محمد برّو: العدمية الأخلاقية والسياسية لنظام الأسد أفضت إلى تدمير وطن وتشريد شعب
غسان ناصر
يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الصحافي والكاتب والمعتقل السياسي السابق محمد برّو، الناجي من مقصلة النظام الأسدي الاستبدادي الشمولي الطائفي، صاحب كتاب «ناجٍ من المقصلة.. ثمانية أعوام في سجن تدمر» (دار جسور للنشر، بيروت 2020).
ضيفنا، من مواليد حلب 1963، وهو يقيم حاليًا في مدينة إسطنبول. اعتُقل وهو في السابعة عشرة، وكان ذلك في شهر أيار/ مايو 1980، بسبب تداوله نشرة “النذير”، إذ اتّهم على إثرها بالانتماء إلى “الطليعة المقاتلة” الجناح العسكري لجماعة (الإخوان المسلمين)، ونجا من حكم الإعدام، لعدم بلوغه السنّ القانونية حينذاك، فحكم عشر سنوات، امتدّت إلى 13 سنة، قضاها بين سجني تدمر وصيدنايا، وكان شاهدًا على أكثر الانتهاكات الوحشية لنظام حافظ الأسد، داخل معتقلاته ذائعة الصيت في العالم بفظائعها الإجرامية.
له العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات المنشورة في الصحف والدوريات والمواقع الإلكترونية السورية والعربية، معظمها يدور حول عالم المعتقلات. وهو مدير (مؤسسة صدى للأبحاث واستطلاع الرأي)، وهي مؤسسة بحثية مستقلة تعنى بتعميم المعرفة وقياس الرأي العام.
هنا نص حوارنا معه
في البدء، لو نستعيد بعض الذكريات من تجربة بناء ذاتك الوطنية والنضالية والأدبية، كيف كانت خطواتك الأولى في عالم السياسة، وبدايات علاقتك بالعمل الحزبي؟
قبل الاعتقال، أي قبل عام 1980، لم تكن لي اتجاهات أو مواقف سياسية، باستثناء موقف العداء لحكم (حزب البعث) الذي كان يمتاز بطائفيته المقيتة. بالطبع، هذا الموقف هو موقف عائلي ورثناه عن والدي ذي الاتجاه الناصري القديم في تلك الفترة، إذ كان يرى حكم البعث حكمًا انقلابيًا بدّد مقدرات البلاد، وسببًا رئيسًا في تمزيق حلم الوحدة العربية، وبالرغم من إدراكه العميق لفساد دولة الوحدة مع مصر، فإنه كان على بقايا ولاء لشخص جمال عبد الناصر، إلى أن سقطت تلك الصورة في وجدانه بعد اطّلاعه على مجموعة كتب ومقالات شرحت مدى تغوّل الممارسات الأمنية لنظام عبد الناصر وحجم القمع الذي كان يمارسه تجاه معارضيه. خلاصة القول أنني أنتمي إلى أسرة تعدّ معادية لنظام البعث وحكم آل الأسد، وظلت هذه الحال إلى أن اعتُقلت وأنا بعمر السابعة عشر.
في المعتقل، وفي سجن تدمر على وجه التحديد، كان هذا الموقف يتبلور ويمتلك مفرداته بشكلٍ أكثر وضوحًا، وكانت السمة العامة في تلك الفترة هي سواد الطيف الإسلامي الذي صبغ معظم المعتقلين، بالرغم من أنّ الشطر الأوسع منهم أتى من بيئة إسلامية محافظة هي بيئة المدن السورية عمومًا، والإسلام الشامي الذي يتسم به مسلمو بلاد الشام، دون أن يكون لهم خلفية سياسية أو تنظيمية إسلامية. وأتيح لي -كما أتيح لكثيرين مثلي- التماس والتواصل مع أفراد ينتمون إلى جماعة (الإخوان المسلمين)، وإلى تيارات إسلامية صغيرة تدور في ذات الفلك أو بموازاته، حيث شكّلت بعض تلك التيارات نمطًا مقاربًا أو معارضًا لكثير من أفكار الجماعة، أمثال (حزب التحرير الإسلامي)، وتيار المفكر جودت سعيد، والمفكر مالك بن نبي، إضافة إلى تيارات مشيخية وصوفية متنوّعة. وقد شكّلت هذه التيارات بمجملها شبكة من الحوارات الدينية في الغالب، كانت تلك الحوارات في البدايات تدور حول الجدل الصوفي المذهبي من جهة، في مواجهة السلفية (السلفية العلمية التي تشدّد على اتباع السنة وهي لا تمت إلى السلفية الجهادية بصلة) التي ناجزها سنوات طويلة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي كان يحظى بقطاع واسع من المتحازبين معه في هذه المناجزة، وكما هو معلوم فإنّ تيار البوطي ومناصريه يمتلكون تأييدًا أوسع في القطاعات الشعبية، وعلاقة طيبة مع نظام الأسد، ولا سيما بعد أن شنّوا هجومهم الديني على التيار السلفي “اللا مذهبية” الذي عدّوه أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية.
في مرحلة تلتها، كانت الحوارات السائدة حول الحاكمية وشرعية الانضمام إلى أحزاب غير إسلامية أو التحالف معها في جبهة وطنية للعمل السياسي، وهنا بدأت موجات متلاطمة من الحوارات الحادّة التي قسمت المشاركين إلى اليمين واليسار، ويمين اليمين ويسار اليمين، وأشكال جديدة من التموضع مع هذه التفصيلات الحادّة التي تخرج صاحبها إلى دائرة الكفر عند بعضهم، وصولًا إلى شكل الدولة المتخيّلة ونظام الحكم المنشود. بعد ذلك حصل اختلاط بتيار اليمين العراقي (حزب البعث العراقي) الذي ينحدر من خلفية علمانية عروبية، تلتقي بالتيار الإسلامي في حيز العروبية وبشكلٍ محدود، وتتنافر معه في المناداة بـ “راية عميَّة”، كما يسميها الإسلاميون، “وهي كل راية لا ترفع لتكون كلمة الله هي العليا”، والتحزب لطاغيةٍ مثل صدام حسين الذي ذاع صيته في عالم الإجرام والقمع، خاصة أنه في تلك الفترة كان يحارب الجمهورية الإسلامية في إيران، ولم يكن شأن إيران قد افتضح آنذاك في دعمهم لنظام الأسد الذي كان ولا يزال يقمع ويقتل مواطنيه.
بُعيد الانتقال إلى سجن صيدنايا عام 1987، أتيح لي الاختلاط بتيارات مختلفة، كان من أهمها التيار الشيوعي (حزب العمل الشيوعي) و(المكتب السياسي للحزب الشيوعي) تيار رياض الترك، والانفتاح على نمط مغاير من الحوارات التي لم تكن تدور في سجن تدمر، إضافة إلى الوصول الغني للحياة السياسية والثقافية، عبر أجهزة الراديو التي كانت بحوزة كل فرد منا تقريبًا، وعبر مكتبة غنية كانت من ممتلكات الأصدقاء الشيوعيين، تلك المكتبة التي كانت تتمدّد وتتوسّع باستمرار عبر زياراتهم الشهرية، وكانت مشاعًا للجميع دون تمييز، ويمكنني الجزم بتأثيرها الكبير في اتجاهات التفكير السياسي لدى قطاعات واسعة من المهتمين، وكنت واحدًا من كثيرين أتيح لهم البدء بمراجعات طويلة عبر هدوء يوفره الزمن المدّيد المتاح لدى السجناء. على سبيل المثال، كانت الديمقراطية في حوارات تدمر تمثّل شكلًا من أشكال تحكيم غير الله في شؤون الأمة، وهي “كفرٌ صراح”، أو أقرب إلى الكفر لدى قطاعات واسعة، بالرغم من أنّ هذا الرأي لم يكن عامًا، وكان له معارضون كثر، لكنه صار في صيدنايا -بعد طول حوارات وكثرة قراءات- أمرًا لا مندوحة عنه لبناء مستقبل سياسي جدير بالحياة ومواكب للتطوّر الطبيعي، وهذه المراجعات شملت جميع التيارات هناك يومها. وهكذا كانت الحياة في سجن صيدنايا معتركًا ثقافيًا وفكريًا وسياسيًا، وقد أسهمت -برأيي- إسهامًا كبيرًا في بلورة المواقف والاتجاهات بشكلٍ أكثر ديمقراطية وفهمًا لطبيعة الأزمة السياسية التي كانت ولا تزال تخنق سورية.
بسبب اعتقالي المبكر، وأنا لم أتجاوز السابعة عشر من عمري، لم أكن أنتمي إلى أي حزبٍ سياسي، وبفضل التجربة التي حظيت بها لاحقًا، لم أكن لأنتظم في أي تشكيلٍ حزبي، باستثناء الانتماء إلى جسد المعارضة السياسية السورية والاصطفاف معها، لذلك لم أجد تردّدًا لحظة واحدة في المشاركة في اجتماعات “لجان إحياء المجتمع المدني”، وفي لقاءات “ربيع دمشق” و”إعلان دمشق”، شأني في ذلك شأن كثير من المعتقلين السياسيين السابقين الذين لا يجدون لهم موقعًا إلّا في مواجهة هذا النظام القمعي.
أما في الجانب الأدبي والثقافي، فيمكنني أن أتحدث عن التأسيس المتين الذي حظيت به في سجن تدمر على يد أساتذة كبار، أدين لهم بالفضل ما حييت، حيث كان زادنا اليومي تلاوة القرآن وتفسيره ودراسته، والتسلّح بأدوات اللغة العالية اللازمة للخوض في هذا الغمار، إلى جوار حفظ الشعر وكتابته والمنادمة اليومية به، وكذلك في التلقي الشفهي لروائع الأعمال الأدبية التي أجاد كثيرٌ من المشتغلين والمتخصصين الذين كانوا يعيشون معنا حفظها ونقلها ونقدها في كثير من الحالات، وأذكر أنني تعرّفت في تلك الفترة إلى «أولاد حارتنا» و«الإخوة كارامازوف» و«الأبله» و«العبقريات»، وكثير من الأعمال العظيمة، بشكلٍ شفهي، أتيح لي بعدها بسنوات أن أطالعها في نسختها الورقية.
بعيد الانتقال إلى سجن صيدنايا، كان لدينا مكتبة واسعة ومتنوّعة وغنية بكل ما هو سياسي وأدبي، في مراحٍ متّسع في الوقت يتيح للمهتمين قراءة مكتبات بحالها، فخلال خمس سنوات أمضيتها في سجن صيدنايا، تمكّنت من قراءة جميع ما وصلت إليه يدي من أدب روسي غني وآداب عالمية أخرى وكتب في علم النفس ومدارسها، وكتب سياسية شتّى، كان شطر كبير منها يدور حول التفاعلات الكبيرة التي تحصل في دول الاتحاد السوفيتي ويمتدّ أثرها إلى أبعد من ذلك، عبر مسار “البيروسترويكا. إعادة الهيكلة” التي بدأها الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف بدءًا من عام 1985، وأفضت في عام 1991 إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. هذا المناخ الحافل بالأحداث والتحوّلات الحادّة كان له كبير الفضل والتأثير في تكثيف الاهتمامات وتوجيهها، لقراءات أكثر تنوّعًا وتكثيفًا، أستطيع القول مطمئنًا إنني أدين لتلك الفترة بمعظم ما أنا عليه الآن من تكوين واطّلاع، وأتذكرها بكل تفاصيلها بحنين وحبٍ غامرٍ، وأنا أعلم أنها مرحلة ليس لها أن تتكرر.
حدّثنا عن مناخات كتابة نصّك السردي الأدبي «ناجٍ من المقصلة.. ثمانية أعوام في سجن تدمر» الذي صدر حديثًا في كتاب: عن الدوافع، ومراحل إنجازه، وعن شعورك أثناء مرحلة الكتابة، وما رافقك فيها من ألم ومن تأملات، ولماذا اخترت هذا العنوان تحديدًا لكتابك الأوّل؟ وما هي دلالاته؟
بالأصل، فكرة الكتابة قديمة، ربما يمكن إحالتها إلى السنة الأولى لخروجي من المعتقل أي عام 1993، لكن جميعنا نعلم المخاطر الكبيرة التي يصطدم بها كلُّ من فكر في الحديث أو الكتابة عن مخازي نظام الأسد، وهذا يتبدى بجلاء في جميع الكتابات التي تناولت خبايا المعتقلات وأقبية التعذيب التي كان نظام الأسد يخنق الشعب السوري من خلالها، فهي من أهم أدواته في إخضاع وإذلال الشعب السوري، ومع هذا أجدني لم أتوقف عن السرد ورواية الحكايات، منذ اليوم الأوّل للخروج، الأمر الذي عرضني لأكثر من مرة للمساءلة من أفرع الأمن. بقي حلم الكتابة يتأرجح بين الرغبة والتخوّف إلى أن تعرفت إلى الصديق الشهيد لقمان سليم في بيروت، بفضل الصديق سلام كواكبي، في نهاية عام 2009، وكان لنا شوط طويل من عملية التدوين الصوتي، حيث كنت أتردّد إلى مركز “أمم” سرًا، فأسجل ساعات من تداعي الذكريات عن تلك الحقبة السوداء، وكنت ألمس في كل مرة أنتهي من التسجيل فيها مزيدًا من السلام الداخلي والتعافي، إن صح التعبير، وكنت أشعر بأنني أقبض على حجارة الألم السوداء، بعد أن كانت تجثم على صدري، ويمكنني الجزم بعدها وعبر سنة كاملة أنّ كوابيسي عن حياة التعذيب والمعتقلات تضاءلت كثيرًا.
توقف نشاطي مع مركز “أمم” مع بدايات الثورة السورية، وصار التنقل بين المدن أمرًا محفوفًا بالمخاطر، وبعد انتقالي إلى تركيا، كانت لدي محاولات عديدة لم تكتمل، بسبب الانشغال اليومي بقضيتنا المحورية “الثورة السورية ومحاربة نظام الأسد”، وخوفًا من فتح هذا الجرح الكبير الذي لم أتوقف عن الحديث عنه يومًا، لكن واقع التجربة يؤكد أنّ الحديث عن مأساة معينة شيء، والكتابة عنها شيء مختلف تمامًا، فحين أتحدث أتابع تأثير حديثي على مستمعي، ويبقى الحديث محصورًا بالواقعة التي يدور الحديث حولها، وفي هذه الحالة يكون التأثر المنعكس على وجوه المستمعين في الغالب كافيًا ومعيقًا للانفعال الشخصي للمتحدث، إضافة إلى طبيعيتي التي اعتادت أن تروي الوقائع بروحٍ ساخرة تمنحني القدرة على الاستمرار بالسرد، وأنا بمنجاة عن تأثيره المؤلم، أما الكتابة فهي إبحار في لجج الذاكرة المكتنزة بالألم وصور التعذيب وأصوات المعذبين، برائحة الدم والقيح المنبعث في كل يوم من أجسادنا، بأصوات الجلادين وسبابهم المنكر الذي يتجاوز حدود القيم الإنسانية. وحين تكتب، تعود ثانية وأنت تراجع تفاصيل ما كتبت، فتصدمك الوقائع وأنت تطالعها فهي تنسرب إليك عبر الكلمات المدونة وكأنها تخلق من جديد، وتعود لتنعش ذاكرتك بفعل إرادي وبإصرار على نبش أدق التفاصيل التي تفلتت منك في حالة السرد الشفهي. في عملية السرد الشفهي، طوال ما يزيد عن خمس وعشرين سنة، لم يغالبني البكاء وأنا أتحدث أكثر من بضع مرات، لكنني خلال كتابتي الأخيرة كنت كثير الانفعال والبكاء، لدرجة أنني في بعض المرات كنت أغلق مكتبي وأنا أسمع صوت نشيجي كي لا يتسرب إلى أطفالي، وكثيرًا ما كنت أتوقف عن الكتابة لأستعيد هدوء نفسي. أدين بالفضل لأصدقاء عديدين، كانوا من المحفزين لي على فعل الكتابة، وبالرغم من إيماني العميق بأهمية التوثيق والكتابة فإنّ دفعهم كان له كبير الأثر في أن أشرع بالكتابة، لا سيما أنني قطعت لهم وعودًا بذلك، صديقي سلام كواكبي كان دائم التذكير لي بأن أكتب، الصديق الشهيد لقمان سليم الذي كان لا يفتر عن حثي وتذكيري بأهمية توثيق الذاكرة قبل أن تتشقق خوابيها، ولست أنسى سهرة في إسطنبول عام 2014، تشاركت فيها الحديث مع الصديقين مرهف جويجاتي ووائل سواح، وشعرت يومها أنني ملزم من الوجهة الأخلاقية أن أكتب، وفعلًا بدأت في ذات الليلة فكتبت ما يزيد عن ثلاثين صفحة كمقدّمة خلال أيام، ثم ما لبثت أن تغافلت عن الموضوع مرة أخرى.
في بداية شهر شباط/ فبراير 2020، أهداني الصديق محمد الربيعو كتاب السجين السياسي الإيراني بهروز قمري «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران»، لم أنم ليلتي، حتى أنهيت قراءة الكتاب وكتبت عنه مراجعة، بعد أن استفزني غضبًا، لأنني كنت مقبلًا عليه وأنا أتوهم أشكالًا فظيعة للتعذيب الذي يفترض أن تمارسه مجموعات دينية متشدّدة تجاه معارضيها الشيوعيين، والذين لا تجد لهم حقًا في الحياة أصلًا، وتأسيسًا على الفظائع التي ارتكبتها الميليشيات الإيرانية في سورية والتي تتفوق في مدى إجرامها على المعتقلات النازية في زمن أدولف هتلر. وكانت خيبتي بمحتوى الكتاب عالية، فبمعزل عن تكرار حديثه عن حفلات الإعدام التي لا يمكننا -نحن معتقلي تدمر- أن نعدّها شيئًا، لأنها كانت تمثّل لنا الخلاص الجميل من أبئس حياة يمكن للمرء أن يتخيلها، فإنّ ما يسرده بهروز قمري من التعذيب أو الحياة في سجنه الفظيع لا يعدو عن كونه لعب أطفال أو استراحة في روضة للأولاد، إذا ما قيس بما كان يجري يوميًا في ساحات تدمر. لا بدّ لي هنا، بين معترضتين، أن أعتذر من صاحب «قافلة الإعدام» عن انطباعاتي الذاتية حول كتابه، وهي انطباعات عالية الخصوصية، كونها تقارن بين معتقل إيراني ومعتقل سوري، لكن الكتاب إذا قرأه إنسان سويّ، بعيد من المأساة السورية، فسيجد فيه كثيرًا مما هو جدير بالاطّلاع.
خلاصة القول إنني، في نهاية الأسبوع الأوّل من شهر شباط/ فبراير 2020، شرعت وبشكلٍ مكثف في الكتابة، بعد أن وضعت فهرسًا زمنيًا لمعظم فصول الكتاب، وكنت كثيرًا ما أعيد حشر فصل هنا وفصل هناك إلى أن أتممت اثنين وسبعين فصلًا، ينتهي الفصل الأخير منه حين نركب في سيارات عسكرية تقلنا من سجن تدمر العسكري إلى سجن صيدنايا، لنفتح هناك فصلًا جديدًا من حياتنا السجنية، وهو فصلٌ غنيٌّ وكثيفٌ، وسيكون له عظيم الأثر في تكويننا وتشكيلنا على نحو أكثر تأهيلًا للحياة المأمولة. وفي نهاية الشهر الخامس، أي بعد أربعة أشهر من شروعي بالكتابة، أنهيت الفصل الأخير منه، وعكفت شهرًا على مراجعته ثم دفعت للصديق نواف القديمي صاحب “دار جسور للنشر” النسخة النهائية للكتاب.
كانت هناك جملة من العناوين المقترحة، تشاركت فيها مع بعض الأصدقاء، لكن العنوان الأخير «ناجٍ من المقصلة.. ثمانية أعوامٍ في سجن تدمر»، كان المقترح الذي لاقى استحساني واستحسان الناشر، كونه يضع الناظر لصفحة الغلاف في أجواء الكتاب مباشرة، وكنت أميل إلى قبول رأيه لضلوعه وخبرته الواسعة بهذه الصناعة “نشر الكتب”. «ناجٍ من المقصلة» يتحدث عن الناجين، وأنا واحد منهم، ويذكرنا بمن عبرت تلك المقصلة الرهيبة بين رأسه وكتفيه، لتصنع فصولًا طويلةً من المأساة السورية التي لا تزال مستمرةً، لم تتوقف رحاها إلى هذه الساعة.
ما أهمية التقديم الذي كتبه المفكر السوري الدكتور برهان غليون، وما الذي أضافته المقدّمة إلى كتاب «ناجٍ من المقصلة»؟
التقديم الذي كتبه د. برهان غليون مشكورًا لشهادتي «ناجٍ من المقصلة» في غاية الأهمية؛ كونه يوطئ للقارئ الخلفية النظرية والتشريحية لطبيعة هذا النظام وممارساته الإجرامية، ويغوص في فهم طبيعة الجلاد بصفته أداة منتجة ومنفذة للتعذيب، لدرجة التماهي بين المعنى والسلوك الذي لم يعد بالإمكان فصله عن هذا الكائن المشوّه، الذي إن عزلته عن وظيفته كجلاد لم يبق منه شيء، لأنه تسلّخ من سماته الإنسانية، منذ أن غدا جزءًا من منظومة التعذيب الرهيبة تلك، ويضيء التقديم بالتحليل الوظيفة المركزية التي يطّلع بها المعتقل أو السجن في منظومة الحكم لدى نظام الأسد الاستبدادي، التي تشبه إلى حدٍ كبير دور المعتقلات النازية زمن هتلر. تقارن المقدّمة بشكلٍ متناسق وبسيط بين بنية المعتقلات وآليات التعذيب فيها وبين تكوين النظام الأسدي في تعاطيه مع مواطنيه الذين يعدّهم رعايا أصلًا، ويجسد في جملة ممارساته مفهوم الشرعية التي تمتح من التفوق نسغها، وأنّ الطريق إليها يمر بالقوة التي تتمظهر بالعنف اللامحدود، وصولًا بصورة الحكم المطلق القدرة، الذي يمتلك السيطرة البالغة التي ترفعه إلى مصاف الآلهة الغاضبة والمسيطرة التي تبطش بعبيدها، بقسوتها المفرطة دونما الحاجة إلى حدود أو معايير تضبط سلطتها. وأجد أنّ هذه المقدّمة كانت تمهيدًا نظريًا مهمًا، لانتشال القارئ من الانجراف المفرط عبر قتامة مشاهد التعذيب المتسلسلة والممتدّة على صفحات الكتاب، كما كانت ممتدّة على مدار الأيام في تلك السنوات، ومنحه بوصلة للمقارنة والمراجعة، وملاحظة مدى التطابق بين الوقائع التي يوردها الكتاب وبين التناول التحليلي لبنية النظام المنتج لهذا الجحيم البشري الذي اكتوى بنيرانه السواد الأعظم من الشعب السوري.
وهو إذ يحاول عقلنة أو تكوين تعليلٍ عقلاني لجنون العنف الذي دهم المعتقلات السورية، كما هيمن على أجهزة الدولة عمومًا وطبعها بطابعه، يصل إلى ما وصل إليه معظمنا من عجز عن تفسير هذا السقوط المروع في العدمية الأخلاقية والسياسية، التي أفضت إلى تدمير وطن وقتل وتشريد شعب برمته، وهذا يستدعي من التاريخ القريب ما فعله مجنون ألمانيا هتلر، بأمة من أنهض الأمم الأوروبية، حين ساقها إلى حرب كونية مدمّرة كانت هي نفسها إحدى أكبر ضحاياها. ويمكن للقارئ البسيط أن يتجاوز المقدّمة التحليلية، وينتقل إلى القصص والوقائع التي يسردها الكتاب، فهذا أسهل وأكثر جاذبية له، لكنه سيفوِّت عليه فصلًا مهمًا في فهم طبيعة هذه العوالم المفرطة في وحشيتها، وعلاقتها في بناء دولة القمع التي أذلت الشعب السوري عقودًا طويلة.
إلى أي مدًى تمكّنت في نصّك هذا من فضح وتعرية النظام الأمني القمعي في (سوريا الأسد)؟ وأن تكون شاهدًا على سنوات طويلة من القهر والظلم والإقصاء والتميّيز والفساد والطائفية؟
صحيح أنّ الكتاب الذي جهدت طويلًا في اختزاله، وتجاوز الكثير من التفاصيل كي لا يتعدى حجمه الأربعمئة صفحة، رفقًا بالقارئ وتحرّيًا لعدم التكرار في وقائع متشابهة، إلّا أنّ جانبًا مهمًا من جنبات هذه الشهادة يكمن في أنها شهادة متصلة بوقائع تحدث الآن يوميًا، وربما تتجاوز في فظاعتها حدود ما تعرض له الكتاب. أذكر منذ سنوات أنني حملت معي إلى بعض أصدقائي في القفقاس نسخًا متعدّدة من رواية «القوقعة» للصديق مصطفى خليفة، وكانت من بواكير الأعمال التي تحدثت عن معتقل تدمر وهول التعذيب اليومي فيه، وأذكر كيف أنني بعد أيام قليلة واجهت عاصفة من النقد الغاضب والتكذيب الحادّ لما أوردته هذه الرواية، ولعدم احترامها لعقول القراء حين تورد وقائع لا يقبلها المنطق ولا الحس السليم، وكان جوابي يومها أنّ مصطفى خليفة نقل وكتب ما عرفه وعايشه بلغة الروائي، الذي يقبع القارئ في وجدانه بشكلٍ أو بآخر، وربما يملي عليه أو يلجئه إلى صياغة سردية معينة، بشكلٍ يحقّق انسجامًا مقبولًا بين النص وقارئه، وأنه اختار قالب الرواية لما تتيحه من فضاء مرن يملكه الراوي ولا يملكه الموثق، وأننا لا نستطيع محاكمة أو محاسبة روائي، إذا ما جعل بطل روايته جسورًا أو جبانًا أو جعله أنثى أو ذكرًا، فهذا من أدوات الإبداع وطبيعته، لكنّ مصطفى خليفة -كما أحسب- نقل القدر الذي قدّر أن يكون مقبولًا لدى القراء، ولو نقل كل ما شاهد أو سمع، لانضم إلى حشد معارضيه أو مكذبيه حشد كبير. وفي تقليبنا لصفحات «ناجٍ من المقصلة»، سنجد دون لأيٍ أو عناء عشرات بل مئات الشواهد الواضحة، التي لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو تعليل، عن مدى ولوغ هذا النظام في الدم السوري، ومدى تغوّله في أدق تفاصيل الحياة اليومية لشعب نسي لفرط القهر وطول المدى معنى تنسم الحرّية وشكل تبديها في حياته البسيطة، ليبقى طوال خمسين سنة رهين القمع والذل، لدرجة أنّ بعضه صار يجرّم بعضه حين هبّ من رقاده ينشد الحرّية أسوة بشعوب أخرى.
بالعودة إلى دور هذه الشهادة في تعرية هذا النظام وفضح فساده، فهي بلا شك وبالمشاركة مع كثير من الشهادات والحكايات التي نشرت أو سردت أو تكتب الآن، وأعرف أنّ كثيرين شرعوا منذ وقتٍ قريب في الكتابة التي كانت محظورة في ظل نظام الاستبداد، جميعها ستكون وثيقتنا كسوريين ناجين من قبضة الجلاد، وحكايتنا لأولادنا التي ستبقى محفورة في ضمائرهم، في مواجهة سيل الروايات الكاذبة التي تجعل من الضحية مجرمًا ومن المجرم صانع نهضة للبلاد. وستكون تلك الحكايات التي توثق آلاف الجرائم وأسماء المجرمين وأسماء الضحايا، سلاحنا الوحيد في مواجهة خذلان القوى السياسية الفاعلة في العالم، والتي لا ترى فينا وبمن يشبهنا من الشعوب سوى وقودٍ لآلة حرب المصالح التي يديرونها، ستكون تلك الشهادات رسالتنا للشعوب التي لم تنحدر إلى درك الإجرام المنظم والممنهج، الذي انحدرت إليه الأنظمة المتنفذة بمصاير تلك الشعوب.
«الشخص الثاني»؛ كتابي الثاني عن حياتنا السجينة
هل من مواقف أو أحداث حصلت معك أو عايشتها في سجن تدمر ولم تذكرها في الكتاب، ما هي؟ ولماذا لم تأتِ على ذكرها؟ وهل كان صعبًا عليك كتابة حادثة ما في هذا الكتاب؟
مهما يتأتَ لمن يدوّن الذكريات أو المذكرات من ذاكرة متينة، فلن يحيط بها وبتفاصيلها الكثيرة، لأنها تمتدّ على مساحة واسعة من الزمن، وتخضع بذاتها للآليات الطبيعية في التغييب والاصطفاء تلك الآليات الوقائية التي يعتمدها الدماغ للحفاظ على سلامة النفس المتضرّرة التي شرختها العذابات والمعاناة في مواضع كثيرة، ولو استطاع الإنسان استحضار جميع ما حصل معه من آلام، لانكسر من شدة وطأتها، لكن الدماغ يحيل بعضها إلى النسيان التام أو النسيان المؤقت، ويتعاطى مع بعضها بآليات ساخرة ومتبرمة، ويعالج بعضها بإتاحتها للسرد المتكرر المفضي إلى التعافي، كما يفعل التمرين الرياضي المؤلم في بدايته في ترميم العضلات الضعيفة أو المتضرّرة، فيقويها ويرمم عطالتها. ومع هذا، ومع حرصي التام على تذكّر أدقّ التفاصيل التي عشتها، فإنّ كثيرًا منها لا بدّ أن يغيب، خاصة أنّ الكتابة حصلت بعد ثلاثين سنة من مرور معظم الوقائع، وفي الوقت ذاته، على الضفة الأخرى، هناك ما نسميه بالذاكرة القلمية، وهي أن تشرع بالكتابة في بابٍ ما؛ فتسيل الذاكرة وتفتح زوايا معتمة منها لم يسبق لك أن طرقتها، وقد كان يدهشني خلال رحلة الكتابة أنّ حوادث بعينها لم أعرض لذكرها أو تذكرها طوال ثلاثين سنة تطلّ برأسها في مطاوي الحديث والكتابة، وقد تعمّدت إهمال عشرات الوقائع التي لا تضيف إلى مشهد الحكاية شيئًا مهمًا، إما لورود أشباهها التي سبق أن ذكرتها، أو تجنبًا للإطالة التي ترهق القارئ. واليوم، بعد أن نُشر الكتاب، تحضرني في كل أسبوع على الأقل واقعة أو أكثر، لم تسعفني الذاكرة بها في حينها، فأكتبها لعلني أعود إليها في معرض كتابي التالي «الشخص الثاني»، الذي أتحدث فيه عن مرحلتين متمايزتين في حياتنا السجنية: مرحلة سجن صيدنايا الذي أمضيت فيه خمس سنوات، ومرحلة ما بعد الخروج والتقاء «الشخص الثاني» السجين الذي غيرته السنوات الطويلة، بمحيطه الاجتماعي الذي لم يتمثّل حقيقة هذه التحوّلات العميقة التي طرأت على الجميع “الغائبين والمنتظرين”، فكان بلا وعيه البسيط ينتظر ذات الشخص الذي فارقه منذ ثلاثة عشر عامًا، فيفاجَأ بأنّ ذلك الشخص لن يعود أبدًا، الذي عاد هو “الشخص الثاني” بكل ما تحمله الكلمات من معنى. أمّا عن صعوبة كتابة بعض الحوادث بعينها، فهذا أمرٌ مألوف، فبعض الوقائع كنت أتوقف عن كتابتها، ريثما تجف عيوني من دموعها، أو يسكن وجيب صدري من آلامها، وبعضها كنتُ أكتبها لكثرة ما قصصتها على أهلي وأصدقائي.
يرى نقاد أنّ العديد من كتّاب السير والروايات التي تستعرض تجاربهم داخل السجن، تعمّدوا إخفاء حقائق عاشوها في المعتقلات، من قبيل ما تعرضوا له من مواقف أو انتهاكات لحقوقهم، وذلك من أجل عدم “صدم” أفراد أسرتهم وذويهم بخصوص الأحداث المرعبة التي عاشوها وتعرّضوا لها داخل أقبية سجون الطغاة. ماذا عنك؟ وكيف تعاملت مع رقيبك الداخلي أثناء كتابة هذا النص؟
في الغالب، هناك موضوعان يتجنب معظم المعتقلين الحديث عنهما، موضوع الاعتداءات الجنسية التي يمارسها الجلادون لكسر ذات المعتقل وتحطيمه وجعله منحط القدر مجرّدًا من الكرامة بعين ذاته أوّلًا، الأمر الذي يدفعه إلى الاستهانة بخيانة مبادئه ورفاق النضال واستمراء الوشاية بهم والاعتراف عليهم، وهذا أمرٌ نابع من رؤية شعبية سائدة، تُحمّل الضحية جريرة ما فعله الجاني، وفي هذا -برأيي- تجاوز وازدراء لحدود المنطق السوي وقواعد الحقّ والإنصاف، وإن كان ثمّة عار في هذه المسألة، فالعار كل العار يجلّل ذات الجاني وحده، وعلى المحيط الاجتماعي أن يعزز قيمته وكرامته المنتهكة باحتضان الضحية والمبالغة بالعناية بها. وهذا الانكسار أو الاعتداء في الوجدان العام، يرتبط بالنساء المعتقلات أكثر مما يرتبط بالرجال، لأنهنّ -بحسب الثقافات السائدة- موضع الكرامة والشرف، ومسهنّ انتهاك لهنّ، مع أن الوقائع تؤكّد أنّ كلا الطرفين يتعرّض في فروع التحقيق لهذا الانتهاك، وإن كانت نسبة الذكور أقل بكثير من نسبة النساء، ولأنّ المخيّال العام أوّل ما يفكر بالمرأة المعتقلة يفكر باحتمالية تعرضها للاغتصاب كشكلٍ أوّلي، خاصة أنّ هذا الاعتداء له عقابيل لدى المرأة المغتصبة التي ربما تفقد عذريتها أو يحدث حمل من جراء الاعتداء عليها، بينما لا تظهر هذه العقابيل لدى الرجال، ومن البداهة أن يُخفي الرجال ما حصل معهم بشكلٍ سري في حجرات التحقيق، فلا سبيل لمعرفته أصلًا إلّا إن ارتكب بشكلٍ علني للإذلال أمام معتقلين آخرين، أو نتج عنه ضرر صحي كبير “كالنزيف والتمزق” أفضى إلى افتضاحه. وللأمانة التوثيقية المحضة، وفي عالم المعتقلين الذكور، الذي أعرف عنه الكثير الكثير، لم يكن أمر الاعتداء الجنسي شائعًا، في فترة حكم الأسد الأب، وإن كان قد حدث بحالاتٍ نادرة. الأمر الذي كان شائعًا هو الاعتداء الوحشي على المواضع الجنسية، كحشر زجاجة مكسورة الفوهة أو قضيب حديدي في شرج السجين أو وضع الأقطاب الكهربائية في تلك المواضع.
الموضوع الثاني هو حكايات التعذيب المفرط الذي تعرّض له السجين خلال التحقيق وخلال فترة سجنه، وقد وجدت أصدقاء كثيرين يتجنبون الحديث عن هذه الموضوعات مع أبنائهم وأفراد أسرتهم، وأرجح أنّ هذا إنما يحصل بفعل الخوف الطاغي الذي يغلف كامل حياة هذا الناجي (هو ناجٍ بالشكل فقط، وما تزال روحه أسيرة ذلك السجن الرهيب) وكي لا يمرر حالة الرعب التي يعيشها في كل تفاصيل حياته إلى عائلته وأبنائه، ربما يخالطه خوف من أن تتسرب تلك الحكايات من أحدهم، فتكون سببًا للاعتقال مرة أخرى.
في كتابي «ناجٍ من المقصلة»، لم أتجنب الحديث عن أي تفصيل وصلت إليه ذاكرتي، مهما قلّ أو علا شأنه، وأنا شديد الإيمان أنّ الخزي والعار في أي حكاية حصلت معي أو مع أي ناجٍ من تلك الأهوال إنما هي وصمة في جبين الجاني وحده. الأمر الوحيد الذي تجنبت الإفصاح عنه في العديد من المرات، هو الاسم الصريح لصاحب واقعة معينة، خشية أن يلحقه الأذى من نظام ما زال يمارس أفظع أنواع القتل والتعذيب اليومي بحقِّ أهلنا في سورية.
من هم الموتى الحاضرون في مخيّلتك مِمن كانوا معك في السجن، وهل تشعر بتواصلك معهم من خلال الكتابة؟
كثيرًا ما سألت نفسي عن السرّ في أن عدد الموتى أو الشهداء الذين أتذكرهم باستمرار، في فترات الصمت أو الاسترسال مع نسائم الذكريات العابرة، أكبرُ من عدد الأحياء الذين أتذكرهم في حياتي اليومية، وكذلك عدد الذين أراهم في أحلامي ولو في فتراتٍ متباعدة، ربما يكون السبب أنّ الذاكرة معهم توقفت وهم في صورة جميلة وحزينة بآنٍ معًا، وبقيت مسافة القرب الأخيرة معهم ثابتةً وعصيةً على عبث الأيام، بينما تتغيّر صور الباقين وتتبدل، كما هي سُنّة الحياة وطبيعة الأشياء.
كثيرون هم الأصدقاء الذين أتذكر لقائي الأوّل بهم، في أي زنزانة، لكن أكثر الوجوه المحفورة عميقًا في ذاكرتي وجوهُ المجموعة التي قدّمت معها إلى تدمر وأمضيت بصحبتها الساعات الأولى لحفلة التعذيب الرهيبة “الاستقبال التدمري”، كنا نتراكض تحت سياط التعذيب، وقد غطت الدماء وجوهنا وتمثّل الهلع فيها بأقسى حلله. بعد مضي أربعين سنة على هذا المشهد الدامي، تحضرني وجوههم ولغة عيونهم، كأنها بالأمس كانت تسألني هل أنت بخير، هل نالك جرحٌ أو كسر في بعض أطرافك، فقد كنت أصغرهم سنًا وموضع شفقة ومواساة الغالبية منهم، وكان هذا سببًا من أسباب تماسكي ونجاتي من السجن بسوية مقبولة. لم ينقطع تواصلي معهم قط، فهم الحاضرون في كل الحكايات التي لم أزل أحكيها، وليس هذا اختيارًا أو فعلًا آتيه طوعًا، بل هو أشبه بالوشم المنقوش على جدار الروح، فلا تستطيع له مسحًا، وللإنصاف، إنني حين أسرد تاريخ المعتقل وحكايات التعذيب إنما أحكي عنهم لا عني، ويعرف أصدقائي الجدد كثيرًا من حكاياتهم، وربما بعضهم يحفظ تلك الأسماء لكثرة حديثي عنها، وإنني في سريرة نفسي حين أزهو بشيء في حياتي، فإنما أزهو بأنني عشت بمعية هؤلاء الرجال الذين مضوا، ولن يكون هنالك من سبيل لتعويضهم أو الإتيان بمثلهم، لقد ساءت حال الدنيا وتفشت فيها التفاهة ولم تعد تقدّم أمثال أولئك الرجال. لقد عشت معهم وتعلّمت منهم، وبقي بيني وبينهم نسبٌ لا تفضّ عراه الأيام، لن أسمي أحدًا منهم، فهم كثر.
حلمنا ببقاء (باستيل سورية) آبدة تاريخية للأجيال
منذ صرخة ميشال فوكو: “هل يجب غلق السجون؟”، وكان رده عليها بالإيجاب، ونحن نحلم بأن تتحوّل زنازين الطغاة في العالم إلى متاحف. لكن حصل أن دمّر إرهابيو تنظيم (داعش) سجن تدمر الذي نهب من عمرك سنوات؛ فكيف تلقيت الصور الأولى لدمار هذا السجن الرهيب الذي ستبقى ذكراه وصمة عار في جبين آل الأسد وأركان حكمهم إلى الأبد؟
بغضّ النظر عن حقيقة السجن الذي دمّره تنظيم (داعش): أهو السجن العسكري الذي كان معتقلًا لتصفية وتعذيب المعتقلين السياسيين على مدى عشرين سنة أم سجن آخر، لأنّ الصور التي تم نشرها يوم الحادثة عبر وسائل الإعلام لا تخصّ سجن تدمر العسكري سابق الذكر، بل سجن الهجانة الذي صار فيما بعد سجنًا عسكريًا للقضايا الجنائية العسكرية؛ فقد كانت الواقعة -من حيث الرمزية- على خلاف ما يتخيّله كثيرون، حيث شكّلت خيبة أمل وانطفاء لحلم قديم لدى آلاف المعتقلين، أن يبقى هذا السجن آبدة تاريخية تحكي لأبنائنا وأحفادنا أهوال وفظائع ما فعله هذا النظام المجرم، كنّا نحلم أن يزور الناس في مقبل الأيام (باستيل سورية)، وأن يكون جرس التاريخ السوري المنذر للناس، إن هم غفلوا وحنوا رؤوسهم للجلاد مرة أخرى، المعْلم الذي يحذّر الناس من أي تراخٍ مع من يحكم أو يملك زمام الأمور ويعيد الكرّة فيفعل بهم كما فعل هذا النظام بنا خلال خمسين سنة خلت. لو بقي سجن تدمر، وهو الذي يجثم على صدر مدينة تاريخية يحج إليها السائحون بمئات الآلاف سنويًا، فسيكون حجًا لشاهدين من شواهد الحضارة، شاهد لمملكة زنوبيا التي صنعت المجد في هذه الأرض، وشاهد لمسوخٍ حكموا ببربرية تستحي منها وحوش الغاب فأذاقوا السوريين من ظلمهم وبأسهم ما لم يذوقوه من غازٍ أو مستعمر.
ستبقى الحكايات التي ينبغي أن نحكيها لأولادنا ولأولادهم من بعدهم والكتابات والأعمال الفنية التي سيصنعها مبدعون خرجوا من أتون هذا السجن خير شاهد على تلك الجريمة، ليست جريمة نظام الأسد وحده وجريمة بعض السوريين الذين شاركوه حتى بصمتهم، بل جريمة المجتمع الدولي الذي ما زال صامتًا والمحرقة السورية لم تخمد نارها بعد، وأقول صامتًا من باب المجاز والمشاكلة وحسب، لكنهم أسوأ من ذلك بكثير فهم من يدعمون نظامه ويعززون بقاءه ويحُولون دون انهياره المحتم.
كيف ترى تأثير السجن في تجربتك الكتابية الإبداعية؟ هل كان السجن فرصة لخلق إبداعي جديد؟
تحدثتُ في أسطر سابقة عن دور السنوات الأولى في تمتين بناء اللغة الذي يشكّل الأداة الأهم في تجربة الكتابة، وبسبب غياب وفقد أي أداة تعبيرية أو مساعدة في عملية الكتابة، فقد استعضنا عنها بالحفظ والتكرار وإطلاق عنان الخيال، فكان من يكتب قصيدة شعرية يستعين بحافظته التي يدربها كل يوم، ثم ما يلبث أن يستعين بآخرين يحفظون له بعضًا من أعماله، فيكون ديوان شاعر من الشعراء موزعًا على خمسة رواة. الفترة التي تلتها في سجن صيدنايا وهذه الفترة تمتاز بفسحة القراءة الواسعة والحوارات المتصلة التي لا تتأتى إلّا في فضاءات السجن الطويل، الأمر الذي ينتج بتلقائية دوافع شتّى لمحاولة الكتابة وللتعبير عن فيض تلك الحوارات والمطالعات بطريقة التلخيص والتدوين والنقد، وهذا ما فعله كثيرون وكان لهم بمثابة مدرسة يتدرجون فيها بصقل مواهبهم في الكتابة إلى جانب صقل أفكارهم ومحاكمتها وإعادة النظر فيها، وكما أنّ الحوار يناقر الأفكار ببعضها فيسقط ضعيفها وينفي عن باقيها التشويش والهشاشة، كذلك الكتابة تجعل صاحبها يواجه أفكاره بعد أن أخرجها من ذاته، وبات ينظر إليها وهي منثورة على الصفحات ويحاور قارئه المتخيّل ويجيب عن انتقاداته وشكوكه المفترضة.
هل توافق الرأي القائل: إنّ “المناخ العام الذي يعيش فيه الكاتب هو الذي يحدد قضاياه المُلِحّة والمصيرية في الكتابة”؟ وما الذي يشغلك اليوم على صعيد الكتابة، على وجه الخصوص؟
بكلّ تأكيد، فأي كاتبٍ، مهما علا شأنه، لا يستطيع تجاوز تأثير المناخ العام الذي يعيشه وبيئته المحيطة، وسيجعله في بؤرة اهتماماته حتى إن انصرف عن تناوله بشكلٍ مباشر، بفعل مؤثرات عديدة ليس آخرها الخوف من الأجهزة الأمنية أو تجنب الاصطدام مع البيئة المحيطة، أو الهروب من مواجهة الذات التي عاشت في ظروف مؤلمة تجنبًا للألم أو غيره من المشاعر الحبيسة، وحتى في حالة الهروب إلى عالم الأحلام أو التشوقات الشعرية، فإنّ المناخ العام سيبقى حاضرًا وبقوة، وكلما حاول الكاتب إخفاءه ودفنه، ازداد حضورًا حتى في المساحات التي تجنبها النص أو سكت عنها.
منشغلٌ، وأكاد أكون منقطعًا، بالبحث على الدوام عن كل تفصيل يمس حياة المعتقل وتطوّراته داخل السجن وطبيعة الأشياء التي تتحكّم فيه وفي نمط تطوّره، والتحوّلات التي تعتريه بعيد خروجه من السجن، لحظة الخروج والاصطدام بالفضاء الذي كان محرومًا منه زمن السجن الطويل، لحظة العَشَا التي يعرفها كل من خرج من صالة السينما المظلمة إلى ضوء النهار، في السبعينيات كانت المسافة في الصالات القديمة بين صالة العرض المظلمة وباب الصالة المفضي إلى الشارع لا تتعدى خمسة أمتار، فترى الحضور حين يخرجون يغطون أعينهم بأيديهم، ريثما تعتاد على إبهار ضوء الشمس، كذلك حال من يخرج من المعتقل، ولا سيما المعتقلات السورية شديدة القتامة في كل مناحيها. إضافة إلى التركيز على تطوّر منظومة السجون عبر التاريخ “السجن والسجان والجلاد”، وكيف أنّ تطوّر التكنولوجيا يخدم الأنظمة القمعية ويمكنها من إحكام قبضتها بشكلٍ يوحي باستحالة إمكانية الفكاك منها، وصولًا إلى توظيف شبكات التواصل الهائلة في كشفنا وملاحقتنا وإحكام السيطرة علينا وتخليق وتوجيه أفكار القطيع وشيطنة الخصوم وتفتيتهم دون سلاح.
كان السينمائي السوري محمد ملص أوّل من تجرأ في سورية وأخرج فيلمًا عن السجون بعنوان «فوق الرمل تحت الشمس» المأخوذ عن قصة للكاتب والمعتقل السياسي السابق غسان الجباعي، وكذلك فعلت المخرجة هالة محمد، في فيلمها الوثائقي «رحلة إلى الذاكرة» الذي أنتجته قناة “الجزيرة الوثائقية”؛ فهل تفكر في تحويل الكتاب إلى عمل سينمائي؟
طويلًا كان الحديث مع الشهيد لقمان سليم وزوجته المخرجة الألمانية مونيكا بورغمان، حول المشاهد السينمائية التي كانت ترد في سرديتي، وأنا أدون صوتيًا شطرًا من شهادتي تلك في مركز “أمم” في بيروت، والحقيقة كما أنّ فنّ الكتابة يمتلك أجنحة تحلق بالحكايات والمشاعر إلى مواضع لا يمكن لأي فنّ آخر أن يطاولها، فإنّ المشاهد التصويرية، بما تحويه من تناغم فائق بين الصوت والصورة والألوان والظلال والموسيقى المصاحبة، تحقّق حضورًا مبهرًا للنص قد لا تفعله الكلمة المكتوبة، فهي تقدّم النص المكتوب بشكلٍ حي سريع النفاذ إلى مواطن التأثر والانفعال في ذات المتلقي، لا سيما أنّ المشاهدة لدى القطاعات الأوسع أسهل وأمتع من عملية القراءة، وأرسخ في ذاكرتهم.
الشهادة التي كتبتها «ناجٍ من المقصلة» تحوي عشرات المشاهد التي يمكن لمخرج سينمائي أن يعيد تشكيلها على نحو مؤثر ولصيق بشكلٍ كبير بحقيقة ما حدث بالفعل، وعلى سبيل المثال، آلاف منا تناولوا الروايات التي كتبت عن حرب العبيد الثالثة وبطلها “سبارتاكوس”، لكن فيلمًا واحدًا أنتجته السينما عن تلك الملحمة أوصل تلك الحكاية الملحمية إلى ملايين المشاهدين، عبر أكثر من جيل، وما يزال تأثيره إلى اليوم متاحًا ومستمرًا. لهذا السبب، أنا شديد الاهتمام بأن يتحوّل شطر من هذه الشهادة، أو أي شهادة مشابهة لمعتقل سوري -وما أكثرهم- إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، فهذا الزمن الذي نمرّ به هو زمن سيادة وتألق الميديا التي تأخذ من المدونات أو السرديات الصوتية مادتها.
سردية القهر السوري في مواجهة نظام القتل
أنت صحافي، إلى جانب كونك كاتبًا سياسيًا، فهل تفكر في كتابة رواية تحاكي المأساة السورية بعد عشر سنوات على اندلاع ثورة الحرّية والكرامة؟
أعكف اليوم على تتمة ما شرعت في كتابته، وهو الشطر التالي الذي سميته «الشخص الثاني» وهو يتحدث عن خمس سنوات كثيفة من الحياة في سجن صيدنايا، والخروج بعدها إلى السجن السوري الكبير، وما تلا ذلك من تقلبات تعترض السجين الناجي في عودته للاندماج مع المجتمع ومع بيئة تغيّرت خلال غيابه الطويل بشكلٍ حادّ، وتغير هو أيضًا بشكلٍ يصعب على منتظريه أن يتوقعوه بداهة، هذه التغيّرات الطبيعية منها والقسرية، تُحدث صدمات وتشققات واضطّرابات في طبيعة هذه العلاقات الجديدة، لم يكن لنا أن نتخيلها قبل أن نختبرها على وجه مؤلم.
كتابة الرواية -من وجهة نظري- فكرة تخامر كل من عصفت بحياته أحداث كثيفة، خاصة من حفرت تلك الأحداث عميقًا في معظم مناحي حياته وحياة من عرفهم، وأعادت تشكيلها على نحو مغاير، وهذا طبعٌ عام بين الناس؛ فكل من جرت له حادثة غريبة أو خطيرة أو مدهشة سرعان ما ينبري لروايتها، مرارًا وتكرارًا، على أهله وذويه وسامعيه وجلسائه وعلى كل من تبلغهم كلماته، فكيف بمن عاش ملحمة من العذاب وشهد مجازر متتالية ومستمرة من القتل والتنكيل بوحشيةٍ تذكرنا أنّ الإنسان المتحضر لم يأخذ من الحضارة إلّا قشرتها الرقيقة التي سرعان ما تنكشف عن طبيعة همجية بدائية عند النزاعات والصراعات، يبقى جوهره ذات جوهر البدائي الهمجي المتوحش، الذي ما إن تستحكم له السطوة والسيطرة حتى يخلع عنه تلك الأطمار المؤقتة، ويعود إلى سابق عهده، تبقى هذه الفكرة تلح وتحتجب بفعل العوائق الكثيرة، وأعظمها خطرًا قبضة الجلاد الحديدية التي تمسك بتلابيب الحياة في سورية، وبعد الخروج من سورية، يصبح الفضاء أرحب وتصبح الممكنات متاحة بشكلٍ أوسع. كثيرًا ما تشدّني الحكايات التي عشتها مع أصحابها، لأن أضمّنها رواية تجمع بين سرد الوقائع وجماليات المخيال الروائي الذي يملك معينًا لا ينضب من ألف حكاية وحكاية، طالما تحدث عنها أصحابها قبل أن تختم حكاياتهم شفرة المقصلة، ربما بعد انتهائي من كتاب «الشخص الثاني»، أمتلك الجرأة للبدء بتلك الرواية.
هل ترى أنّ ما كُتب ويكتب الآن قادرٌ على توثيق صورة حقيقية عن الثورة والشهداء والمعتقلين والتضحيات الجسام التي قُدّمت ولا تزال تقدّم حتى اليوم، من خلال الأدب؟
كثيرًا ما تغمرني بلاغة العنوان الذي اجترحه الصديق الشاعر فرج بيرقدار: «خيانات اللغة والصمت». هذه اللغة -مهما علت في بنائها- تبقى مخاتلة ومراوغة، لكن المبدعين لم يملّوا يومًا من ترويضها وإخضاعها وجرّ عنانها لتشير إلى ما أرادوا ولتفضح ما يغيبه الصمت المذعن. المأساة السورية أو المقتلة السورية أو المحرقة السورية، وهي جميع ذلك وأشدّ بؤسًا، لا يمكن الإحاطة بها أو بلوغ المقاربة المقبولة من حدودها عبر عددٍ محدود من الأعمال، مهما اجتهد أصحابها في تحشيد الوقائع وتحرّي الأمانة والدقة في نقل الصورة، كأنها جسد موشوري بآلاف الوجوه والانكسارات والتشققات، الأمر الذي يحوي بجوفه مئات آلاف الحكايات المتفردة وعددًا لا يحصى من أشكال التأثير والتأثر المديد الذي يمتدّ ربما على خط زمني يتجاوز الخمسين سنة في كثير من الأحوال، إضافة إلى ذلك الصمت الذليل الذي فرضه النظام المستبدّ على ضحاياه جميعًا، وما لهذا الصمت من تداعيات وعقابيل مرضية، كثيرٌ منها غير قابل للشفاء، فالصرخة التي يطلقها الجريح تُفكك جزءًا من ألمه وتفرغ بعضًا من الضغط الذي يعانيه، وكذلك أنين المريض الذي دهمته الحمى، لكن أن يكون الصراخ والأنين محرّمًا ومجرّمًا، فهذا أشبه بالخنق تحت الماء، حيث الألم الصامت القاتل الذي لا يجد سبيلًا للتعبير عن ذاته. هذه حال السوريين عمومًا قبل أن يخرجوا ويتفرقوا في الأرض، حيث امتلأت صدورهم بهواء الحرّية، وباتوا متمكّنين من الصراخ وإخراج دنان الوجع المعتق من صدورهم. سيكتب العشرات ومن ورائهم العشرات، بأشكال وأنماط مختلفة من القصة والشعر والتوثيق والمذكرات والمدونات الصوتية وغيرها كثير، ولن يحيط كل ذلك بحقيقة ما جرى إلّا كما يحيط الرسام الذي يرسم مشهدًا بحريًا بالبحر العميق الأغوار والممتدّ المساحات، سيبقى كل سجين وكل أسرة سورية وكلّ أم فقدت ولدًا أو شقيقًا أو زوجًا قصةً متمايزةً عما سواها تمايزًا تامًا، وإن جمعها سقف واحد أو إطار عام واحد، كما يجمع الحب عشرات الحكايات المختلفة اختلافًا عميقًا، هو ذاته الحب التي نسجت حول أشعاره وأساطيره وعوالمه، لكن حكايات المحبين تتباين.
تجري الآن جهود توثيقية عالية الأهمية، وفق مناهج وقواعد صارمة تجعل مخرجاتها عالية الدقة، لكننا جميعًا نعلم أنّ صرامة المنهج في التدقيق ستفضي إلى تفلت وإغفال آلاف القصص الحقيقية التي لم تتوفر لها المعايير اللازمة للتصنيف وبقية حكايات تتناقلها الألسن على حذر. في هذا المشهد الصعب والبعيد عن العدالة، حيث ستمتلك كثير من الحكايات فرصةَ الإنصاف الأبسط من خلال السرد، وتخطئ هذه الفرصة آلاف الحكايات التي لا تزال دماء ضحاياها حارة، لا سبيل إلى إنصافها إلّا بمزيد من الإصرار والمضي في التوثيق والكتابة واحتراف السرد وابتكار الأشكال الجديدة التي تفي بهذا الغرض، وهي اليوم متاحة بشكلٍ كبير ومتطوّر باستمرار، وربما تكون المدونات الصوتية وحلقات “البودكاست” والمنتديات العامة أو المتخصصة سبيلًا ييسر لمن لا يملك أدوات الكتابة ومهاراتها أن يحكي حكايته بلغته البسيطة، سيكون جميع هذا وباستمرار مادة أوّلية للمبدعين والمشتغلين، ليشكّلوا من لبناتها المتناثرة سردية القهر التي عاشها السوريون على مدى عقود، هذه السردية التي تحوي رد اعتبار للضحايا وإدانة للجناة وجدارًا مانعًا في وجه أي انحدار في المستقبل إلى هذا الحضيض، حضيض الاستعباد.
لم تبقَ الثورة التي عقد عليها الشعب السوري آماله ثورةَ حرّية وكرامة، إذ سرقها اللصوص وأمراء الحرب؛ فما السبيل لتصحيح مسار الثورة بعد عشر سنوات من عذابات وتضحيات ملايين السوريين؟
برأيي، لا توجد في المدى المنظور، وفق موازين القوى المتوفرة، بوادرُ حقيقية لحلٍّ أو لتسوية عادلة لقضية الشعب السوري، الشطر المعارض من الشعب السوري محكومٌ بمشكلتين عميقتين: أولاهما تحكّم الدول الإقليمية والدولية في جميع تفاصيل المشهد السوري، لدرجة أن السوريين مستبعدون في كثير من الأحيان من المشاركة أو حتى الحضور في قاعات ومؤتمرات صنع القرار التي تخص الشأن السوري، وهذا التحكّم يصل إلى حركة الموارد الإغاثية أو أدوات الإنقاذ أو الضروريات الطبية، ومن الواضح أنّ آخر ما يرغب فيه هؤلاء المتحكّمون في القضية السورية، وفق خارطة الوقائع خلال عشر سنين، هو انتصار الشعب على هذا النظام الدكتاتوري، بل ثمة ما هو أبعد من هذا، فكثير من الحقائق التي كُشفت، بالرغم من الاستبسال في التعتيم عليها، تؤكّد الدعم الكبير الذي كان يتلقاه هذا النظام من دول نفطية عربية، كانت حريصة كل الحرص على أن يبقى، وأن يكون الجدار الأخير الذي تصطدم به موجات الربيع العربي.
ثاني المشكلات أنّ خمسين سنة، من إخصاء نظام الأسد للشريحة المثقّفة والسياسية في سورية، خلَّفت بيئةً فقيرة لا تكاد تجد فيها تيارًا سياسيًا واحدًا يمكنه أن يكون قائدًا لهذه الثورة التي بذلت الكثير الكثير، وابتُلينا بمجموعة من الهواة والمجربين الذين أغراهم الفراغ ليقفزوا إلى دفة قيادة هذه الثورة وتمثيلها، فكانت الكوارث إثر الكوارث، بسبب سوء أدائهم وجهلهم المخيف بكل ما هو لازم لبناء جسم ثوري متماسك يقف بمواجهة نظام يخوض معركة البقاء بكل استعداداته، هذا إذا افترضنا بداهة حسن الطوية ونظافة السريرة والإخلاص لهذا الشعب البائس، وهذا ما تكذبه الوقائع بشكلٍ سافر، فشطر كبير ممن عرفنا يطوف حول كعبة ذاته ومصالحه الضيقة والمخجلة، وقد لا يتعدى نضال كثيرين منهم حدود البقاء في موقعه من جسم سياسي أو تمثيلي معارض لم يعد أحد يأبه له أو يقيم له وزنًا.
مع كل هذا الأفق المسدود والمشهد المعتم، فلا يمكن لقوةٍ -مهما بلغت من السطوة- أن تقفل التاريخ، ولا توجد نهاية يمكن أن نسميها نهاية التاريخ، ونحن اليوم في عالم سائل، بحسب تعبير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومن، يمكن لأي تفصيل متناهي الصغر أن يخلق بيئة جديدة لولادة موجات من التغييرات المتلاحقة التي لا يمكن التنبؤ بها، وقد شهدنا خلال أشهر قليلة خلت ما فعله نشاط فيروسي بسيط في كوكبنا، وكيف دمّر اقتصادات وأنعش أخرى، وكيف أنّ أعظم دولة في العالم كانت من أكبر ضحاياه، من حيث عدد المصابين وعدد من ماتوا تأثرًا به.
أخيرًا، ما رأيك في الانتخابات الرئاسية في سورية التي يُعدُّ لها الآن في دمشق؟
في مطلع الثمانينيات، في سجن تدمر، بالرغم من معرفتنا نحن والجلادين على حدٍّ سواء أنّ التعذيب المفرط هو القاعدة المعمول بها على مدار الساعات والأيام، من دون أدنى سبب أو تعليل، فإنّ الجلاد في معظم الحالات كان يختلق سببًا، مهما كان واهيًا، ليباشر التعذيب أو ليختار ضحية يعذبها، كأن يقول: “لماذا فتحت عينيك؟ لماذا تسير ببطء؟ لماذا تمشي بسرعة؟”.. وهكذا، وهو بهذا يريد أن يخلق وهمًا مفاده أنه يعاقب أو يعذّب بعلّةٍ “منطقية”. واليوم، على مدى عشر سنوات، هناك نقطتان واضحتان وضوح الشمس في الضحى: الأولى أنّ هذا النظام سيستمر في المبالغة بالقمع والقتل ونشر الرعب حتى أقصى النهايات المتخيّلة، وهذا وحده سبيله للاستمرار في الحكم وفي إحكام قبضته الخانقة على جميع السوريين، وأنه سيمارس جميع السبل الملتوية، ويمعن في تكرار الكذب على السوريين والمجتمع الدولي ليبقى في كرسي الحكم، ولن يتركه إلّا مضطّرًا وبعد أن يحيله خرابًا، كلّ هذا يفعله بضوءٍ أخضر من المجتمع الدولي، خاصة بعد أن شدّد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما على منعه من استخدام السلاح الكيمياوي، وسمح له بما دون ذلك من أدوات قتل. والنقطة الثانية أنّ المجتمع الدولي، بقيادة الدول العظمى وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأميركية، ماضٍ -منذ سنوات- في إعادة إنتاج هذا النظام وتأهيله للاستمرار في حكم سورية، على النحو الذي يُبقي مصالحهم مستقرة، ويحول دون نشوء دولة وطنية قد تغيّر من استقرار المشهد الموات الذي صنعوه وكرسوه في الشرق الأوسط طوال سنوات خلت. وفق هاتين النقطتين؛ يبقى لجوء النظام إلى انتخابات رئاسية وغيرها من الاختراعات التي يمكنه ابتكارها وفق دستور يستطيع العبث به وتغيير مضامينه في أي لحظة، كما فعل في عملية توريث الحكم على إثر موت حافظ الأسد، كحال الحجج التي يسوقها الجلاد في سجن تدمر ليبرر مباشرته بفعل التعذيب، وهو بجميع الأحوال باقٍ، سواء أكانت هناك انتخابات أم لا. ولن تكون لعبة الانتخابات ولعبة تغيير الدستور أو تعديله إلّا مسارًا ونفقًا عبثيًا، يسوقنا من خلاله النظام بمشاركة العابثين بالملف السوري، ويكسب من خلاله مزيدًا من الوقت. تلك الانتخابات المزعومة، وإن جرت تحت إشراف دولي، لا يمكن لها إلّا أن تأتي بفوز بشار الأسد الذي لن يغادر قصره أصلًا. وستذهب عشرات آلاف الوثائق والصور التي تدين أركان هذا النظام ورأسه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لتبقى بيد اللاعبين الكبار، فيستخدمونها ضد النظام، كلما احتاجوا إلى الضغط عليه، كما تفعل الولايات المتحدة اليوم مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، في قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ولن تكون تلك الوثائق التي من شأنها أن تجرّم النظام برمته وتقدّمه إلى محاكماتٍ، من أدنى نتائجها تنحيته عن لعب أي دور في الشأن العام السوري، إلّا شكلًا من أشكال المسلّات الفولاذية التي يُنخز بها الثور لإرغامه على مزيد من الخضوع.
يبقى الأمر الذي لا سبيل لتلافي آثاره أنّ الشعب السوري عمومًا قد شبّ عن الطوق وثقب جدار الخوف، ولم تعد سطوة السلطة ترعبه كما كانت قبل اندلاع الثورة، وكان النظام يومها أشدّ صلابة وأمتن تماسكًا، أما وحاله المهلهلة اليوم وهو يعيش عبر أنابيب الإنعاش الروسية والإيرانية، فلا سبيل له لإعادة بناء دولة متماسكة تستطيع حكم وإدارة هذا الشعب والمضي في استعباده، ربما ستطول مدّة سيادة الفوضى، وربما ستكون هناك العديد من موجات التهجير التي سترحل من سورية ما تبقى من مجموعات ترفض الخضوع لسلطة الأسد ونظامه، لكن ما سيتبقى حينها سيكون ضربًا من ضروب السخرية التاريخية: رئيس لا يرقى إلى مقام دمى الأطفال الخرقية، تعبث به وبقراراته سلطات خارجية تتجاذبه يُمنة ويُسرة، وبلد محتل تتنازعه جملة من المصالح المؤتلفة أو المختلفة، وحاضنة شعبية لم تعد تحتمل مزيدًا من التجويع والإذلال فداءً لسيد الوطن، الأمر الذي سيجعل من تغيير قادم لا محالة حلًا وحيدًا وأملًا منشودًا ستبقى أفئدة السوريين وعيونهم معلقة به تعلقهم بالحياة.
مركز حرمون