صفحات الثقافة

تراث ثوري عربي؟/ ياسين الحاج صالح

لئن افتقر العالم العربي إلى تقليد ثوري، يشير المفكر السوري المنفي ياسين الحاج صالح إلى وجود تراث ثوري يمكن البناء عليه مستقبلا.

أطاحت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس والقاهرة وطرابلس بداية سنة 2011 برؤساء مستبدين ومبغوضين. وكان وقع هذه الأحداث كبيرا في كامل المنطقة، من المغرب إلى عمان، ومن سوريا إلى العراق. ثم أتى زمن الجمود -وكان أقل الأضرار- والقمع المتوحش والحرب والأحزان. كانت هذه الشعوب تطمح للتغيير، لكنها ورثت في أغلب الأحيان وضعا أسوأ. في سلسلة من المقالات التي ننشرها بالتشارك مع شبكة الإعلام المستقل من العالم العربي التي يشكلها أوريان 21 مع مواقع الإعلامية العربية المستقلة، يقدم عدد من الصحفيين والمختصين من أبناء المنطقة تحاليلهم وخواطرهم حول ثورات الربيع العربي وتداعياتها.

التقليد قواعد قارّة ينضبط بها الفعل البشري، الثورة حدث تغييري لا يسير على نسق مقرّر. وبقدر ما أن «التقليد الثوري» مفهوم متناقض، فهو يجنح أيضاً إلى تصفية الحدث الذي هو الثورة وتأكيد نفسه هو، على ما نعلم من النموذج الشيوعي الذي يمثل تقليداً ثورياً صلباً، من شأن التفكير فيه أن يساعد في إلقاء الضوء على ثورات اليوم.

يشرط التقليد الشيوعي الثورة بشرط نظري (الماركسية) وعملي (الحرب الطبقية) وتنظيمي (حزب الطبقة العاملة)، إلى درجة سلب الثورة ذاتيتها وجعلها «عِلماً» أو برنامجاً مسبقاً، وليس علاقة متغيرة بين فاعلين وأوضاع معينة. القضاء على السوفييتات التي تمثلت فيها ذاتية الثورة الروسية وإبداعيتها جرى لمصلحة دكتاتورية البروليتاريا، والعلم الثوري انتهى إلى التشكيك في أية ثورات لا تشبه ثورته، ثم اعتبار الحكم الشيوعي «نهاية التاريخ». تُرجم هذا واقعياً في سحق الدبّابات لثورات قامت في بلدان تحكمها أحزاب شيوعية تابعة لموسكو، كما في المجر (1956) وتشكيوسلوفاكيا (1968)، الأمر الذي خلّف مفهوم «التانكيز» أو «الدبّابيّين» المعادين للثورات. تحول التقليد الشيوعي إلى تقليد مضادّ للثورة بعد أن تشكّلت الثورة في تقليد صلب: مذهب وقواعد عمل بعينها لا تتغير، مستغنية عن الحاجة لمعرفة أي شيء مهم عن البلدان المعنية.

ثورات ما بعد الشيوعية

الثورات العربية هي ثورات ما بعد شيوعية، جاءت بعد فقد الثقة في التقليد الشيوعي، دون أن تندرج في تقليد ثوري غيره. ليس لدينا والحق يقال تراكم ثوري حديث يُذكر، وما في ذاكرتنا من نزعات تمرُّدية يُحيل إلى الصراع ضد الاستعمار، وإلى سجلّ من النضال ضد الاستبداد لم يحقق اختراقاً فلم يشكل تقليداً. ومجمل ذلك يلقي ضوءاً كاشفاً على تعثّر ثوراتنا، وفي الوقت نفسه يُسبغ على الثورات صفة البدء والتجربة. لكن هل دخلنا الثورة بلا تنظيم من أي نوع، بلا أفكار أولى، في حدث انفجاري فوضوي كلياً؟ ليس تماماً، إلا إذا كان المقصود بالتنظيم حزباً من الطراز اللينيني، وبالفكرة مذهباً مثل الماركسية اللينينية. كانت هناك حركات احتجاج حتى في بلد مثل سوريا، وكان التغيير الديمقراطي الفكرة الموجِّهة لقطاع نشط من أوائل الثائرين، هم الذي سُحقوا قتلاً أو تغييباً أو نفياً. لقد بدت الثورة السورية في بداياتها تلاقحاً بين تجارب احتجاجية أعقبت ربيع دمشق، والذي جرى في حيزات خاصة منضبطة؛ وبين منهج الاحتجاج الذي أبدعه الربيع العربي، أي الاجتماع السلمي في فضاءات عامة متمرّدة. لكن كلاً من الأفكار السابقة للثورة والمنهج الاحتجاجي المستعار تبخّر على حرارة الحرب المفروضة، فكأن كل شيء بدأ عند حدث الثورة، الذي أخذ يبدو بِدءاً مُطلَقاً بلا قَبل.

ثوّار “من أجل” وثائرون “ضد”

بالتفاعل مع كتاب صدر مؤخراً لآصف بيات بعنوان Revolution Without Revolutionaries. Making Sense of the Arab Spring (Stanford University Press, 2017)، أميّز بين ثوّار من أجل، لديهم تقليد صلب، ويقلّدون ثورات نجحت بما يُحتمل أن يُلغي ذاتية ثورتهم؛ وبين ثائرين ضد، لا يستندون إلى أمثلة ناجحة سابقة، ويعرّفون أنفسهم بعدوّهم، فلا يكاد يبقى لهم أثر إن هُزمت الثورة. في سوريا لدينا ثائرون كثيرون وثوّار قلة.

لهذا كان الإسلاميون، والسلفيون أكثر من غيرهم، أكثر تأهيلاً للفوز في صراع من أجل البقاء في شروط حرب معمَّمة. كانت الثورة السورية مجرد بيئة انتشار للبنية السلفية الجهادية، التي تعيد نسخ نفسها حيثما استطاعت. يبدو التقليد السلفي الجهادي مثل ماركسية لينينية إسلامية، تشرط ثورتها بشرط نظري (السلفية) وعملي (الحرب الدينية) وتنظيمي (مجموعات المجاهدين المنضوين في حرب عصابات). هنا أيضاً تتكثف المعركة في تقليد حديث صلب ورموز حية، تسلب الحدث ذاتيته تماماً لمصلحة «العلم» السابق عليه، أي منهج السلف. هناك اختلاف معياري بين التقليد الشيوعي والتقليد الجهادي، وقد لعبت أجهزة المخابرات والاختناق الديني في أفغانستان دوراً تكوينياً في هذا الأخير، لكن الكلام على بنيات تنظيم واعتقاد وعنف متشابهة، «مناهج» و«تقاليد»، وهويات متصلبة محروسة بالولاء والبراء.

هناك تقليد ثوري عربي تشكَّل في العِقد المنقضي، وصدورنا عنه هو ما يشدُّنا إلى موجة الثورات الجديدة في لبنان والعراق والسودان والجزائر، فضلاً عن احتجاجات هونغ كونغ وفرنسا وغيرها. لكن الأصح الكلام على «تقليد ليّن» أو «تراث» ثوري نستأنس به. ويبدو أن الثورات الناجحة تُخلّف تقاليد صلبة يُقتدى بها ويُنسَج على منوالها، فيما تُخلّف الثورات الفاشلة تجارب وقصصاً وأمثلة تُستحضر في النقاش؛ دروساً يُنتفع بها وضروباً من الحذر.

سيرورات تعلم

لذلك ينبغي التدقيق فيما نعنيه بنجاح الثورات وفشلها، أو التفكير في أن الثورة ثورات كثيرة، بعضها ينجح وبعضها يفشل. ما فشل بخاصة هو التغيُّر السياسي الذي كان من شأنه أن يغيّر البيئة السياسية والنفسية في البلد، ويطلق ديناميكيات اجتماعية وسياسية مختلفة. بل إن في تعدد الثورة ما يدعو إلى التدقيق كذلك في نهاية الثورات.

الثورات سيرورات تعلم، وهي سلفاً حلقات في العملية المكوِّنة للتراث الثوري أو التقليد الثوري الليّن. لدينا منذ الآن ذاكرة ثورية، ولدينا دروس وعِبَر، ستكون زاداً مهماً في مقبلات الأيام. لكن لدينا أيضاً مما تحقق فعلاً ويُبنى عليه ما يتجاوز القصص والحكايات:

قبل كل شيء امتلاك الكلام، كسر واسع لاحتكار الكلام من قبل النظام وشركائه.

ومنه ثورة في الذاتيات، ظهور أفراد بعدد كبير، متحررات ومتحررين، يقرّرْن ويقرّرون مصائرهم. ومنه انتهاك تابوهات متّسِع ومعبَّر عنه فيما يتّصل بشؤون الدين والجنس والأدوار الاجتماعية، فضلاً عن تطبيع انتهاك تابو السلطة السياسية، وكان أقوى التابوهات ومصدر تغذية التابوهات الأخرى.

موقع نواة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button