ميشال شماس: ما تحقق اليوم في “كوبلنز” بعث برسالة قوية لكل المجرمين
أول حكم قضائي في العالم يتعلق بالجرائم التي ارتكبها نظام الأسد
محمد ديبو
بتهمة “جرائم ضد الإنسانية”، وفي حكم تاريخي غير مسبوق، أصدرت في ٢٤ فبراير ٢٠٢١ المحكمة الإقليمية العليا في بلدة كوبلنز جنوب غربي ألمانيا حكمها بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة على عنصر المخابرات العامة السورية، إياد الغريب، وذلك على خلفية ما بات يعرف بقضية عناصر المخابرات السورية المتهمين بالمسؤولية عن “جرائم وانتهاكات” نُفذت في مراكز اعتقال تابعة للنظام السوري بدمشق. للوقوف على طبيعة هذا الحكم وخلفياته والآثار االمترتبة عليه، أجرت حكاية ما انحكت حوارا مع المحامي والناشط الحقوقي ميشال شماس للوقوف على طبيعة هذا الحكم وخلفياته والآثار االمترتبة عليه.
رئيس تحرير موقع حكاية ما انحكت (النسخة العربية). باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها.
بتهمة “جرائم ضد الإنسانية”، وفي حكم تاريخي غير مسبوق، أصدرت في ٢٤ فبراير ٢٠٢١ المحكمة الإقليمية العليا في بلدة كوبلنز جنوب غربي ألمانيا حكمها بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة على المساعد السابق في المخابرات العامة السورية، إياد الغريب، وذلك على خلفية ما بات يعرف بقضية عناصر المخابرات السورية المتهمين بالمسؤولية عن “جرائم وانتهاكات” نُفذت في مراكز اعتقال تابعة للنظام السوري بدمشق.
للوقوف على طبيعة هذا الحكم وخلفياته والآثار االمترتبة عليه، أجرت حكاية ما انحكت حوارا مع المحامي والناشط الحقوقي ميشال شماس.
(1): أولا أستاذ ميشيل دعني أبارك لكم هذا الإنجاز الذي تحقّق في درب العدالة الطويل للشعب السوري، وثانيا دعني أسألك: ماذا يعني هذا لك على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام كونك ناشطا حقوقيا في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المعتقلين؟
شكراً جزيلاً على هذه التهنئة، وهي تهنئة مشتركة لنا ولكم ولجميع من يناضل في سبيل الحرية والكرامة، ولاسيما للضحايا الذين عانوا من التعذيب والموت والذين يعانون حتى الآن من سطوة الجلادين في معتقلات الأسد والميلشيات المسلحة.صحيح إن ما تحقق اليوم هو مجرد خطوة صغيرة في طريق طويل لتحقيق العدالة في سوريا، ولكنها تبقى خطوة مهمة، وتحققت هذه الخطوة بعد أن وجدنا أبواب مجلس الأمن مقفلة أمامنا بفعل الفيتو الروسي الذي عطّل ومازال يعطّل كل محاولاتنا لإحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية. هذا الحكم هو ثمرة نضال امتد لسنوات، وهذه الخطوة الصغيرة التي تحققت اليوم أعطتنا الأمل بإمكانية فعل شيء حتى في أسوأ الظروف إذا ما أحسنا العمل.
(2): هل يمكن أن تضعنا في حيثيات المحاكمة والحكم؟ كيف كانت؟ كيف تحققت هذه العدالة؟ وكيف ترى الحكم؟ هل تراه عادلا؟
كما قلت لكم، ما تحقق اليوم هو مجرد خطوة على طريق الألف ميل باتجاه تحقيق العدالة لكل السوريين، واحتاج الأمر للوصول إلى هذه المحاكمة التاريخية التي تجري لأول مرة في العالم بحق مرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية إلى جهود مشتركة بين المحامين ونشطاء حقوق الانسان من السوريات والسوريين، وبتعاون ودعم كبير من بعض المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان، وفي مقدمها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الانسان في ألمانيا. هذه الجهود امتدت إلى عدة سنوات سابقة لهذه المحاكمة ومازالت مستمرة، وقد تطلب ذلك إلى البحث المضني عن الأدلة والشهود والتواصل مع الضحايا من اللاجئين السوريين المتواجدين في الدول الاوربية وحثهم وتشجيعهم على تقديم ما لديهم من أدلة والاستماع إلى شهاداتهم، وهذه العملية تحتاج الى بذل مجهودات كبيرة ومصاريف أيضا، ففي كثير من الأحيان، نضطر إلى السفر لمسافات بعيدة من أجل التواصل مع الضحايا في أماكن سكنهم، ومن أجل الاستماع شخصياً إلى شهادات الضحايا وتوثيقها. وبعد ذلك يتم تقييم مدى أهمية هذه الشهادة وفائدتها في المحاكمة، وفي النهاية ننصح ونشجع الضحايا بتقديم شهاداتهم للسلطات المختصة في هذه القضية المعروضة أو تلك.
وقد استمعت المحكمة إلى عشرات الشهود الذين كان لهم الفضل في الوصول إلى هذه المحاكمة وهذا الحكم، فلولا شهادتهم لما كان صدر مثل هذا الحكم الذي يعتبر عادلاً في ظل الظروف والحيثيات الأدلة التي توفرت خلال سير المحاكمة.
(3): ما هي الآثار المترتبة على الحكم، سواء لجهة الأمل أو لجهة إجراءات العدالة في قضايا أخرى أو على الصعيد العام؟
مجرد صدور هكذا حكم، وبصرف النظر عن شخصية المحكوم عليه ووظيفته، فإنه قد أعطى أملاً بإمكانية ملاحقة كل الجناة بمن فيهم كبير المجرمين بشار الأسد، وصدور هذا الحكم سينعكس إيجابياً على كل القضايا الأخرى المنظورة أمام الجهات القضائية المختصة في فرنسا والنمسا والسويد والنروج واسبانيا وسويسرا، والتي نأمل منها تسريع النظر بالقضايا المنظورة لديها، والتي تتعلق بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وإصدار مذكرات توقيف فيها.كما نأمل أن تقرر الدول الأوربية التي تؤمن بقضايا حقوق الانسان ومبادئ العدالة بوضع هؤلاء المجرمين ومنظومتهم الإجرامية وإجرامهم خارج إي إطار سياسي أو تفاوضي أو تعامل مستقبلي. وأن تفتح بقية الدول الاوربية الأخرى أبواب محاكمها أمام الضحايا من السوريات والسوريين المتواجدين على أراضيها باللجوء إليها كما هو حاصل الآن في ألمانيا.
(4): هناك من الجمهور السوري من يتساءل ويقول: ما فائدة محاكمة الرتب الصغيرة في نظام الدكتاتورية؟ ولم لا يتم التركيز على محاكمة المجرمين الكبار، بدءا من الدكتاتور الأسد إلى رؤساء الأجهزة الأمنية؟
للأسف من يقول ذلك هو يريد التشكيك في كل ما نقوم به، وهو لا يريد أن يرى الجهود التي نقوم بها، ولو أنه تابع جيداً ما نقوم به لا كتشف بسهولة أن أول خطوة قمنا بها في مجال ملاحقة المجرمين، هي ملاحقة كبار المجرمين في سورية بمن فيهم رأس النظام. وللتوضيح أكثر فقد ساهمنا في تكوين أكثر من سبعة قضايا منذ العام 2016 ضد أكثر من ستين مسؤولاً في نظام الأسد وفي مقدمهم بشار الأسد وشقيقه ماهر، وهذه القضايا قدمت للسلطات القضائية في عدد من الدول الأوربية، منها أربعة قضايا في ألمانيا وواحدة في كل من فرنسا والنمسا والسويد والنرويج، وهناك أيضاً دعوى مقامة في سويسرا ضد رفعت الأسد بتهم ارتكاب مجازر في حماه في ثمانيات القرن الماضي. وقد صدرت مذكرات توقيف دولية بحق رئيس إدارة المخابرات الجوية السابق اللواء جميل حسن، ورئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ورئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية العميد عبد السلام محمود. كما أن هناك مذكرات توقيف دولية أخرى صدرت لكن لم يُعلن عنها وأرسلت للإنتربول الدولي لتنفيذها. كما تناسوا أيضاً قضية توقيف الطبيب السوري علاء موسى في ألمانيا المتهم بارتكاب عمليات تعذيب للمعتقلين في المشافي العسكرية التابعة للأسد.
(5): هناك أيضا من يتساءل، ويقول لم يتم التركيز على محاكمة المنشقين عن نظام الأسد في أوروبا؟ وهناك من يقول إن هؤلاء لم ينشقوا أساسا بل لا زالوا يمارسون عملهم بطرق أخرى؟ كيف ترى أمورا كهذه من منظار العدالة؟
غير صحيح هذا الكلام إطلاقا، فنحن لا نركز علي محاكمة المنشقين وهم ليسوا هدفنا الآن وإنما نركز علي ملاحقة المسؤولين عن التعذيب والقتل في نظام الأسد. اما بالنسبة لإياد الغريب وأنور زسلان فالسلطات الألمانية هي من بادرت إلى التحقيق معهم وتوقيفهم وإحالتهم للمحاكمة. وبكل الأحوال فالمنشقون الذين تمت ملاحقتهم حتى الآن لا يتجاوز عددهم الاثنين فقط، هما “العميد أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب والمساعد إياد الغريب”. بينما المستهدفون بالملاحقة ممن ينتمون لنظام الأسد يتجاوز عددهم الستين مسؤولاً أمنياً وعسكرياً وسياسياً وعلى رأسهم بشار الأسد.
لقد سبق أن أكدنا مراراً وتكراراً إن هذه المحاكمة التي تجري اليوم في “كوبلنز” لا تستهدف المنشقين لأنهم انشقوا عن نظام الأسد، بل لأنهم ارتكبوا جرائم بصفتهم جزءاً من النظام الأمني السوري، ويجب أن يحاسبوا عليها، وإن التغيير والانتقال من ضفة لأخرى لا يمنح صاحبها صك براءة عن الجرائم التي ارتكبها. وإذا قبلنا بخلاف ذلك، فإننا نعطي المبرّر لأي جهة أن تحمي مجرميها، للأسد أن يحمي مجرميه الذين وقفوا معه وللميلشيات المسلحة أن تحمي هي الأخرى مجرميها الذين قاتلوا معها، علماً أن الجرائم المنسوبة للمتهمين هي من النوع الذي لا يسقط بالتقادم ولا يشملها أي عفو، والقضاء المختص وحده من يقرّر إن كان مذنباً هذا المتهم أم لا، والضحايا وحدهم من يملكون حق مسامحة المجرمين أم لا.
والعدالة عمياء لا تمييز فيما إذا كان هذا المتهم منشقاً أم لا، موالي أم معارض، ما يهم العدالة هو النظر في الفعل الجرمي لهذا المتهم أو ذاك بصرف النظر عن مركزه.
(6): ما الأمل الذي أعطتك إياه هذه المحاكمة؟ وهل يمكن أن نرى حقا في يوم ما العدالة السورية تتحقق بجلب المجرمين الكبار إلى المحاكم؟
الأمل كبير بما تحقّق، وبما سوف يتحقق مستقبلاً، وهذا يعتمد أولاً على مدى قدرتنا على المثابرة في هذه العملية الصعبة والطويلة، ويعتمد ثانياً على مدى تعاون المنظمات السورية المعنية فيما بينها في متابعة هذه الجهود، وثالثاً على مدى التعاون مع المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وكيفية الاستفادة من هذا التعاون عبر تدريب محامينا وقضاتنا على مثل هذا النوع من المحاكمات القضائية لنكون جاهزين لنؤسس محاكمات وطنية داخل سورية تكون قادرة على محاكمة من تورطوا في جرائم خطيرة ضد السوريات والسوريين وفي مقدمهم كبار المجرمين من أركان نظام الأسد والميلشيات المسلحة الأخرى.
وما تحقق اليوم في كوبلنز يجب ان يبنى عليه كأساس وبداية لتحقيق العدالة لكل السوريات والسوريين ونحن ندرك جيداً أن العدالة لا يمكن تحقيقها في المنافي، وإن تحققت، فهي ستكون جزئية لن تساعد كثيراً في تعافي السوريين من هذه المأساة التي يعيشونها.
العدالة الحقيقة يجب أن يتم تحقيقها في سورية وبأيدي سورييين من خلال قضاء وطني، طبعاً بعد إعادة هيكلة القضاء في سورية على أسس سليمة وأن نؤمن ونضمن استقلالية القضاء ونرفده بقضاة مستقلون وأكفاء ونزيهون، وهذا كله لن يحدث طالما بقي نظام الأسد جاثماً على صدور السوريين، وهذا يحتاج إلى تغيير سياسي في سورية، وإلى مرحلة انتقالية يتم فيها انتقال سياسي لهيئة حكم جديدة مختلفة ومغايرة لما هو قائم اليوم، هيئة حكم تعمل على لملمة الجراح وتعافي السوريين من الأحقاد والضغائن التي زرعها نظام الأسد الإجرامي في صدور السوريات والسوريين تنفيذاً للقرات الدولية، وفي مقدمها بيان جنيف والقرار 2254 وفقاً للترتيب الذي نصت عليه. وليس كما يجري اليوم، مع انسحاب كافة القوى المحتلة لأراضينا، وحلّ كافة الميلشيات المسلحة.
إذا ما تحقق ذلك سيكون خطوة مهمة على طريق تعافي المجتمع السوري من مأساته وانطلاقه نحو بناء سورية جديدة مختلفة تحمي بناتها وأبنائها وتساوي بينهم وتقف على مسافة واحدة منهم على أساس مبدأ المواطنة المتساوية بصرف النظر عن أي انتماء أخر. طبعاً لن يتم كل ذلك إلا بتوّحد السوريين فيما بينهم على أية سورية نريد كخطوة لابد منها في البداية، ومساعدة المجتمع الدولي لنا.
(7): كلمة تود الختام بها
بعيداً عن كل محاولات تسخيف محاكمة “كوبلنز”، ورغم محاولة البعض النيل من أهمية الحكم الذي صدر بحق عنصر من مخابرات الأسد، فإن القرار الذي أصدرته محكمة “كوبلنز” قد دخل التاريخ كأول حكم قضائي في العالم يتعلق بالجرائم التي ارتكبها ومازال يرتكبها نظام الأسد في سورية، هذا الحكم يشكل في حيثياته وقرار الاتهام وأقوال الشهود والمدعين والخبراء إدانة لرموز النظام السوري وأجهزته الأمنية. وسيفتح الطريق أمام محاكمات أخرى قريباً.
ما تحقق اليوم في “كوبلنز” بعث رسالة قوية لكل المجرمين الذين مازالوا يرتكبون أفظع الجرائم في سوريا أن زمن الإفلات من العقاب قد ولىّ، وهو رسالة أيضاً لكل المتواطئين الذين سهّلوا وساعدوا المجرمين في ارتكاب جرائمهم بأنهم ليسوا بمأمن من العقاب، وأنهم لن يجدوا أعذاراً تبرئهم من تبعات الجرائم التي شاركوا في ارتكابها بأية طريقة كانت. وكلنا أمل أن يفتح هذا الحكم الباب واسعاً أمام ملاحقة جميع مرتكبي جرائم الحرب وضد الإنسانية في محاكم جميع دول العالم، وخاصة في الدول الاوربية.
إن هذه المحاكمة ليست نهاية المطاف، وهي ليست كل شيء، بل هي مجرد خطوة أولى، ولكنها خطوة مهمة وتاريخية في طريق طويل لتحقيق العدالة، وهي مدخل مهم حتى يتعرّف العالم على الألة الجهنمية التي يمارسها النظام الأمني في سوريا من تعذيب وقتل واغتصاب بحق السوريات والسوريين وصولاً إلى إدانة نظام الأسد بكافة رموزه وأركانه. وندرك أن العدالة لا يمكن أن تتحقق في سورية إلا عندما تسمح الظروف بإنشاء محاكم وطنية قادرة على إجراء محاكمات نزيهة وعادلة.
واسمحوا لي أخيراً أن أتوجه من خلال هذه المنبر الإعلامي المهم بالتحية والشكر أولاً إلى الضحايا الأبطال الناجيات والناجون الشجعان الذين قدموا شهادتهم أمام القضاء طالبين العدالة لهم ولبقية الضحايا الذين لم يتمكنوا من النجاة.
إلى شركائنا في المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان ECCHR لجهودهم الثمينة بالوصول لهذه النتائج، وللمنظمات السورية التي شاركت بجهودها بذلك مجموعة ملفات قيصر CFSG والمركز السوري لحرية الإعلام والتعبير SCM والشبكة السورية لحقوق الإنسان SN4HR والمنظمات الدولية “الآلية الدولية المستقلة لجمع الأدلة حول الجرائم المرتكبة في سوريا IIIM والمركز الدولي للعدالة والمسائلة CIJA.
إلى وحدات البوليس والادعاء العام الألماني لجهودهم في متابعة هذه الجرائم وملاحقة المجرمين ضد الإنسانية ومجرمي الحرب.
وإلى الخبيرات والخبراء ذكورا الذين لعبوا دورا مهما في الإضاءة على كل جوانب الجرائم التي ارتكبت.
وأخيراً إلى هيئة المحكمة الموقرة التي لم توفر جهداً إلا وبذلته في سبيل أن تكون هذه المحاكمة عادلة.
مع الأمل أن تستمر جهود جميع من ذكروا أعلاه حتى يصل كل الضحايا المدعين للعدالة، وحتى لا يفلت مجرم من العقاب.
حكاية ما انحكت