سيرة مع الآخرين/ بشير البكر
يغيب هذا اليوم عن صفحات “المدن”، بورتريه الأسبوع الذي واظبت على كتابته منذ حوالى عام، وكان الأخير الذي صدر هنا، يوم الإثنين الماضي، في سلسلة طويلة، هو بورتريه الدكتور عبد السلام العجيلي. وبالنظر إلى خصوصية هذه التجربة، فإني أود هنا أن أشارك القراء الذي واكبوا معي هذه التجربة، جملة من الملاحظات التي تشكلت لديّ، وأنا أعمل على هذا المشروع الذي بدأ من دون تخطيط، ومن ثم تطور إلى كتاب هو إنجازي الأساسي الذي استطعت إتمامه خلال سنة الكورونا الأولى.
الملاحظة الأولى هي، ان البورتريه، أو الصورة القَلَمية، كما يسميها البعض، غير متداول في الصحافة العربية، كما هو الأمر في الصحافة الأجنبية، ومنها الانكليزية والفرنسية التي تحفل ببورتريهات للشخصيات، سواء المعاصر منها أو التاريخي، وينسحب ذلك على كافة المجالات من الثقافة إلى الرياضة، مروراً بالمال والفن والسياسة.. إلخ. وهناك كتاب متخصصون في هذا الفن من الكتابة الذي يقترب من أعمال تسجيل السيرة، وهذا يتطلب أن يتحلى كتاب البورتريه بثقافة موسوعية، تتيح تقديم قدر كبير من المعلومات. ويقدم البورتريه، المفاتيح الأساسية لعوالم الأشخاص والأمكنة، ويبقى على القارئ أن يكمل المهمة إذا أراد أن يذهب بعيداً. والملاحظة الثانية هي، أني كتبت هذه البورتريهات بحب شديد للأشخاص والأمكنة، ولم أكن أجامل في ذلك، بل عبّرت عما أحسّه فعلاً ضمن معايير مهنية ومعرفية. وأردت أن يرى القارئ صورة أخرى عن بعض الكتّاب والمثقفين الذين تم تنميط بعضهم في صور جاهزة، وهذا ما فتح لي المجال أن أظهر الجانب الشخصي والحميم مع الذين كتبت عنهم، وهذا واحد من أهداف عملي على المشروع.
أما الملاحظة الثالثة فهي تتلخص في أني استفدت كثيراً وأنا اشتغل على البورتريهات، حيث أني عدت لقراءة الكثير من الكتب والمقالات وأعمال بعض الكتّاب، ونبشت بعض الدفاتر القديمة التي سجلت فيها ملاحظات ويوميات خاصة تعود إلى زمن بعيد، وذلك بهدف أن يخرج العمل ثرياً وبلا عيوب. قرأت دواوين شعر وروايات وقصص قصيرة وحوارات وكتب نقد، وشاهدت حوارات مسجلة، وهذا أمر صحح لدي بعض الرؤى في النظر إلى غالبية الأشخاص الذين تناولتهم. وفي النتيجة أشعر بارتياح حيال مسألة مهمة تتعلق بالتوثيق الدقيق للمعلومات الخاصة بكل حالة من الحالات التي تناولتها. وهذا أمر احتاج منّي جهداً مضاعفاً، حتى أن كتابة بعض البورتريهات استغرق قرابة أسبوع. وأمكن لي من خلال ردود الفعل أن أقيس مدى تكامل العمل.
والملاحظة الرابعة هي، ان الذي حرضني على كتابة هذه البورتريهات، هو أنها تشكل تقاطعات مع سيرة ذاتية لطالما فكرتُ في كتابتها، لا سيما جانبها الذي يتعلق بعملي الصحافي منذ منتصف الثمانينيات في القرن الماضي، وخلال هذا المشوار عملت في صحف عديدة، منها مجلة “اليوم السابع” الأسبوعية التي صدرت في باريس بين 1983-1991، ومن بعدها صحيفة “الخليج”، ومن ثم صحيفة “العربي الجديد”، وموقعها الإلكتروني، والتي تأسست في العام 2014 بمبادرة من الدكتور عزمي بشارة. وخلال هذا المسار المهني الطويل تعرفت عن كثب إلى شخصيات ساهمت في تشكيل المشهد الثقافي والسياسي العربي، وكان أحد اهتماماتي على الدوام، الحرص الشديد على تسجيل هذه التجربة بجانبيها الذاتي والعام. وأود هنا أن أوجه تحية تقدير إلى صحيفة “المدن” الالكترونية، وللأستاذ ساطع نور الدين، ومديرة التحرير رشا الأطرش، ورئيس القسم الثقافي محمد الحجيري، الذين أتاحوا لي هذه المساحة، وشجعوني على تسجيل هذه التجربة.
وأنجزت خلال هذه التجربة قرابة خمسين بورتريه. وهي متنوعة تشمل كتّاباً وصحافيين وفنانين وسياسيين وباحثين. وشجعني على الاستمرار فيها وتطويرها، التفاعل الكبير، وعدد القراءات التي حظيت بها، وهذا أمر يعكس بالنسبة إلي مدى الاهتمام والحاجة الملحّة إلى عمل يسلط الضوء على مراحل ومحطات ووجوه أساسية في ثقافتنا. وآمل أن يحمل الجزء الأول من الكتاب الذي سيصدر في ختام هذه التجربة، جديداً، لجهة ما يتعلق بتدوين فصول من سير بعض الكتّاب والفنانين والمثقفين الذين تركوا أثراً وبصمة في الميدان الذي اشتغلوا فيه. وعسى أن يحرض غيري من الصحافيين والكتّاب على تسجيل تجاربهم الخاصة في هذا المضمار. وأنوه هنا بأن هذه التجربة حرضتني على بدء مشروع أكبر لتدوين سير الفاعلين في المشهد الثقافي العربي خلال قرن، وتطوير العملية إلى ما يشبه مؤسسة لكتابة وتوثيق سير الأعلام.
والملاحظة الأخيرة هي، أن هناك العديد من الشخصيات التي عملت معها، أو عرفتها، لكني لم أكتب عنها، وهذا لا يعني أني اسقطتها من الحساب، بل سأعود إليها لاحقاً، وسبب عدم إدراجها ضمن هذه الجردة أنها تحتاج إلى مزيد من الوقت، نظراً للتفاصيل والحيثيات والأحداث التي تحتاج إلى غربلة. ومن بين الذين سأعود للكتابة عنهم باستفاضة، الدكتور عزمي بشارة، محمود درويش، أمين معلوف، برهان غليون، أميل حبيبي، جوزيف سماحة، ميشيل كيلو، سعدالله ونوس، عمر أميرلاي، فواز طرابلسي، يوسف عبدلكي، فايز خضور، صخر فرزات، نوري الجراح، محمد عمران، رانيا الزغير، سيف الرحبي، كاظم جهاد، حازم صاغية، فالح عبد الجبار، محمد علي شمس الدين، عبد الحكيم قطيفان، بشار العيسى، ياسر هواري، خيري الذهبي، عمر شبانة، محمد برو، مارغريت أوبانك، صادق الصائغ، أنسي الحاج، خطيب بدلة، فواز عيد، صقر أبو فخر، سحبان سواح، يحيى يخلف، فاروق يوسف، محمد كامل الخطيب، نيروز مالك، لؤي كيالي، محمد جمال باروت، وائل سواح، هشام شرابي، تيسير خلف، أحمد جاسم الحسين، عبدو وازن، ممدوح عزام، خالد خليفة، زاهر الغافري، أحمد راشد ثاني، حسام الدين محمد، ابو بكر السقاف، سعد حاجو، فؤاد كمو، هاشم شفيق، فيصل خرتش، ديمة ونوس، ندى منزلجي، خالد درويش، نصوح زغلولة، مروان علي، حكيم عنكر ايتيل عدنان، الياس الياس، رضا حسحس، هالة العبد الله، حيدر حيدر، عبد الرزاق عيد، رشا عمران، ابراهيم الخطيب، عبد القادر الشاوي، أحمد المديني، حسونة المصباحي، الحبيب السالمي، محمد حقي صوتشين، عبد القادر عبدللي، وزهير الجزائري.
المدن
عبد السلام العجيلي..الحكواتي ذو العينين/ بشير البكر
قلة هم السوريون الذين لم يسمعوا بالدكتور عبد السلام العجيلي، ليس لأنه زعيم سياسي أو شخصية مقررة في المناهج الدراسية، بل لأنه ظاهرة ولدت مع ميلاد مدينة الرقة الحديثة في نهاية الحرب العالمية الأولى، وأصابه قسط من أسرار تلك الحاضرة التاريخية التي استقرت على ضفاف نهر الفرات، واستراحت على شاطئه لتكبر بين أشجار الصفصاف والطرفة والغرب والبردي. والعجيلي سليل الحكاية التي تمتد في سيرة الأهل الذين جاؤوا من بادية الموصل ليستقروا حيثما ناخت الذلول، ويعمروا الدارة الأولى ليس بعيداً من الرصافة. وفي أول زيارة لي إلى الرقة، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، أردت زيارة صديق من بيت العجيلي، ولم أكن أعرف العنوان. وحين سألت بالقرب من محطة القطار عن بيت العجيلي تبرع شخص ونقلني إلى هناك، وهو لم يكن على صلة بالكتابة، بل رجل عادي يعرف العائلة عن طريق الدكتور عبد السلام الذي كان أول طبيب زار عيادته في الرقة، وهذا يدل على السمعة الطيبة التي يحظى بها الدكتور عبد السلام الذي كان يداوي المرضى الفقراء بلا مقابل.
ولا تقف سيرة العجيلي عند ممارسة مهنة الطب في بيئة فقيرة، بل هو علامة ثقافية ومن مؤسسي الحركة الأدبية في المدينة، وهي حركة ثقافية نشيطة ومتميزة ورفدت الحركة الثقافية السورية بعدد من الكتاب المعروفين مثل ابراهيم الخليل، خليل جاسم الحميدي، محمد جاسم الحميدي، هيثم الخوجة، محمد الحاج صالح، خليل الرز، ابراهيم الجرادي، شهلا العجيلي، ومن الذين جاؤوا من خارج المدينة وتفاعلوا مع الحركة الثقافية في الرقة نبيل سليمان، ووفيق خنسة..إلخ.
وذات ليلة من خريف 1993، تلقيت اتصالاً هاتفياً من الصحافي ياسر هواري العتيق في هذه المهنة. هو مؤسس لصحف عربية كبيرة وعديدة، منها “الشبكة” في دار الصياد مع سعيد فريحة، و”الأسبوع العربي” التي كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي المجلة الأسبوعية الأولى، وقبل أن ينتقل إلى المنابر الاعلامية باللغتين الفرنسية والانكليزية، أسس مجلة “كل العرب” في باريس التي كان لها موقعها الطليعي بين الصحف العربية المهاجرة. وحمل هواري أكثر من لقب، “أبو الصحافة العربية”، “شيخ الصحافيين العرب” في فرنسا. وكان الغرض من الاتصال دعوتي للعشاء مع الدكتور عبد السلام العجيلي الذي طلب حضوري بتوصية من الصديق الشاعر بندر عبد الحميد، والذي حدثته خلال زيارته إلى باريس عن مؤسسة فرنسية لديها مشروع لتحويل إحدى قصص العجيلي إلى فيلم سينمائي. والقصة هي الأولى من مجموعة “قناديل اشبيلية” والتي تحمل العنوان نفسه، وتعد واحدة من أنضج كتابات العجيلي فنياً وفكرياً، وكان الفريق الفرنسي يفكر في تحويلها إلى فيلم لأن أحداثها تدور في مدينة اشبيلية، وتتناول مسألة إشكالية تتعلق بإعادة تركيب تاريخ العرب في الأندلس من خلال رؤية نقدية حادة للبكاء على الأطلال لدى قطاع واسع من العرب. وبالفعل ربطتُ الدكتور العجيلي بالطرف الفرنسي، لكن المشروع لم يتم لأنه لم يحصل على التمويل اللازم.
وفي العشاء الذي أقامة هواري في مطعم بالدائرة 17 من باريس، كان العجيلي نجم السهرة، وسحَر المدعوين بحضوره وحديثه الذي يتكئ على مخزون هائل من الذكريات، تدور بين الطب والكتابة والسياسة بين مدينته الرقة، وحلب التي عاش فيها مرحلة الشباب، ودمشق الدراسة الجامعية والسياسة والثقافة، بالاضافة إلى رحلاته إلى القارات كافة. ورغم ما عاشه العجيلي من تجارب وأسفار وما عرفه من أمكنة، فإن الرقة بقيت المكان الأثير، اختارها كي تظل مقره ومستقره حتى وفاته العام 2006. وكان في ذلك يسجل وفاءه للمكان الخاص الذي شكّل شخصيته في تجلياتها الأولى، وما بعدها على الدوام.
رافقتُ العجيلي في اليوم الثاني لزيارة جناح الفن الاسلامي في متحف اللوفر الذي كان في بداية تأسيسه، وقبل أن يتوسع لاحقاً بمبادرة من الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك. وفوجئت بأن العجيلي على دراية بتفاصيل متحف اللوفر من الداخل، والتوسعة الكبيرة التي أقامها الرئيس فرانسوا ميتران في الثمانينات من القرن الماضي. وهنا أشير إلى أن الثقافة الفرنسة إحدى مرجعيات العجيلي، فهو على اطلاع كبير عليها وخصوصاً الكلاسيكية منها. يجيد اللغة الفرنسية كتابة وقراءة ويتحدثها بطلاقة، وروى لي أنه يزور باريس بصورة منتظمة منذ الخمسينيات.
وللتاريخ كان العجيلي عضواً عن مدينة الرقة في أول برلمان سوري تم انتخابه العام 1947 بعد الاستقلال عن فرنسا، وكان ابن 29 عاماً، لكن هذا البرلمان لم يدم طويلاً، إذ قاد الضابط حسني الزعيم أول انقلاب عسكري، ونصب نفسه رئيساً للدولة وحل البرلمان والحكومة، وكان لذلك تأثيره الكبير في مسار البلد الذي يعاني من وقع نكبة فلسطين وهزيمة العام 1948. وفي تلك الحرب، شارك العجيلي في القتال ضمن جيش الإنقاذ، بقيادة فوزي القاوقجي، وعاد منه مثل بقية أبناء البلد الذين انكفأوا في وقت كانوا يحلمون بولادة سوريا الجديدة بعد الاستقلال، لكنها دخلت في نفق الانقلابات العسكرية مثقلة بالنكبة وقيام دولة اسرائيل.
لم يكن العجيلي طبيباً وكاتباً فحسب، بل وجيهاً دمج الأصول بالعصرنة، ويبدو أن كل ما تعلمه وقام به في حياته كان في ذاك السياق، ولا يعود هذا إلى أنه ولد في بيت عائلة من الوجهاء أو شيوخ البدو كما نقول في لهجة أهل تلك المناطق، بل إلى ما بذله من جهد لتنمية البذرة التي زرعها فيه ذلك البيت كي يستحق عن جدارة الوصف الذي اطلقه عليه صديقه الشاعر نزار قباني، حينما كتب يصفه في وقت مبكر جداً بأنه “أروع بدوي عرفته المدينة وأروع حضري عرفته البادية”. والتصق هذا الإطراء بالعجيلي ليصبح ما يشبه البرواز العريض لشخصية الكاتب التي ذاع صيتها في العالم العربي. وحين يقف المرء أمام تراث العجيلي، من قصة قصيرة وروايات ورحلات، فإنه يخرج بحصيلة غنية يعود الفضل فيها إلى الانتاج الغزير الذي كرس له الكاتب قسطاً من حياته، فهو لم يتفرغ للكتابة أبداً، بل مارسها إلى جانب عمله كطبيب، وجعل منها نشاطاً حياتياً مثل نشاطاته الأخرى التي توزعت بين إعطاء وقت للحياة اليومية في الرقة والسفر إلى الخارج. وهناك سؤال عن سر تخصيص العجيلي قسطاً من وقته للأدب والسياسة مع أنه كان ميالاً للعلوم التطبيقية، ولذلك درس الطب ومارسه عن حب واحترام ومهنية. ويشار هنا إلى أنه عاد الى العمل السياسي الرسمي لفترة قصيرة بعد انفصال سوريا عن مصر، وتولى وزارة الخارجية والثقافة والإعلام، ويأخذ عليه البعض ذلك، ويسجلون عليه أنه وافق على الانفصال. لكن العجيلي يقول إنه حاول احتراف السياسة حين ترشح للمجلس النيابي عن الرقة بعد الاستقلال، وكان همه خدمة هذه المنطقة التي تضاهي مساحة دولة مثل بلجيكا (26 ألف كيلومتر مربع)، وكانت “التجربة مثبطة لشاب مثلي، حين انتهت دورة المجلس النيابي بانقلاب حسني الزعيم، وهجرتُ السياسة كمحترف. وفي العام 1962 تألمت كثيراً للانفصال، وتم الحديث معي للمشاركة في الحكومة لأن البلد كانت بحاجة إلى مستقلين”.
يبقى العجيلي، لكل مُعاصريه، ظاهرة انسانية اجتماعية وثقافية في بيئة كانت تعيش مرحلة انتقالية من طور البداوة إلى الزراعة وبناء المدينة، وترك أثراً خاصاً في هذه المرحلة، ما يشبه تأثير كتاب بداية القرن العشرين في أوروبا. ورد له أهل الرقة الفضل الكبير بأن رأوا فيه على الدوام علامة من علامات ولادة وتطور هذه المدينة التي عرفت الإهمال الرسمي، مثلها مثل شقيقاتها في شمال شرقي سوريا، دير الزور والحسكة اللتين تشاركان الرقة النسيج الاجتماعي والبيئة الاقتصادية والثقافية. لكن ما ذهب بالعجيلي بعيداً من الرقة، هو الطريقة التي كتب وقدم نفسها بها، وهي قريبة جداً من أسلوب الحكواتي. وهو يتمتع بعين بقيت مفتوحة في الاتجاهين، الداخل والخارج، على نحو من المثاقفة الذكية، كما هو الأمر مع “قناديل اشبيلية” التي تروي قصة الشاب المغربي في اشبيلية، أو قصة شاب من الرقة في مدينة أوبسالا في السويد. وهو هنا يبدو معاصراً جداً، ونقدياً كما أشرت، لأنه يخلّص شخصياته من الحنين إلى الماضي، ويعالجها من الأوهام، ويعيدها لتفكر وتحيا في عالم اليوم.
كان العجيلي يردد في الأحاديث التي تُجرى معه، أن الأدب بالنسبة إليه هواية، ومع ذلك ترك عشر مجموعات قصصية، وخمسة أعمال روائية ومجموعة شعرية، وأكثر من عشرة مؤلفات تنتمي إلى المقالة والمذكرات وأدب الرحلات. فمهنة الطب لم تسلبه محبته للأدب. لماذا نعتبر العجيلي رائداً، وبماذا يختلف عن كل من زكريا تامر وسعيد حورانية؟ هذا السؤال يحتاج إلى أطروحتي دكتوراة.
لكن، وباختصار شديد، تكمن ريادة العجيلي في أنه كتب بأسلوب جديد، مزج بين الحداثة التي أطل عليها من خلال القراءة بالفرنسية، وأسلوب الكتابة التراثية كما هو الحال في “ألف ليلة وليلة”، ويعتبر أكثر من دارس لأدب العجيلي أنه أحد مؤسسي فن الحكاية العربية المتميزين، وشكلت أسفاره ورحلاته مادة أساسية لأعماله. وهو بذلك تميز عن تامر وحورانيه بأنه أطل على الثقافة الأجنبية باكراً وسافر بعيداً، عدا عن أنه ليس ابن العاصمة دمشق، بل هو من بيئة أخرى كرس لها قسطاً كبيراً من إنتاجه الذي تُرجم إلى لغات عديدة. ويمثل العجيلي الوفاء للرقة وأهلها، ورغم شهرته والأضواء التي سُلّطت عليه محلياً وخارجياً، ظل ذلك المواطن الذي يرفض أن يستبدل الرقة بمكان “ولدتُ في الرقة. بلدة صغيرة، أو قرية كبيرة على شاطئ الفرات بين حلب ودير الزور. من الناحية الاقتصادية كان أغلب أهل الرقة، وأسرة العجيلي منهم، يعيشون حياة نصف حضرية بأنهم كانوا في الشتاء يقيمون في البلدة، فإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم ويتنقلون بين مراعي الكلأ حتى أوائل الخريف. وقد عشت هذه الحياة في صباي فأثّرت فيّ كثيراً وقبستُ منها كثيراً في ما كتبت..”، وكتابه “عيادة في الريف” يعكس عمق العلاقة بين العجيلي وأبناء بيئته، وحين تحدثتُ، في مطلع هذا المقال، عن ياسر هواري كبير، الصحافة العربية، وعلاقته بالعجيلي، فليس ذلك أكثر من إشارة إلى صداقات هذا الرجل مع كبار زمنه الذي عاشه طولاً وعرضاً وسجّل شهادة الكاتب المتعدد الذي عاش وتفاعل مع القسم الأكبر من أحداث القرن العشرين.
المدن
عبد الرحمن منيف.. راوي النفط والصحراء والسجن/ بشير البكر
تعرفت على عبد الرحمن منيف في أول عمل روائي له صدر العام 1973 “الأشجار واغتيال مرزوق”، وذلك في بداية القراءات التي تنشد الجديد، بعيداً من المكرس في سوريا التي شرعت في التحول إلى دولة بوليسية على المستوى الثقافي. وكان جيلنا نافراً من كل ما هو رسمي يبحث عن المختلف، وما يقدم لغة وتجربة تفتح أمامه آفاق بعد هزيمة حزيران وفشل حرب تشرين وضرب المقاومة الفلسطينية في الأردن. الأدب هو أول من ردّ على ذلك، ومنيف أحد الرواد من خلال سلسة من الروايات كانت “الأشجار واغتيال مرزوق” البداية، وبعدها جاءت روايتا “شرق المتوسط” و”حين تركنا الجسر”، لتطرحا موضوعَي السجن والحرب مع إسرائيل من زاوية سياسية، ووفق رؤية جديدة.
والتقيت منيف في باريس، في بيت الفنان يوسف عبدلكي وزوجته السينمائية هالا العبدالله، في تشرين الأول 1985، وكان قد مضت على إقامته في العاصمة الفرنسية حوالى أربعة أعوام، إذ سكن فيها بعدما غادر بغداد العام 1981، بعد عام على اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. وفي اللقاء في منزل هالة ويوسف، بدا منيف مهتماً بتفاصيل عن محافظة الحسكة التي يتحدر منها، وكانت تربطه علاقة خاصة بها، مردّها أنها تحتوي على منابع النفط في سوريا، وهي في الوقت ذاته أرض القبائل العربية التي يمتد بعضها في الجذور والقرابات إلى العراق والجزيرة العربية. وكان يريد أن يشكل صورة وافية عن مسائل عديدة.
الأولى هي، مدى تأثير النفط في منطقة الجزيرة السورية التي تتشكل من مساحات صحراوية وأخرى مروية. والثانية هي، مدى تأثير حكم حزب البعث في البنية القبلية في الجزيرة في ظل قانون الاصلاح الزراعي الذي بدأ تطبيقه على أصحاب الملكيات الكبيرة بالقوة في نهاية الستينيات. وأدهشتني معرفة منيف بتاريخ المنطقة وحاضرها، وسألني عن شخصيات وزعامات عشائرية محددة مثل دهام الهادي شيخ شمر، عبد العزيز المسلط شيخ الجبور، السيد حمود العلي الخليف مشيخة عيال الشيخ عيسى. والمسألة الثالثة هي، مدى تأثير المكوّن المسيحي في منطقة الجزيرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وطرح أسئلة محددة عن عائلات مسيحية لعبت دوراً كبيراً في تحديث منطقة الجزيرة مثل عائلتي أصفر ونجار اللتين أدخلتا التكنولوجيا إلى الزراعة في الجزيرة خلال الخمسينيات، لكن التأميم والاصلاح الزراعي الذي بدأ خلال فترة الوحدة مع مصر، وعرف تطبيقه التعسفي في فترة حكم البعث، أجهض هذه التجربة التي لم تتكرر.
وبعد غذاء “الفريكة” التي كان يحبها منيف، في اكتوبر باريس في منزل يوسف وهالة، صرت ألتقيه بين حين وآخر، وكان يريد التوسع أكثر في معرفة تفاصيل تخص الجزيرة السورية، وفي مقاهي الحي اللاتيني الجانبية كان غليونه يبعث رائحة تثير نظرات رواد الأمكنة نحونا في حين لم تكن موضة منع التدخين قد بدأت بعد. ومع ذلك عندما كان يحس بالحرج، كان يطوي الغليون ويعود للحديث براحة، وأحياناً نذهب في جولات على الأقدام على ضفاف نهر السين، وفي إحدى المرات التقينا صديقاً مشتركاً هو المغربي الموريتاني الباهي محمد، فتغير الإيقاع كلياً.
مع الباهي، انكسرت الحدود بيننا، وصارت العلاقة أكثر بساطة ودفئاً، وأخذنا نتواعد على عشاء اسبوعي في أحد مطاعم باريس التي يعرفها الباهي بفطرة المحب للطعام، وأخذنا إلى أماكن لا يعرفها حتى أهل باريس أنفسهم، وساهم ذلك في تعريفنا، عبد الرحمن وأنا، على وجوه أخرى للمدينة، ومن هنا تفتقت فكرة مقال الباهي الأسبوعي في مجلة “اليوم السابع” تحت عنوان “اكتشاف باريس” الذي دام فترة طويلة وصدر في كتاب يشكل أغنى دليل ثقافي بالعربية عن باريس.
وكانت النقاشات غنية بيننا نحن الثلاثة، يديرها منيف، وتتركز حول سوريا والعراق في صورة أساسية، ورغم أني من جيل آخر ومرحلة أخرى، فقد جاريتُ هذه التجربة وعشتها، واستفدتُ كثيراً من نقاشات ومعلومات منيف والباهي. وكلاهما شارك في تجربة حزب البعث في فترة صعوده في سوريا والعراق، من موقع متقدم في القيادة القومية، لفترة لم تدم طويلاً، وانسحبا لأسباب تتعلق بالتحولات التي شهدها الحزب بعد سيطرة التيار العسكري في سوريا. وستحضر أسماء كثيرة في تلك اللقاءات من مختلف البلدان العربية، شارك أصحابها في تلك التجربة، من مثقفين وكتّاب وسياسيين وصحافيين، خصوصاً من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، من بعثيين استمروا في الحزب وصاروا حكّاماً وسجانين، وبعثيين غادروا الحزب وبعضهم دفع الثمن ودخل السجن بقرار من الرفاق القدامى.
وفي هذا الوقت حصلت مذبحة عدن في 13 كانون الثاني 1986. ووجدت منيف منشغلاً بها ومهتماً بمتابعة تفاصيلها، وكنت، إلى جانب الصديق فواز طرابلسي، مصدر أخبار أساسي. واكتشفت بعد زمن بعيد، حين التقيت منيف في عدن في آذار 1990، سبب اهتمامه، ذلك انه على علاقة طيبة بتجربة الجنوب اليمني، وكان يعول عليها أن تكون مختلفة في الجزيرة العربية، ولهذا كان يحمل جواز سفر اليمن الجنوبي مثل كثير من المنشقين عن أنظمة القمع في المنطقة. وفي ذلك اللقاء حضرنا ندوة عن الديموقراطية، وكنا مجموعة من الكتّاب والصحافيين العرب، منيف، فواز طرابلسي، جوزيف سماحة، ادونيس، يحيى يخلف، فالح عبد الجبار، عصام الخفاجي ..الخ. وفي الطرف اليمَني، سالم بكير من اوائل خريجي الجامعة الأميركية في بيروت، شاعر ومثقف، ابو بكر السقاف المفكر والكاتب، الاقتصادي خالد الحريري، الصحافي والكاتب عبد الباري طاهر، الكاتب عمر الجاوي، الكاتب سعيد الجناحي، الكاتب علي محمد زيد، وكان منيف قادماً من دمشق التي قرر أن يعود اليها من باريس العام 1987. وفي ليالي عدن، كان علينا ان نسترجع أيام باريس بحضور مجموعة من الكتّاب والمثقفين اليمنيين.
والملاحظ أن منيف يحظى بشعبية لدى أهل اليمن، ليست هي ذاتها في أقطار عربية أخرى، والسبب في ذلك يعود إلى مشروعه الروائي الذي كرس جانباً منه لمنطقة الجزيرة العربية، ولو لم يقم منيف بهذه المهمة لما وصلت إلى القراء العرب صورة المنطقة قبل وبعد النفط الذي لعب الدور الأساس في التحول الذي شهده الخليج العربي بدءاً من الخمسينات، والذي تناوله منيف في خماسية “مدن الملح” ( التيه-الاخدود-تقاسيم الليل والنهار-المنبت-بادية الظلمات). وهناك ملاحظة غاية في الأهمية، وهي الربط لدى متابعي منيف بين سيرته الشخصية وأعماله، وهذا أمر لا يتكرر مع كثير من الكتّاب، ويذهب أحياناً إلى إسقاط بعض الشخصيات الروائية على سِيَر شخصيات معروفة في الحياة، وهذا له ما يبرره في كتابة منيف الذي جاء إلى الكتابة من باب السياسة. لذا، فإن بعض أبطال منيف، تلاحقه المصائر ذاتها، وتلتقي في المواقف ذاتها شخصيات تتقاطع مع سيرة الكاتب ذات التشابكات الغنية بين ولادته في الأردن لأب سعودي وأمّ عراقية ودراسته في العراق، ومن ثم طرده إلى مصر، ومن بعد الدراسة في يوغوسلافيا والزواج من سورية والحياة في دمشق ثم بغداد وباريس ودمشق. وتحيط بذلك تجربة الانتماء الى حزب البعث، والتي لم تدم طويلاً، لكنها وضعته في مركز الحدث، كونه تعرف على جيل من السياسيين العراقيين والسوريين هم محور تاريخ عقود عديدة، ما أغنى مخزونه وزاد من ذخيرته الشخصية التي بقيت ثرية ومتنوعة ومنعته من اجترار نفسه رغم مطولاته الروائية. ذلك أن خماسية “مدن الملح”، تبلغ حوالى 2500 صفحة، وتتناول قصة اكتشاف البترول في المنطقة، وجاءت في بناء ملحمي بانورامي يعد أوفى مرجع عن تاريخ هذه المنطقة من منظور نقدي، ما أثار ضده السلطات السعودية التي وضعته في اللائحة السوداء، ولم تسمح لأعماله بدخول السعودية، كما أسقطت عنه جواز السفر.
وأعطى منيف مساحة واسعة للنفط والصحراء في مشروعه الروائي، باعتبار أنهما لم يتم التطرق لهما في الرواية العربية، خصوصاً النفط الذي صاغ الحياة العربية اعتباراً من الخمسينيات وحتى اليوم. ولم يقتصر الأمر على “مدن الملح”، بل تناول الموضوع نفسه في ثلاث روايات: “الأشجار واغتيال مرزوق، سباق المسافات الطويلة، وعالم بلا خرائط” التي كتبها بالشراكة مع الكاتب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا.
وحظي السجن باهتمام منيف، لكنه لم يحدد بلداً بعينه، بل هو في منطقة شرق المتوسط، وكان يريد من ذلك أن يقول أن ظروف هذه المنطقة متشابهة وكلها سجن، ولذا لا داعي لتسمية العراق وترك سوريا، وبالعكس. فهما يتشابهان، لكني في باريس عرفت من هو بطل رواية “الآن هنا.. شرق المتوسط مرة أخرى”، وهو الدكتور يوسف زعين، رئيس وزراء سوريا الأسبق. والتقيت زعين في زيارة له الى باريس صيف 1987، وكان ضيفا على الصديق الطبيب السوري صخر عشاوي، ابن شقيق وزير الداخلية في حكومة زعين محمد عيد عشاوي، والذي وضعه الأسد في السجن بمعية نور الدين الأتاسي وصلاح جديد. وزعين، أفرج عنه في حالة صحية ميؤوس منها، فخرج من السجن الأسدي العام 1981 بعدما أصيب بمرض عضال، وأظهرت التقارير أن موته مسألة أيّام. لكنّ الأطباء في بريطانيا والسويد استطاعوا معالجة السرطان. انتقل زعيّن بعد ذلك للإقامة في بودابست، وأمضى السنوات الأخيرة من حياته في السويد وعاش حتى العام 2016. وفي لقاءات باريس استعدت مع زعين تفاصيل كثيرة عن الجزيرة تتعلق بالنفط وسد الفرات، والذي كان له الفضل في هذين الانجازين، وهذه حكاية أخرى تستحق أن تروى لوحدها. وكان زعين قد حدثني بأنه يكتب مذكراته التي لم تصدر حتى الآن.
وحضرت جلسات عديدة بين منيف وزعين وفواز طرابلسي. وثمة سؤال ظل يلح عليّ حول المسافة بين منيف والشخصيات الروائية التي بناها. وكان يقول انه يترك هامشاً للشخصيات كي تتفاعل وتتحرك على نحو مستقل. ويفرّق بدقة بين الرواية والسيرة الذاتية. ويرى أن كل رواية تحمل قدراً من شخصية الكاتب، لكن الشخصيات تصبح في بعض الأحيان أقنعة للكاتب. إلا أن من يعتمد السيرة الذاتية لا يستطيع أن يكتب أكثر من رواية واحدة. ويمكن للسيرة ان تكون أحد مكونات الرواية وتلعب بشكل ايجابي. لكن إذا حصل نوع من المطابقة بين الكاتب وشخصية معينة، تحولت الرواية إلى سيرة.
منيف شديد الاعتداد بدور المثقف والثقافة في مواجهة الانهيار الذي عرفه العرب بسبب الهزائم. ويرى أن الثقافة هي آخر المعاقل التي يجب أن تشكل رافعة امام الهزائم والتراجعات، وعلى الكتّاب والمثقفين أن يلعبوا دوراً من أجل خلق جو نفسي لمواجهة الأزمات. وفي رأيه يقوم الأدب بدور مهم لإشاعة الأمل والتبشير بالمستقبل والفكر النهضوي الديموقراطي، شريطة أن يكون أدباً جيداً. ويرى أن مسؤولية المثقف كبيرة. في العالم المتقدم، المثقف جزء من المؤسسة، وبالتالي ليس هناك عبء يُلقى على عاتقه إلا بمقدار محدود، أما في مجتمع راكد يشكو هموماً كثيرة، فتقع على المثقف مسؤوليات إضافية. وردد في أحاديث صحافية أن مسؤولية المثقفين العرب استثنائية “لأننا جيل انتقالي علينا أن ننقل خلاصة للأجيال القادمة ونضع لها صيغة جديدة”. لكن صورة المثقف، في أكثر من رواية، مهزوزة، وهو يسقط في نهاية المطاف، وتفسير منيف أن هذا المثقف هو الحالم الواهم الذي لا صِلة له بالواقع. كان لديه حلم بتغيير الواقع بسرعة من دون معرفة بالآليات. وبالتالي فإن المثقف المهزوم هو الذي لا يدرك الواقع. المثقف المملوء بالرغبات والأوهام.
المدن