخر أن الصحافي ويتزمان فاقد للمصداقية، لأنه يَعتبر اليسار الإسلامي ظاهرة، من دون تقديم الأدلة الدامغة، الأمر الذي أكده الصحافي والكاتب، كريستوف بورسييه، صاحب كتاب “قصة أقصى اليسار وليس اليسار المتطرف”.
غالب بن الشيخ (بروفيسور وكاتب): من السابق للأوان التحدث عن مكارثية
الحكماء يتفوهون بجمل مفيدة، وليس التفوّه بكلمة تمثل مصطلحًا غير مفهوم، وغير موجود. وعليه، يمكن القول، كتحصيل حاصل، إن وزيرة التعليم العالي لم تَكن حكيمة. الوزيرة قصدت بالتيار الإسلامي، وليس الإسلاموي، وهذا هو الخطأ، وهذه كلمة تسيء للمسلمين مثل الكلمات الأخرى المنتشرة غير الدقيقة. إذا قصدت الوزيرة الذين تواطؤوا عن قصد، أو عن غير قصد، مع أصحاب الأطروحات الإسلاموية، فإن كلامها حقيقة، وأنا أعرف جيدًا الأوساط الأكاديمية التي قصدتها، وعلى رأسها المركز الوطني للبحث العلمي. وهذا لا يعني أنني أتفق مع الجامعيين الذين يؤكدون على انتشار هذا المصطلح الخاطئ، من أمثال الذين ذكرتهم (حاورت بن الشيخ هاتفيًا، وذكرته بهنري بيار تاغييف، الذي أصبح يُعتَمَدُ كمنظر لمصطلح اليسار الإسلامي، وأضاف بن الشيخ برنار روجييه، وجيل كيبال، وهما من مستشاري الرئيس الفرنسي ماكرون).
إنَّ وصف ما يوجد على الهامش في الجامعات على أيدي أقصى اليسار بالظاهرة خطأ آخر، لأنه لم يبلغ درجة تسمح بالتحدث عن تعفن، أو عن ورمٍ مُتَمَدِّد، كما أنه من السابق لأوانه التحدث عن مكارثية على الطريقة الأميركية، يُطارد بموجبها من تواطأ، كما ذكرت مع الإسلاميين عن قصد، أو عن غير قصد، وأصبح يعتبر المسلمين بروليتاريا يجب التحالف معهم.
ما يؤسفني أكثر هو انتشار سُلطة خامسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل مكَّن الرّعاع من الطغيان على حساب الدارسين الأكاديميين، وفتح المجال لليمين المتطرف من التعبير بشكل غير دعائي، وغير علمي، لمصارعة اليسار المتطرف على ظهر الإسلام والمسلمين.
أخيرًا، لا أعتقد، أيضًا، أن دعوة الوزيرة تدخل في إطار ما يسمى بصيد الساحرات. لقد تحدثت عن المصطلح الخاطئ، من دون علم منها بحقيقة ما يجري، مِثل ما هو أمرُ كل من يستعمل مصطلح “اليسار الإسلامي” جزافًا. وما دام ليس لدي معلومات أن الوزيرة تحدثت بخلفية الإستراتيجية الانتخابية، كما يقول بعضهم، أكتفي باعتبار كلامها فرضية واردة، كما جاء في سؤالكم.
ضفة ثالثة
————————-
وزيرة التعليم الفرنسية: اليسار الإسلامي “غرغرينا” أكاديمية واجتماعية!/ حسن مراد
يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو أن “تسمية الأمور بغير أسمائها، تضاعف من مآسينا”. عبارة تصح في وصف الجدل الذي اثارته وزيرة التعليم العالي الفرنسية فريدريك فيدال في الأيام الماضية حول خطر تغلغل “اليسار الإسلامي” في الجامعات الفرنسية.
تعليقات فيدال أتت خلال مقابلة على محطة “CNEWS” بعدما عنونت صحيفة “Le Figaro” ذات التوجه اليميني، في 12 شباط/فبراير الجاري على صفحتها الأولى: “كيف يتغلغل اليسار الإسلامي في الجامعات كالغرغرينا؟”. واعتبرت الوزيرة أن “غرغرينا اليسار الاسلامي” تصيب المجتمع بأسره والجامعات ليست بمنأى عن ذلك. وأضافت أنها طلبت من المركز الوطني للبحوث العلمية “CNRS”، وهو أبرز هيئة حكومية تعنى بالأبحاث الأكاديمية، إجراء تحقيق حول الأبحاث التي تتبنى هذا التوجه الفكري، مضيفة أن عدداً من الأساتذة يستغلون منبرهم الأكاديمي للترويج لأفكار متطرفة من شأنها إحداث شرخ داخل فرنسا.
وبلغ الجدل الداخلي مداه حين عادت فيدال وأكدت على موقفها خلال جلسة للجمعية الوطنية، أشارت خلالها أن غايتها هي تبيان الأبحاث ذات المضمون العلمي من تلك التي تحمل مضموناً سياسياً، ما استفز بدوره الوسط الأكاديمي، فالمركز الوطني للبحوث العلمية أصدر بياناً انتقد فيه محاولة الحد من الحرية الأكاديمية مذكراً بأن “اليسار الإسلامي” ليس إلا تعبيراً سياسياً لا يحمل أي مضمون أو أساس علمي.
كذلك فعل “تجمع رؤساء الجامعات” الذي أصدر بياناً مشابهاً أبدى فيه ذهوله من هذا “الجدل العقيم”. ومن خلال عريضة نشرتها صحيفة “Le Monde” اليسارية طالب ما يزيد عن 600 أستاذ جامعي باستقالة فيدال بعدما اتهموها بالخلط بين الشعارات السياسية والأنشطة البحثية المعترف بها.
السياسيون المحليون اتخذوا بدورهم وضعية هجومية، فحث جان لوك ميلانشون، مرشح أقصى اليسار للانتخابات الرئاسية، أساتذة الجامعات على عدم الرضوخ لـ”شرطة الفكر”، وهي عبارة وردت في رواية “1984” الشهيرة لجورج أورويل. فيما اتهم أمين عام الحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، السلطة السياسية بتدخلها في ما يجب تلقينه للطلاب كما بالأبحاث التي يتوجب على الأساتذة القيام بها. ووصف بعض النواب المحسوبين على الجناح اليساري للغالبية النيابية، تصريحات فيدال بالحمقاء.
ويلاحظ وجود انطباع عام داخل فرنسا يعتبر أن اليساريين يشكلون النسبة الأكبر من الاساتذة الجامعيين ما يفسر استنفار الوسط اليساري على وجه الخصوص، بوسائله الاعلامية وشخصياته العامة، للرد على فيدال. ولم يكن رواد مواقع التواصل الاجتماعي بمنأى عن هذا الغليان، فتداولوا على نحو واسع هاشتاغ #VidalDémission يدعو إلى استقالة الوزيرة. كما سلطت غالبية التغريدات الضوء على الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها الطلاب بسبب جائحة كورونا، معتبرين أن الأجدر بفيدال التفرغ لهذه الأولوية بدلاً من الهروب إلى الأمام لطمس فشلها.
إلى ذلك، فرضت حالة من السخط والاستنكار الشديدين نفسها على المشهد الإعلامي الفرنسي طوال الأسبوع الفائت ما دفع بفيدال إلى توضيح موقفها عبر مقابلة مع صحيفة “Le JDD” شددت خلالها على عزمها مقاربة هذا الملف من زاوية علمية عقلانية بحتة. أما الرئيس إيمانويل ماكرون فبدا غير متحمس لدعم فيدال بصورة مطلقة.
وهنا، كرر ناطقٌ باسم الحكومة تمسك ماكرون باستقلالية الأساتذة الجامعيين وأن أولوية الحكومة تبقى توفير الدعم المادي للطلاب في مثل هذه الظروف الصحية ليعود في وقت لاحق ويؤكد أن فيدال مازالت تحظى بثقة الرئيس. وبالمقابل انحاز وزيرا الداخلية والتربية بوضوح إلى صف فيدال، فالأول حيّا شجاعتها فيما اعتبر الثاني أن اليسار الإسلامي “حقيقة اجتماعية لا لبس فيها”. بدوره أشاد حزب الجبهة الوطنية (اليميني المتطرف) بخطوة فيدال كما هب عدد من الأساتذة الجامعيين للدفاع عن قرار الوزيرة عبر مقابلات صحافية.
والحال أن أسباباً عديدة تفسر البلبلة التي اجتاحت فرنسا: السبب الرئيسي ذكره بيان المركز الوطني للبحوث العلمية ومفاده أن تعبير “اليسار الإسلامي” سياسي بحت. بالتالي، التحقيق الذي طلبته فيدال من شأنه إضفاء صبغة علمية على هذه العبارة السياسية من دون وجه حق، بمعنى آخر شرعنته. فالمرة الأولى التي ظهر فيها هذا التعبير كانت العام 2002 على يد الباحث بيار أندريه تاغييف الذي عاد وأوضح في مقابلة مع صحيفة “Libération” قبل أربعة أشهر، أن ما قصده حينها كان وصف التحالف الناشئ بين أوساط إسلامية من جهة ويسارية من جهة أخرى باسم القضية الفلسطينية، معبراً عن أسفه لحرفه عن معناه الأصلي.
واعتبر الباحث في التاريخ السياسي، إسماعيل فرحات، أنه ابتداء من ستينيات القرن الماضي، نظرت أحزاب أقصى اليسار الفرنسي إلى المسلمين الذين هاجروا إلى فرنسا كـ”محرك للثورة” على اعتبار أن شريحة واسعة منهم كانت من عمال المصانع. بالتالي يمكن استقطابهم سياسياً ونقابياً عبر الجمع بين “الهوية الطبقية والهوية الثقافية”. أما احزاب وسط اليسار، فحملت منذ السبعينيات لواء الدفاع عن الحقوق الثقافية لمختلف الشرائح الاجتماعية المضطهدة (المثليون، حقوق المرأة، …) معتبرة أنها تشكل امتداداً للحقوق المدنية والسياسية والثقافية. وصحيحٌ أن الدفاع عن حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية لم يكن عنوان تلك الحقبة، لكنها شكلت أساسها البنيوي.
ومع بداية الألفية الثالثة ولا سيما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية وغزو العراق، بات بعض السياسيين الفرنسيين ذوي التوجه اليساري، يميلون ويسوقون لهذا التقارب معتبرين أنه يندرج في خانة التصدي للإمبريالية والنيوليبرالية. لكن مع تتالي العمليات الإرهابية داخل فرنسا من جهة، والتشبث المتزايد بالقيم والمبادئ الجمهورية من جهة أخرى، بات تعبير “اليسار الإسلامي” يحتل مكانة متقدمة في الخطاب السياسي والاعلامي ويستخدم للإشارة إلى “الخائنين”.
وهنا، يعرّف الباحث المتخصص في العالم العربي جيل كيبيل، “اليساريين الإسلاميين” بفئة من “المثقفين الذين يشعرون بعقدة ذنب تجاه الشعوب التي عرفت الاستعمار”. من جهته رأى الفيلسوف مارسيل غوشيه أن احزاب أقصى اليسار وجدت في المسلمين “بروليتاريا بديلة”. ومن وجهة نظر الكاتب باسكال بروكنير، انبهر اليساريون المتطرفون بالجهاديين وبـ”قوتهم البركانية”.
ويمكن القول أنه لا إجماع على تعريف “اليساريين الإسلاميين” ما يدعم الحجة القائلة أن هذا التعبير يفتقد لأي أساس علمي، بل هو تعبير سياسي يستخدم للتصويب على “عصفورين” في آن واحد: اليساريين والإسلاميين، ما يحيل إلى تعبير “البلشفية اليهودية” المستخدم سابقاً لمناهضة الأحزاب الشيوعية عبر استحضار معاداة السامية.
ووفقاً للباحث في العلوم السياسية صاموئيل آيات، تحول مفهوم “اليسار الإسلامي” إلى فزاعة تجمع كل من يسعى إلى وسم المسلمين، محاربة اليسار ونزع الشرعية عن العلوم الاجتماعية .ونالت النقطة الأخيرة حصة وافرة من الجدل بعدما اعتبر العديد من الباحثين والأساتذة الجامعيين أن التحقيق الذي طلبته وزيرة التعليم العالي يحمل في طياته تصفية لحسابات أكاديمية. والمقصود في هذا الصدد الأكاديميون المتخصصون في “ما بعد الاستعمار” وهو حقل أكاديمي يهتم “بدراسة وتفكيك الآثار المترتبة على الاستعمار وعلاقات القوة والسلطة التي نشأت في خضم تلك الفترة وبعدها على مختلف الأصعدة: الأدب، علم الاجتماع، التاريخ، السياسة، الثقافة، الاقتصاد، الأنثروبولوجيا”، علماً أن فيدال اتخذت من هذا الحقل الأكاديمي نموذجاً للتصويب على ما وصفته بظاهرة اليسار الاسلامي داخل الجامعات.
وأتى المركز الوطني للبحوث العلمية على ذكر هذه النقطة قد في بيانه، مستخدماً التعبير ذاته، “نزع الشرعية عن عدد من الأبحاث لا سيما دراسات ما بعد الاستعمار”. وتوصلت الباحثة في العلوم الاجتماعية، روز ماري لاغراف، إلى الخلاصة نفسها، حين أشارت قبل أشهر إلى أن نزع هذه الشرعية يحمل غرضاً سياسي يتمثل في محاولة السلطة تجميل الواقع، فيما تنشط هذه الدراسات لتسليط الضوء على ظواهر الفقر والعنصرية وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية.
ولا يمكن فصل هذا الجدل عن المناخ السياسي الداخلي الفرنسي. من المؤكد أن ما اقدمت عليه الوزيرة فيدال كان اجتهاداً شخصياً منها بلا تنسيق مع ماكرون أو رئيس الوزراء. لكن هذا الاجتهاد لم يولد من فراغ، فرغم أن الجهود الحكومية منصبة حالياً على احتواء أزمة كورونا، لكن استعدادات ماكرون لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة جارية على قدم وساق، وتجلت جزئياً في محاولة استمالة ناخبي اليمين المتطرف كطرح مشروع قانون “تعزيز مبادئ الجمهورية”، المعروف إعلامياً بقانون “مكافحة النزعة الانفصالية”. كما ضج الوسط الإعلامي والسياسي الفرنسي بالمناظرة التي جمعت مؤخراً وزير الداخلية جيرالد دارمنان ومرشحة اليمين المتطرف للانتخابات الرئاسية مارين لوبان، اعتبر فيها دارمنان أن مواقف لوبان من الإسلام تمتاز “بالميوعة” في مزايدة واضحة عليها.
على أن أن استراتيجية ماكرون في استمالة ناخبي اليمين المتطرف قائمة حتى قبل أزمة كورونا. وازدادت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة بعد نشر استطلاع للرأي يرجح حصول لوبان على 48% من أصوات الناخبين في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية العام 2022. كما أشار الاستطلاع المذكور إلى إمكانية امتناع شريحة واسعة من ناخبي اليسار عن الاقتراع في الدور الثاني إذا ما انحصرت المنافسة بين ماكرون ولوبان، ما يقلص الفارق بين المرشحين وبعزز فرص لوبان لتولي رئاسة البلاد.
من الواضح إذاً أن فيدال أخطأت في حساباتها على أكثر من صعيد، وتحديداً محاولة “السطو على الدراسات الأكاديمية”، ما شبهه بعض الصحافيين بتطويع الأكاديميين سياسياً. كما امتازت وزيرة التعليم العالي بغياب شبه تام عن المشهد الداخلي رغم حاجة طلاب الجامعات لدعم حكومي بسبب ظروفهم المعيشية الناتجة عن جائحة كورونا. وعليه تركزت الانتقادات في جانب أساسي على افتقادها للكفاءة اللازمة لتولي منصب رسمي وذلك لعجزها على تحديد الأولويات ومعالجتها.
أما الخطأ الثالث فكان تناسي فيدال أن ماكرون يلهث كذلك لاستمالة ناخبي اليسار ولا ينصب اهتمامه على اليمين المتطرف وحده. وبالتالي، اظهرت فيدال قصر نظر خصوصاً أن عدداً من الصحافيين يعتبر أن ماكرون “ينهل” من دراسات “ما بعد الاستعمار” لبلورة بعض جوانب سياسته الخارجية، حيث كلف المؤرخ، بنجمان ستورا، إعداد تقرير حول سبل تعزيز المصالحة بين الشعبين الفرنسي والجزائري.
المدن
————————–
فرنسا ضد نفسها/ شادي لويس
“أعتقد بأنه من المهم النظر إلى فرنسا على أنها دولة الثورات، وأرض الرجعية العظيمة على السواء. غالباً ما أتناقش مع أصدقائي الأجانب حول هذا، لأنهم ما زالوا يحملون تقديراً لأسطورة فرنسا الرائعة التي تقف دائماً على حافة الاختراعات الثورية…المشكلة أن هناك جانباً آخر من القصة. هناك تاريخان/قصتان لفرنسا وهما متضافرتان”.
(آلان باديو، في مديح الحب).
في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ألقت، ليز تروس، وزيرة الدولة البريطانية لشؤون المرأة والمساواة خطاباً أثار الكثير من الجدل بشأن تدريس موضوع التمييز في المدارس. حذفت الحكومة، في اليوم التالي، نص الخطاب من موقعها الرسمي. فتروس ادعت أنه، ومع التركيز على دراسة العنصرية والتمييز الجنسي في مدرستها، لم يكن هناك ما يكفي من الوقت لتعلم القراءة والكتابة. المثير للسخرية، أن الوزيرة المنتمية لحزب المحافظين، كانت تتحدث عن مدرستها في عقد الثمانينات، في ظل حكومة المحافظين، وحكومة ثاتشر على وجه التحديد والمعروفة بلا شك بسياستها اليمينية المتصلبة. ألقت تروس باللوم على “فلسفة ما بعد الحداثة – التي كان ميشيل فوكو احد مبتكريها- والتي وضعت هياكل السلطة المجتمعية والتسميات قبل الأفراد ومساعيهم”، ولم تكن تلك الإشارة الأولى من نوعها، فاليمين السياسي والأكاديمي في العالم الناطق بالإنكليزية، في بريطانيا أو أميركا الشمالية، لطالما اتهم “ما بعد الحداثة” و”ما بعد البنيوية” بإفساد المجتمعات والبحث الجامعي، عبر الدفع بسياسات الهوية والصوابية السياسية. وغالباً ما يأتي ذلك الاتهام مقترناً بوصم تلك المدارس الفكرية بالفرنسية، كدلالة على أجنبيتها، وكذا على طبيعتها المبالغ فيها، كما يحلو لحس الفكاهة الأنكلوسكسوني تصوير كل ما يأتي من فرنسا.
لكن اليمين الفرنسي ليس أقل عداء تجاه فرنسا هذه، فرنسا الأخرى، بأكاديميتها وميراثها الملهم من النظريات والأفكار النقدية والراديكالية. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2022، واستطلاعات الرأي التي تكشف جماهيرية مقلقة لماري لوبان، والتي بات من المرجح أن تصل مرة أخرى إلى الجولة الثانية من الانتخابات في مواجهة ماكرون، فإن الفوارق بين يمين الوسط واليمين تبدو غير موجودة. بل ويزايد وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمان، على لوبان نفسها، مرشحة اليمين المتطرف، ويتهمها بـ”الليونة تجاه” الإسلام، خلال نقاش تلفزيوني. يتحد وسط اليمين وأقصى اليمين الفرنسي للهجوم على فرنسا الأخرى.
“اليسار الإسلامي ينخر مجتمعنا، والجامعات ليست محصنة”، تشن وزيرة التعليم العالي الفرنسية، فريديريك فيدال، هجوماً ضمنيا ًعلى الحريات الأكاديمية، أو ما أطلق عليه منتقدوها إقامة “شرطة للأفكار”. إذ تطرح الوزيرة الفرنسية تهمة فضفاضة، وتأمر بفتح تحقيق في مسألة الباحثين “الذين ينظرون إلى كل شيء من منظور السعي لإثارة التصدّع والانقسام”، والتي تشمل بحسبها أولئك الذين يركّزون على قضايا الاستعمار والعِرق.
في مطلع الألفية، صك عالم الاجتماع الفرنسي، بيار أندريه تاغييف، مصطلح “اليسار الإسلامي” لغرض آخر تماماً، وهو وصف التشابهات بين الإسلام الجهادي وجماعات أقصى اليسار الراديكالية، لكن الوزير الفرنسية تستخدمه بالمعنى نفسه الذي يروّجه اليمين المتطرف. فدراسات ما بعد الاستعمار، التي تستهدفها فيدال بالاسم، ومعها مجالات الدراسات الثقافية المتعلقة بالعِرق أو الجنس أو الهوية (المتأثرة جميعاً بفلسفات ما بعد البنيوية الفرنسية)، لا تعد خطراً فقط بسبب تفتيتها للمجتمع وتبرير الإرهاب. بل وتبدو أيضاً، وللمفارقة الساخرة، أجنبية ومستوردة، لكن بصورة عكسية هذه المرة، أي من العالم الانكلوسكسوني، وبالأخص من جامعات الولايات المتحدة.
يقبل المركز الوطني للبحوث العلمية، الذي كلّفته فيدال بإعداد التحقيق، بإجرائه، لكنه يدين أيضاً “محاولات نزع الشرعية عن حقول من البحث مثل دراسات ما بعد الاستعمار”، وبعده يصدر “مؤتمر رؤساء الجامعات” بياناً يعبّر فيه عن “الصدمة إزاء نقاش عقيم آخر حول قضية اليسار الإسلامي في الجامعات”.
لكن ما قد يُستهان به اليوم على أنه مجرد سلسلة من المناورات الانتخابية التفاهة، يمكن أن يكون دلالة خطيرة أيضاً، فانحراف الساحة السياسية الفرنسية إلى أقصى اليمين، يوماً بعد آخر، يذكرنا بأن فرنسا يمكن لها أن تكون بلد الرجعية العظيمة، كما أنها كانت بلد الثورات الرائعة، وأن الديموقراطية هناك، وفي كل مكان آخر، يمكن أن تكون شديدة الهشاشة، وتحتاج دفاعاً دائماً عنها.
المدن
——————————
في فبركة شيء اسمه “اليسار الإسلامي”/ نجم الدين خلف الله
“اليسار الإسلامي” لقَبٌ اختَلَقه الخِطاب اليمينيّ الفرنسيّ، تمويهًا، لعدوّ جديدٍ، بعدما تَقنَّع بظَاهِر مَقولاتٍ علميّة ليَبُثَّ سُمومَه ضمن حملة انتخابيّة مَكرورة. تُصِرّ وزيرة التعليم العالي بفرنسا، فريدريك فيدال، على أنَّ “اليسار الإسلاميّ” داءٌ استفحل في جَسد الأمّة ونَخَرها، والصورة من بلاغتها السياسيّة. ثمّ تطالب مُختبرات الأبحاث في العلوم الإنسانية باستقصاء مَدى هذا الاستفحال وتَشخيص أعراضِه. وسرعان ما ردّ على هذه المغالطات أساتذةُ “المَركز الوطنيّ للبحث العلمي” (CNRS)، أكبر مختبرات فرنسا البحثيّة، بأنْ “لا حقيقةَ علميّة” لهذه التسمية.
ويعني “مفهوم” اليسار الإسلاميّ هذا، لدى مُخْتَلِقيه، وجودَ أيديولوجيا نضاليّة تتخفّى بستار المنهج العقليّ، وتُوفّر غطاءً شبه رسمي-مؤسّساتي للتمدّد الإسلاميّ في نسيج الجامعة الفرنسيّة وأعمال أساتذتها وروّادها. كما يُحيل “المفهوم” على اعتماد “المظلوميّة” الإسلاميّة، لدى فئاتٍ عريضة من المثقّفين والشباب، لإدانَة تَرسيخ الغَرب للتهميش الذي يَرزح تحتَ نِيره العالَم الإسلامي ومُحاربة الهيمنة الأميركية – الأوروبية على سائر أصقاع المعمورة. يُهدي الإسلام، بما هو ديانة ورؤيةٌ وخطاب، حسبَ هذا الزّعم، أدواتٍ تؤجّج هذا النضال وتعبّئ المشاعرَ ضدّ قيم الغَرب، التي لا ولن يَقبلها الإسلام البتّة.
راهنت الوزيرة على جعل هذه النزعة موضوعًا للعلم الاجتماعيّ وعلى استنفار مثقّفي اليمين للتصدّي لها ضمن معركة كَسر عِظام مع الإسلام، هذا المتخيَّل القائم في أذهانهم، بل وضدّ مثقّفي اليَسار، مع أنّ جلّهم يَرفضون التجنّي وسياسة الكَيْل بمكياليْن: فكم كانت الجامعة الفرنسيّة تُفاخِر بأنّها مَعقل النضال من أجل حقوق المَرأة والمثليّة الجنسيّة وحريّة تعبير رسّامي شارلي-إيبدو وحقوق الأطفال والحيوان… لكنْ حين يتعلق الأمر بإدانة تهميش المواطنين الفرنسيّين، من ذوي الديانة الإسلاميّة، يُصبح “النّضال” مَشبوهًا، وقد يُقرَن بالانفصال ويُربط بالإرهاب.
ولا تزال الماكينة اليمينيّة تُحارِب طواحين الهواء وترى الأعداء حيث لا يُوجدون. أهمَلَت الوزيرة مُهمّتها التي أُنيطت بها، وهي إدارة الحياة الجامعية التي تَعرف مرحلةً حرِجة مع الوضعيات المعقّدة الناتجة عن جائحة كورونا، ومن ذلك إنقاذٌ عاجل لمئات الآلاف من الطلاب الذين يكابدون الأمَرّين بسبب إغلاق المطاعم الجامعيّة أبوابَها واستشراء ظاهرة الكآبة وبعض حالات الانتحار… تركت كلّ هذا وراء ظهرها وانبرتْ تُواجه مسألة ملفّقة. هذا التلفيق مفضوحٌ في فرنسا ذاتها، حيث بدأت تنتشر مطالبات الجامعيّين باستقالتها، كما أنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصدّى لهذه المغالطة. لعلّه هو الآخر منشغلٌ بترتيب برنامجه الانتخابي.
حين نرى الزوبعة التي اختلقتها الوزيرة الفرنسية لا نملك إلّا أن نقول: ما بال هؤلاء السياسيّين كلّما فَشلوا، اتّخذوا من المسلمين حائطًا قَصيرًا؟ وهذه من بلاغتنا.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
العربي الجديد
——————————-
الحرب الثقافية في فرنسا: هل استسلمت الكونية الفرانكوفونية أمام سياسات الهوية الأمريكية؟/ محمد سامي الكيال
تشهد فرنسا حالياً معركة ثقافية، لا يقتصر تأثيرها في متكلمي الفرنسية فحسب، بل لها أبعاد عالمية، متعلقة بالأيديولوجيا المعاصرة برمتها، فبعد سنوات من الحديث عن خطر الإسلام السياسي و»الانفصالية الإسلامية»، بدأ مثقفون وسياسيون فرنسيون يستشعرون الخطر، من مصدر لم يكن مألوفاً الحديث عنه: الأيديولوجيا الأمريكية، التي توصف بـ»اليسارية الليبرالية»، فالنزعة الهوياتية الإسلاموية، التي يراها البعض مهددة لوحدة الأمة الفرنسية، ولمبدأ المواطنة الجمهورية، لا تأتي من التراث الإسلامي، أو تنظيرات الأصوليين المسلمين فحسب، بل تجد غطاءها الأيديولوجي الأهم في شبكة معقدة من وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية والأكاديميات، التي يتمركز ثقلها الأساسي في الولايات المتحدة، وتروّج لسياسات الهوية والنسبوية الثقافية، ونزعة التظلّم على المستوى العالمي.
انعكاسات هذه المعركة الثقافية، وصلت لأعلى المستويات في البلاد، فقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن استنكاره لـ«بعض نظريات العلوم الاجتماعية، المستوردة بالكامل من الولايات المتحدة»، التي تركّز على الهوية والعرق والخصوصية الثقافية، مثل دراسات بعد الكولونيالية. وأكد، في أكثر من مناسبة، أن فرنسا دولة – أمة، لا تقوم على التصنيف العرقي الثقافي، الذي تتسم به الدول الأنكلوفونية؛ فيما أمرت، فريدرك فيدال وزيرة التعليم العالي الفرنسية، بإجراء تحقيق عن الناشطين الأكاديميين الذين «يثيرون التصدّع والانقسام»، واعتبرت «اليسار الإسلامي» الفرنسي، أي اليسار الهوياتي، المُتهم بالتعاطف مع الإسلاميين، أشبه بسرطان أصاب الثقافة والسياسة الفرنسية.
هذا الجدل الثقافي والسياسي الكبير وصل إلى ذروة جديدة، بعد إعلان مجلة «ديبا» الفرنسية العريقة، وهي مجلة ثقافية يسارية، لم تخضع لتأثيرات اليسار الهوياتي، وكتب فيها عدد من أهم المفكرين الفرنسيين، توقفها عن الصدور. وهو ما فسّره كثيرون بأن «ديبا» خسرت معركتها أمام الهوياتيين، ذوي المزاج، وربما الدعم، الأمريكي. إلا أنه لا يمكن تبسيط الموضوع بصراع ثقافي فرنسي -أمريكي، أو حتى أوروبي قاري – أنكلوفوني، فنظريات دراسات التظلّم وسياسات الهوية لها جمهور فرنسي وأوروبي واسع، وترسّخت في عدد كبير من الأكاديميات والمؤسسات الثقافية الفرنسية العريقة، فضلاً عن المجموعات اليسارية، والمنظمات غير الحكومية العاملة في البلاد، كما أن اعتبار المسألة صراعاً بسيطاً بين تقليدين ثقافيين مستقلين، يضيّع الجذور الاجتماعية والتاريخية للتحول الأيديولوجي نحو الهوياتية، في ما يُعرف بـ»المنعطف الثقافي».
في كل الأحوال يمكن القول، إن الجدل الفرنسي الحالي قد يكون مفيداً جداً على الصعيد العربي، خاصةً عندما يدرك كثير من المثقفين العرب أن الأيديولوجيات الهوياتية ودراسات التظلّم، التي يظنونها مناهضة لـ»لمركزية الغربية» و»الرجل الأبيض»، تصنّف أوروبياً، في كثير من الأحيان، بوصفها ليست مركزية غربية فحسب، بل مركزية أمريكية بيضاء بروتستانتية، تفرض نفسها حتى على بعض دول العالم الأول. فما أهم معالم هذه المركزية؟ وما البنى الاجتماعية والثقافية التي تمكّنها من فرض نفسها عالمياً؟
كونية مناهضة للكونية
تُبدي أيديولوجيا التظلّم الهوياتي، سمات متناقضة، فهي من جهة تحتفي بالخصوصيات الثقافية، وتناهض الكونية والإنسانوية، بوصفهما غطاءً يخفي الهيمنة الغربية البيضاء؛ وتروّج لنفسها، من جهة أخرى، بشكل تبشيري على المستوى العالمي، لدرجة تبدو مناهضتها نزوعاً انعزالياً رجعياً، يُربط على الأغلب باليمين المحافظ، وفي الوقت نفسه صار يمكن لجهات، اعتُبرت رجعية طيلة العقود الماضية، مثل الإسلاميين أو حتى بابا الفاتيكان، أن تكتسب سمتاً تقدمياً، بمجرد تكرارها لبعض صيغ الأيديولوجيا الهوياتية، التي أمّنت سنداً لبعض مواقفها، مثل مناهضة التنوير الردايكالي – اللاديني، والعلمانية وحرية التعبير. ما يدفع للتساؤل عن حركات الخصوصية، التي باتت «تقدمية»، لمجرد أنها نالت الشرعية من المركز الغربي.
يمكن تفسير هذا التناقض إلى حد كبير بالتغيرات التي أصابت المدن الكبرى، خاصة في الدول الغربية، فالبورجوازية والبروليتاريا، بوصفهما طبقتين لذاتهما، حملتا أهم الأيديولوجيات السياسية في الشرط الحداثي، لم تعودا موجودتين سياسياً بشكل فاعل، فقد تم استبدال الحيوية السياسية للبورجوازية، في إدارة جهاز الدولة، بالتحكم البيروقراطي – التكنوقراطي، وسلطة الوكلاء والمديرين، في حين زالت الطبقة العاملة الكلاسيكية مع نزع التصنيع في الغرب. يوجد تعليق طريف على هذا، وهو أن نبوءة ماركس حول الصراع الطبقي، الذي قد ينتهي، بحسبه، بانتصار إحدى الطبقتين المتصارعتين، أو فنائهما معاً، قد تحققت، فالصراع بين البورجوازية والبروليتاريا في الغرب، قد أدى لفناء الطبقتين سياسياً.
تفكك مواطن العمل واللقاء الاجتماعي التقليدية في المدن الكبرى، وانحلال وخصخصة الحيز العام، أدى لنشوء فئات اجتماعية جديدة، يمكن عدّها، من حيث الشرط الطبقي الموضوعي، على البورجوازية أو البروليتاريا، ولكنها لا تملك الأساس الاجتماعي والمادي والأيديولوجي لوعي وضعها الطبقي، فتميل إلى تعريف نفسها هوياتياً وثقافياً، في شرط اقتصادي ازدادت به أهمية الإنتاج غير المادي، والخصائص الفردية والثقافية للعاملين؛ وتقوم فيه الأجهزة الأيديولوجية، مثل وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والمنظمات غير الحكومية، بصياغة الذوات الفردية، بما يتناسب مع منظومة الهيمنة السياسية والاجتماعية القائمة.
هنا لا تختلف باريس كثيراً عن نيويورك أو لوس أنجلس، رغم عراقة التقليد الثقافي الفرنسي، وترسّخ القيم الجمهورية سياسياً، ولذلك من المتوقع أن يواجه ماكرون وفريقه كثيراً من الهوياتيين، حتى لو تمكّن، بمعجزة ما، من سدّ الحدود أمام التأثير الثقافي، المقبل من الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.
إلا أن زوال الشكل التقليدي للطبقات الاجتماعية لا يعني نهاية الصراع الطبقي، وبعد عقود من التنظير، حول تقادم النموذج الاجتماعي التحليلي، القائم على المعطيات الطبقية والمادية، يبدو النموذج الهوياتي ليس عاجزاً فحسب عن استيعاب وتحليل الاضطرابات الاجتماعية الكبيرة، التي يعايشها كثير من المجتمعات، بل عائقاً أيديولوجياً ومنهجياً أمام أي محاولة جديدة لإنتاج نظرية اجتماعية، أو سعي للتغيير السياسي. ينظر كثيرون اليوم بنقمة بالغة إلى هيمنة سياسات الهوية، لأسباب متعددة، وليس فقط في العالم الفرانكفوني، بل في الدول الناطقة بالإنكليزية أيضاً، حيث تدور معركة ثقافية شبيهة لما يحدث في فرنسا، وإن اختلفت الأدوات وأساليب الخطاب. بهذا المعنى فنقمة بعض السياسيين والمثقفين الفرنسيين تحمل بدورها سمات كونية، رغم تشبّثها أحياناً بـ»خصوصية الأمة».
تزوير «النظرية الفرنسية»
الطريف في هذا الصراع الثقافي أن كثيراً من معارضي الهوياتية والتظلّم في العالم الأنكلوفوني يعتبرونهما، للمفارقة، غزواً ثقافياً فرنسياً، تعرّضت له الأكاديميات والمؤسسات الثقافية الناطقة بالإنكليزية، ذات التقليد الوضعي والمادي والبراغماتي العريق، في الثمانينيات، بعد استيراد «النظرية الفرنسية»، أي بدء المثقفين الأمريكيين باكتشاف أعمال مفكرين فرنسيين مثل فوكو وبارت ولاكان، وانتقال دريدا للتدريس في الولايات المتحدة. ينظر هؤلاء للاحتجاج الفرنسي الحالي على طغيان المناهج الأمريكية بمنطق «هذي بضاعتكم رُدّت إليكم».
إلا أن هذا المنظور قائم على الأغلب على اطلاع ضعيف على النصوص الأصلية لما يسمى «النظرية الفرنسية»، فالمفكرون الفرنسيون الكبار كانوا معارضين جذريين للهوياتية، لدرجة رفض فيها فوكو، المثلي جنسياً، المشاركة في مسيرات المثليين، واعتبر بوادر التظلّم، التي بدأت تظهر في أيامه، نوعاً من تعميم «اعتراف» البشر حول أجسادهم وذواتهم، وهو أسلوب عممته السلطة الحديثة، بدلاً من الاعتراف الكنسي التقليدي. فيما حذّر جيل دولوز المضطهدين من تشكيل «آلة حرب جديدة» في مواجهة آلة الحرب السلطوية، وبالتأكيد فإن ما وصل إليه خطاب التظلّم حالياً، كان سيثير سخرية دريدا، رائد النزعة التفكيكية. يحمل «تحريف» النظرية الفرنسية إذن سمات واضحة لثقافة أمريكية قائمة على الفردانية والميل للفصل العنصري والهوياتي، فضلاً عن النزعة التطهّرية البيورتانية، الممتزجة، في الوقت نفسه، بميل للذائذية الآمنة والاستعراض Show، وبهذا المعنى فربما تكتسب مناهضة الأمركة ثقافياً دوراً مهماً في نقد سياسات الهوية.
بؤس الوطنية
تبدو وطنية ماكرون، في مواجهة التأثيرات الثقافية الأمريكية، متناقضة مع الادعاء الأساسي، الذي تتأسس عليه القيم الجمهورية الفرنسية: أمة المواطنين، التي تقوم على المبادئ الكونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن. هذه القيم لا يمكن الدفاع عنها منهجياً، من خلال نسبها لخصوصية الأمة الفرنسية، فهي صيغت كي تكون كونية، تناسب الفرنسيين، كما تناسب الهاييتين والعرب والأمريكيين وغيرهم. وبدلاً من الميل الفرنسي العريق لتصدير الثورات، يبدو أن الجمهورية لم تعد تملك سوى التقوقع الرجعي على الذات والتقليد. ولعل هذه أكبر هزيمة ثقافية لمن يدّعون حمل قيم التنوير الفرنسي، فقد باتوا يفكرون بمنطق «الخصوصية» نفسه، الذي يروّجه خصومهم الهوياتيون.
رغم هذا فلا يمكن اختصار الحراك الثقافي الكبير، في فرنسا وغيرها من الدول، بهذا المنطق، وربما كان المؤشر الأهم، في كل ما يحدث، أن مناهضة الهوياتية والتظلّم، لم تعد مقتصرة على بعض المثقفين الغاضبين، بل باتت من مسائل السياسة والحياة اليومية، ويشارك فيها الجميع، ما يمنح بعض التفاؤل بتغيير جذري في الخطاب الثقافي والأيديولوجي السائد.
باحث سوري
القدس العربي،
—————————
تعليق
النيويوركي
مقالة ممتازة استاذ محمد لكن توضيح:
سياسات الهوية (identity politics) مكروهه بشده في امريكا. و لم تظهر إلا في آخر عقد. و يروج لها فقط قطاع من اليسار.
هي سبب جمع ترمب لأصوات ضخمة في حملته لأن الناس كانت تكره هذا. و بايدن عندما ترشح حاول أن يخفف منها بالتحدث عن أمور اقتصادية عامة و فيروس كورونا.
قلب الهوية الأمريكية هو مفهوم (قدر الانصهار melting pot), و هو ان الامريكيين بمختلف مشاربهم كلهم ينصهرون في القدر،،و ينتج عنه شعب واحد يجمعه حلم أجدادهم في الحرية و الازدهار. هذه أساسيات امريكا. و لاحظ أن على عكس فرنسا، لا تبالي بدرجة العلمانية، بقدر ما تهتم بهوية المواطن القومية (بلد قومي لكن غير عرقي). لذلك ينسلخ الكثير عن الهوية الدينية فور هجرتهم لامريكا او ان جيل أطفالهم لا يهتم به. غياب الاصطدام يساعد في ذلك.
سياسات الهوية هي عكس هذا. ترى الشعب مقسوم هوياتيا على اسس عرقية أو جغرافية او جنسية، و أن صراع ينشأ من أجل السلطة. كبار اليسار الذين يهتمون بالاقتصاد و يعشقون الثرثرة عن الأغنياء، يكرهون هذا قبل اليمين.
فرنسا ليست امريكا، لكنها الأقرب لها بالاضافة للمستعمرين الكبار بريطانيا و اسبانيا الذين لديهم شعوب متصلة بثقافتهم حول العالم. لكنها دول قومية عرقية بالأساس، و هذا حتما سيؤثر بهم.
—————————–