في تعدد ألفاظ “الطبيعة” التي نحاول إنقاذها/ عمّار المأمون
“الطبيعة” تعني الولادة في الجذور اللاتينية والأورو- المسيحية و”التغير” في الجذر اليوناني واللغات الهندية، و”العفوية” في الجذر الفنلندي والصيني والكوري، ما يعني أن الديناميكية والتعدد والعفوية غير موجودة في المعاني الساميّة…
نشرت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية مقالاً يناقش ورقةً بحثيةً بعنوان “كيف يؤثر تعدد مفهوم الطبيعة عند البشر في الحفاظ على التنوع الحيوي”، عدنا للورقة المقصودة لمحاولة فهمها من وجهة نظر متحدث بواحدة من اللغات التي تتناولها، ألا وهي العربيّة.
يمكن تلخيص البحث بالقول إن ثلاثة باحثين تتنوع اختصاصاتهم بين العلوم الإنسانية والطبيعيّة، يناقشون مفهوم “الطبيعة” من وجهة نظر لغوية وإيتمولوجيّة، معتمدين على تحليل 76 لغة مختلفة، لرصد معاني كلمة “Nature” ضمن كل لغة، والمفاهيم التي تحيل إليها، وأثر هذه الكلمة في إدراك الجماعات البشرية المختلفة لـ”الطبيعة” وكيفية الحفاظ عليها.
هناك فقط 20 جذراً لكلمة طبيعة في 76 لغة، وتقسم هذه الجذور إلى 4 فئات.
يشير البحث إلى أن العمل على جمع الكلمات والمفاهيم بدأ عام 2015، والأهم، بما أن التمثيل المفاهيمي لكلمة طبيعة غير ثابت، تم الاعتماد على الجذور اللغويّة الأقدم في كل لغة، مثلاً كلمة “nature”، “تشتق من الجذر أو المورفيم ذاته في اللغتين الفرنسية والإيطالية، الأمر ذاته مع “طبيعة”، التي تتشابه في اللغات الساميّة كالعبرية والعربية، ويظهر في النتائج أن هناك فقط 20 جذراً لكلمة طبيعة في 76 لغة، وتقسم هذه الجذور إلى 4 فئات، لغات تحوي الكلمة، لغات استعارتها من لغات أخرى، أو لغات تعبّر فيها هذه الكلمة عن الـ”عالم” لا فقط الطبيعة، ونهايةً، لغات لا تحوي هذه الكلمة، كما في لغات السكان الأصلين لأميركا.
الديانات الإبراهيميّة و”ثبات الطبيعة”
نقرأ في القسم الثاني من نتائج البحث، فرضية تقول إن المساحات التي هيمنت/ا نتصرت فيها الديانات الإبراهيمية التوحيديّة تمتلك معنى مميزاً للطبيعة، ففي اللغة العربيّة الكلمة تعني “الصفة الأصليّة”، أي ربما جواهر الأشياء التي لا تتغير وتتحكم بالأعراض وتحدّها، كما أنها تعني “ما يتبع القواعد” وكل ما هو منتظم، وثابت، ومقرر مسبقاً. ويمكن تلمس ملامح هذه المعاني في النصوص الدينيّة، حيث الطبيعة مجبولة خالصة على طاعة الإله، أي أن كل المكونات اللاإنسانيّة في العالم تحمل صفة ثابتة لا تتغير ألا وهي التسبيح، وذلك عبر سعيها إلى تحقيق مقاصدها. الأهم، تكوين الطبيعة مُقرر مسبقاً من الرب، هناك نظام لا يتغير ولا يتبدل، فـ”لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”، هذه المعاني التي أضفناها توضح مفهوم الطبيعة، التي “يقوم” عليها الإنسان، فهو أعلى مرتبة من مكوناتها الأخرى، كأنه زائر أو عابر لا بد أن يمضي.
يختلف هذا المعنى في سياقات ثقافية وجغرافيّة أخرى، فـ”الطبيعة” تعني الولادة في الجذور اللاتينية والأورو- المسيحية و”التغير” في الجذر اليوناني واللغات الهندية، و”العفوية” في الجذر الفنلندي والصيني والكوري، ما يعني أن الديناميكية والتعدد والعفوية غير موجودة في المعاني الساميّة التي تشير إلى “صفات” لا إلى أغراض موجودة في العالم. وعلى رغم التسرع في الحكم على اللغات السامية ضمن البحث، وربط هذا “الثبات” بالخالق القديم مُحرك العالم، إلا أن مفهوم الثبات بقي حاضراً ضمن التفكير العلمي- المسيحيّ، حد ديكارت، الذي أوضح الفرق بين الطبيعة بوصفها نتاج خلق الله، وطبيعة العالم بوصفها جزءاً من الله نفسه، لكن في كلا المعنيين الطبيعة موجودة في وعي الله السابق على العالم.
هذا الأثر المميز الذي تركته اللغات السامية يعود إلى الجذر العبري للكلمة “טבע” التي تعني “العلامة التي يضعها الفنان على عمله”، ما جعلها، أي الطبيعة، الشاهد الثابت على وجود الإله الذي “أبدع” في تكوينها، وترك علاماته عليها، وهنا يمكن أن نستعيد مفاهيم الجمال الطبيعي والجمال المتسامي التي ظهرت في أوروبا، والتي تجعل من الجمال ذاك الخلق المثالي الموجود في الطبيعة، والذي يعتبر الفرد أيضاً جزءاً منه، لكنه لا يستطيع إنتاج ما يماثله، هو يحاكيه فقط.
الثقافات التي لا تحوي “طبيعة”
ما يثير الاهتمام هو الثقافات التي لا تحوي لغاتها كلمة “طبيعة” كتلك الموجودة في جزر جنوب المحيط الهندي والأميركيتين، وهنا يظهر سببان لهذا الغياب، الأول هو عدم وجود التقسيمات الثقافوية الإنسانويّة لمكونات العالم، أي “طبيعة” و”ثقافة”، فهذه الفئات الأنطولوجيّة النابعة من رؤية يتربع فيها البشري على عرش الموجودات فُرضت في العصور الإمبرياليّة والكولونيالية الأوروبيّة، واستثنت فئات الأرواح والطوطم والنباتات المقدسة وغيرها، وذلك إما عبر إدخالها في الطبيعة بوصفها مكوناً غير واع أو تصنيفها في عالم الهلوسات والأحلام.
أما السبب الثاني لغياب اللفظة فلا يعني غياب المفهوم، بل يشير إلى الاختلاف العميق بين أنطولوجيتين، الأولى بيضاء، استعمارية، قضيبية، عقلانيّة، والأخرى اقترنت تسميتها بما بعد الإنسانويّة والبهيميّة، تلك التي ترى الإنسان جزءاً من الطبيعة، وعنصراً يتساوى مع بقية العناصر ضمنها، وهذا ما يفسر كما نقرأ في البحث أن لغات كثيرة استعارت كلمة “طبيعة” من لغات أخرى.
هل نحمي “الطبيعة” أم “الحياة البريّة”؟
تحيلنا الاختلافات اللغوية السابقة والثقافات المرتبطة بها إلى مفهوم “الحفاظ على الطبيعة” والذي يشير البحث إلى أنه يسمّى حالياً الحفاظ على “الحياة البريّة” وهو التيار الشائع في الولايات المتحدة وأوروبا، والقائم على نموذج يتم تصديره لبقية أنحاء العالم، أساسه فصل “الإنسان” عن الحياة البريّة بل وأحياناً نفى علاقته معها بحجة الحفاظ على طهرانية البريّة، كما في نظام المحميات، الذي يحافظ على مساحات طبيعية من دون مسها، ومن دون تدخل البشر فيها كجزء حيوي، أي استثناء البشري كعنصر “غير طبيعي”، مهمته تقتصر على وضع الحدود الذي تتحرك ضمنها “البريّة”. الإشكاليّة أن هذا التأطير في ذاته يتناقض مع مفهوم البريّة والعفويّة التي يلعب الإنسان فيها دوراً في البيئة الطبيعيّة لا كسيد، بل كواحد من الموجودات.
يعرّف البحث الموقف الوقائيّ من الحياة البريّة في أوروبا وأميركا بــ”الرؤية المسيحيّة للعالم بوصفه ثابتاً وعملاً فنياً يتخفى وراء العلم”، ما يهدد ديناميكيّة العلاقة بين “الطبيعة” و”الإنسان”، وما يعني أيضاً أن “الطبيعة” كيان وغرض لا يجب مسه، بل علينا تركه على “طبيعته” من دون المشاركة فيه، وهنا يأتي خطر توحيد مفهوم الطبيعة، الذي سيؤدي إلى القضاء على التنوع في علاقاتنا معها، واستثناء فئة من البشر لأجل “البريّة” التي لم يلعبوا دوراً مباشراً في تخريبها، بل يمارسون حياتهم ضمنها كالعاملين في الصيد والزراعة.
نقرأ في النهاية عن فشل النموذج الأورو – أميركي في الوقاية البيئيّة، كونه لا يلقى رواجاً في الثقافات غير الغربيّة، التي تقوم العلاقة فيها مع الطبيعة على “مشاركة” الأرض لا “الحفاظ” عليها، خصوصاً في الدول غير الصناعية، التي تدفع ثمن ممارسات الدول “المتطورة” والتي تعتبر المسؤول الأول عن تدمير الطبيعة سواء صناعياً أو حربياً، ما جعل الأرض البريّة مساحة يجب الحفاظ عليها كتكفير للذنب، كما يحصل في أفريقيا مثلاً وبعض دول جنوب آسيا، لكن ذلك لا يعني أن هناك دولاً بريئة من التخريب، ففي كل أنحاء العالم الطبيعة “ثروة” لا بد من نهبها لأجل الربح، ما يقضي على الثقافات والديناميكات المحليّة في العلاقة مع البيئة، ويستبدلها بأساليب استنزاف تنفي المستقبل وتهدد الحاضر.
درج