محمود الحمزة: موسكو تخاف من استبدال الأسد بدون ضمانات أميركية
غسان ناصر
يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، عالمَ الرياضيات، والكاتب والمعارض السوري، بروفيسور دكتور محمود الحمزة، المتخصص بالشؤون الروسية، وهو يحمل الجنسية الروسية، ويقيم حاليًا في موسكو.
الحمزة، من مواليد عام 1954، في قرية (كريزيل) كبير التابعة إداريًا لمحافظة الحسكة (شمال شرق سورية). حاصل على الدكتوراه في الرياضيات عام 1985 من جامعات موسكو، وشغل سنوات عديدة منصب أستاذ جامعي وباحث علمي في قسم تاريخ الرياضيات، في “معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا” التابع لأكاديمية العلوم الروسية في موسكو، قبل أن يُفصل عام 2016 من الأكاديمية لأسباب سياسية، لكونه معارضًا لنظام الأسد الاستبدادي الوحشي الطائفي الفاسد، يوم كان يشغل منصب “كبير الباحثين في تاريخ الرياضيات العربية في القرون الوسطى”.
له العديد من المؤلفات الجامعية في تاريخ الرياضيات وتطورها الفكري والفلسفي وتحليلها، إضافة إلى إنجازه قاموس المصطلحات الأساسية في الرياضيات (روسي-عربي)، ومعجم مصطلحات الرياضيات (إنجليزي-عربي). وآخر مؤلّفاته كتابٌ في تاريخ دراسة المخطوطات العربية في روسيا «تاريخ الاستعراب الروسي» (قيد الطبع). ونشر أكثر من خمسين بحثًا ودراسة، في مجلات علمية عربية وروسية وأجنبية، فضلًا عن عشرات المقالات في المواقع الإلكترونية والصحف السورية والعربية والأجنبية، عن الأوضاع السياسية، وفي الرياضيات وتاريخها وفلسفتها وتعريبها.
شارك ضيفنا في عشرات المؤتمرات العلمية، في سورية والأردن ومصر واليمن وليبيا والمغرب وتشيكوسلوفاكيا واليونان وفرنسا وروسيا، وهو عضو “الجمعية السورية لتاريخ العلوم”، وعضو “الجمعية الفلسفية” في روسيا، وعضو “اللجنة الأميركية-الألمانية لدراسة المخطوطات العلمية العربية والإسلامية في القرون الوسطى”، وعضو “الجمعية الدولية لتاريخ وفلسفة العلوم العربية والإسلامية” (لندن-نيويورك)، وعضو “رابطة الكتاب السوريين”. وقد نال مشروع بحثه العلمي «دراسة تاريخ الرياضيات العربية في القرون الوسطى» جائزةً من “صندوق دعم البحوث الأساسية في روسيا” للأعوام 2006 – 2008. وحصل على منحة للبحث العلمي من “المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية” في باريس، في «تاريخ الرياضيات العربية والإسلامية» عام 2009.
حوارنا هذا مع الأكاديمي السوري تناول الوضع السياسي السوري الراهن والموقف الروسي منه، وتطرقنا إلى مسيرة الثورة السورية، وهي على أعتاب الذكرى العاشرة لاندلاعها ضد النظام الأسدي، وأحوال المعارضة السورية اليوم، ومسارات التفاوض والعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، ودور القوى الإقليمية والدولية في مآلات الثورة والملف السوري بتعقيداته المتشابكة، وكذلك مستقبل الرئيس بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس، في ظل الانتخابات الرئاسية المُقبلة التي يُهيّئ لها في دمشق، ويرسم ملامحها الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو.
هنا نص الحوار:
بداية، ما الموقف الروسي من الانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية، وهل يلوح في الأفق (الروسي) اسم مرشح آخر غير بشار الأسد؟
أولًا، لا بدّ من التذكير بأنّ روسيا دعمت نظام بشار الأسد من بداية الثورة، بكل طاقاتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، ووضعت هدفًا لها وهو الحفاظ على النظام السوري بصيغته الأسدية الاستبدادية الطائفية الفاسدة، اعتقادًا من موسكو بأنّ هذا النظام هو الذي يمثّل مصالحها، وهذا نجده في المواقف الروسية التي ورثتها من الاتحاد السوفيتي بسياسته الأيديولوجية الشيوعية، في دعم الأنظمة الشمولية (التي ادّعت كذبًا أنها أنظمة وطنية تقدمية). وتعرف روسيا أنّ النظام السوري منذ خمسين سنة يقوم بتزوير الانتخابات وتزوير إرادة الناس، وهذا لا يعنيها، وهناك تشابه بين النظام السياسي في موسكو ودمشق، فكلاهما نظام شمولي.
ولذلك، فإنّ روسيا تؤيد إجراء الانتخابات الرئاسية في صيف عام 2021، وهي تعرف تمامًا أنها لن تكون انتخابات شرعية، ولا توجد ظروف مناسبة لا أمنية ولا اقتصادية ولا سياسية لإجرائها؛ فالأسد الذي ينوي الترشح هو مجرم حرب، وروسيا هي التي حافظت على النظام من السقوط بتدخلها العسكري في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، الذي قلب موازين القوى لصالح النظام، بعد أن كان مهددًا بالسقوط. وقد قالها صراحة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: “لولا تدخل موسكو لسقطت دمشق”، علمًا أنّ النظام يحسب الانتصارات العسكرية بأنها من إنجازه، وهذا كذب بالطبع. والدليل أنّ الجيش السوري الحر حرّر ثلثي الأراضي السورية في السنوات الأولى للثورة، قبل التدخل الروسي.
وكذلك صرّح لافروف في المؤتمر الصحفي الذي عقد في دمشق (حين زارها مع نائب رئيس الحكومة الروسية يوري بوريسوف في أيلول/ سبتمبر 2020) بأنّ لا علاقة للجنة الدستورية وفترة عملها بالانتخابات الرئاسية في سورية (التي أكد وزير خارجية النظام وليد المعلم في حينها على عقدها في موعدها)، وكذلك نذكر تصريح نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي فيرشينين في بداية 2021 بأنّ الانتخابات استحقاقٌ مهم لاستقرار مؤسسات الدولة السورية (وكأن هناك مؤسسات ودولة!) وانتقد المواقف الغربية التي ترفض شرعية أي انتخابات رئاسية في سورية قبل انتهاء عمل اللجنة الدستورية التي يزعمون أنها ستصوغ دستورًا لسورية (وهذه قصة وحدها، فاللجنة الدستورية بحد ذاتها وُجدت للالتفاف على قرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى تأسيس هيئة حكم انتقالية ينتج عنها كل الأمور الأخرى ومنها دستور جديد)، ولكن المشكلة في سورية سياسية بامتياز، وموضوع اللجنة الدستورية يذرّ الرماد في العيون، ويسمح للنظام وحلفائه باللعب في الوقت الضائع وبالمطمطة وإلهاء المعارضة في اجتماعات لا جدوى منها. وبالرغم من تأييد موسكو للانتخابات الرئاسية، أعتقد أنّ هناك مشكلة عويصة تجابهها هي والنظام. ألا وهي: كيف سيوسعون جغرافيا الانتخابات، بحيث تشمل مناطق شمال سورية وغربها وشرقها. أمّا عن مرشح بديل للأسد، فأرى أن موسكو تخاف من استبدال الأسد من دون ضمانات أميركية، وتخشى أن تفقد كل شيء إذا رحل الأسد، لأنها ربطت كل نشاطها ودعمها لشخصه، وبررت كل جرائمه ودافعت عنه مستميتة في مجلس الأمن، وتدخلت عسكريًا لإبقائه في السلطة. وأعتقد أنّ لدى موسكو مرشحين احتياطيين، ولكنها تخشى الحديث عنهم حاليًا.
ذيل الكلب.. رسالة موسكو إلى الأسد
تدور أحاديث في الأوساط السياسية والشعبية الموالية في سورية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، عن تأهيل روسي، بدعمٍ شخصي من الرئيس فلاديمير بوتين، لأسماء الأسد، للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. هل ترون أن هذه التكهنات ممكنة؟ وهل لها صدى في مواقع القرار في موسكو؟ أم أنها محض إشاعات يرّوج لها البعض في دمشق؟
يبدو أنّ أسماء الأسد قوية اقتصاديًا الآن، حيث هيمنت على أملاك رامي مخلوف (ابن خال الرئيس)، وأبعدت عائلة مخلوف بعد وفاة محمد مخلوف وقبله أنيسة مخلوف، والآن جاء دور عائلة الأخرس، وهي تتمتع بدعم بريطاني، فتلك الأموال ستذهب أغلبها إلى البنوك البريطانية. ولا أستبعد مراهنة الروس على أسماء كبديل للأسد، في حال لم يتمكنوا من إقناع المجتمع الدولي بترشيح بشار، وفي النهاية يعدّ الروس أنّ الانتخابات الرئاسية ستجري مثلها مثل سابقاتها. ومع ذلك، فأسماء الأسد وُضعت في قائمة العقوبات الغربية، وفقدت فرصتها للترشح كبديل مقبول دوليًا، علمًا أنها بدأت حملة -من خلال نشر صورها في بعض المكاتب الحكومية في دمشق- وبدأت تقوم بنشاطات وزيارات لافتة. لذلك يبقى الآن أمام موسكو إمّا دعم ترشيح الأسد، وهذا سيحظى بترحيب إيراني وإمّا طرح اسم مرشح آخر من قلب النظام، مثلًا شخصية عسكرية أو أمنية كبيرة لخداع العالم بأنّ الأسد لم يرشح. وقد تحدث مفاجآت نتيجة تفاهمات مع أميركا، وفي كل الأحوال موضوع البديل حساس بالنسبة إلى استمرار روسيا في سورية.
في الآونة الأخيرة، شنّت وسائل إعلام روسية، بعضها مقرّب من مراكز صنع القرار في روسيا، سلسلة هجمات مركّزة وعنيفة على شخص بشار الأسد، إذ اتّهمته وزوجته بالفساد، واتُّهم بالضعف وعدم السيطرة على الوضع الداخلي، وشكّكت بعض هذه الوسائل في شعبيته، وذكّرت بمصدر شرعيته الوحيد ألا وهو التدخل العسكري الروسي المباشر في عام 2015. ما الذي عناه ذلك، ومن يقف وراء هذه الهجمات الإعلامية، وما الهدف منها؟
لطالما سمعنا تصريحات من موسكو تنتقد مواقف الأسد انتقادًا خفيفًا، ونعرف جيدًا تعنّت الأسد وموقفه الرافض للجنة الدستورية، حيث صرح بأنّ هذه اللجنة شأن سوري، ويجب أن تكون بإشراف سوري (أسدي) ولا علاقة للأمم المتحدة بها، وحينذاك صرّح المندوب الروسي في مجلس الأمن بأنهم اقترحوا لجنة للإصلاح الدستوري في مؤتمر سوتشي 2018، بالتنسيق مع المبعوث الدولي للأمم المتحدة، ولكن ممثّل النظام في جلسة المجلس صرّح تصريحات تخالف الموقف الروسي. ثم قام بوتين باستدعاء بشار، وجلبه بطائرة شحن إلى سوتشي، وأجبره على الموافقة على تشكيل اللجنة دستورية.
ونحن نشهد مماطلات النظام واستخفافه بعمل اللجنة الدستورية. وكذلك هناك إشكالات بين موسكو ودمشق بخصوص تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية. أما الحملة الإعلامية الكبيرة في نيسان/ أبريل من عام 2020، فقد كانت الأولى من نوعها وهي لافتة. وكان الهدف منها توجيه رسالة إلى الأسد بأن موسكو قادرة على قلب الطاولة على رأسه، إذا لعب بذيله (وهكذا سمّوه في أحدِ التصريحات الروسية ذيل الكلب). وفيها رسالة إلى الغرب بأنّ موسكو ليست متمسكة بشخص الأسد، لأنها تفضحه وتنتقده. أما الحملة الإعلامية نفسها، فكان رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين (المعروف بلقب طباخ الكرملين) وراءها، لأنه يملك شركات للنفط والغاز (تعمل في سورية وخاصة في حقل الشاعر وشرقي دير الزور)، وشركة أمنية خاصة (فاغنر) تشارك في دعم نظام الأسد وهي مكوّنة من المرتزقة. وسبب الحملة الإعلامية القوية هو محاولة خداع الأسد ومسؤولي النظام للروس في موضوع الكهرباء، حيث اتّهموا تنظيم (داعش) الإرهابي بأنها وراء انقطاع الكهرباء والغاز، ولكن الروس كذبوا ذلك وقالوا إنّ السبب فساد رئيس حكومة النظام عماد خميس ووزير النفط، وأنّ النظام باع الكهرباء للبنان والأردن، وسرق العائدات بدلًا من أن يقدم الكهرباء للسوريين. وقالها المراسل الروسي في سورية بصراحة: “إنّ الحكومة السورية تكذب”. ونشرت الصحف ووكالة أنباء روسية تابعة لبريغوجين مقالات تحدثت عن فساد النظام وعائلة الأسد والأخرس ومخلوف، وذكرتهم بالأسماء. وقالت إنّ ماهر الأسد مجرم، ومتهم بقتل الحريري، ومهرّب؛ وإنّ رجال أعمال ماهر، كالأخوين قاطرجي، يتعاملون مع تنظيم (داعش) الإرهابي، ويشترون منه النفط والقمح. والأهم من كل ذلك أنّ المقالات ذكرت بوضوح أنّ الأسد ضعيف وغير قادر على إدارة البلاد، وأن نسبة مؤيديه في سورية لا تتجاوز 20%.
ويعرف المتابعون للعلاقات الروسية السورية أنّ هناك صراعًا بين موسكو ودمشق حول تطبيق الاتفاقات التي وقعوها في عام 2018 من خلال اللجنة الحكومية المشتركة، ولكن الأسد لم يوفِ بوعده ولم ينفذ إلّا بعض الاتفاقات، وقد تكون إيران وراء الأسد لعرقلة تنفيذ تلك الاتفاقات. وهذا يسلط الضوء على التنافس الروسي الإيراني في سورية. وإنّ زيارة الوفد الروسي رفيع المستوى في العام الماضي كان هدفها الحصول على تعهد من الأسد لتوقيع اتفاقات جديدة في كانون الأول/ ديسمبر 2020، ولكن اللجنة لم تجتمع حتى الآن.
ما بدائل الرئيس بوتين لاستثمار ما حقّق من “انتصارات” عسكرية على الأرض، بعد فشل مؤتمر عودة اللاجئين وإعاقة مشاريع إعادة الاعمار من قبل الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ودول الاتّحاد الأوروبي؟
روسيا التي أعلنت انتصارها العسكري تسببت في قصف المشافي والمدارس وقتل المدنيين، وقد أعلن كبار مسؤوليها أنهم جربوا 350 صنفًا جديدًا من الأسلحة، وكأنهم في حقل تجارب، وأنهم درّبوا حوالي 60 ألف ضابط وعسكري في ظروف قتال ميدانية. والحقيقة أنهم حافظوا على نظام الأسد المجرم، وبالطبع لديهم أهداف جيوسياسية واقتصادية وعسكرية، ولكنها لا تبرر دعم الأسد على البقاء، بعد أن ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، منها استخدامه السلاح الكيمياوي كسلاح دمار شامل. ونذكر نظام صدام حسين الذي أسقطوه بتهمة كاذبة، هي استخدامه للسلاح الكيمياوي، أو أنّ لديه سلاحًا كيمياويًا، بينما الأسد استخدمه عشرات المرات وما زالوا يسايرونه، وما زال حيًّا يرزق.
تسعى موسكو لجني ثمار انتصارها العسكري في مرحلة السلم وإعادة اعمار سورية. ولكنها تصطدم بجدار أصم. فالمجتمع الدولي، على علاته، ما زال يطلب تغييرًا سياسيًا في النظام السوري حتى يقوموا بتمويل الاعمار. وقد قالها مرة دبلوماسي أميركي: “كيف نمنح مئات المليارات لتمويل الإعمار لنظام فاسد سيقوم بسرقة هذه الأموال؟”. والأهم من كل ذلك أنّ موسكو وطهران غير قادرتين على تمويل إعادة الاعمار، ولهما ديون كبيرة على نظام الأسد وينتظران استعادة تلك الديون، وكذلك جني الأرباح. ولذلك عملت موسكو منذ سنتين على إقناع الدول وخاصة الأوروبية مثل ألمانيا بتقديم دعم لإعادة اللاجئين، كونهم -بحسب رأي الروس- سببوا مشكلة لألمانيا وأوروبا، ولكنها لم تنجح في إقناع العالم. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، عقدوا مؤتمرًا للاجئين في دمشق، ولكنه فشل لقلّة المشاركين فيه. وأعلنت روسيا تقديم مليار دولار لإعمار سورية، ولكن هذا المليار سيعطى للشركات الروسية، مقابل ديونها على النظام، لتقديم خدمات في الكهرباء والغاز ومجالات أخرى. ويتضّح تمامًا أنّ الموقف الأميركي هو المؤثر في الملف السوري، حيث تقف الولايات المتحدة ضد إعادة الإعمار، ما دام الأسد لا يلتزم بإجراء تغيير سياسي، وقد منعت بعضَ الدول العربية من إعادة علاقاتها مع النظام. وأصدر الكونغرس الأميركي قانون “قيصر”، الذي يعوق التعاون الحقيقي مع نظام الأسد، لأنّ كثيرًا من الشركات تخشى العقوبات الأميركية. أما الدول الأوروبية فموقفها ضعيف سياسيًا، ونسمع أصواتًا في بعض تلك الدول تدعو لتخفيف العقوبات عن نظام الأسد، عسى أن تقنعه بالتعاون وحلّ المشكلة، ولكن هذا كذب!
هل لديكم معلومات مؤكدة -أكدها الإعلام الرسمي الروسي مثلًا- عن لقاء إسرائيليين برأس النظام السوري، أو اللواء علي مملوك في قاعدة حميميم، في الآونة الأخيرة؟ وهل يعني ذلك -إن كان الخبر صحيحًا- أنّ نظام الأسد سيلحق بركب التطبيع العربي المذلّ في المدى القصير المنظور؟
يبدو أنّ اللقاء حصل بالفعل؛ وسمعنا تأكيدات من مصادر مطلعة قالت: “إنّ ضابطًا كبيرًا في الأمن السوري حضر اللقاء مع الموساد (جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي) بإشراف روسي”، وبحث اللقاء إمكانية التطبيع، مقابل دعم إسرائيل لبقاء الأسد بشرط تعهده بطلب خروج إيران من سورية، ولكن هذا أولًا سيقضي على الأسد نفسه، ومن جهة أخرى، لا يمكن إخراج إيران من دون اتفاق روسي أميركي. وأعتقد أنّ الأسد يخشى التطبيع اليوم، لأنه سيفضح تمامًا (محور المقاومة) المزيّف الموجّه ضد الشعوب، لا من أجل فلسطين. ومن جهة أخرى، لا ننسى تصريح رامي مخلوف في بدايات الثورة، عندما كانت الفصائل المسلحة منتصرة وتتقدم نحو دمشق، إذ قال: “إنّ أمن دولة إسرائيل من أمن سورية” (ويقصد أمن النظام السوري).
توجّهات روسية لإلغاء القرار الأممي (2254)
كيف ستكون العلاقات الروسية-الأميركية مع بدء مباشرة جو بايدن لمهامه في البيت الأبيض، خاصة في ما يتعلق بالملف السوري؟ وما توقعاتكم من إدارة الرئيس الجديد تجاه الوضع الراهن في سورية؟
حين يكون الرئيس الأميركي من الحزب الديمقراطي، فهذا أسوأ لروسيا؛ لأنه عادة يركز على ملفات حقوق الإنسان وقمع المعارضة السياسية في روسيا، والمثال الأحدث هو اعتقال المعارض الروسي إلكسي نافالني في المطار بعد عودته من ألمانيا، حيث تلقّى العلاج، بعد أن كان قد تعرّض للتسميم في روسيا في صيف 2020. أما في الملف السوري، فلا نشهد حاليًا أي مؤشرات على تعاون روسي-أميركي، علمًا أنّ الفريق المحيط بالرئيس جو بايدن بعضهم ضد نظام الأسد، مع أننا خلال عشر سنوات خبرنا الموقف الأميركي الذي يُفضل إدارة الأزمة على الخروج منها، والدليل أنّ الإدارات الأميركية خلال عشر سنوات لم تسعَ جديًا للمساعدة في تطبيق قرارات مجلس الأمن حول سورية. وبالرغم من أنّ بايدن ديمقراطي فإنه -على ما يبدو- سيختلف عن الرئيس الأسبق باراك أوباما في كثير من الأمور، ومنها تعامله مع نظام الأسد، فهو سيسعى لحل ما في عام 2021، مثل تشكيل مجلس حكم قد يكون عسكريًا وسياسيًا، بالتفاهم مع الروس، فالقاسم المشترك بينهما هو أمن إسرائيل. ولكن نخشى من الاستمرار في دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تنهب خيرات منطقة شرقي الفرات، وتحوّلها إلى جبال قنديل، وكذلك تمارس سياسة تسلطية وانفصالية، وهي من القوى المضادة للثورة، وهي أصلًا ليست بعيدة عن نظام الأسد وإيران. الدور الروسي، بتقديري، سيستمر في سورية بعد إقرار “الحل السياسي”، لأنّ روسيا مكلفة من أميركا وإسرائيل بتأمين أمن الدولة العبرية وإزاحة الإيرانيين من سورية. ولا أحد يهتمّ بطبيعة النظام القادم، بقدر ما يخدم مصالحهم وأجنداتهم الخاصة على حساب شعبنا. وتقرّ أميركا بالوجود والدور الروسي في سورية، وقد عبّر عن ذلك جيمس جيفري، المبعوث الأميركي السابق إلى سورية، حيث صرّح منذ أشهر بأن على جميع القوات الأجنبية أن تغادر سورية ما عدا القوات الروسية.
ما تقويمكم لتفاعلات ما يجري على صعيد العملية السياسية التفاوضية ما بعد جولتها الخامسة في جنيف، وإلى أين تسير مآلات التفاوض بحسب تقديركم؟ وهل يمكن لهذه المفاوضات أن تُحدث فعلًا تغييرًا جذريًا شاملًا للنظام عبر الانتقال السياسي، وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ودستور جديد والاستفتاء عليه بعد توفير البيئة الآمنة، وانتخابات حقيقية بإشراف كامل للأمم المتحدة، وتطبيق العدالة الانتقالية، وبناء سورية المستقبل؟
لا يمكن تسمية ما يجري من مفاوضات فاشلة بأنها عملية سياسية؛ فالعملية السياسية يجب أن تبدأ بهيئة حاكمة لسورية تشرف على المرحلة الانتقالية، وتقوم ببسط الأمن وصياغة دستور على يد مختصين سوريين في أجواء من الحرية والأمان، وليس بإشراف الدول (الضامنة) والمحتلة لسورية، ثم إنّ موضوع اللجنة الدستورية وقبلها مفاوضات جنيف كانت مضيعة للوقت بالنسبة إلى المعارضة، وكسبًا للوقت بالنسبة إلى النظام، والجميع يعرف أنّ النظام غير مقتنع بأي حل سياسي، ولن يقدم تنازلات إلّا بضغط دولي حقيقي بإصدار قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع. ولكن روسيا ما زالت متمسكة بالنظام وتعرقل قرارات مجلس الأمن، وهذه أكبر جريمة.
بعد كل ما جرى في سورية من كوارث وجرائم؛ لا يريد المجتمع الدولي مساعدة السوريين في التخلص من نظام استبدادي فاسد، وقد ضحّى الشعب السوري، وأظهر بطولات وتضحيات كبيرة من أجل حريته وكرامته. هناك بيان “جنيف1” وقرار مجلس الأمن رقم (2254) المقبول من كل الأطراف الدولية والإقليمية والسورية، ما عدا النظام، ولكن الدول الكبرى لا تريد تطبيق هذه القرارات عمليًا. وأسمع حاليًا عن توجّهات روسية جديدة لم يعلنوا عنها رسميًا، بأنّ قرار مجلس الأمن (2254) أصبح قديمًا، ويجب إيجاد صيغة جديدة تتناسب مع الواقع الحالي، حيث يرون أن النظام هو المنتصر. أما الحقيقة فهي أنّ النظام لم ينتصر، لأنّ ما نشهده في سورية من تحديات اقتصادية واجتماعية ومعيشية وأمنية وفقدان للسيادة لا يمكن للنظام تجاوزها، ولا يمكن للأسد خلق استقرار في سورية، ولا يوجد من يدعمه بشكل حقيقي ويقدم له العون في إعادة الإعمار. حتى حلفاؤه المخلصون مثل روسيا وإيران لن يتمكنوا من إنقاذه اقتصاديًا على الأقل. فماذا سيفعل؟ أعتقد أنّ لا مشكلة لديه في ترك الناس يموتون ببطء، والمهم هو سيطرته على كرسي الحكم.
بالرغم من إدراك قوى الثورة وأطياف المعارضة السياسية أنّ نظام الأسد يرفض الحل السياسي وبيان “جنيف1” والقرار رقم (2254)، ودور الأمم المتحدة، ومحاولته إنكار صلته باللجنة الدستورية التي شكّلها تحت الضغط الروسي والدولي، لا يزال الائتلاف ومعه الهيئة العليا للمفاوضات متمسكين بمسار المفاوضات. فلماذا هذا الإصرار على استمرار التفاوض في ظل ألاعيب نظام الأسد؟ وهل من فرص بديلة أمام المعارضة في حال وصلت اللجنة إلى مسار مسدود؟
إذا كنا في بداية المفاوضات في جنيف نتأمل، ولو بشكل ضعيف، حدوث شيء إيجابي، فإننا اليوم مقتنعين تمامًا بأنّ مفاوضات جنيف ومعها اللجنة الدستورية أصبحت وسيلة يستخدمها النظام وحلفاؤه والمجتمع الدولي لخداع السوريين وإبقائهم على أمل بمجيء الحل، وهذا كذب ونفاق. ولكن المشكلة في ضعف هياكل المعارضة وفشلها، فلا نتحدث عن منصة موسكو والقاهرة وهيئة التنسيق، لأنها تمثل إرادات خارجية وتدّعي أنها معارضة لكنها أقرب إلى روسيا والنظام، حتى الهيئة العليا للتفاوض ومثلها الائتلاف الوطني أصبحوا مخترقين ومرتبطين بجهات دولية وإقليمية، منها النظام، ويتاجرون بالدم السوري. فكيف ننتظر منهم موقفًا وطنيًا مستقلًا، يقول كفى للمفاوضات عديمة الجدوى، ومتى سيصارحون الشعب السوري ويقولون له الحقيقة بأنّ لا أحد في العالم يريد حل المشكلة. على الشعب السوري وقواه الوطنية المستقلة، وخاصة النخب المثقفة والناشطين الشباب، أن يشكّلوا مسارًا آخر وطنيًا مستقلًا لا يخضع لأي جهة دولية أو إقليمية، وتكون بوصلته هي مطالب الشعب السوري كله وبمكوّناته كافة. ومن حق السوريين أن يستخدموا كل الطرق والوسائل لتحرير وطنهم من الاحتلالات ومن الطاغية، وطرد كل المتطرفين والإرهابيين من ميليشيات أجنبية طائفية وقومية تفرض سلطة الأمر الواقع، مثل بقايا (داعش) و(جبهة النصرة) و(قسد) وكل الميليشيات التابعة لإيران، وفي مقدمتها “حزب الله” الطائفي الإرهابي.
المموّلون هم أصحاب القرار وهذا مقتل الثورة السورية
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: لماذا لا تفتح الهيئة العليا للمفاوضات باقي السلال، كون أعمال اللجنة الدستورية متعثرة؟ وما نصيحتكم للمفاوض السوري في هذا الخصوص؟
الموضوع ليس بيد الهيئة العليا للتفاوض، فهي تتلقى التعليمات وتلعب دورًا ضعيفًا ومخجلًا، والقصة كلها بالموقف الروسي المدعوم من أميركا، حتى الدول العربية والإقليمية لا أحد منها يدعم استقلالية الهيئة ولا يعطونها الفرصة لتكون ممثّلة حقيقية للشعب السوري، حيث إن الداعمين والممولين الخارجيين هم أصحاب القرار، وهذا مقتل الثورة السورية. وقد حدث هذا في مجال العمل العسكري ودعم الفصائل المسلحة الإسلامية، التي باعت الثورة في نهاية المطاف، ومثلها القوى المعارضة السياسية ستبيع الثورة في النهاية، لأنها لا تمتلك قرارها المستقل، وتعشعش في قياداتها الشخصيات الانتهازية والمتسلقة والخائنة. وعلى كل الشرفاء الوطنيين من أعضاء اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض والائتلاف أن يستقيلوا فورًا، ويعملوا مع السوريين المستقلين لتشكيل جسم سياسي معارض جديد مستقل، وأن يكون خطابهم وأجندتهم منسجمة مع متطلبات الحالة السياسية والاقتصادية والأمنية في سورية، وخاصة ضرورة الاستمرار في العمل من أجل إسقاط نظام العصابة الأسدية والعمل على تحرير سورية من كل الاحتلالات.
هل تعتقدون أنّ الحلّ يكمن في تعديل الدستور؟ وما الخطوات التي يجب اتباعها للوصول إلى دستور جامع لكل الأطراف المتنازعة؟ وهل من الممكن أن نشاهد دستورًا سوريًا يحفظ نفوذ الدول أو فدراليًا يحمي مصالحها؟
الكل مقتنع بأنّ المشكلة في سورية ليست مشكلة دستور، بقدر ما هي في إمكانية وطريقة تطبيقه؛ فالدساتير السورية السابقة كانت تحتوي مواد مرفوضة مثل “المادة الثامنة” التي تقضي بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، ولكن حتى المواد الأخرى المقبولة لم تطبّق، وعاشت البلاد في حالة طوارئ على مدى خمسين عامًا، أي بلا قانون، وبعد إلغاء “المادة الثامنة” وإلغاء قانون حالة الطوارئ، أصبح الوضع أسوأ، ويؤكد ذلك ما شهدناه خلال العشر سنوات الماضية من جرائم وإبادة للشعب السوري وتهجير قسري واعتقالات وقتل وتدمير للبلاد والمجتمع والتشدق بشرعية النظام. فعن أي دستور نتحدث، في ظل هيمنة أجهزة استخبارات تمارس أبشع الجرائم بحق السوريين؟
الدستور الديمقراطي العصري المطلوب يمكن وضعه فقط في ظل حكومة وطنية حقيقية، وفي ظروف آمنة، وفي ظل استقرار نسبي في سورية، أي أنّ الدستور وما يتبعه من انتخابات يجب أن يكون حاصل تحصيل بعد التغيير السياسي لا قبله. ولا يمكن للدستور أن يكون أداة للتغيير، ما دام الأسد في السلطة. الدستور الحقيقي لسورية الجديدة يجب أن يتضمن حقوق الأفراد والجماعات، وأن تكون الدولة الجديدة هي دولة مواطنة وسيادة القانون، وسورية يجب أن تكون موحدة أرضًا وشعبًا، وأن تكون هناك لامركزية إدارية واسعة، تمكن المحافظات من الاستفادة من خيراتها ومن إدارة شؤونها المحلية بمشاركة أبنائها، ولا يعقل مثلًا أن يكون المحافظ من مدينة أخرى من خارج المحافظة، ولا يعقل لمحافظة مثل الحسكة -وهي خزان الثروة الوطنية السوري من النفط والغاز والثروة الحيوانية والزراعية- أن تكون منطقة مهملة ومهمشة. أما الفدرالية في سورية، فهي شعار فارغ، أو لنقل هو حق يراد به باطل. حيث لا توجد مقومات للفدرالية، فعلى أي أساس تقوم في سورية؟ هل على أساس قومي أم ديني أم طائفي؟ لدينا وجود كردي في الجزيرة وبعض المدن السورية، ولكن لا يسمح بتكوين “إدارة ذاتية قومية” لتداخل التركيبة الاجتماعية. ففي الجزيرة، مثلًا، يشكّل الأكراد ثلث السكان والباقي عرب وسريان، والقرار حول شكل الإدارة مستقبلًا يجب أن يترك للشعب بعد الانتهاء من حكم الأسد وعصابته.
ما خفايا الخلافات في هيئة المفاوضات العليا واللجنة الدستورية، بعد اعتراض منصتي موسكو والقاهرة؟ وما الرسالة التي أرادها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من استقبال ممثّلين عن المنصتين في الآونة الأخيرة؟
منصتا القاهرة وموسكو، مع الأسف، لعبتا منذ تأسيسهما دورًا معطلًا ومعوقًا لأي موقف وطني حقيقي معارض للنظام، فهما مرتبطتان بمواقف دول حليفة للنظام أو ليست على عداء معه، وهذا واضح من تصريحات العديد من ممثّلي تلك المنصات ومن مواقفهم السياسية الملتبسة من أهداف الثورة. وعملت روسيا وإيران منذ بداية الثورة على تشتيت المعارضة السياسية السورية، ووضعها أمام خيارين: إما إضعافها وإجبارها على الانصياع لمواقف النظام وإما اتّهامها بأنها غير موحدة واعتبارها غير جديرة بتمثيل كل السوريين. علمًا أنّ مشكلة الشعب السوري هي مع النظام القائم على العنف والقتل والاعتقال وارتكاب الجرائم بحق كل من ينتقده. فالثورة قام بها أبناء الشعب السوري، وأغلبهم غير مسيسين ولا ينتمون إلى أحزاب معارضة، ولم يتصدروا لاحقًا مناصب قيادية في المعارضة، والصراع هو بين الشعب وقواه الوطنية من جهة، وبين نظام سياسي استبدادي أمني طائفي فاسد، أما فصائل المعارضة وهي كثيرة، وكذا كلّ المنصات، فهي بالحقيقة لا تمثل إلا نفسها، وفي أغلب الأحيان لا تمثل حتى نفسها بل داعميها. فحتى الائتلاف الوطني الذي حظي باعتراف دولي بأنه الممثّل للشعب السوري فقَد فورًا هذه الصفة، وأصبح يمثّل إرادات الدول الداعمة ولم تعد له صلة بالشعب السوري.
وفي الآونة الأخيرة، شهدنا صراعًا داخل منصة القاهرة، والهدف منه كان هو حسابات شخصية وصراعات من أجل المناصب وتمرير مواقف سياسية قد تكون لها علاقة بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية في سورية في صيف هذا العام. ولا ننسى أن الائتلاف نفسه حاول الترويج لموضوع المشاركة في الانتخابات المزعومة، من خلال تشكيل مفوضية عليا للانتخابات، وكان القرار خطيرًا ومفضوحًا ويعبّر عن توجه في الائتلاف لخوض مسرحية الانتخابات الهزيلة، ثم الانخراط بعدها في حكومة تدعي أنها وطنية وائتلافية تحت قيادة الأسد ومخابراته، وبذلك فهم يوجهون ضربة للثورة السورية في قلبها. ولكن الانتقادات الشعبية الواسعة أجبرت الائتلاف على التراجع. وبالطبع، أعضاء منصة موسكو والقاهرة مثل قدري جميل وخالد المحاميد وجمال سليمان ومعهم تيار الغد وجبهة السلام والحرية بقيادة أحمد الجربا، هم من الموالين للموقف السياسي لموسكو، ويستقبلهم الوزير لافروف بكل ترحاب وسرور، حتى إنه وصف الجربا ذات مرة بأنه “شخصية وطنية”! هؤلاء لا يمتّون إلى الثورة السورية بشيء، بل إنهم أقرب للثورة المضادة. وقد تسربت في الآونة الأخيرة أخبار تفيد بأنّ موسكو تسعى لتأسيس حكومة “وطنية” برئاسة قدري جميل -زلمة موسكو والنظام- وسيُشركون في الحكومة شخصيات من المعارضة المزيفة (من المنصات المختلفة) ويعلنون للعالم أنّ بشار الأسد قام بتغيير سياسي. وكلها كذبة ومسرحية مفضوحة والتفاف على قضية الشعب السوري ومطالبته بتغيير سياسي جذري وبناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية.
كيف تفسّرون قدرة المجتمع الدولي على صياغة وإنتاج بيان “جنيف1″، وأنه على الرغم من كل هذه السنوات والمؤتمرات اللاحقة يبدو عاجزًا عن تنفيذه؟
يجب أن نتذكر أنّ قرارات “جنيف1” صدرت في عام 2012، حين كانت المعارضة والفصائل المسلحة متفوقة على النظام، وأراد الروس والمجتمع الدولي إجراء حلّ وسط، لكيلا تنتصر الثورة. ثم أنّ قرارات “جنيف1” صيغت بطريقة ضبابية، حيث لم يُحدد بالضبط مصير الأسد. ومضى على تلك القرارات حوالي تسع سنوات، تغيّرت خلالها الخارطة السياسية والميدانية كثيرًا. لذلك لم يعد أحد من العالم، ومعهم أغلب المعارضين السوريين، يتحدثون عن تلك القرارات، بل يذكرون قرار مجلس الأمن (2254) لعام 2015، وهو مخفف عن قرارات “جنيف1″، وتعمل موسكو وقوى عالمية وإقليمية لتجاوز القرار (2254) معتبرين أنه أصبح قديمًا. وقد صرح بذلك مسؤول في قاعدة حميميم، في الآونة الأخيرة، بقوله: “إنّ روسيا ستتصرف على ضوء الواقع، ولم تعد القرارات الدولية مقياسًا لنا”. وسمعتُ من أحد الخبراء الروس منذ أيام بأن موسكو اليوم تفكر في وصفات سياسية جديدة، وأنّ القرار (2254) أصبح قديمًا، ولم يعد يصلح للظروف الحالية، حيث مرّ على صدوره حوالي خمس سنوات تغيّرت فيها موازين القوى، وخاصة بعد التدخل العسكري الروسي في عام 2015، ودعمه للنظام وتمكينه من استعادة مساحات واسعة كان قد تم تحريرها من قبل قوى المعارضة المسلحة. وأنا على ثقة بأنّ هناك قوى ودولًا مؤثرة، عالمًيا وإقليميًا، منها دول عربية، ليست اليوم ضد إصدار قرار دولي جديد يناسب الظروف الجديدة، ويهدر حق الشعب السوري وتضحياته الكبيرة. باختصار: المجتمع الدولي لم يكن يومًا مقتنعًا بتطبيق القرارات الدولية، ولم يفكر في إجبار الأسد على تلبية طموحات السوريين في التغيير والحرية وبناء الدولة المدنية لكي تصبح لكل السوريين لا لعائلة أو فئة.
السعوديون أضاعوا الفرصة الذهبية في إيقاف الزحف الإيراني
بالرغم من وجود خروقات، ما يزال اتفاق إدلب ساريًّا، فهل ترجّحون استمرار الهدنة في ظل الحديث عن عملية عسكرية واسعة لنظام الأسد وحلفائه في الشمال السوري؟
الخروقات كلّها تُدار بـ “الريموت كونترول”؛ فالدول الضامنة هي من يدير الوضع في إدلب وحولها. فعندما يريدون تمرير موقف سياسي معين تراهم يُصعّدون، وفي أحيان أخرى يخففون التصعيد. ولا ننسى أنّ الإدارة الأميركية هي الحاضر الغائب في إدلب، من خلال تركيا وروسيا. لذلك من مصلحة تركيا الالتزام بالاتفاقية الموقعة مع روسيا في الخامس من آذار/ مارس 2020، بحيث تُبقي وضع إدلب ورقة بيدها، بينما روسيا ترغب في إنهاء وضع إدلب وإعادته لسيطرة النظام. ولكن الأمر يصطدم بالموقف التركي. ولا أستبعد حدوث صفقة تركية روسية تنهي وضع إدلب وتعيدها للنظام، مقابل حصول تركيا على مكاسب ضد (قسد) في شمال شرقي سورية. ولكن ذلك لا يمكن أن يحدث من دون مباركة أميركية وإسرائيلية. أما النظام فلديه رغبة كبيرة، ومعه إيران، في القيام بعمل عسكري في إدلب، ولكن تركيا وروسيا المرتبطتين بمصالح كبرى وتعاون إستراتيجي لا تريدان التفريط بتلك العلاقات من أجل إدلب. وما جرى من تقارب في المواقف الروسية والتركية حول ليبيا يؤكد تغليب مصالحهما الثنائية على الملفات الإقليمية.
ما طبيعة الدور التركي في المفاوضات حول إدلب؟ ولماذا تستمر التعزيزات العسكرية التركية في الدخول إلى إدلب؟ وهل من الممكن أن تتخلى أنقرة عن دعم الفصائل أو تسحب نقاطها في إدلب تحت أي سبب من الأسباب؟
الحقيقة أنّ الموقف التركي بدأ يتغير منذ سقوط حلب الكارثي للثورة في نهاية 2016، وبدأت تركيا، تحت تأثير ضغوطات خارجية أميركية أوروبية إقليمية وداخلية سياسية واقتصادية، تغيّر مواقفها من الملف السوري وبدأت تقترب من المواقف الروسية وتعمق العلاقات مع روسيا، بحيث أصبحت توصف بأنها إستراتيجية (وتجسد ذلك في تزويد تركيا بمنظومة صواريخ إس-400 وبناء محطة كهرونووية، وتمديد خطين لأنابيب الغاز الروسي إلى تركيا وعبرها الى جنوب أوروبا). وانخرطت تركيا في مسار موازٍ وبديل لمفاوضات جنيف، عرف بمفاوضات آستانا، ادّعوا بداية أنها تهتم بالجانب العسكري فقط، وبالفعل تم استخدامها من خلال اتفاقية مناطق خفض التصعيد الأربعة، التي نتج عنها استعادة مساحات واسعة لصالح النظام، بدعم عسكري روسي وإيراني مباشر، وتطورت مفاوضات آستانا لاحقًا إلى مسار سياسي بامتياز، بمشاركة الدول الثلاثة الضامنة (حاميها حراميها) في سوتشي.
من الصعب أن تتخلى تركيا عن إدلب، لأنها تهدد مصالحها الجيوسياسية وتفقدها ورقة قوية ضد روسيا والنظام و(قسد) معهما. أما عن المعارضة، بشكل عام، فيمكن أن تتخلى من أجل مصالحها وأمنها القومي. وهي الآن تستخدم المعارضين المسلحين وترسلهم إلى القتال كمرتزقة في ليبيا وإقليم “قره باخ”. وقد يحدث ذلك بأن تتفق موسكو وواشنطن مع تركيا على صفقة ضد ميليشيات (قسد) المأجورة، التي تفرض سيطرتها على الجزيرة وشرقي الفرات مدعومة من أميركا وبرضى روسي.
هل من الممكن أن يعود محور السعودية لدعم المعارضة السورية من جديد، ماليًا وعسكريًا، لمواجهة إيران في سورية بعد التماهي وضعف القرار الأميركي في مواجهة نظام الملالي في طهران؟
أعتقد أن القطار قد فات، لقد تأخرت المملكة العربية السعودية في دعم المعارضة السورية ضدّ إيران، وأضاعت الفرصة الذهبية في إيقاف الزحف الإيراني، في السنوات الأولى للثورة، عندما كانت الظروف مناسبة جدًا لوقف التغلغل الفارسي الشيعي في المجتمع السوري وتوسيع هيمنته في الاقتصاد وداخل الجيش والأمن، من خلال التشييع وتأسيس ميليشيات مسلحة مثل (حزب الله) السوري وغيره. الآن، هذه المهمة صعبة ومكلفة. ومع ذلك لو قررت السعودية التعاون مع أميركا وتركيا، لاستطاعوا زعزعة الدور الإيراني. ولكن ما شهدناه في السنوات العشر الماضية هو أن المملكة ومعها الإمارات، بدلًا من أن تتعاون مع تركيا للحدّ من نشاط الميليشيات الأجنبية، ومنها (قسد) الانفصالية الموجهة ضد العرب، قامت بدعم قوات (قسد) التي تنشر خرائط في الكتب المدرسية تظهر فيها خريطة كردستان سورية، وهي تشمل 40 % من مساحة سورية. وأتمنى أن تعيد السعودية وغيرها من دول الخليج الغنية دعم الفصائل الوطنية السورية من دون شروط، في كفاحها التحريري، لإخراج كل المحتلين من دول وميليشيات وإسقاط عصابة الأسد التي تتحمل مسؤولية أساسية عن الدمار والكوارث في سورية. وأعتقد أن من يعدّ نظام الملالي خطرًا عليه، وهذا صحيح، عليه أن يحارب الوجود الإيراني والتدخل في لبنان واليمن والعراق وسورية وفلسطين، وهذا يوجب الانحياز إلى جانب الشعوب، والعمل من خلالها، لا استخدام الأساليب الأمنية أو تقديم المال فقط والتحكم في قيادات المعارضة.
نظام الملالي في طهران اليوم هو العدو المشترك للشعوب في إيران والمنطقة العربية وفي الشرق الأوسط عمومًا، وتجب مجابهته بتعاون جماعي، مثلما يجب الوقوف بوجه الاحتلال الصهيوني ودعم الأشقاء الفلسطينيين. فإيران ليست تلك الدولة القوية بقدر ما أنّ الدول العربية هي الضعيفة. ويبدو أنّ إسرائيل أكبر المستفيدين من الدور الإيراني في المنطقة الذي يخلق الحروب والميليشيات المسلحة ونشر النعرة الطائفية. ومن مصلحة السعودية ودول الخليج اليوم، دعمُ القوى الوطنية السورية المستقلة لتمثيل مصالح الشعب السوري من دون إملاءات خارجية والتحكم في قرارها، كما يحدث الآن، إذ تسبب ذلك في إخراج المعارضة من معادلة الصراع الداخلي، بحيث أصبحت قياداتها تنفذ تعليمات الداعمين وأجنداتهم. أما الشعب السوري فله الله.
ما مدى صحة التقارير الغربية والأميركية التي تشير إلى تواطؤ روسي مع حكومة بنيامين نتنياهو، لإنهاء الوجود العسكري الإيراني وأذرعه من ميليشيات طائفية، ولا سيّما بعد الضربات الجوية الأخيرة غير المسبوقة على مواقع إيرانية في دير الزور ومحيطها؟ خاصة أننا نعلم أنّ اجتماعًا لمسؤولي الأمن القومي: الإسرائيلي مئير بن شبات، والأميركي جون بولتون، والروسي نيقولاي پاتروشيڤ، ناقش هذه المسألة في حزيران/ يونيو 2019، في القدس المحتلة؟
أولًا، نذكّر بما قاله وزير الخارجية الروسي حول إسرائيل: “إنّ أمن دولة إسرائيل أولوية رقم واحد لروسيا”، وهذا مثل الموقف الأميركي من أمن دولة إسرائيل. ثم أنّ اللوبيّ اليهودي مؤثر جدًا في روسيا، وهناك أكثر من مليون يهودي من أصول روسية مقيمين في إسرائيل، إضافة إلى أنّ لموسكو علاقات طيبة جدًا مع الجاليات اليهودية في أميركا وأوروبا. لذلك توطدت العلاقات الشخصية بين بوتين ونتنياهو، وتجسّد ذلك في الموقف من سورية، حيث دافعت موسكو عن نظام الأسد بكل ما تستطيع، واتفقت بذلك مع الموقف الإسرائيلي من نظام الأسد الأب والابن، الذي خدم إسرائيل على مدى أربعين عامًا وحمى حدودها. ولن تنسى الأجيال العربية كيف باع حافظ الأسد الجولان لإسرائيل. ونذكّر أيضًا أنّ بوتين زار إسرائيل بعد اندلاع الثورة السورية بأشهر، والتقى نتنياهو، ويبدو أنهم اتفقوا على موقف موحد من النظام السوري. وعقدت قمة أمنية رفيعة روسية أميركية إسرائيلية في صيف 2019، وحسب التسريبات الإسرائيلية فإنّ تلك القمة وضعت النقاط على الحروف، وكلفت موسكو بالإشراف على النظام السياسي في سورية بشرطين: حماية أمن دولة إسرائيل أولًا، وإزاحة إيران من سورية ثانيًا. والضربات الجوية الإسرائيلية المستمرة ضد مواقع عسكرية إيرانية ومواقع لنظام الأسد تؤكد أنّ روسيا تنسق مواقفها مع إسرائيل، وتغض النظر عن تلك الضربات الجوية والصاروخية، بالرغم من أنّ أسلحة روسية متقدمة موجودة في قاعدة حميميم في سورية، مثل منظومة صواريخ “إس-400” وطائرات حربية متطورة. ولفهم العلاقات الروسية الإسرائيلية أكثر، نورد مقارنة بين حادثتين: الأولى إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية عام 2015، وكيف كانت ردة الفعل الروسية قاسية، حيث جمّدت علاقاتها بالكامل مع تركيا لمدة سنة تقريبًا، والحادثة الثانية عندما قامت إسرائيل فوق الأجواء السورية بقصف طائرة روسية استطلاعية مجهزة بأحدث الأجهزة والمعدات الاستخباراتية، وعلى متنها نخبة من أفضل الخبراء العسكريين الروس، حيث لم يستمر الخلاف بين البلدين أكثر من شهر واحد.
إعادة بناء البيت الثوري السوري
ما رأيكم في من يرى أنّ قانون “قيصر” سيقصّر لعبة تكاسر الإرادات بين الولايات المتحدة وروسيا، وسيجلب الروس إلى مفاوضات مع الغرب، عاجلًا أم آجلًا. وأنّ “الروس سيجدون أنفسهم مجبرين على جلب النظام إلى تسوية سياسية أو التخلي عنه”؟
قانون “قيصر” مهم وإيجابي، وقد جاء نتيجة جهود وطنية لأبناء الجالية السورية الأميركية استمرت سنوات، وهو يشكل ضغطًا على النظام وحلفائه، لكنه -مع الأسف- لن يغير النظام في سورية، ولن يوقف الدعم الروسي والإيراني له. في البداية، تجاهل الروس قانون “قيصر” ولم يعطوه أهمية، لكنهم بعد مرور أشهر بدؤوا يتحسسون خطر القانون الذي أرعب العديد من الشركات الروسية ومنعها من العمل في سورية تجنبًا للعقوبات الأميركية المحتملة. علمًا أن هناك شركات روسية هي أصلًا موضوعة على قائمة العقوبات الأميركية، ولن تتأثر أكثر بدخولها إلى سورية. وتوجد حزمة هائلة من العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا ضد الشركات النفطية وشركات الأسلحة، وعلى كبار المسؤولين الروس ورجال الأعمال المقربين من الرئيس بوتين، وقد شملت العقوبات المصارف الروسية، وكل ذلك بسبب ضم روسيا لجزيرة القرم، والتدخل العسكري في أوكرانيا عام 2014. ومع ذلك، لم تتغيّر السياسة الروسية. فالأنظمة الشمولية لا تهمها العقوبات عليها، لأنّ الذي يدفع الثمن هو الشعب لا النخب الحاكمة. والتسوية السياسية أو الحلّ السياسي في سورية هو رهن بالتفاهم الأميركي-الروسي، والاتفاق مع أطراف إقليمية مهمة مثل تركيا، وإجبار إيران على الخروج من سورية. وإلى اليوم، لا نلاحظ وجود إرادة سياسية لدى الدول الكبرى لإخراج سورية من مستنقع الظلم والخوف والإرهاب والجوع.. إلخ. إنّ كل قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية المزعومة في المجتمع الغربي تتحطم أمام مأساة السوريين، حيث نشهد تجاهلًا لطموحاتهم المشروعة في العيش الكريم في ظلّ دولة القانون.
مرور عشر سنوات على ثورة السوريين يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف تقوّمون الثورة اليوم؟ أما يزال هناك إمكانية للحديث عن ثورة شعب في بلدٍ تحوّل إلى مقاطعات مسلحة؟
الثورة السورية هي ثورة شعب من أجل مستقبل أفضل لأبنائه، ومن أجل الحرية والكرامة، لأنّ النظام سلب هذا الشعب بكل مكوّناته أبسط الحقوق والحريات الإنسانية والمدنية. والثورة انطلقت سلمية وشعبية ووطنية بامتياز، لكن خطط النظام، ومن دعمه من دول وأجهزة استخبارات، أسهمت في أسلمة الثورة وعسكرتها وحرفها عن مسارها السلمي الشعبي، بحيث انقلبت الأمور إلى صراع مسلّح، قاده في البداية الجيش السوري الحرّ وحقق انتصارات هائلة، حيث حرر ثلثي سورية، وكان تشكيلة عسكرية وطنية غير دينية، ولكنه ضُرب بقوى التطرف والجهاد الإسلامي المزيفين الذين دعمتهم أطراف في المعارضة، وهكذا غاب الصوت الوطني الديمقراطي، سياسيًا وعسكريًا، وهيمن تجار الحروب والأمراء الذين باعوا الثورة مثل “جيش الإسلام” وأمثاله، حيث طعنوا الثورة في ظهرها. والأكثر من ذلك أنّ الدول العربية والإقليمية والدولية اتخذت مواقف متخاذلة أو شجعت ودعمت ميليشيات وقوى مضادة للثورة. ومن جهة أخرى، أغلب من تصدر المشهد السياسي المعارض كانوا من المتسلقين أو الفاشلين أو المخترقين، وحوّلوا هياكل المعارضة إلى مكاتب مأجورة تعمل لمصلحة الداعمين والممولين. وبهذه المناسبة، نتساءل: ما المغزى من تأسيس الائتلاف الوطني الذي تم حشوه بكتل وشخصيات لا يعرفها أحد، منها بدأ الارتهان للخارج.
كنتُ أحد المشاركين في اجتماع المجلس الوطني السوري في الدوحة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وشهدت بنفسي على إعلان مبادرة رياض سيف وكلامه المعسول بأنّ عشرة وزراء خارجية دول قالوا له: “نبصم لك على ورق أبيض بأننا سنقدم لكم كل الدعم المطلوب”، ولكن وافقوا على تشكيل جسم سياسي جديد، بدلًا من المجلس الوطني. وأذكر أنني ناقشت فكرة المبادرة وانتقدتها، مثل أغلبية أعضاء المجلس الوطني، ولكن الإخوان المسلمين كانوا معها منذ البداية، وتم شراء ذمم قيادة المجلس الوطني السوري، وقد قالها أحد أعضاء المكتب التنفيذي أمامي أنّ دولة عربية دفعت لهم مبلغ 5 مليون دولار لكي يوافقوا على تأسيس الائتلاف. والغريب أنهم عندما ذهبوا إلى المصرف لإيداع المبلغ، وجدوا أحمد الجربا أمامهم، علمًا أنه لم يكن له علاقة بالمجلس الوطني. وهذا يعني أن كل ذلك لعبٌ وخطط لا علاقة للشعب السوري بها. واليوم، تأكدنا أنّ قيادات المعارضة لم تكن مخلصة ووفية لقضية الشعب السوري، بل اهتمت بأمورها الخاصة وأجنداتها الحزبية والارتهان للخارج، وفرطت ببطولات الشعب السوري الذي قدّم أغلى التضحيات. ومع الأسف أجهِضت الثورة لأنها لم تتوفق بقيادات وطنية حقيقية. كما أنّ الأحزاب التقليدية الديمقراطية المعارضة أظهرت عجزها عن مواكبة الثورة، ورضيت قياداتها بأن تبقى أحزابها في مؤخرة القطار. والقوى السياسية الجديدة لم تكتسب الخبرة والوعي السياسي لتقود الثورة، إضافة إلى بطش النظام الأسدي وتصفية الناشطين الشباب. ولم تكن هناك خطة إستراتيجية للثورة، لكي يتفق الناس على عمل موحد في المجالات السياسية والعسكرية والإعلامية والمدنية. لذلك حصلت فوضى سياسية وإعلامية، ولم تتمكن قوى المعارضة من إيجاد خطاب إعلامي موحّد مطمئن للسوريين كلهم. وأخطر ما في الثورة هو اندساس أهل اللحى بين الثوار، وهيمنتهم على الفصائل المسلحة، ونشرهم للتعصّب والنعرة الطائفية، وأراد النظام ذلك وطبقه عمليًا. لقد سُرقت الثورة السورية، ونحن جميعًا نتحمل مسؤولية ذلك. ولكن الثورة لم تمُت، وجذوتها موجودة في وجدان وقلوب الأحرار، لأنها نادت بشعارات إنسانية كبرى، وشارك فيها ملايين السوريين، حيث أُسقطت سمعة النظام وكُسر حاجز الخوف والصمت، وذاق السوريون طعم الحرية والتحرر من هيمنة عصابة الأسد ومخابراته. ولن تعود سورية كما كانت قبل 2011. ولا بدّ من حصول تغيير، عاجلًا أم آجلًا. ومن واجب النخب الوطنية المستقلة من مثقفين وناشطين أن يتجمعوا حول هدف أساسي، وهو التغيير الوطني الديمقراطي ورحيل الأسد، فلا مستقبل لسورية مع بقاء هذا النظام. ومن واجبنا إيصال هذه الرسالة إلى المجتمع الدولي، على أن يترافق ذلك بنشاط عملي للسوريين في بناء جبهة وطنية عريضة، ترفع صوت السوريين المستقلين الملتزمين بمبادئ الثورة. لم يعد هناك أي أمل في هياكل المعارضة، مثل الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، يجب حلها جميعًا والبدء من جديد بأخذ العبر من أخطائها. هذه الهياكل المعارضة أصبحت كالورم على جسم الثورة، ويجب التخلص منها بتشكيل بدائل وطنية حقيقية مستقلة. والشعب السوري الذي قام بأعظم ثورة أصبح يميّز، بعد عشر سنوات، الصديق من العدو، وهو اليوم بالرغم من الجراح والمعاناة قادرٌ على إحياء الثورة، لأن أسبابها ما زالت قائمة.
سؤالنا الأخير؛ أيّ مستقبل ينتظره السوريون في ظلّ تعقيدات المشهد السياسي والعسكري الراهن؟
يبدو أنّ مسار الأحداث في سورية، بعدما هيمنت عليه الدول والقوى الخارجية وأسهمت فيه قوى المعارضة العتيدة، أوصلنا إلى حالة مزرية، وهي إبعاد السوريين عن المشاركة الفعلية في تقرير مصيرهم. اليوم يقف السوريون أمام تحدٍّ مصيري؛ إما الاستمرار في السلبية ومراقبة ما يجري من تقرير لمصيرهم، وقد يكون أمرًا خطيرًا يصل إلى حد تقسيم سورية، وإما العمل على استعادة المبادرة وزمام الأمور. ومن الواضح أن الدول التي اختطفت المشهد السوري لا تريد حلّ المشكلة، بل هي جميعًا تدير الأزمة، وتنتظر تحوّل سورية إلى دولة فاشلة تمامًا، لكي تفرض حلولها وأجنداتها، التي على الأرجح لن تلبّي مطالب السوريين المشروعة.
يبدو لي أننا بحاجة إلى معجزة لإنقاذ سورية، وذلك بأن تتوفر فرصة، وينهض السوريون من بين الأنقاض ويُسمعون صوتهم للعالم، فلا يُعقل أن تذهب سدًى تلك الدماء الطاهرة دفاعًا عن الحرية. اقترحتُ أكثر من مرة أننا بحاجة إلى مجموعة وطنية نزيهة مستقلة، تقود العمل الوطني وتعيد بناء البيت الثوري السوري، بمساعدة مئات وآلاف من الشرفاء. ولكن النخب الواعية والمثقفة والمستقلة، مع الأسف، ما زالت غير قادرة، أو أنها لا تملك الإرادة، أو تخشى من تصدر المشهد والفشل. وبالرغم من كلّ ما جرى في السنوات العشر الأخيرة، من جوانب سلبية في مسيرة الثورة، فإني متفائلٌ وأنا على ثقة بمستقبل أفضل لسورية. ولن تستمر عصابة آل الأسد في اغتصاب البلاد وجعلها مزرعةً لهم؛ فعجلة التاريخ تسير إلى الأمام، ولم نشهد دكتاتورًا بقي إلى الأبد.
مركز حرمون