ناشطون بلا سياسة أو كيف دُجّنت الثقافة العربية في الدول الغربية/ محمد سامي الكيال
يمكن ملاحظة أسلوبين لتعبير كثير من الناشطين والمثقفين العرب عن أنفسهم في الدول الغربية، سواء وصلوها بصفة لاجئين؛ أو مهاجرين بغرض الدراسة والعمل، وغيرها من الأسباب: الأسلوب الأول يُظهر تحوّلاً واضحاً في الانتماء السياسي، فبدلاً من أن يتكلموا عن ذواتهم بناءً على الجنسية التي يحملونها، بوصفهم سوريين أو مصريين أو تونسيين مثلاً؛ أو بالاعتماد على ميولهم الأيديولوجية، سواءً كانوا ليبراليين أو يساريين أو قوميين، أصبحوا يميّزون أنفسهم باعتبارهم «مسلمين» أو «ملونين». وغيرها من تعيينات هوياتية، لم يكن لها المعنى نفسه عندما كانوا في بلدانهم.
أما الأسلوب الثاني فيظهر واضحاً عندما يتكلمون عن قضاياهم المحلية، فمسائل، مثل النضال الديمقراطي، وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية وثورات الربيع العربي، باتت تُقدّم بصيغ منزوعة الأشكلة، أو بتعبيرات حقوقية مبسّطة، وكأن التغيير في مجتمعات شديدة التعقيد، مثل المجتمعات العربية، أمر بديهي، يستند، بلا أي صعوبات، إلى تطور عالمي خطي نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو كأن مسألة التحوّل الديمقراطي يمكن اختزالها بالقضايا الإنسانية، مثل قضايا المعتقلين والمُهجّرين، دون سياقات مركّبة، تعطي معنىً سياسياً واضحاً لمعاناة هؤلاء، ولا تُظهرهم مجرد «ضحايا» بحاجة للتعاطف والإحسان.
قد يكون من المتوقع أن يستخدم الوافدون إلى الدول الغربية اللغة والمفاهيم السائدة فيها، ومحاولة إيجاد مكان لهم في التعريفات الهوياتية المُستخدمة بين ناشطيها، المتسمة بكثير من الاختزال والتنميط، لكنّ هذا في حالة الناشطين والمثقفين العرب يبدو مثيراً للأسف: هل لا يملك فاعلون اجتماعيون، لديهم تجربة تاريخية وسياسية شديدة الأهمية، أكثر من تكرار صيغ جاهزة عن العنصرية والديكتاتورية، وتقزيم أنفسهم بما يتفق مع تعاطف الرعاة الغربيين؟ ولماذا لا يقدمون منظورات جديدة، تغيّر شيئاً ما في القوالب المطروقة عن المنطقة وسكانها؟ لا يقتصر ضرر هذا على اختزال الحيوية السياسية والاجتماعية العربية في نظر الرأي العام الغربي، بل يعيق تطور المقاربات العربية الداخلية لتجربة السنوات الماضية، خاصة أن كثيراً من النخب باتت فعلياً في الخارج. وبعد نشاط مبشّر، على المستويين الثقافي والسياسي في العالم العربي، يبدو أن كثيرين ممن شاركوا به باتوا عالقين بما يمكن تسميته تجاوزاً «مركزية غربية» جديدة، تنشر نفسها بدعاوى حماية المهاجرين من المركزية والاستعلاء الثقافي الغربي. فما هي الآليات الأساسية لنزع تسييس الناشطين والمثقفين العرب؟ أو بالأصح كيف تتم أسلمتهم وتلوينهم وتحويلهم إلى ضحايا؟
إنتاج الفردانية
شكّلت الدول الغربية، طيلة العقود الماضية، بيئة خصبة للنشاط الثقافي والسياسي العربي المعارض، إلا أن هنالك اختلافاً كبيراً بين جيلين من المثقفين العرب في الخارج، فقد كان مثقفو القرن الماضي أكثر قدرة على التعبير عن سياقات سياسية واجتماعية واضحة لقضاياهم المختلفة، وتقديم تحليلات متينة لها، ساهمت في تطوير المنظورات العامة عن البنى الاجتماعية للدول العربية، وعلى الرغم من التحالفات المعقدة، التي بناها هؤلاء المثقفون مع نظرائهم الغربيين، وتأثّرهم الأيديولوجي والثقافي الواضح بهم، إلا أنهم أعطوا الأولوية، كثيراً من الأحيان، لاهتماماتهم وتصنيفاتهم السياسية المحلية، وربما ساعدهم في ذلك انتشار الأيديولوجيات العالمية الكبرى آنذاك، وعلى رأسها الماركسية والتحرر الوطني، التي أبدت، من جهة، مرونة كبيرة، جعلت تبيئتها ممكنة في بلدان وظروف مختلفة؛ وقدمت، من جهة أخرى، مفاهيم عالمية، يمكن التواصل بها بين المثقفين والمناضلين السياسيين على اختلاف ثقافاتهم.
يبدو الوضع مختلفاً للغاية بين الجيل الحالي من الناشطين العرب في الدول الغربية، الذين يقوم كثير منهم بعملية ترجمة واسعة لقضاياهم، كي تصبح قابلة للإدراج ضمن التصنيفات، التي يفهمها نظراؤهم الغربيون. عملية الترجمة هذه تتطلب بالضرورة نزعاً لتسييس القضايا، لأن الأيديولوجيا الغربية المعاصرة، ذات السمت الهوياتي، والمتبناة من قبل ما يسمى «يساراً ليبرالياً، لا تقبل التصنيفات السياسية الجمعية، مثل الجنسية الوطنية والنزعة القومية والأيديولوجيا السياسية والانتماء الطبقي، التي تتطلّب حيزاً عاماً مفتوحاً، بل تفضّل تصنيفاتٍ فردانية – هوياتية، لا تقوم على خيارات فكرية وسياسية، بقدر ما هي ملتصقة بأجساد الأفراد، وبالمفاهيم المختزلة عن ثقافاتهم (لاجئين، ملونين، مسلمين، نساء مهاجرات، إلخ) ما يجعلها أقرب لوصمة لا تمحى، يتم تسييسها بشكل ملتوٍ لاحقاً.
لا يمكن للأفراد/الهويات أن يمارسوا السياسية بمفهومها الكلاسيكي، فهم لا يملكون قضية أبعد من وجودهم الفردي، المحدد بشكل مسبق وحتمي عبر الهوية، ولا مطالب لهم أكثر من أن ينالوا الاعتراف. وإذا كان «الاعتراف» مفهوماً فلسفياً واجتماعياً شديد التعقيد، فيمكن تبسيطه بطرح سؤال عن الجهة التي تمنحه، في حالة المثقفين العرب في الخارج، والإجابة بالتأكيد: الناشطون والمؤسسات الغربية، التي تحتفي بالتنوّع والتسامح. هكذا تنشأ حالة من الاعتماد المتبادل بين الطرفين، فتنال المؤسسات الغربية الشرعية من خلال قدرتها على منح الاعتراف، ويجد المهاجرون مكاناً ودوراً لهم من خلال ما يُحصّلونه من هذا الاعتراف، في ثنائية تذكّر بالديالكتيك الهيغلي عن السيد والعبد. وضمن هذا الشرط تصبح القضايا السياسية العربية مجرد حالات إنسانية لأفراد، يمكن مشاهدتها في المعارض الكثيرة، التي تملأ الدول الغربية، مظهرةً صوراً لأطفال ونساء ورجال معاقين، «يصارعون لأجل الحياة، وتُختصر مشاكل المهاجرين في الدول الغربية بمعاناتهم من العنصرية والتمييز، اللتين يحاربهما اليسار الليبرالي الغربي الأخلاقي منذ عقود.
لا يعني هذا عدم وجود العنصرية، أو انتفاء الحاجة لإظهار المعاناة الإنسانية لسكان المنطقة، لكنّه يؤشّر إلى أن الناشطين العرب لا يمكنهم، في هذا السياق الأيديولوجي، إلا ممارسة التظلّم، وليس السياسة أو الإنتاج الثقافي المتقن. ويمكن مقارنة الفعل الثقافي، لقسم كبير من لجيل الحالي من المهاجرين، بأعمال الكتّاب الجزائريين في ما مضى، مثل كاتب ياسين ومالك حداد، الذين كتبوا باللغة الفرنسية عن قضية تحرر بلادهم، دون أن يسقطوا في التظلّم، رغم كل ما شهدوه من تمييز وأحداث دموية.
تفكيك الائتلافات
استطاع كثير من ثورات الربيع العربي بناء ائتلافات شعبية واسعة، متعددة الفئات والمطالب. وفي حالتي الثورتين التونسية والسودانية، وهما الثورتان الأكثر تطوراً من الناحية السياسية، شمل الائتلاف الثوري مطالب قطاعات واسعة من الطبقة العاملة، المنظّمة نقابياً، أو غير المستقرة (بريكاريا)، إضافة للفئات الوسطى المدينية، ومطالب النساء والطلاب والمثقفين والأقليات، ورغم عدم نجاح هاتين الثورتين في صياغة خطاب سياسي متماسك، والخلافات بين قواهما السياسية، إلا أنهما تمتلكان القدرة على إلهام تجربة الحراك السياسي في العالم العربي، وربما خارجه. إلا أن تعميم تجارب الثورات العربية يصطدم فعلياً بالأيديولوجيا التي بدأت تنتشر بين الناشطين العرب، ليس فقط في الخارج، بل حتى بين من تبقى منهم في الدول العربية. يصعب بناء الائتلافات على أساس أيديولوجيا هوياتية، تظهر فيها كل فئة أو هوية بوصفها ضحية للآخرين، ويطالب ضمنها كثيرون، بناءً على هرمية الضحايا، التي تفترضها تلك الأيديولوجيا، بامتيازات ومساحات آمنة، نظراً لتفوّقهم في المعاناة. هكذا يتحوّل تضامن ثوار الماضي إلى نمط من التلاسن والمعايرة بامتيازات مفترضة. وإذا كان ما يسمى يساراً ليبرالياً في الغرب قد نجح بخلق نوع من العمل المشترك بين هوياته المختلفة، في المواجهة الانتخابية لليمين الشعبوي، فإن هذا العمل لا يرقى لأن يكون ائتلافاً سياسياً، لا من جهة المطالب، ولا من جهة القدرة على بناء التضامن، الذي يفترض مفهوماً معيناً للمساواة والتشابه. وبالطبع لن تعترف أيديولوجيا كهذه بائتلافات سياسية عربية، بل ستقسّم المهاجرين حسب أفضليتهم في «التمكين». وبهذا سيصعب على الفرد أن يتعرّف على نفسه إلا من خلال الأذى، الذي يتعرّض له من محيطه، وما يمكن أن يناله من رعاية وحماية فوقية.
امتياز الكيان الوطني
لا أحد في الدول الغربية يصنّف المهاجرين القادمين من روسيا، على سبيل المثال، «أرثوذوكساً» أو «قوقازيين، بل يُعرفون بـ»الروس» دائماً، على اختلاف توجهاتهم السياسية وأصولهم الإثنية. وهذا يشير إلى وعيٍ بأن هؤلاء المهاجرين قادمون من كيان وطني بالمعنى الحديث، أي الاعتراف بقدرهم على إنشاء المتحدات السياسية، وممارسة العمل السياسي والثقافي. اللافت أن أريحية «اليسار الليبرالي» الغربي في منح الرعاية والتمكين لا تطال غالباً المهاجرين الروس، الذين لا يُطلب منهم عادةً الحديث عن مظالمهم، رغم أن كثيراً منهم يعاني مما يسمى «التهميش، بما فيه من فقر وبطالة وتمييز ومشاكل اجتماعية، ولذلك يبدو وضع الروس أقرب للكرامة بمعناها السياسي.
ربما كان على الناشطين والمثقفين العرب أن يدركوا أنهم يمتلكون تجربة سياسية واجتماعية، تمكّنهم من رفض وصاية اليسار الهوياتي الغربي، وتؤهلهم أن يكونوا فاعلين سياسيين وثقافيين، أينما حلّوا، ما يستلزم رفض الهويات، التي يتم سجنهم فيها، وإبداء السياقاتِ السياسية المعقدة لوجودهم الاجتماعي.
باحث سوري
القدس العربي