يسوع بلا كتاب… أين هي الأناجيل التي اطّلع عليها أبو حامد الغزالي؟/ عمار المأمون
صدر مؤخراً عن دار الشرق، كتاب “إنجيل يسوع المسيح بحسب الإحياء للغزالي”، للأب سميح رعد. العنوان المثير للاهتمام اختاره الأب رعد لـ “جذب” القارئ لمحتوى الكتاب الذي يتناول “حياة المسيح وتعاليمه كما رآها الغزالي”، في كتابه الموسوعي “إحياء علوم الدين” الذي ألّفه أبو حامد في دمشق.
تشير مقدمة الكتاب إلى المتعة في النقب في المنحولات، وخصوصاً الإسلامية، فهي الأجمل، لأنها تحوي “رونق عربية القرون الوسطة وجمالها وخيالها”.
هذا الفضول الجمالي قائم على “ذوق” الغزالي، حسب رعد، خصوصاً أننا أمام نص مفقود، إذ يشير رعد أن الغزالي يكرّر عبارتي: “رأيت في الإنجيل…” و”في التوراة والإنجيل مكتوب…”، بدون أن نعلم بدقة عمّا يتحدث، وهل يشير إلى الأناجيل النظامية أم إلى منحولات، وهل يشير إلى كتاب حقيقي أم إدراكه الذاتي لمعتقدات “النصارى”؟
والأهم، لا يوجد كتاب مقدس للمسيحية في الإسلام، أي الكتاب الذي أوحى به الله بلغة مقدسة إلى يسوع، غير موجود، خصوصاً أنه، حسب رعد، ” الوحي في المسيحية ليس النصّ بل شخص المسيح، واللغة ليست إلا وسيلة تعبيرية”، أما المنحولات في اللغة العربية، ومن ضمنها التي اقتبس منها الغزالي أو ربما (ألّف)، لا تاريخ لها ولا نعرف مصادرها، لكنها تغطي العهدين القديم والجديد.
فضول الأب رعد يأسر القارئ منذ البداية، نحن أمام “أنجيل” لا نعرف عنه شيئاً، ويقتبس منه الغزالي. إنجيل تراه الكنيسة أيضاً منحولاً، بل ولا علم لها به، هذا الإنجيل “الضائع/ الوهمي”، يؤنسن يسوع وينزع عنه الألوهية، ويختلف مع التعاليم الرسمية المقدسة للمسيحية.
يتبنى رعد حسّاً جمالياً في استعراضه للمنحولات، إذ جمع النصوص من الإحياء، و”حَبَك نصاً قريباً من النصوص الإنجيلية القانونية”، وذلك في شكلها وترتيب أحداثها، ما يتركنا أمام تصور ليسوع يُقصي” أي فكر مسيحي قانوني حول التجسيد والصلب والقيامة أو الفداء أو البنوّة الإلهية”.
يحيى المتعبّد حدّ التشوه
يبدأ تصنيف رعد بـ “يحيى بن زكريا”، الشخصية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، لكنه في النسخة الإسلامية لا يمتلك وظيفة المعمدان ولا التبشير بيسوع الناصري، لكنه يمتلك صفات التواضع والزهد، لكن المثير للاهتمام هو تفاني يحيى في العبادة، الأمر الذي يبدو ساخراً أو غريباً في الكثير من الأحيان، فحين دعاه أصدقاؤه للعب بعد زيارته لبيت المقدس، حين كان عمره ثماني سنوات، أجابهم بنزق: “إنّي لم أخلق للّعب”.
هذا التزهّد والتقشف لا يقتصر على لبسه وعبادته الدائمة، بل كان يبكي “حتى خرقت دموعه لحم خدّيه وبدت أضراسه للناظرين”، ما دفع والدته لوضع لبادتين مكان الثقبين، وكلما ابتلتا عصرتهما وسالت دموعه.
بالرغم من أن زكريا أي والد يحيى، يخبر ابنه بأنه هبته وقرّة عينه، إلا أن يحيى يجيب والده، قائلاً إن جبريل أوحى له ما مفاده أن الطريق بين الجنة والنار لا يقطعه إلا كل بكّاء. هذا التفاني لدى يحيى حد النزق وتشويه الذات، يجعله شخصية غير محببة وقاسية أحياناً، يدفع النساء أرضاً ويرفض اللعب!
يسوع النبي لا الإله
لا كتاب ليسوع من وجهة نظر الغزالي، إذ لا ذكر لوحي دوّن، لكن الله أوحى ليسوع مشافهة، إذ وعده بأنه سيزوّجه يوم القيامة “مائة حوراء خلقت بيديّ…”، والأهم، لا يستغني يسوع عن معجزاته، فهو يحيي الموتى، يشفي الأبرص، يمشي على الماء ويجعل الخبز كثيراً، لكن أيضاً هناك جانب غورتيسكي لشخصه، كحالة يحيى، إذ نقرأ: “كان عيسى، عليه السلام، إذا ذكر الموت عنده يقطر جلده دماً”، وهو أيضاً متقشف، زاهد، رافض لكل متاع الدنيا وما يكنز فيها.
المثير للاهتمام أن “كلام” يسوع المسيح في القرآن متبنى ضمن إحياء الغزالي، أي ما ينطقه هو كلام وقرآن في ذات الوقت، فالقرآن ينقل من الإنجيل الضائع ويقتبس منه مباشرة كلام يسوع، وكأنهما مكتوبان بذات اللغة، أيضاً هناك أحاديث قدسية على لسان يسوع، حوارات مباشرة بينه وبين الرب حول مواضيع التوبة والتسامح.
أين الكتاب؟
لا وجود لأسماء المدن التي مرّ بها يسوع أو الديانة اليهودية، ولا الشخصيات حول يسوع، بل يشار لهم أحياناً بالحواريين، لكن يبقى السؤال، ماهي الأناجيل أو الترجمات التي اطّلع عليها الغزالي واقتبس منها؟ خصوصاً أننا إن تتبعنا سلاسل النسب التي اقتبس منها الغزالي، فسندخل في علم الرجال والاختلافات المذهبية حول حقيقة النحل، والكثير مما قيل في ذلك يشكك بهذه الأحاديث وبالكثير من الموجود في الإحياء، لكن يبق هناك لغز شعريّ-بحثي: أين هذا الإنجيل الذي قرأه الغزالي، خصوصاً أن أقدم ترجمة عربية للكتاب المقدس كانت في القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي، أما الإحياء فمؤلف في القرن الخامس الهجري؟ مع ذلك، الاقتباسات منه تعود ربما إلى ما قبل ذلك، بل ربما قبل الإسلام نفسه، إلى إنجيل لا تعرفه الكنيسة ولا ينتمي لما صنفته كمنحولات، مثل إنجيل برنابا ورؤية مريم.
يشير رعد إلى كتاب آخر للغزالي بعنوان “الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل”، لكن أي أنجيل هذا؟ هل المقصود النسخ القانونية، أم غيرها؟ بل يشكك أيضاً في نسبة هذا الكتاب للغزالي، الذي حين الاطلاع عليه نلاحظ أن الغزالي مثلاً يقارن نصوص القرآن العربية بأخرى عبرية، هذه المقارنة هدفها نقد الكتاب نفسه وتحريفه، ويشير فيه الغزالي إلى أناجيل أخرى “نظامية”، بالتالي، ومرة أخرى، أين هو الإنجيل المذكور في الإحياء، ولم لا تعرف به الكنيسة؟
نترك الإجابات للمخيّلة أولاً، فهل هناك انتحال، اقتباس أم تأليف؟ فكل واحدة من هذه تفتح أمامنا شكلاً جديداً ليسوع الناصري.
رصيف 22