سيلفيا بلاث… أنا لست بنيلوبي/ محمد حجيري
لا تتوقفُ الأقلام السيالة عن تناولِ سيرة الشاعرة الأميركية، سيلفيا بلاث، زوجة الشاعر البريطاني تيد هيوز. والإسراف في الحبر على الشاعرة، مردّه جملة أسباب، تبدأ بشِعرها و”حسّها الأدبي المرهف”، وعلاقتها الغرامية المميزة والملتبسة بزوجها (الشاعر) وإنجابها طفلين، واكتئابها، وصولاً الى “خيانة” زوجها الشاعر لها. وتبقى القضية الشائكة والأبرز والأشد وقعاً لإطلاق التخمينات والتقديرات، وتتمثل في انتحارها اختناقاً بالغاز في شباط/ فبراير 1963… وبحسب مترجمة رسائلها فاطمة نعيمي(1) فإن التفاصيل المأسوية التي تتناول حياتها ومعاناتها مع الاكتئاب، حجبت “عظَمتها كشاعرة مبهرة”، وبالتالي فقد بقي الجدل دائراً إلى اليوم حول علاقتها مع تيد هيوز الذي كان، بشكل أو آخر، أحد الجناة أو سبباً في نهايتها المأسوية.
وتناوُل قصة الشاعرة والشاعر يتسّم، مرة بالاتهامية، ومرات بشيء من العاطفية، خصوصاً أنها تحولت “قضية نسوية”… فالشاعرة قيل إنها كابدت مع زوجها، ودوّنت كتابات متقلّبة حول علاقتهما، وهو حاول محو بعض كتابتها تهرباً من تحمل المسؤولية حول معاناتها وحرصاً على مستقبل ولديهما. والصورة حول تلك العلاقة ليست واحدة، فالروائية التركية أليف شافاق، كتبت في كتابها “حليب أسود”(2) أنه على الرغم من أن سيلفيا بلاث كانت شاعرةً رائعة تتميّز قصائدها بحساسية عالية وبقدرٍ كبير من الإبداع، فإنها عانت خلال حياتها مختلف “مشاعر القلق بخصوص الأنوثة والأمومة. وعندما رُزِقَت بأطفال استبدّ بها القلق من العالم الخارجي”. و”كان البقاء في البيت لتربية طفليها خياراً صعباً، لكنّها لجأت إليه رغم ذلك، وغرقت في دوامة الأشغال المنزلية وتغيير الحفاضات، بينما كانت تراقب بصمت ما يحدث في عالم الأدب. في ذلك الوقت كان زوجها يواصل حضور المناسبات الثقافية واستمر في كتابة الشعر وإقامة علاقات جديدة في مجال الإبداع الأدبي وتعزيز شهرته”.
كانت سيلفيا تراقب كل هذا بحسد وتشاؤم وقلق لم تخفِه حتى في قصائدها نفسِها. بعد طلاقها من تيد هيوز، قررت أن تجمع شتات نفسها، فكتبت أجمل قصائدها في تلك الفترة. كانت تكتب كثيراً وفي كلّ مكان وبلا هوادة، تكتب بحب وبصدق من دون أن تنسى أنها أمّ أيضاً. “كانت تريد أن تكون بارعة في كلّ شيء: أمّ وربّة بيت وكاتبة وشاعرة”، تقول إليف شافاق.
وفي روايتها “أنت قلت” قررت الكاتبة الهولندية كوني بالمن(3) أن تعيد إحياء هيوز ليسرد عن حياته وتنحاز إليه بحسب آراء النقاد، بدءًا بلحظة معرفته بتلك الشاعرة، المكسورة ذات الروح السوداوية والمكتئبة والبريئة (سيلفيا) العام 1956، إلى إغلاقهِ باب الفرن الذي انتحرتْ داخله العام 1963، متحدثًا عن سنواته مع (سيلفيا) من وجهة نظره. مبرئاً أو مبرراً الاتهامات التي لاحقته ومازالت تلاحقه بعد موته، بعدما فضّل ألا يبوح أو يعلّق عليها في حياته. قال: “ما الذي كنت أنتظره من امرأةٍ عضتني في أول لقاءٍ بيننا بدلاً من أن تقبلني؟ كان يجب أن أفهم أن الحب بالنسبة إليها مرادفٌ للعنف أو القتال، أن انتزاع قرطها يعني تجريدها من تحضرها للأبد، وحمل القرط كوسام، من يبدأ حبًا كهذا يعرف أنه في قلب هذا الحب يختبئ العنف والدمار، وفي النهاية يختبئ الموت، من البداية كان أحدنا قد انتهى: هي أو أنا. أحببتها منذ اليوم الأول وحتى آخر يومٍ في حياتي، وإذا كانت بانتحارها قد رغبت في سجني داخل موتها للأبد”. ثمّ يقول: “بعد موتها تحوّلت الشرنقة التي لطالما حاولت إخراجها منها خلال سنوات زواجنا، إلى قفص يسجنني داخله، وتركتُ ثعلب أحلامي الذي كان يقفز أعواماً أمام زجاج زنزانتي في الخارج، غير سامح له بالدخول. سحبتْ كلابُ الدم زوجتي بعيداً مني، ومزّقت أطرافها أمام عينيّ. وتحولت قصة حبنا لملاحق أو قصص مشوهة، وكنتُ أكثر عناداً، وأكثر أدباً من أن أدخل طرفاً في غوغاء ولغط منشورين في كل مكان، وكتابات أدينها أخلاقياً، عرقلتْ طويلاً رحلة استعادة نفسي وتوازني”.
تتزايد الصور والأسئلة والتخمينات، حين نقرأ في مقال لجين إينيس (ترجمة صالح الرزوق) يقول: “هل “أخطأت” بلاث أم لا، حينما وضعتْ حداً لحياتها وتركتْ طفلين صغيرين وراءها في العالم من دون أمّ. ألم تكن مفارقة ساخرة أن تضر بلاث ولديها من خلال ما فعلته بحياتها الشخصية – فقدان أحد الأبوين في عمر بالغ الحساسية؟ وفي النهاية، كيف يمكننا أن نحكم على امرأة كانت قد انتقدت بحنق أمها وألّهت والدها، ثم اختارت طريق أبيها في تدمير الذات (مع أن أوتو بلاث لم ينتحر، فقد تسبب بالتأكيد بموته المبكر كما يتضح من كل التفاصيل، حيث أنه امتنع عن علاج مرضه، وهو السّكري، حين كان في مراحله الأولى). ويبدو أن ذلك شجعها على أن تفعل بزوجها، ما فعله الأب بأمها. ولا شك أنّها مفارقة تدعو للسخرية أن قصيدة بلاث “والدي” قد خيمت بجوها على الطريقة التي ستنهي بها حياتها. في هذه القصيدة تعريف بوالدها، فهي ترسمه بشكل شخصية نازية لكنها تعرّف نفسها كيهودية. تقول بالإشارة لوالدها: “حسبت أن كل ألماني هو أنت”. ثم تتابع لتصف قطاراً “يجأر” وينقلها مثل يهودية إلى داشو، وأوشفيتز، ثم بيلسين. ثم بحدة تعلن في العبارة التالية “ربما أنا يهودية قليلاً”. وهنا يحين الوقت لنتذكر كيف ماتت بلاث: لقد خنقت نفسها بالغاز”. يضيف مقال جين إينيس “إن انتقاد أخلاقيات بلاث، يسهل علينا أن نتذكر “فن الانتحار” لجويس كارول أوتس. تتكلم أوتس عن “الانتحار الذي يحمله المجاز”. وهذه الفكرة تنطبق على بلاث، التي يبدو غالباً أنها تجعل رؤاها وأفكارها الشعرية متداخلة مع مشكلات حياتها الحقيقية. هل كان جانب من مشكلة بلاث هو في مشاعرها عن مدى جودة شعريتها؟ من الملاحظ، أنها تعاني القليل من الدونية. لقد اعتقدت أن عليها ألا تكون مضطرة، مثل بقية الكائنات الإنسانية، لتنظيف الأطفال. لكن هل ضاعت تماماً في شعرية تيار الشعور لدرجة أنها لم تكن قادرة على العودة للواقع كي تتعامل مع الهموم الأرضية؟ إن تصوفية الإبداع مجال يعاني فيه الإنسان، بطريقة ما، من التشتت، مثل أستاذ مشغول الذهن. لكن، في الوقت نفسه، إن إبداعية شخص تكون واضحة ومركزة. وهذا العالم، غير الإبداعي، لا يمكن لبلاث أن تتعامل معه، لا سيما بعد فترة مكثفة من الكتابة، وهي الفترات التي شغلتها في نهايات عمرها، كما حصل معها بعد فترة من النجاح وقبيل محاولة الانتحار. ويبدو لنا كأن بلاث تعاني كآبة “بعد الإنجاب” حالما تنتهي من كتابة أي عمل، أو كما لو أنها لا تستطيع التعامل مع خمول الحياة بعد فورة الإبداع”.
رسائل
و”رسائل”، التي نشرت قبل سنوات وترجمت الى العربية، تحوي تفاصيل مهمة عن الحياة المضطربة للزوجين بلاث وهيوز وذلك بعد موافقة مالكتها، ابنة سيلفيا، فريدا هيوز، والتي هي نفسها لم تعرف بوجودها حتى العام 2016، ولم تستطع تحمل فكرة بقاء هذه المراسلات، مهما كانت خاصة ومدفونة في مكتبة. الرسائل الأولى منها موجهة إلى والديّ سيلفيا في شباط/ فبراير 1940. عثر عليها في منزل عائلة بلاث في وينثروب ماساتشوستس حين كانتْ بلاث في السابعة من عمرها وتقيم مؤقتاً في بيت جدها عندما بدأت مراسلاتها. تتضمن الرسالة الأولى الموجهة إلى والدها، أوتو بلاث، والمكتوبة بقلم الرصاص في 19 فبراير/شباط، غلافاً على شكل قلب، وتعرب فيه عن قلقها على صحته. هذا الغلاف يعود بقرّاء بلاث إلى صورة شعرية في قصيدتها “والدي”، عندما تصف والدها على أنّه “قلبي الأحمر الجميل المنقسم إلى جُزأين”. توفي اوتو بلاث في وقت لاحق من ذلك العام. في 20 فبراير/ شباط كتبتْ بلاث أولى رسائلها إلى والدتها، وهي الأولى من بين أكثر من 70 رسالة أرسلتها إليها على مدار 23 عاماً، مضيفة أحياناً رسوماً أو عبارات ملوّنة، إذ كثيراً ما كانتْ سيلفيا تعبّر بالرسم في رسائلها.
وجاء في مقدمة الترجمة العربية للرسائل، أنّ بلاث قضتْ بين العامين 1943 و1948 عطلات الصيف في مخيمات الطالبات في نيوهامبشاير وماساتشوستس. في هذه العطلات بقيت ترسل كل يوم تقريباً إلى والدتها، وبشكل أقل تواتراً إلى شقيقها وأقاربها. وتبيّن هذه الرسائل، منذ البداية، الأهمية الممنوحة للمراسلات في أسرة بلاث. في نهاية فبراير 1956، كتبتْ بلاث إلى والدتها رسالة تقول فيها: “بالمناسبة، قابلتُ شاعراً رائعاً، هو طالب سابق في كامبريدج، في حفلة حضرتها الأسبوع الماضي، من المحتمل ألا أراه مجدداً، لكنني كتبت عنه قصيدتي الأجمل، إنه الرجل الوحيد الذي ألتقيه وأشعر أنه قوي بما يكفي ليكون مساوياً لي، يا لها من حياة”. لاحقاً في رسالة أخرى لوالدتها تصف بلاث هذا الشاعر (والذي سيصبح قريباً زوجها): “هذا الشاعر المسمى تيد هيوز، طويل القامة، ذو وجه كبير، وشعر بني داكن، وعينين خضراوين زرقاوين متوهجتين، يرتدي الملابس القديمة نفسها طوال الوقت، سترة سوداء سميكة، وسروالاً خاكياً ملطخاً بالنبيذ”. ورغم أنه تم عقد قرانهما، إلا أن الأمر بقي سراً، إذ كانت بلاث تخشى فقدان منحة فولبرايت الجامعية إذا اكتشفت السلطات أنها متزوجة.
ثمّ تبدأ الرسائل بتقديم صورة تفصيلية لزواجهما وتستمر الى النهاية المأسوية، إذ تتناول الرسائل الاخيرة الأحداث المتعلقة بانفصال سيلفيا عن تيد وانتقاله للعيش مع عشيقته، و”نضالها” من أجل البقاء مع طفليها، وصولاً إلى الاكتئاب والانتحار. تمتلئ خطابات سيلفيا المكتوبة في هذه الفترة بالتشنج والنقد اللاذع ضد هيوز، في الوقت الذي تحاول فيه اتمام الإجراءات القانونية للحصول على النفقة والانفصال القانوني ومن ثم الانتقال إلى لندن. وتفاصيل انهيار الزواج واللحظات الحميمة، يمكن توثيقها من رسائل بلاث المرسلة من 18 فبراير/شباط 1960 و4 فبراير/شباط 1963 إلى الدكتورة روث بيوشر، معالجتها النفسية السابقة في بوسطن، لأن بلاث تثق فيها وتحترمها لدرجة أنها تسميها “الأم الروحية” وتحدثها بصراحة تامّة. ويستبد بها الغضب والاحتجاج على معاملة تيد لها، وكذلك بسبب نزواته الجنسية، ورغبتها في أن تكون صوتها الخاص، لا مجرد التابع أو مكسورة الجناح، فتقول: “أنا لست بنيلوبي (في إشارة لزوجة أوديسيوس في الأوديسة، والتي بقيت مخلصة لزوجها في غيابه الطويل)، لكنني سأكون ملعونة إذا كنتُ أرغب في الجلوس هنا مثل بقرة ترضع الأطفال، أنا أحب أطفالي. لكني أريد حياتي الخاصة أيضًا. أريد أن أكتب، ألتقى بالناس وأسافر… وهي انتحرت رغم تكرارها عبارات مثل: “أنا قوية وعنيدة ومحاربة”.
ودائماً يُطرح السؤال: هل كان هيوز السبب؟ وهل كان ينبغي أن تنتحر لتترك المشقة على طفليها؟ نقرأ في مقال لفريا جونستون (ترجمة سعد البازعي) يقول لنبدأ بالنهاية. بتعبير الشاعرة روث فينلايت: “الجميع يعرف نهاية القصة”. في صباح 11 فبراير/شباط 1963، في عامها الثلاثين، دخلت بلاث مطبخها في شقتها بلندن وأغلقته بالورق اللاصق، فتحت الغاز وأسندت رأسها على باب الفرن المفتوح. استعداداتها للموت كانت محسوبة واستجدائية. تركت طفليها الصغيرين في غرفة نومهما، باب الغرفة مغلق تماماً وشباكها مفتوح، مع بعض الخبز والزبدة والحليب. ورقة صغيرة في عربة الأطفال تضمنت طلباً مهذباً، بالأحرف الكبيرة، بالاتصال بالطبيب الذي كتب لها وصفة المهدئات. وحين وصل الدكتور هوردر، كانت قد ماتت منذ ساعات. ومع أن هوردر كان يحاول إدخال بلاث إلى قسم العناية النفسية قبيل انتحارها، فقد أعلن: “كنت مندهشاً جداً أنها فعلت ذلك بنفسها”. يضيف المقال: “إلى جانب الملاحظة المتعلقة بالطبيب – التي قد تدل أو لا تدل على أنها كانت تأمل أن يُعثر عليها حية – تركت بلاث ملفاً أسود على مكتبها. وتضمن الملف المجموعة الشعرية الريادية، المهداة لطفليها فريدا ونيكولاس، والتي عنونتها “أرييل”. كانت بلاث قد استمرت تكتب الشعر حتى قبل وفاتها بستة أيام (يومياتها الأخيرة، التي ظلت تكتبها حتى قبل وفاتها بثلاثة أيام، أتلفها زوجها تيد هيوز)، وعملها الأخير فسّره العديد من القراء بنهم على أنه إعلان عن الكيفية التي ستنتهي بها حياتها. وقد صادق هيوز على ذلك التفسير. أعلن العام 1998، قبل وفاته بفترة قصيرة، أن القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها “أرييل” كانت “نبوءة بانتحارها”، وهي قراءة تستدعيها الأسطر الأربعة الأخيرة:
قطرة الندى التي تطير
منتحرة، متوحدة بالنزعة
نحو العين
الحمراء، مرجل الصباح…
وهي كانت تقول “الموت فن”. إثر وفاتها منتحرة، اتهمت جمعيات نسوية ونسويات ونسويون، زوجها، بأنه كان سببًا في انتحارها، وتظاهروا ضده في الكثير من الأمسيات الشعرية التي كان يقيمها، كما أزالوا اسمه عن قبرها أكثر من مرة. وقد أصبحت بلاث مثالاً للمرأة-الضحية بالنسبة للحركة النسوية، فيما أصبح تيد هيوز مثالاً للرجل-المضطهِد غير الوفي. ومع أن هيوز آثر طوال 35 عامًا (1963 – 1998) الصمت حيال الاتهامات التي وجهتها إليه المؤسسة الأدبية البريطانية، وكذلك الأوساط النسوية، في ما يتعلق بوفاة بلاث، إلا أنه خرج عن صمته في العام الأخير من حياته حين نشر مجموعته الشعرية التي كرسها لذكرى سيلفيا بلاث. في إحدى قصائد “رسائل عيد الميلاد”(4) يتذكر هيوز، سيلفيا بلاث، بوصفها عروسًا خجولة:
بثوبك الصوفي الزهري اللون
وقبل أن يلطخ أيُ شيء أيَ شيء
وقفتِ على المذبح
وكان شكلك مختلفًا
ذاتَ قوام أنحف، جديدةً وعارية،
غصنًا مزهرًا مترنحًا من الليلك الريّا
كنت ترتجفين وتبكين من البهجة،
كنت بعمق المحيطات
يحرسك الله.
_______
(1) منشورات تكوين في الكويت.
(2) صدرت عن منشورات الآداب ترجمة محمد درويش
(3) صدرت ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة العامة للكتاب، بترجمة الشاعرة التونسية لمياء المقدم.
(4) صدرت ضمن سلسلة ابداعات عالمية 1998، ترجمة محمد عيد ابراهيم.
المدن
——————————
بلاث مفرد بمواجهة الجماعة/ جين إينيس
ترجمة صالح الرزوق
من الواضح من شعر سيلفيا بلاث، ومن روايتها (الجرس الزجاج)، ومن بقية كتاباتها، أنها بنت وامرأة ذكية وحساسة بشكل استثنائي. فكيف حدث لاحقا، أنها لم تجد لنفسها المفردة في هذا العالم مكانا مريحا ومطمئنا ومفيدا؟.
عندما ننظر لطفولتها، نلاحظ أن والدها شجع حالة اليقظة عندها، وأن أمها بذلت جهودا فائقة لترى ابنتها ناجحة في المجتمع. وبالتأكيد هي تنحدر من عائلة شجعت وأثنت على إنجازات ابنتهم، وأوضحت أيضا أن التربية أحد مفاتيح النجاح. هل كان القدر الشرير، والحياة القصيرة يرتكزان في مصير بلاث على وفاة والدها غير المتوقعة وهي بالكاد بعمر ثواني سنوات؟. لقد كتبت عن هذه الخسارة مرارا وتكرارا، ولكن لم يكن يبدو أنها قادرة على التخلص من أحزانها، أو ربما كان هذا الحزن هو الذي سمح لها بالاستمرار. فجدها، وهورجل لطيف، بالظاهر، وكان يهتم بها ويرافقها، لكنه لم يملأ الفراغ الذي خلفه موت الوالد. ومع ذلك لم يكن والد بلاث استثنائيا، بالأخص كأب. في البداية، خاب أمله من ولادة بلاث لأنها بنت، ولم يكن مسرورا من تحمل مسؤوليات الأبوة. ثم تبدل ذلك بسبب فتنة وذكاء بلاث الواضح.
تبدو معظم شخصيات بلاث البسيطة، ولا سيما في (الجرس الزجاجي)، ذكية ومرحة. وكذلك كانت إيستير، وضمنيا بلاث نفسها، أرادت أن تكون البنت المناسبة التي سيحسدها الآخرون على إنجازاتها. وقادها ذلك إلى أن تكون نوعا معينا من النرجسية الشابة. وهذا في النهاية سيتحول لمصدر إزعاج لها، إنها نرجسية ربما لن تساعد الشاعرة في محاولاتها للنضوج. وعلى سبيل المثال في عام 1958 كتبت بلاث قصيدة تسمى “أنا أريد، أنا أريد”، وصدمنا فيها فكرة أن بلاث أرادت الكثير من حياتها وبسرعة.
ولو أنها لم تستسلم إلى اللوعة، وهذه حال والدتها (حسب يوميات بلاث لم تذرف أمها الدموع في الجنازة)، فإن شاعرة نرجسية مثلها، لا يمكن أن تستسلم لرغباتها الفتية. وعليه، هناك ضعف في الاهتمامات. بالمقابل نحن لم نعرف بالضبط ماذا كانت إيستير تكره في بودي ويلارد، باستثناء أنه منافق – حسب ما تقول.
وربما كان عدم النضج هو الذي دفع بلاث الشابة للقفز إلى عدة مراحل مختلفة من حياتها قبل أن تصالح المراحل السابقة. ويجب أن تلاحظ أنها ألقت بنفسها بعمل أكاديمي، ولكن دون أن تتخلى عن مشاعرها الطفولية. فقد غادرت إلى مدينة نيويورك قبل أن تكون قادرة على هضم خبرات حياتها الجامعة. وبعد انهيارها، تخلت عن الجامعة وسافرت إلى إنكلترا. وبالسر تزوجت وعملت بالكتابة ودخلت هذه المهنة. ثم بسرعة أنجبت ولدين، وانفصلت بعد ذلك عن زوجها. ثم عادت إلى الولايات المتحدة عام 1958، وبدأت بزيارة طبيبها النفسي مجددا. وقد جرى كل ذلك مثل طفل يقفز من صخرة إلى ما بعدها، دون أن يتمهل. ولذلك ليس من المستغرب، أن إيستير لم يكن بمقدورها أن تعزم رأيها على أية “ثمرة” تقطفها. وبنفس الطريقة كانت بلاث دائما مشغولة جدا وتقضم من الثمار التي أمامها ولا تعرف أيها تختار.
والكتاب الذي يوفر لنا نظرة عمودية ومفصلة عن الطبيعة التنافسية لنساء المكان والزمان اللذين تنتمي لهما بلاث هو كتاب دافيدسون “سقوط بيت الدمية”. كتاب دافيدسون هو تاريخ اجتماعي لعلاقة النساء مع بيوتهن وحياتهن المنزلية. وما تقدمه لنا عن بلاث هو دراسة توجيهية وهامة، فقد تابعت بلاث منذ اللحظة التي سكنت فيها بغرفة واحدة معها في سميث. وفي كلام دافيدسون عن نساء العقد الخامس من القرن العشرين – النساء الطموحات والمتميزات اللواتي انتسبن لجامعة “الأخوات السبعة” – صورة عن بنات صغيرات تحاولن الوصول للـ “قمة” بكل شيء. نجاح في المهنة والبيت وعلى الصعيد الفردي. مشرقات وجميلات وغنيات. وتخبرنا دافيدسون كيف أن بلاث دقت على أبواب مجلات النساء في محاولة لنشر وبيع نصوصها. وقد وضعت في دراستها رسالة كتبتها بلاث من إنكلترا وأرسلتها إلى أمها في موطنها تطلب فيها إرسال نسخ من “مجلة سيدات المنزل” لأنها لا يمكن أن تجدها في لندن. وعليه، نرى أن بلاث لا تريد أن تكون كاتبة جيدة فقط، ولكن نوعا من الأنثى الكاملة التي يمكنها أن ترتب ديكور منزلها على نحو مدهش. وطبعا لم تفلح في أداء كل هذه الجوانب. وليس من المستغرب، والحال كذلك، أن تشعر بالمرارة أحيانا. وكان شعور بلاث حيال مكانها من المجتمع أنه مكان فارغ ومجدب، وشديد الاستنزاف لمقدرات الإنسان.
هذا التشتت في المقدرات، ربما هو موجود، في إحساس بلاث بانعدام الأمان، وربما أيضا، بنوع محدد من الأنانية الرومنسية. وكان بمقدور بلاث القيام بأي عمل، ولكنها لم تشعر أن هناك شيئا واحدا وواضحا يستحق التعب في هذه الحياة.
وهذا العجز عن أن تكون حقا مرتبطا بدور خارج دائرتك، أو بجماعة، يمكن أن تراه في علاقتها مع عائلتها وأصدقائها، وأيضا في مشاهد من “الجرس الزجاجي” وتدور في مصحات عقلية. ونتساءل كيف أمكن بلاث فعلا أن تتصرف خلال زواجها مع تيد هيوز، رغم كل الرسائل لأمها والتي تصف فيها طريقة سير الأمور: لعدة سنوات، لم تتقبل بلاث حياتها بجماع قلبها، وكذلك لم ترفضها بكاملها. وحينما أرادت إيستير أن تحصل على صورة “صيفية” من أجل “يوم المرأة”، اختبأت في الحمام لأنها أوشكت على البكاء. فقد رأت أن صورتها مقيتة، لكنها لم ترفض هذا العمل.
وقد اهتم بهذا النوع من العصاب، الذي يصيب الشباب بشكل خاص (الذكور والإناث)، عدد من الكتاب. بعضهم نظر له على أنه عدم نضوج ولكن سمحوا لهذه الشخصيات في النهاية بالنمو. وآخرون نظروا إليه كبوادر على التمرد ضد مجتمع جائر، ولكن حتى في هذه الظروف كان على الشخصيات في النهاية أن تضع العالم في الحسبان. والبقية نظروا له كـ “مرض شبابي”، وفيه حصيلة حياة الأفراد تعتمد، على طبيعة الشخصية الفردية (بالإضافة للقدر و/أو التاريخ). وفي (الجرس الزجاجي) لم نقابل إستير أبدا خارج حدود الهتمام الشديد بالذات.
أحيانا نتساءل إن كانت هذه النرجسية هي نتيجة حقيقة أن عصاب بلاث هو عصاب أسلوبي، مثل أسلوب رواية (صياد في حقل الشيلم)، وهي رواية من نفس الحقبة. هذا العجزعن الاختيار، أن تختار مسؤولياتك، بالإضافة لتشتت الاتجاهات والميول، والتشرذم (التجزؤ الشخصي) – عبارة عن ردة فعل على فترة الخمسينات بكل ما فيها من قسوة ومحافظة. تتكلم سوزان سونتاغ في كتابها (المرض كمجاز استعاري) عن السرطان، ولكنها تذكر أن المجتمع يقرر أسلوب ما يشكل “المرض التراجيدي” وكيف يتصرف أفراد المجتمع مع هذا المرض. وتخبرنا بلاث في (الجرس الزجاجي) بالكثير عن “أسلوب” العصر، ونفهم منه أن اهتمام إيستير بمجلات الأزياء هوالمسؤول عن انهيار إيستير، كما تقول بلاث.
ويجب أن نتساءل الآن إن كانت إيستير تحمل المرض العقلي جزئيا لأنها كائنة متاحة وعصرية. وإن كانت سقطت لاحقا في لعبة بلاث وأصبحت انتحارية لسبب واحد، أنها لم تجد لنفسها مكانا مناسبا. لقد سقطت في فخ نرجسيتها الخاصة. فقد واصلت اللعبة وراء نجاحها و“سعادتها” حتى لحظة النهاية. ولم يعد بمقدورها أن تفكر بالماضي بإخلاص، ولم يعد لديها اهتمام بالمستقبل. ولم تكن لديها فرصة لتقبل أصدقاء سعداء في ضمن دائرة حياتها. إنها مجرد شخص مفرد ضائع ومهمش. وكل فكرة عن مستقبلها، من وجهة نظر العمل أو الدور الاجتماعي، تبدو إما ممجوجة لها أو يستحيل تحقيقها. وأمام هذه الحالة الذهنية، لا تتراجع التوقعات فحسب، ولكن تختفي تماما. وعليه يبدو الموت الطريق الوحيد، والانتحار آخر فعل أو دور نقوم به.
ومع أن إيستير لا تموت، كما حصل مع بلاث في أول محاولة انتحارية، تستمر حالة الضياع والتردد حتى نهاية الرواية. ويمكننا أن نشاهد في قصيدة من نوع “ليسبوس” و“أبي” أن بلاث لا تجد في الأمومة والزواج شيئا تصلح له، أو تجد فيه نفسها. والحقيقة، كان سخطها عارما بسبب هذه الواجبات. فهي واجبات لا تختلف عن “الـمؤسسات” – التي تحد من حريتها وتعصف بتماسكها، كما هو الحال مع المدرسة والمجلة والمصحة العقلية.
وتوجب على بلاث أن تعقد صلحا مع مؤسسات المجتمع أو أن تطور وسيلة لتجنبها. ولسوء الحظ، اشتبكت مع نرجسيتها الشخصية، والأسوأ أنها استلهمت أفضل قصائدها من هذه النرجسية. وفي النهاية لم تقدم لها حماية ذاتية، لقد وضعتها في دائرة ذاتية تساعد على تفكيك الذات فقط. ومن الواضح أن بلاث بالشعر وبظلام عذابها الذاتي وجدت مكانا لنفسها. وحتى ذلك المكان لم يكن آمنا – أو صحيا. وحتى الوظيفة الاجتماعية الأخرى لم توفر لها هما حقيقيا أو إشباعا وإرضاء ذاتيا. في البداية، وجدت الرضا بإنجاب ولدين، بنت وصبي، ولكن نحن نجد في قصائدها وفي (الجرس الزجاجي) الكثير من الصور السلبية عن أعباء رعاية وتنظيف الأطفال. وهذا يدفعنا للاعتقاد أنها لم تكن مسرورة بأعمال الأمومة.
كانت بلاث في حالة اغتراب. والمؤسسات التي تكلمت عنها في (الجرس الزجاجي) وضعت إيستير بحالة اغتراب كذلك. إن مهنته أبيها الأكاديمية جعلتها تعتقد أن علاقتها بالمجتمع يحددها النجاح في المدرسة. وحققت بلاث ذلك – كانت ناجحة علميا – ولكن لم تجد في المدرسة السعادة المرجوة. وفي نهاية المطاف، تخلت عن مهنة التدريس الأكاديمي في سميث. ثم حان دور تصوراتها عن زواج الأبوين ووفاة الأب والمسؤوليات التي تتحملها الأم بمفردها. وهذا ما حصل مع إيستير. فهي لم تتمكن من القيام بهذا الدور، كما أشارت بوضوح حينما تكلمت عن السيدة ويلارد. ولننظر أيضا للفراغ الذي تعكسه ضاحية بوسطن. وهذا ما تسبب لإيستير بالكآبة قبل أول محاولة للانتحار. وفي (الجرس الزجاجي) ترسم بلاث لوحة مريرة لمدرستها – على الأقل للجانب السلبي الذي يدفعها للشعور أنها خارج المكان. ولاحقا، تواجهنا مشاكل بلاث مع المؤسسات – مثل مشاكل إيستير مع المصحات العقلية. لم تجد بلاث دورا لها – ولا حتى في هذه المصحات. وبعكس جوان، لم تفكر بلاث أن تكون أنثى تعمل بالتحليل النفسي. وربما كانت تشعر بسعادة أكبر في إنكلترا، كامبيردج، وبعد الزواج من تيد هيوز. غير أن قصيدتها “والدي” تضع زواجها ومصداقيته موضع التساؤل. ومن خلال صورة إيستير، ومن تفاصيل حياة بلاث، نرى أنها مرت بوقت عصيب ولم تجد الطمأنينة في وظائفها الاجتماعية التقليدية، ولا سيما الوظائف المرتبطة بالمؤسسات الكلاسيكية. وتقول أم بلاث، أنه من المفترض وجود رواية ثانية تغطي الجانب الثاني المشرق من حياة أبطال (الجرس الزجاجي). وطبعا تلك الرواية لم تكتب أبدا، وأحد الأسباب أن بلاث كانت وحدها في عالم لا يمنحها السعادة إلا من خلال الشعر.
ونرى إيستير في نهاية الرواية وهي في طريقها إلى اجتماع إدارة المصحة العقلية. وكانت خائفة، وتشعر بالقلق من نفسها. فهذا ليس هو المكان المناسب لها. تقول:”ها أنا أدخل إلى الغرفة”. والفكرة في هذه الكلمة”الغرفة”. فبلاث لم تكن سعيدة في غرفتها. ولم يكن هناك “غرفة لها حقا” (بالمعنى الذي استعملته فرجينيا وولف في مقالتها الطويلة). وقد سارت إيستير من جرسها الزجاجي الخاص بها إلى غرفة الإدارة، ولكنه “مكان”، أوغرفة في مؤسسة حساسة جدا، لا يمكن تصوره أبدا، وله وظيفة مزدوجة، وتقليدية جدا، ولا يمكن لإيستير أن تشعر فيه بالراحة والانشراح. ولذلك كانت تود العودة إلى جرسها الزجاجي. هناك على الأقل تجد نفسها. ولا تكون نسخة من الأخريات. وتحقق نوعا من الطمأنينة لا يمكن لأي غرفة في العالم أن تقدمها لها.
وبالنتيجة، إن نرجسية بلاث بحدين اثنين. إنها تصنعها وتستمتع بها. ولكن لا تجد أبدا غرفة عمل ترتاح لها، وتستمع بها، ولا يمكن للعالم أن يقدم لها مكانا أفضل على الإطلاق. إن بلاث نفسها، وهو ما يجب علينا ملاحظته، لا يمكنها أن تجبر مؤسسات العالم على تقديم الخدمات أو المساعدة: ونأسف أن هذا لم يحصل أبدا وأن سيلفيا بلاث لم تجد”غرفة” لنفسها حيث يمكنها أن تتنفس بحرية وتشعر.. نعم، هذا هو مكانها، وهنا موضعها، هذه هي غرفتها.
…………………..
جين إينيس Inness Jeanne. كاتبة في cliffs notes.
المثقف
————————–
سيلفيا بلاث مثل صاعقة بشرية: كتاب جديد عن سيرتها تزيد صفحاته عن الألف
فريا جونستون* ترجمة: د. سعد البازعي
لنبدأ بالنهاية. بتعبير الشاعرة روث فينلايت: «الجميع يعرف نهاية القصة». في صباح يوم 11 من فبراير (شباط)، 1963، في عامها الثلاثين، دخلت سيلفيا بلاث مطبخها في شقتها بلندن وأغلقته بالورق اللاصق، فتحت الغاز وأسندت رأسها على باب الفرن المفتوح. استعداداتها للموت كانت محسوبة واستجدائية. تركت طفليها الصغيرين في غرفة نومهم، باب الغرفة مغلق تماماً وشباكها مفتوح، مع بعض الخبز والزبدة والحليب. ورقة صغيرة في عربة الأطفال تضمنت طلباً مهذباً، بالأحرف الكبيرة، بالاتصال بالطبيب الذي كتب لها وصفة المهدئات. وحين وصل الدكتور هوردر كانت قد ماتت منذ عدة ساعات. مع أن هوردر كان يحاول إدخال بلاث إلى قسم العناية النفسية قبيل انتحارها، فقد أعلن «كنت مندهشاً جداً أنها فعلت ذلك بنفسها».
إلى جانب الملاحظة المتعلقة بالطبيب – التي قد تدل أو لا تدل على أنها كانت تأمل أن يعثر عليها حية – تركت بلاث ملفاً أسود على مكتبها. تضمن الملف المجموعة الشعرية الريادية، المهداة لطفليها فريدا ونيكولاس، والتي عنونتها «أرييل». كانت بلاث قد استمرت تكتب الشعر حتى قبل وفاتها بستة أيام (يومياتها الأخيرة، التي ظلت تكتبها حتى قبل وفاتها بثلاثة أيام، أتلفها زوجها تيد هيوز)، وعملها الأخير فسره العديد من القراء بنهم على أنه إعلان عن الكيفية التي ستنتهي بها حياتها. وقد صادق هيوز على ذلك التفسير. أعلن عام 1998، قبل وفاته بفترة قصيرة، أن القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها «أرييل» كانت «نبوءة بانتحارها»، وهي قراءة تستدعيها الأسطر الأربعة الأخيرة:
قطرة الندى التي تطير
منتحرة، متوحدة بالنزعة
نحو العين
الحمراء، مرجل الصباح.
ومع ذلك فإن بلاث نفسها وصفت عملها بعبارات تمزج الهزل بالكآبة، حين قالت: «قصيدة أخرى حول ركوب الخيل هي التي عنوانها (أرييل)، اسم حصان فتنت به». إذا قرأت بهذه الطريقة فإن الأجزاء المبعثرة للقصيدة، «الأعقاب والركب»، «الرقبة» و«الأفخاذ» و«الشَعر»، بتعرجاتها وسهولة الإلمام بها، تبدو صلتها بنهاية عنيفة مفاجئة أقل من صلتها بالحياة إذا ما نظر إليها بسرعة هائلة من زاوية متحدث يعدو باتجاه شمس الصباح. رؤية بلاث لنفسها على أنها «غودايفا بيضاء» (كما في الأسطورة الإنجليزية) رؤية مشبعة بالبهجة والانتصار. لقد أضاف هيوز معلومة تقول: «كان أرييل اسماً لحصان كانت تركبه كل أسبوع. قبل ذلك، حين كانت طالبة في كمبردج (إنجلترا)، ركبت الخيل مع صديقة أميركية باتجاه غرانتشيستر. اندفع حصانها، وسقط الرِكَاب، فقطعت الطريق عائدة إلى الإسطبل الواقع على بعد حوالي ميلين، الحصان بأقصى سرعته، وهي متمسكة بعنقه».
ما لم يذكره هيوز هو أن تلك الحادثة (ديسمبر/ كانون الأول، 1955) كانت المرة الأولى التي تركب فيها بلاث الحصان. حسب التفسير الذي أوردته هيذر كلارك في سيرتها الجديدة لبلاث، اندفع الحصان المتمرد في الطريق المعاكسة، وكانت السيارات تنحرف عن مساره والنساء يصرخن. كانت بلاث متمسكة بعنق الحصان مندهشة من «قوتها» هي؛ ربما لكي تدهش الجمهور على الأقل. كتبت: «أشعر كما لو كنت صاعقة بشرية تنتقم». في القصيدة التي كتبت لاحقاً تظهر المتحدثة بلغة قاتلة أيضاً: «وأنا/ أكون السهم».
إن السيرة لا تقدم تفسيراً نهائياً ولا تستنفد التفسيرات المحتملة لما يحدث في «أرييل». معرفتنا بأن بلاث انتحرت بعد كتابة المجموعة بوقت قصير لا يعيننا كثيراً في فهم صور القصيدة وإطارها الشكلي. أما العنوان فقد أشار الشاعر روبرت لووِل أن «أرييل يذكر بالشبح الشكسبيري اللطيف (في مسرحية «العاصفة»)، الثنائي الجنس، والمرعب قليلاً، لكن الحقيقة هي هذا الأرييل هو حصان الكاتبة». موت الشاعرة بيديها إحدى «الحقائق» (قال لووِل لإليزابيث بيشوب إن قصائد بلاث كانت «كلها حول» «انتحارها»). حقيقة أخرى هي أن الاسم «أرييل» هو لشكسبير كما هو لبلاث. أرييل شبح يفتتح «العاصفة» مستعبد البروسبيرو، ولكنه يتحرر في النهاية بقدراته الخلاقة. بعد تركه آثاراً سحرية في الآخرين ينطلق ويصير هو نفسُه، كما يقول «أرييل» بلاث، «شيئاً آخر».
لقد أشارت بلاث أكثر من مرة إلى «تكيفها» بعبارة توحي بالكيفية التي حولت بها الأحداث في حياتها إلى «شيء آخر». كتبت حول قصة محاولتها الأولى للانتحار في شبابها عام 1953 وذلك بعد عام من تلك المحاولة قائلة: «لقد تكيفت مع محاولتي الصيف الماضي إلى حد أنني سأكتب بحثي الروسي حول موضوع الانتحار». وقد أثنت كلية سميث، حيث كانت تدرس، على «تكيفها الجميل» مع الحياة بعد تلك المحاولة الأولى للموت. الدليل الأفضل على شاعر متكيف بشكل جيد كان إحساسها حول كيفية تحويل التجربة إلى فن. أخبرت بلاث أمها أوريليا بما شعرت أنه كان يجب أن يحدث قبل تحويل حياتها هي إلى أدب: كان على الواقع أن يكون موضوعاً «لتحويرات» الشاعر، كان على الشخوص أن يمروا بعملية «دمج» يصيرون بموجبه «مركبين»، وعلى الحقيقة أن «يعاد ترتيبها».
لقد نظر كتاب سيرة بلاث إلى الشاعرة في الغالب كما لو أن أعمالها ليست أكثر من تعبير ذاتي ومباشر. عمليات التحويل التي وصفتها لأمها قد تغيب عن تلك السير أيضاً، وإن أثبتت فإن عمليات كتلك تُفهم على أنها عوائق في وجه الحقيقة المتمثلة في كشف الكاتبة عن نفسها. لكن لا بد أن تكون القصائد شيئاً آخر غير الاعتراف المباشر لكي تستحق أن تسمى قصائد، كما تدرك كلارك. في حين تستخرج كلارك مصادر لمادتها أوسع مما ظهر في أي من السير النقدية العديدة التي كتبت عن بلاث، فإنها تؤكد بحرص ما لدى الشاعرة من مواهب وطاقات شعرية. نتيجة ذلك تقييمٌ يراها كاتبة نمو وإبداع، ليس كما لو كانت امرأة محكوماً عليها بالانتحار، وإنما بوصفها شخصاً يصارع باستمرار، كما عبرت هي بتواضع، ليكون «أكثر نجاحاً في الكتابة مما ظننت في البداية». بتعبير كلارك، كان التزام بلاث «ليس للموت، وإنما للفن».
كان معنى النجاح في الكتابة، كما رأته في سنوات صباها، أن تكتب قصصاً وترسلها إلى مجلات منتشرة فتكسب المال وتحصد الجوائز. بعد الموت المفاجئ لوالدها (أوتو) حين كانت في الثامنة من عمرها، كانت عائلة بلاث دائماً على شفا كارثة من الإفلاس المالي. كانت سيلفيا، التي قالت عن نفسها إنها كانت في طفولتها «ذكية بصورة خطرة»، تحب المنافسة، متحمسة ومصممة وطموحة بلا حدود. اكتسبت الثناء من الجميع بسبب تفوقها الدراسي، بإيمانها بالإنجاز، ومظهرها المتسق على نحو بديع. كانت أشياء عظيمة تُنتظر منها وكانت تعمل بلا هوادة. بمناسبة مرور 30 عاماً على انتحارها، وصفت جانيت مالكوم في «النيويوركر» حياة بلاث بأنها «قصة مميزة للخمسينيات المخيفة والمزدوجة الوجوه». أما أم بلاث، الجادة في عملها، فقد روت نكتة قاسية هي أن «الانهيار العصبي» شيء لا يستطيع أحد من أسرة بلاث أن «يحتمله».
حين عادت سيلفيا ذات العشرين عاماً إلى البيت، مرهقة، من ماساشوستس بعد تدريب رفيع المستوى ولكنه مرهق جداً في نيويورك لدى مجلة «مادموازيل»، لتجد نفسها عاجزة عن الكتابة (وهي تجربة سجلتها في روايتها «جرة الجرس»، التي نشرت بعد شهر من وفاتها)، تم تشخيصها على أنها مصابة بالاكتئاب. سلسلة العلاج التي تلت جعلت الأمر أسوأ إذ تصاعدت في صدمات كهربائية مرعبة. تقول كلارك إنه ربما كان الخوف من تكرار هذا العلاج في لندن عام 1963 هو الذي أدى إلى انتحار بلاث.
في عام 1955 أحضرتها منحة من فولبرايت إلى كمبردج شديدة البرودة وإلى تيد هيوز شديد الحرارة (أو تد هيوج (أي الضخم)، كما سمته آن سيكستون). المواجهة العنيفة لهذين الشاعرين في حفلة طلابية – عضت خده وانتزع هو ملفعها وقرطي أذنيها تذكاراً – تحول بسرعة إلى مادة أسطورية متداولة استمتع الجميع بتضخيمها. لاحظ أحد الحضور أنهما «استحق كل منهما الآخر» وتساءل: «هل ستتمكن سيلفيا من ترويض تيد وتدجينه… أم أنه بدلاً من ذلك سيحرر سيلفيا من عواطفها المكبوتة سلفاً؟» تزوجا في لندن في كنيسة سانت جورج، في بلومزبري، في السادس عشر من يونيو (حزيران) 1956 – يوم بلوم (يوم الاحتفال بذكرى الكاتب الآيرلندي جيمس جويس) – الحدث الذي صعق أوريليا بلاث (أم سيلفيا)، الشاهدة الوحيدة على الزواج. بعد شهر عسل قضياه في فرنسا وإسبانيا… عاد الزوجان إلى كمبردج، لتبدأ بلاث سنتها الثانية في كلية نيوهام ويبدأ هيوز التدريس في مدرسة للأولاد. وصفهم أحد المعارف بأنهما «متوهجان بالسعادة». لكن أحد معلمي بلاث في كمبردج رأى أيضاً أن تلك الفترة كانت تشير إلى بداية «الغضب العاطفي الذي هيمن منذ ذلك الحين على شعرها».
مر عامان من التدريس والكتابة في ماساشوستس؛ هنا عانت بلاث بشكل متقطع من عقدة الكاتب والاكتئاب (الذي بحثت له مرة أخرى عن علاج)، لكنها أيضاً احتفلت بسلسلة من الاختراقات الإبداعية والشعرية المنتشية. عاد الزوجان إلى إنجلترا عام 1960، حيث أنجبت بلاث (في لندن) ابنتهما فريدا. بعد ذلك بعامين ولد نيكولاس. وفي ذلك الوقت كانت العائلة قد انتقلت إلى مزرعة في ديفون. حاولت بلاث بمشاعر من الابتهاج أن تتكيف لكن ولادة أطفالها تسببت في أشهر من العقم الإبداعي والبؤس، وأزعجتها كذلك ذكريات والدها المتوفى. خيانة هيوز أدت في النهاية إلى انفصال الزوجين عام 1962. الأمر الذي أطلق لدى بلاث سيلاً جارفاً من القصائد الكئيبة والمزعجة حول الشر، والتعذيب، والتضحية، والموت. هذه الأعمال المنتصرة والمروعة صنعت اسمها.
غير أن صوت بلاث في الأخير يمكن أن يرى منسجماً بصورة جميلة مع العالم الطبيعي أيضاً. رسمت مشهد قصيدة بعنوان «خراف في الضباب» (1962) مع ملاحظة شارحة تقول إن «حصان المتحدث يمضي بمشية بطيئة وباردة وهو يتحدر على تلة من الحصى نحو إسطبل في الأسفل». في مفتتح هذه القصيدة تلال «تصعد نحو البياض»، يراها المتحدث الذي «تمسك عظامُه بالسكون». إنها تعيد تصور الإدراك المتنامي لدى شخص أو شيء يجدها ناقصة («الناس أو النجوم/ تنظر إليّ بحزن، أخيب أملهم»)، لكن قدراتها المرهفة اللماحة على الملاحظة تلتقط الطريق أمامها لكي تخالف خيبتهم. أو أنهم بالأحرى سيلتقطونها بطريقة تضفي المعنى على شيء يقصر دون التوقع (أحد الأسطر يتألف بأكمله من «أوه هدئ») وهو إنجاز عُبر عنه بما هو أقل منه.
إن هذا ليس صوت الانتقام الذي يحمل الموت كما بالغ البعض في وصفه؛ إنها رائعة من نوع آخر.
لم ترد بلاث لأي شيء أبدعته أن يذهب سدى، كما كتب هيوز في مقدمة أعمالها الكاملة: «حسب علمي، لم تتخلص من أي محاولة شعرية لها». بدلاً من التخلص من نص اتضح لسبب ما أنه غير ناجح، ستحاول أن تجد له شكلاً أو صيغة تجعله يعمل، محولة إياه إلى شيء، بتعبير هيوز، «أرهق قدراتها الإبداعية مؤقتاً». عادة أخرى كانت أن تتصور قصائدها المفردة كما لو كانت أعضاء في مجموعة، ربما أسرة، مجتمعة في كتاب يتغير اسمه وعلاقاته الداخلية باستمرار. لو أنها عاشت فستستمر في تكييف ومضاعفة الأعمال التي وصفتها ذات مرة بأنها ذريتها.
على النقيض من العديد من أولئك الذين كتبوا عن بلاث وهيوز، تتفادى كلارك أن تكون جزءاً من قصتهما. كتابها «المذنب الأحمر»، الذي تزيد صفحاته عن الألف صفحة، يحبكُ بتأنٍ الحياة القصيرة التي يوثقها. نغمته واقعية، متعاطفة بصمت (وليس مع بلاث فحسب)، وبعيدة عن الإثارة. فصول كاملة منه كُرست لإعادة بناء شهر واحد يوماً بيوم، مدمجة في الغالب شهادة من مصادر غير مشهورة. رواية كلارك لحياة بلاث هي الأولى التي استطاعت الاعتماد على كل مراسلاتها المتبقية، سواء التي لم تنشر أو التي اكتشفت مؤخراً، وعلى العشرات من المقابلات التي أجراها معاصروها ونشرتها هارييت روزنشتاين (تهيئة لسيرة لم تكتمل)، المقابلات المحفوظة في أرشيف جامعة إيموري.
تركز كلارك أيضاً أكثر من غيرها على الخلفية العائلية لوالدي بلاث، أوتو (الذي هاجر من بروسيا إلى أميركا في سن السادسة عشرة) وأوريليا (المولودة باسم شوبير)، التي كان والداها نمساويين. هذه سيرة مرخص لها: ورثة بلاث وهيوز سمحوا لكلارك بالاقتباس كما تشاء ومباشرة من المادة المنشورة وغير المنشورة، لذا لم تحتج إلى إعادة صياغة الأقوال المؤكدة أو إلى ما هو غائم في الذاكرة. «المذنب الأحمر» ليس تبجيلاً بصورة مبالغ بها لموضوعه، ولا هو بالمدفوع إلى تقديس التفاصيل المتعلقة بأيام بلاث الأخيرة. إنه سيرة حياة بأفضل وبكل ما في الكلمة من معنى.
* مراجعة لكتاب «المذنب الأحمر: حياة سيلفيا بلاث
القصيرة والملتهبة»
المصدر مجلة «بروسبكت»
(يناير/ فبرير 2021).
الشرق الأوسط