الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةتشكيل الحكومة السورية الجديدةدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 07-08 نيسان 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

—————————-

الاعتراف والاشتراطات الأميركية.. مفترق طرق بالعلاقات مع سوريا/ بشار الحاج علي

2025.04.08

منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لم تعد العلاقات السورية – الأميركية تدار وفق قواعد ما قبل التحول. دخلنا مرحلة جديدة، عنوانها الحذر الأميركي، ومفرداتها تجريبية، تراقب وتختبر وتُبقي على الباب مواربًا دون أن تفتحه بالكامل.

في هذا السياق، يمكن فهم الخطوة الأميركية الأخيرة المرتبطة بوضع بعثة سوريا الدائمة في نيويورك، والتي تتجاوز مسألة تأشيرة دبلوماسية لتكشف عن موقف سياسي غير معلن بعد، لكنه يتبلور بهدوء وثبات.

من التأشيرة إلى الرسالة الحديث عن تغيير نوع تأشيرات أعضاء البعثة السورية من فئة G1 إلى فئة G3 قد يبدو تفصيلاً تقنيًا، لكنه في واقع الأمر يعكس موقفًا قانونيًا وسياسيًا بالغ الدلالة.

فالفئة الأولى تُمنح لبعثات الدول التي تعترف بها واشنطن رسميًا، في حين تُخصص الفئة الثانية لممثلي حكومات لا تحظى بهذا الاعتراف.

ما جرى أن وزارة الخارجية الأميركية أبلغت بعثتها في الأمم المتحدة – في الثالث من نيسان/أبريل – بتغيير نوع التأشيرة السورية، استنادًا إلى تقييم داخلي سابق صنّف الحكومة الانتقالية المؤقتة في سوريا على أنها امتداد لهياكل غير مقبولة أميركيًا، وتحديدًا من حيث علاقتها المفترضة بفصائل مصنفة على لوائح الإرهاب.

بعيدًا عن الجدل التحليلي، فإن الوثائق والمراسلات المتبادلة بين الجهات المعنية، بما فيها وزارة الأمن الداخلي وإدارة الهجرة والجنسية، أكدت أن القرار لا يعبّر عن رغبة في القطيعة، بل يعكس تريثًا في الاعتراف الكامل، فسوريا الجديدة تُرصد حركتها، ويُسجَّل عليها، لا لها، أن تبدو مختلفة جذريًا عن كل ما سبق، وهو ما لم يتحقق بعد بما يكفي ليُبنى عليه موقف اعترافي رسمي.

ما بعد السقوط

سياسة الحذر ومشاغل الاعتراف منذ خروج إيران وسقوط النظام السابق، والحكومة السورية الجديدة تحاول أن تؤسس لتوازن داخلي وخارجي دقيق، يعكس انتقالًا حقيقيًا للسلطة وتوجهاً جديدًا في إدارة الدولة، وعلى الرغم من أن رسائل الانفتاح بدأت مبكرًا – ومنها خطاب التهنئة الذي وجّهه رئيس المرحلة الانتقالية للرئيس الأميركي المنتخب – فإن الاستجابة الأميركية بقيت ضمن حدود العلاقات غير الرسمية، أو ما يُعرف بـ”إدارة الوضع” لا “الاعتراف به”.

في العمق، لا تعني هذه الخطوة الأميركية أن واشنطن لا ترى تحوّلاً، لكنها ترى أن هذا التحوّل لم يكتمل بعد، فالشروط المبدئية التي تنتظرها الإدارة الأميركية وترى أنها ليست تعجيزية، مثل الفصل الواضح عن الجماعات المصنفة، التعاون الأمني، احترام التزامات حقوق الإنسان، كشف مصير مواطنين أميركيين مفقودين، وبلورة إدارة مدنية قابلة للتعاطي الدولي.

التأشيرة كأداة سياسية

ما جرى في نيويورك يحمل رمزية ثقيلة، فالتأشيرة الجديدة تعني انتهاء الامتيازات الدبلوماسية – من الحصانة إلى بطاقات الدخول الخاصة – وتحوّل أعضاء البعثة إلى مجرد مقيمين أجانب، وهو ليس سحبًا للاعتراف، لكنه رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لا ترى حتى الآن أن ما جرى في دمشق كافٍ لتغيير قواعد التعامل معها.

لكن في المقابل، فإن نفس هذه الخطوة تبقي الباب مفتوحًا، فبمجرّد أن يتغيّر التقييم السياسي، يمكن تعديل نوع التأشيرة، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه. أي أن الحركة الدبلوماسية ما تزال ممكنة، لكنها مشروطة، وقابلة للمراجعة بناء على أداء الحكومة الجديدة، وتحديدًا في ملف التمثيل الخارجي، والقدرة على بناء أدوات حكم موثوقة.

في جوهر المسألة.. من يُمثل سوريا؟

في هذه اللحظة، يبدو أن تجديد صورة سوريا في المحافل الدولية يتطلب أكثر من تبديل السفراء أو تصحيح لغة الخطاب، هناك حاجة لمراجعة شاملة لطبيعة التمثيل الخارجي، بحيث يُعبّر فعلًا عن سوريا الجديدة، لا عن استمرار رمزي لأدوات قديمة، أُنهكت بفعل الزمن، أو تقادمت بتغير الظروف. لكن المسألة لا تقف عند حدود السفارات، بل ترتبط بطبيعة القرار السياسي الداخلي نفسه.

ما يبدو أنه غير مكتمل حتى اليوم ليس مجرد قرار إداري أو إجراء تقني، بل إرادة سياسية تنفتح على مشاركة أوسع للسوريين في إدارة دولتهم، لا سيما في المواقع السيادية، إذ لا يمكن لتجديد الواجهة الدبلوماسية أو تحسين الأداء الخارجي أن ينجح ما لم يكن مدعومًا بخيارات داخلية تعكس روح التغيير.

والمشكلة، في جوهرها، لم تعد مرتبطة ببقايا النظام السابق فقط، بل تتصل بطبيعة السلطة الجديدة التي تميل – تحت ذريعة الحاجة إلى المركزية – إلى حصر الصلاحيات من دون وجود آليات رقابة فعّالة، ولا جدول زمني واضح لانتقال كامل وشامل.

هذا يضعف الثقة في المسار الانتقالي، ويؤجج التساؤلات حول جدية المشروع الوطني برمته، داخليًا وخارجيًا. لذلك، لا بد من فتح المجال أمام مشاركة سياسية حقيقية، تتيح تمثيلاً أوسع لمكونات الثورة السورية وكفاءاتها، في السياسات السيادية والدبلوماسية.

فالأمر لا يتعلق فقط بإرسال وجوه جديدة، بل ببناء سياسة خارجية متماسكة تعبّر عن مشروع وطني جديد، قائم على الكفاءة، والتمثيل، والشرعية الأخلاقية.

الاعتراف يُنتزع ولا يُمنح، فالاعتراف الأميركي بالحكومة السورية الجديدة ما زال رهن التفاعل، وهو لن يُمنح تلقائيًا، بل يحتاج إلى أداء سياسي ودبلوماسي رصين، يُقنع لا يُجبر، ويستند إلى ما تفعله الحكومة على الأرض أكثر مما تقوله في البيانات. إنه اختبار لنمط الحكم الجديد، وللشخصية السياسية التي تُراد لسوريا في الإقليم والعالم، والفرصة لا تزال قائمة، لكنها لن تبقى مفتوحة إلى ما لا نهاية.

وما ينقص الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو القرار السياسي الجريء باستبدال الواجهات القديمة التي لا تزال تمثل بقايا عهد مضى، رغم تغير الواقع، وتبدّل السياق، وتطلّع السوريين إلى مشاركة حقيقية تعكسهم في الداخل والخارج على السواء.

تلفزيون سوريا

————————–

ماذا وراء ضبابية موقف ترمب من الإدارة السورية؟/ فراس فحام

2025.04.08

شهدت الأسابيع القليلة الماضية تضارباً بالتصريحات والمواقف من واشنطن تجاه الإدارة السورية. فبعد أيام من إعلان وزارة الخارجية الأميركية دعمها لسيطرة الدولة السورية على كامل الأراضي، في أعقاب الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تتابعت تسريبات تحدثت عن احتمال استقبال وزير الخارجية أسعد الشيباني في واشنطن. إلا أن هذا المسار اصطدم لاحقاً بإجراء مفاجئ تمثل في تغيير وضع إقامة البعثة الدبلوماسية السورية في نيويورك، حيث أصبحت تأشيرات أفرادها تُمنح ضمن الفئة المخصصة لمواطني الدول التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كحكومات شرعية.

صحيح أن قرار تغيير طبيعة الإقامة للدبلوماسيين السوريين تم باقتراح من وزارة الأمن الداخلي الأميركية، لكن الموافقة عليه من قبل وزارة الخارجية، ثم تسريب الموضوع لوسائل الإعلام يعكس على الأرجح دلالات سياسية.

نظرة إدارة ترامب للملف السوري

وفقاً للمعلومات التي ترشح من دبلوماسيين على اتصال مع إدارة ترامب، فلا يوجد موقع حاسم ضمن الإدارة تجاه الملف السوري في ظل تباين الآراء بين الفريقين الأمني والسياسي، حيث يدعو الأول إلى التشدد مع الإدارة السورية، والثاني يدعم فكرة الانفتاح المشروط.

تتزايد المؤشرات التي تدل على أن إدارة ترمب تمضي قدماً في خططها لسحب القوات الأميركية من سوريا أو إعادة تمركزها على الأقل. ومن أبرز هذه الإشارات، التنازلات التي تقدمها “قسد” لصالح الحكومة السورية، سواء من خلال اعترافها بوحدة الأراضي السورية في الاتفاق الموقّع بين الجانبين في آذار الماضي، أو عبر استعدادها لتسليم إدارة المنشآت النفطية للسلطات السورية. وتُعزز هذه التوجهات معلومات متداولة في أوساط “قسد” عن إبلاغ قائد القيادة المركزية الأميركية لإقليم كردستان العراق بوجود خطط أميركية للانسحاب من سوريا.

وفيما يبدو فإن اهتمام إدارة ترمب في الملف السوري تنحصر بعدم عودة ظهور “تنظيم الدولة” (داعش)، وفي هذا السياق قد تترك المهمة لتحالف إقليمي يضمن تركيا والعراق والأردن ودولاً أخرى، بالإضافة إلى ضمان عدم استخدام إيران مجدداً للأراضي السورية من أجل تهديد أمن إسرائيل، وبالتالي فإن القيادة السياسية الأميركية تعطي رسائل إيجابية للإدارة السورية، لكنها تراقب مدى تحقيق الأهداف التي سبق ذكرها.

دعم تقاسم النفوذ في سوريا بين الفاعلين الدوليين

توحي مجريات الأحداث بأن إدارة ترمب قد تتجه أكثر لدعم تقاسم النفوذ في سوريا بين الفاعلين الدوليين في إطار سياسات أوسع تتعاطى مع الملف السوري على أنه ثانوي، وبالتالي يمكن استثماره بالقدر الذي يخدم سياسة إدارة ترامب الكلية على الساحة الدولية.

التقارير التي صدرت مؤخراً من واشنطن تؤكد أن إدارة ترمب لم تتطلب في اتصالاتها مع الإدارة السورية إنهاء نفوذ سوريا، في ظل وجود توجه لدى الإدارة للتغاضي عن هذا النفوذ، وربما الهدف من هذا ليس فقط مراعاة مصالح إسرائيل التي تسعى لإبقاء القواعد الروسية في سوريا، وإنما أيضاً منح مكاسب لموسكو من أجل تصحيح العلاقات بينها وبين واشنطن بعد التوتر الحاد الذي ساد في فترة إدارة بايدن، على أمل أن ينجح ترمب في تحييد روسيا عن دعم إيران في ظل توجهه إلى توجيه ضربات اقتصادية وعسكرية للنفوذ الإيراني في المنطقة، وإرغامها على توقيع اتفاق نووي جديد لكن بمحددات قاسية تشمل تقليص نفوذها الإقليمي ووقف دعمها للأذرع المسلحة، والتخلي عن البرنامج الصاروخي وتخصيب اليورانيوم.

من جهة أخرى، تسعى واشنطن فيما يبدو للموازنة بين حاجتها للتعاون مع تركيا لاعتبارات سياسية وأمنية، وبين مصالح إسرائيل التي تنظر بسلبية إلى الإدارة السورية الجديدة، وتتخوف من العلاقات المتقدمة بين أنقرة ودمشق.

من المحتمل أن تدعم إدارة ترمب نقاشات دولية تشارك فيها روسيا وتركيا وإسرائيل والسعودية من أجل تحديد معالم المرحلة الانتقالية في سوريا، بما يراعي مصالح الجميع، وبالوقت ذاته يضمن استدامة حالة الاستقرار وتجنب أي توترات إقليمية غير مرغوب فيها بالساحة الدولية، ويمكن أن تنعكس سلباً على سياسات إدارة ترمب.

تلفزيون سوريا

———————————

إعادة إعمار سوريا.. رحلة نحو المستقبل/ مصطفى سيد عيسى

2025.04.08

سوريا، الاسم الذي لطالما كان جوابي الفطري حين أُسألُ في المنفى: “من أين أنت؟” فأقول من دون تردد: “أنا من سوريا”. لكن الحقيقة أنني لم أكن أعرفها حقاً، فلم أتنفس هواءها، ولم أمشِ في شوارعها. كانت سوريا بالنسبة لي رواياتٍ تسرّبت إليّ من ذاكرة والديّ، قصصًا عن طفولة بسيطة بين بيوت إدلب العتيقة أو في حقول الزيتون. ولكن في اللحظة التي عبرت فيها الحدود، تحوّلت من حكاية إلى واقع، من صورة مُتخيَّلة إلى حقيقة ملموسة.

لم تكن زيارتي الأولى إلى سوريا بعد سقوط النظام مجرد رحلة عادية كالتي كنت أقوم بها إلى دول العالم المختلفة، بل كانت لقاءً فريداً بين المخزون العاطفي الذي كوّنته عنها، وبين الحقيقة التي كانت ماثلة أمامي. طوال سنوات حياتي في السويد، كنت أعيش ازدواجية غريبة، فأنا أعمل في بناء المدن وتخطيطها…أرسم معالمها ومعالم مستقبلها، لكنني كنت أعاني من عدم الارتباط بها. أشعرُ أنّها مدنٌ ليست لي، وشوارعُ لا تُشبهني، لكن إيماني بالمهمّة التي أوكلها الله إلينا في خلافة الأرض وإعمارها كان العزاء الذي أستلهم منه الطاقة التي تساعدني على الاستمرار.

ظلّ هذا الشعور يرافقني لسنوات…حتى وجدت الجواب أخيراً حين دخلت إلى دمشق. عندها فقط أدركت معنى الوطن واكتملت مفاهيمه في وجداني. اكتشفت أن الوطن مكان حقيقي وليس مجرّد ذكرى في مخيّلتي أو حالة وجدانية فقط. مكان يفرض علينا بجماله وعراقته أن نكون جزءًا منه. يستحق أن يُبنى بأيدي أبنائه الذين ضحّوا من أجل رفعته وصبروا في سبيل حريّته.

قضيت أسبوعين إلا ثلاثة أيام متنقلًا بين دمشق وحمص وحماة وإدلب واللاذقية وطرطوس، لأرسم صورة جديدة تُكمّل ما تكوّن في مخيلتي من صور. كنت أتنقل من شارع إلى آخر، ومن سوق إلى زقاق، أراقب الوجوه، وأستمع للناس، وأحاول أن أفهم وأستوعب كل ما يدور حولي. لم يكن الدمار مفاجئًا في ذاته، فقد رأيته مرارًا عبر الشاشات، ولكنه كان أكثر وقعًا حين وقفت أمامه. ما صدمني لم يكن الخراب بحد ذاته، بل هذا الجمال وهذه العراقة التي ظلت صامدةً رغم كل شيء. رأيت مُدنًا لم تفقد هويتها رغم الدمار، وأسواقًا لا تزال تضج بالحياة رغم آثار الحرب، وشعباً يحمل في عيونه معاني الصبر والاحتساب.

كم من الأحلام دُفنت تحت الركام؟ وكم من العائلات رحلت ولم تعد؟ كيف استطاعوا أن يحولوا مدناً تمتد جذورها في أعماق التاريخ إلى أماكن ممسوحة الملامح وخالية من الحياة؟ أسئلة كثيرة راودتني ولم أجد جواباً لها.

لكن رغم كل شيء، لم يكن اليأس هو الشعور الذي سيطر عليّ. على العكس تماماً، كنت أرى الأمل في كل زاوية وفي كل مشهد تسقط عليه عيناي. رأيت مدناً تنتظر أن تُبنى من جديد…لا كما كانت سابقاً، بل كما يجب أن تكون. كانت عين المهندس داخلي ترى الدمار وتعيد إعماره في مخيّلتي لتكون المدن أكثر كفاءة وتنظيماً واستدامة.

عملية إعادة الإعمار ليست مجرد عملية هندسية كما قد يتبادر للأذهان، بل هي مشروع وطني يعيد تشكيل العلاقة بين الناس ومدنهم. ليست إسمنتًا وحديدًا، بل تخطيطاً واستراتيجيات ورؤى… تأخذ سوريا إلى المستقبل، لا تعيدها إلى الوراء.

أحد أكثر المفاهيم المغلوطة بشأن إعادة الإعمار هو الاعتقاد بأنها تعني إعادة بناء ما تهدّم فقط. ولكنّ رفع الأجسام الخرسانية فوق بعضها والربط بينها بطرق معبّدة وتزيينها بأشجار وشجيرات جانبية ليس كافياً لتتعافى سوريا مما هي فيه. والحقيقة هي أن إعادة الإعمار ليست بناء المدن، بل بناء الحياة والحركة الاقتصادية فيها.

التخطيط الحضري – ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب

هنا يكمن دور التخطيط الحضري بوصفة ضرورةً واجبة لا يجب أن نتخطّاها. فهي ليست رفاهية كما يعتقد البعض، بل هي الفرق الفعلي بين المدن القابلة للحياة والأخرى التي تجعلك تكره الحياة فيها. ليس كل ما سيُبنى في سوريا سيقع تحت خانة إعادة الإعمار وليس كل شارع سيُعبّد سيكون خطوة صحيحة نحو بنية تحتية قوية في البلاد. المدينة الناجحة هي تلك التي لا يشعر ساكنوها بطول المسافات أو تعقيد الوصول إلى احتياجاتهم فيها. هي المدينة التي تخدم ساكنيها وتجذب النّاس إليها من كل أنحاء العالم. في أثناء زيارتي، كنت أتساءل: كيف نريد للمدن السورية أن تكون؟ وما المميزات التنافسية التي ستجعلها قبلة للزائرين؟ وما العوائق التي ستقف في وجه رؤيتنا الطموحة لسوريا المستقبل؟ أسئلة كثيرة يجب أن نطرحها ونجيب عنها اليوم قبل غدٍ.

ألم تمرّ يومًا بمدينة تشعرك بأنها قد صُمّمت بعناية؟ حيث تجد كل ما تحتاجه بسهولة؟ المرافق العامة متاحة ومسارات السيارات والمشاة واضحة ومريحة؟ وفي المقابل، ألم تزُر أماكن أخرى شعرت فيها وكأن المدينة تُعيق حياتك وتعمل ضدك؟

هذا هو الفرق بين التخطيط السليم وبين العشوائية.

تخيل دمشق، التي يُعاني سكّانها اليوم زحاماً خانقاً وقد أعيد تخطيطها بحيث تتنوع وسائل النّقل فيها وتقترب الخدمات من الناس حتى يصل أهلها إلى أشغالهم والأطفال إلى مدارسهم بسهولة ويُسر. تخيل المناطق الأثرية والمدن الساحلية وقد أصبحت وجهات سياحية عالمية ومتطورة، تستقطب الزوار من كل مكان، بشواطئها النظيفة ومرافقها المتكاملة. تخيل حلب، وقد عادت أسواقها القديمة إلى الحياة وتطوّرت الصناعة والتجارة فيها فباتت محوراً اقتصادياً أساسياً يحافظ على أصالته وينفتح على المستقبل وإمكانياته. تخيّل المدن المنسية كإدلب وغيرها وقد تم استغلال المميزات التنافسية فيها فصارت تُنافس أخواتها من المدن السورية في الزراعة والصناعة والتطور العلمي. كل هذا ممكن بالتخطيط الحضري والعمراني.

ما رأيته في زيارتي هو أن سوريا تتميز بأنها ليست سوريا واحدة، بل سوريات متعددة، لكل مدينة شخصيتها، ولكل منطقة طابعها، ولكل بقعة إمكانياتها. لهذا يجب على عملية إعادة الإعمار أن تكون خطة مرنةً تتكيف مع هوية كل منطقة، لا أن تكون استنساخاً لنماذج جاهزة لا تناسب المكان ولا ناسه.

إن المدن الحديثة هي ليست تلك التي تتميز بناطحات سحاب زجاجية أو مراكز تجارية فارهة، بل تلك الأماكن التي تُسهّل حياة الناس، وتكون محرّكاً للاقتصاد، وتتّسم بالتوازن البيئي المستدام. نريد من عملية إعادة إعمار سوريا ألا تقتصر على تعويض ما قد فُقد، بل أن تكون انطلاقةً طموحةً نحو نموذج جديد…يُحاكي أصالة الماضي…ويبني مدن المستقبل.

المدن محرّكات الاقتصاد

في المقال القادم، سأتحدث عن العلاقة بين التخطيط الحضري والاقتصاد، وكيف يمكن للمدن أن تتحول إلى محركات اقتصادية للدول، وكيف أن عملية إعادة الإعمار في سوريا هي فرصة تاريخية لبناء نموذج حضري جديد يعكس تطلعات السوريين وأحلامهم

تلفزيون سوريا

————————-

أيمن أصفري: رفضت عرضاً من الأسد ولم يُعرض عليّ أي منصب بعد سقوطه

2025.04.08

أجرى تلفزيون سوريا لقاءً خاصاً مع رجل الأعمال السوري المقيم في بريطانيا، أيمن أصفري، الذي عبّر عن مشاعر لا توصف لحظة عودته إلى سوريا بعد غياب دام 15 عاماً، عقب سقوط نظام بشار الأسد.

وقال أصفري: “بكيت لحظة قطعت الحدود من لبنان إلى سوريا. كانت لحظة فرح عارمة لم أكن أتخيل أنني سأعيشها بعد كل ما مرّ بالبلد”.

وأشار إلى أنه زار دمشق وريفها خلال زيارته الأولى، وعبّر عن انطباعاته بقوله: “دمشق بدت حزينة، كئيبة، صحيح أن الناس فرحون بسقوط النظام ولديهم أمل بالإدارة الجديدة، لكن البؤس في كل مكان، الأبنية متهالكة، لم يُجرَ لها صيانة منذ 15 عاماً”.

من إدلب إلى عالم المال والأعمال.. جذور سياسية عميقة

وُلِد أصفري في مدينة إدلب عام 1958، في عائلة ذات خلفية سياسية. والده، الدكتور أديب أصفري، كان أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، وقد تعرّف على صلاح الدين البيطار خلال دراسته في فرنسا، وشارك في تأسيس الحزب منتصف أربعينيات القرن الماضي.

عاد والده إلى سوريا بعد نيل شهادته وفتح عيادة في إدلب، ثم دخل البرلمان، وكان عضواً في مجلس الأمة خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958.

وعند مجيء البعث بانقلاب عام 1963، استقال من الحزب احتجاجاً على الطريقة غير الديمقراطية التي استُخدمت للوصول إلى السلطة، مما أدى إلى إبعاده عن الحياة السياسية وتعيينه سفيراً في تركيا، ثم لاحقاً في يوغوسلافيا.

من الجامعة إلى عالم الأعمال

درس أصفري في جامعة حلب، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة بعد صدور قانون التوظيف الإجباري في سوريا عام 1977، حيث نال بكالوريوس في الهندسة المدنية، وتابع دراسته في الماجستير بإدارة الأعمال. إلا أنه اضطر للعمل في أثناء الدراسة لتأمين مصاريفه، ولم يكمل الماجستير بالكامل في ذلك الوقت.

وروى أصفري حادثة مؤلمة وقعت خلال أحداث حماة في الثمانينيات، حين كان والده مديراً لمشفى الكندي في حلب، إذ نُقل إليه عدد من المعتقلين المعذّبين على وشك الموت. اعترض والده على الطريقة التي عومل بها المعتقلون، فتم اعتقاله لفترة قصيرة، وبعد خروجه من السجن طلب الاستيداع وغادر سوريا نهائياً.

ويؤكد أصفري أن تلك المرحلة أثّرت كثيراً على وعيه السياسي والإنساني، ودفعته لاحقاً للعمل في الشأن العام، مع التزامه بالمبادئ التي تربّى عليها في بيئة أسرته السياسية.

لقاءان خاصان مع بشار الأسد.. وانسحاب من الاجتماع

أوضح أصفري أنه التقى بشار الأسد مرتين فقط، كان آخرهما في عام 2006 خلال زيارة رسمية إلى دمشق، وقال إن الزيارة جاءت بناءً على دعوة رسمية بعد طرح شركته للاكتتاب في البورصة، وقد جرى استقباله بمراسم رسمية في مطار دمشق.

وروى أصفري تفاصيل اللقاء الذي عُقد في قصر الشعب، وقال إن الأسد بدأ الحديث بإبداء الإعجاب بنجاحاته، لكنه سرعان ما استفسر عن رأيه بالدكتور سامي الخيمي، السفير السوري في لندن، قبل أن يعبّر له عن رغبته في أن يكون أصفري بمثابة “سفير” للنظام بدلاً من سامي.

وأشار أصفري إلى أنه رفض هذا الطرح، وسأل الأسد مباشرة عن سبب اعتقال الكاتب ميشيل كيلو. وقال: “فوجئت بانفعاله، وبدأ يشتم كيلو بكلمات نابية”، مضيفاً أنه رد على الأسد بأن الديمقراطية لا تُبنى من دون إصلاح سياسي. وتابع: “أخبرني أن الشعب السوري لا يستحق الديمقراطية، فغادرت الاجتماع بعد 40 دقيقة فقط”.

دعم المعارضة السورية

تحدث أصفري عن دعمه السياسي والمعنوي للثورة السورية، مؤكداً مشاركته في تأسيس المجلس الوطني، وتأييده للدكتور برهان غليون، ومساهمته في دعم الائتلاف الوطني. كما كشف عن حضوره لمؤتمر الرياض عام 2015، الذي انتُخب فيه رياض حجاب رئيساً لهيئة التفاوض.

وأشار إلى أنه التقى العديد من المسؤولين الأميركيين والخليجيين، لكنه لم ينخرط في السياسة كمهنة، نظراً لارتباطاته المهنية، ولأنه كان يشغل منصب المدير التنفيذي لشركة عامة. وقال: “هناك فرق بين اتخاذ موقف سياسي وبين احتراف السياسة. دعمت الثورة، لكنني لست سياسياً”.

اتهامات في العراق وخسائر في العمل

أصفري أشار إلى أن شركته تعرّضت لهجوم كبير عام 2012، عندما صدر بحقه حكم في العراق بتهمة دعم الإرهاب، ما أدى إلى تراجع أعماله في المنطقة. وأوضح أنه اضطر إلى الاستقالة من منصبه التنفيذي، تفادياً للإضرار بشركائه ومستثمريه.

تحدث أصفري بإسهاب عن “مؤسسة الأصفري”، التي أطلقها عام 2006 لدعم التعليم والمجتمع المدني، مستلهماً تجربته الشخصية حين حصل على منحة دراسية غيّرت مسار حياته. وقال إنه موّل أكثر من 100 مؤسسة سورية، من بينها “القبعات البيضاء”، ومؤسسات إعلامية وحقوقية ونسوية.

كما أشار إلى تأسيس مشروع “مدنية” عام 2021، والإعلان عنه رسمياً عام 2023 في معهد العالم العربي في باريس، مضيفاً أن المشروع بات اليوم مظلة تجمع عشرات المؤسسات، وتعمل على الدفاع عن قيم الدولة المدنية والديمقراطية.

العودة إلى الداخل والتواصل مع الشرع

أكد أصفري أنه عاد إلى سوريا بعد سقوط النظام، والتقى الرئيس أحمد الشرع أكثر من مرة، وخصص منزله في الشام القديمة مقراً لمنصة “مدنية”. وأشار إلى أن اللقاءات شملت ملفات مهمة، منها الطاقة، والبنية التحتية، والاقتصاد الرقمي.

وقال إنه أرسل فريقاً من الخبراء لدراسة إمكانيات زيادة إنتاج الغاز، خصوصاً في الحقول التي سبق له العمل بها سابقاً. وأكد أن هذا الملف كان محورياً في مناقشاته مع المسؤولين.

لا طموح لمنصب رسمي

نفى أصفري بشكل قاطع أي نية لتولي منصب رسمي، مشيراً إلى أنه لم يُعرض عليه أي منصب، ولم يطلب ذلك. وقال إن هناك شائعات رُوّجت حول ترشيحه، لكنه أصدر بياناً ينفي فيه تلك المزاعم.

وانتقد بعض البنود في الإعلان الدستوري، لا سيما ما وصفه بـ”غياب فصل السلطات”، وتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية.

وأشار أصفري إلى أن الإدارة الأميركية منقسمة بشأن التعامل مع الإدارة الجديدة في سوريا، بسبب وجود شخصيات مصنفة إرهابية، ومقاتلين أجانب ضمن هيكلية الجيش.

في ختام حديثه، شدد أصفري على أهمية بناء دولة ديمقراطية مدنية، تقوم على المواطنة المتساوية، والمحاسبة، وسيادة القانون. وقال: “أنا مستعد لخدمة بلدي من أي موقع، لكنني لا أطمح إلى منصب. سأبقى ناصحاً ومتابعاً، ولن أكون معارضاً، لكنني سأكون ناصحاً”.

————————————–

في المسألة السورية.. وبناء الدولة/ رائف مرعي

الثلاثاء 2025/04/08

استفاق السوريون بعد ليل طويل غشيه السهاد والاضطراب، على لحظة تاريخية غير مسبوقة، اختلطت فيها أحلام الفقراء ورومانسية الشباب ومشاريع جماعات حزبية، وكذلك أطماع خارجية غير متسقة.

غابت سوريا، عبر الحقبة الأسدية (حافط الأب + بشار الابن)، عن نفسها، وانفصلت عن سياقها الطبيعي، بشكل جعل ملامحها الذاتية المضمرة في حالة من العطالة شبه التامة.

وهي (سوريا) من هذه الوجهة ، كانت “غيرها”، ولم تكن “هي”.

هذا الفصام، وباستمراره طويلا خلال أكثر من نصف قرن، كاد أن يكون التشكيل النهائي للملامح الذاتية السورية، الأمر الذي صعّب ويصعّب محاولات إزالته (أي محاولات إعادة سوريا إلى نفسها).

ولذلك، فإن الشرط اللازم من “القوى الذاتية” المجتمعية، ومع تحرير سوريا من نظام الأسد، العمل على محاولة تشكيل مؤسسات الحكم واداراتها بأقوى خصوصية متاحة، وبما يسبب إزالة حالة الفصام، ويعيد سوريا إلى نفسها عبر تحكمها بمصيرها.

وهذا يعني بالضرورة، اعتماد المشروع النهضوي الوطني السوري، الذي ينتقل بجهود الأفراد والحركات ذات الرؤى الإصلاحية من مرحلة الفلسفة والتأمل والتأريخ إلى مرحلة العمل، ومن دهاليز التسويف والتأجيل والتعليق والتخفيف، إلى مرحلة المصارحة والعمق والاستحقاق.

ولما كانت الصياغات النهائية لـ”الأسئلة المصيرية” الحاسمة، تتشكل عبر الحركة التاريخية للمجتمع، فإنها تأتي متوافقة مع قانون هذه الحركة ومقتضياته، وبالتالي فإن لحظة “مابعد النظام” البائد التسلطي، تشير من جملة ما تشير، إلى أن سوريا تهيأت لمواجهة نفسها، عبر صياغة أسئلتها الذاتية المكونة لمنطلقات مواجهتها هذه، فلاعودة إلى ذات الممارسات الفاشلة، بحيث لم تعد الدولة هي جهاز مصادر للحريات ولحقوق الإنسان، بل مجال سياسي حيوي، لتنفيذ برامج ومشاريع الفواعل على اختلاف توجهاتها، الممثلة في السلطة، أو المحتمل تمثيلها اللاحق في السلطة.

لا ريب، أن سوريا تخوض في لحظة تاريخية فارقة بكل ما تنطوي عليه الكلمة، من أجل أن تستثمر الفواعل من غير الدولة – عندما تعني هذه الفواعل “المجتمع المدني، الأحزاب، النخب، البيروقراطيات، المثقفين…”، بل وحتى المساجد – للدور الكبير الذي قامت به صلوات الجمعة في كسر الخوف، والتعبئة، ورص الصفوف ، والوقوف على الموقف الواحد – الوعي بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية ، كوعي ذاتي جماعي، يأخذ المفهوم المستقل بذاته، ويُدرك بعيداً عن منحة أو منّة الدولة، فضلاً عن السياق الدولي المواتي لدينامية المجتمع السوري عبر بسالة نضاله الثوري، من أجل ترسيخ العمل بالمؤسسات العامة التي لا تقبل التمليك أو التوريث.

تبين الملاحظة التاريخية، تفرد النظام العربي بتجربة سياسية حديثة ومعاصرة ، هي “السلطوية”، ومفادها: أن نظام الحكم الذي جاء في أعقاب “الانقلابات”، و”الاستقلال” عن الدول الاستعمارية، استمر في الحكم ولم يغادره إلا بالموت والانقلاب، واستعصى عن التجاوب مع السياقات  الدولية الجديدة التي ترشحه إلى أن يستقر على نظام ديمقراطي، يحترم الحريات والحقوق، ويرسي نظام الدولة الحديثة، المجردة عن شخص الحاكم وحاشيته.

وإذا كانت “السلطوية”، هي خاصية الأنظمة العربية وهي قاسمهم المشترك مع تعدد أنظمتهم السياسية ( تقليدية – جمهورية…)، فإن الاستثناء السوري المتمثل في “السلطوية”، هي أنها نزعة لازمت نموذج الدولة في صورتها القومية البعثية، وتعثّرت منذ البدايات في إيجاد الحل السياسي لمشكلة الحكم.

فعقب انقلاب الأسد الأب عام 1970، فرض النظام حالة الطوارئ ليستمرئ الحالة الاستثنائية، وأبقى عليها ولم يتزحزح إلا بعد أن خرج السوريون عام 2011 إلى الشارع، ليطالبوا برحيل الرئيس (الأسد الابن)، وإزالة النظام الذي حماه لعقود من الزمن السياسي الرديء.

ويمكننا استناداً إلى هذا المفهوم – السلطوية – اكتشاف الكيفية التي كانها المجتمع السوري في حقبة الأسدين (1970 – 2024).

فالسلطة ، نواة صلبة وتزداد صلابة مع الوقت، تحاول أن تسعف نفسها من السقوط ومن مقتضيات الديمقراطية، بمزيد من التسلط بفرض حلقات جديدة إلى جهاز الأمن والجيش والعصابات السياسية والفكرية، فضلاً عن الحرس الجمهوري، والكتائب من المرتزقة، واللفيف الأجنبي من المعاونين العسكريين والأمنيين، ومن رجال الأعمال والمال الفاسد وزبائنية النظام.

حتى صار الوضع السوري ، يتميز بأنه وضع استثنائي، وقد أصبح خارج دائرة التاريخ الحديث والمعاصر، فلم يستطِع أن يصلح نفسه من الداخل، وقد استشرى الفساد، وتهيكل في تلافيف النظام ذاته واستغلق عليه، ودفعه من ثم إلى الانهيار المحتوم على ما شهدناه بالأمس القريب، ليكون بذلك نهاية التاريخ لتجربة سلطوية عنيدة، بلاوجهة ولا مستقبل.

المدن

———————–

13 مليون سوري تحت خط الجوع/ رنيم غسان خلوف

08 ابريل 2025

تقرّ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، أنه يحق لكل فرد الحصول على الغذاء بشكل منتظم ودائم وحر، بصورة مباشرة أو بواسطة مشتريات نقدية، ليحصل على غذاء وافٍ وكافٍ من الناحيتين الكمّية والنوعية، بما يتوافق مع التقاليد الثقافية للشعب الذي ينتمي إليه المستهلك ويكفل له حياة بدنية ونفسية، وفردية وجماعية، مُرضية وكريمة وبمنأىً عن الخوف”.

هذا الحق يُخرق في سورية من كل جوانبه المتمثلة “بالكافي، والوافي، والمنتظم والحرّ، والكم والنوع” وذلك منذ 14 عاماً، وذلك حسب التعريفات الأكاديمية للأمن الغذائي التي تتمثل بتوافر الغذاء والنفاذ إليه واستخدامه البيولوجي، كما ذكرت إحصائيات صادرة نهاية عام 2024 عن برنامج الغذاء العالمي (WFP)، أنه يعاني نحو 13 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان، من انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك 3.1 مليون شخص يعانون بحدّة انعدام الأمن الغذائي. كما وصلت معدّلات سوء التغذية لدى الأمهات وسوء التغذية الحاد لدى الأطفال دون سن الخامسة إلى مستويات طوارئ عالمية، حيث تضاعفت تكاليف المعيشة في سوريا ثلاث مرات خلال الثلاث السنوات الماضية، أيام حكم النظام السابق، حيث لا يشتري الحد الأدنى للأجور سوى خُمس احتياجات الأسرة الأساسية، وماتزال كذلك، حيث تراجع مستوى النفاذ إلى الغذاء في سوريا إلى 48% حتى عام 2018.

وخلال استبيان الكتروني (أعد لهذا المقال) على 100 مفردة لعينة عشوائية من السوريين والسوريات، أظهرت النتائج أن 56.9% يعيشون بأقل من 400 ألف ليرة سورية، فعن ماذا استغنى السوريون إذاً؟ وهل سعراتهم الحرارية الله حاميها فقط!، بالرغم من تدهور أمنهم الغذائي!

ب30 دولار يعيش السوريون!

منذ تفاقم الوضع في سوريا أواخر عام 2024، قدّم برنامج الأغذية العالمي وشركاؤه الدعم لنحو لأكثر من 340 ألف شخص في جميع أنحاء سوريا، من خلال توزيع حصص غذائية جاهزة للأكل، بالإضافة إلى وجبات ساخنة وطازجة، بينما تحتاج الأسرة السورية المكونة من أربعة أشخاص إلى 700 دولار لتعيش بالحد الأدنى، حسب التعريفات الأكاديمية للأمن الغذائي، يوضح الدكتور في الاقتصاد علي محمد لـ “سورية الجديدة” احتياجات المعيشة للسوريين، منوّهاً إلى أنه لا يمكن لأحد أن يكون دقيقاً جداً، ويقول: “بعض الناس تحسب احتياجات المعيشة ليتحقق الأمن الغذائي السليم للفرد على أساس السعرات الحرارية، حيث يحتاج الفرد 1200 سعرة حرارية يومياً، تتضمن لحوم وخضار وفواكه”، لكن يفصل الخبير ربط الموضوع بطريقة بعيدة عن السعرات الحرارية، فكل شخص موجود ليس فقط ليأكل ويبقى على قيد الحياة، بل يجب أن ينتج خلال عمله، وهذا الإنتاج يرتبط بالأمن الغذائي، فنحسب التالي:

في الحالة المثالية للحياة، تحتاج عائلة مكونة من أربعة أفراد، وسطياً إلى لحوم حمراء، وبيضاء، بمقدار 12 كيلو شهرياً، ( مليون ومئتي ألف ليرة سورية، ما يقارب 90 دولارا حسب سعر مصرف سورية المركزي)، و( 40 ألف ليرة سورية، 13دولار) خضار وفواكه يومياً بعيداً عن الاستوائية منها، وحوالي 20 لتر من زيت الزيتون والزيت النباتي، بحوالي( 600 ألف ليرة سورية، 45 دولار)، عدا عن الأدوية لأنها أساسية للأمن الغذائي، ليكون الإجمالي (ثلاثة ملايين ونصف إلى أربعة ملايين ليرة سورية، أي 300 دولار على الأقل لأسرة مكونة من أربعة أشخاص). وقبل 2011، كان الأسرة تعيش بأمن غذائي وتلبي طلباتها بـ 35 ألف أي 700 دولار، واليوم بعد 8 ديسمبر (2024) تحتاج 700 دولارا، فكيف يعيش السوريين إذاً؟

توضح نتائج الاستبيان الذي تم توزيعه على عينة عشوائية من 100 شخص، أن 87% منهم ينتمون لأسر عدد أفرادها بين (أربعة وسبعة) أشخاص، (78.4%) منهم يعملون بالحكومة، و(74.5%) لا دخل إضافياً لديهم، و(56.9%) دخولهم أقل من 400 ألف، أي حوالي 30 دولارا، وهو راتب موظف الحكومة.

ونتيجة ارتفاع الأسعار الذي طال السلع والمواد الغذائية، والفجوة بين الرواتب والأجور والقوة الشرائية للمواطن السوري، يبتعد السوريون أكثر فأكثر عن الأمن الغذائي، حيث بات 74.5% ممن وزع عليهم الاستبيان يستغنون عن سلعٍ غذائيةٍ كثيرة في حياتهم اليومية، منها الخضار والفواكه، اللحوم، التدفئة والملابس التي باتت تعتبر رفاهيات.

وهذه السلع التي باتت رفاهية، والتي استغنى عنها السوريين حتى لحظة إعداد هذا التقرير، ربما تزيد النسب إلى حين نشر التقرير.

الزراعة حزام الأمن الغذائي

” ازرع تأكل وتوزع لمن لا يملك”، ” ومن يملك بقرة لا يجوع”، هذه الأمثال الشعبية التي كانت كلمات الأجداد للأحفاد والأبناء، للإشارة إلى أن أمن الأسرة الغذائي هو بالزراعة وتربية الماشية وخصوصاً في الأرياف، ليعيش الناس عيشاً كريماً، اندثرت هذه المقولات ما قبل عام 2010، وتزايد اندثارها بعد انطلاق الثورة عام 2011 والحرب التي تبعتها لعوامل ترتبط بتهجير الفلاحين من قراهم، وهجرة الكثير منهم للزراعة طوعاً وانتقالهم لحياة المدن، إضافة إلى جملة التغيرات المناخية الخارجة عن إدارة الفلاحين، دون التصدّي لها، ما هدد أمنهم الغذائي، حيث خسر قطاع الزراعة في سورية 16 مليار دولارا أميركيا، حسب  مؤسسة “كارينغي للسلام”، منها 3 مليار دولار، لحقت بالأصول الزراعية ووسائل الإنتاج من معدات ومزارع وعيادات بيطرية وحظائر الحيوانات والبيوت البلاستيكية وأنظمة الري، وخسرت المحاصيل ما يقارب 6.3 مليار دولار، وقطاع الماشية 5.5 مليار دولار، و80 مليون خسائر قطاع الأسماك، وتقاطعاً مع هذا الطرح، زاد مستوى انهيار الأمن الغذائي، حيث أصبح يحتاج أكثر من 16.7 مليون سوري المساعدات.

ويوضح الخبير الاقتصادي علي محمد أن الزراعة تعدّ أحد التصنيفات التي يقاس على أساسها، استقرار الأمن الغذائي للمواطن السوري، الذي أصبح يعيش تحت خط الفقر المدقع، الذي حدّده البنك الدولي بأي دخل يقل عن 2.15 دولار، وبالتالي كل سوري يبلغ دخله 30 دولار شهرياً، تكون يوميته دولاراً، أي 13500 ليرة سورية حسب المصرف المركزي، وعشرة آلاف ليرة حسب السوق السوداء، فهو بحالة فقر مدقع. حيث يعدّ خط الفقر أيضاً ضمن التصنيفات التي يقاس بها الأمن الغذائي، والذي يتبين أنه معدوم عند السوريين حسب الخبير، حيث تعد التنمية الزراعية من أقوى أدوات القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتوفير الغذاء والرخاء لحوالي عشرة مليارات نسمة عام 2050، في حال جرى تطبيق أهداف التنمية المستدامة، والهدف الثاني تحديداً، الذي يؤكد على تعزيز الزراعة المستدامة، وتمكين صغار المزارعين، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وإنهاء الفقر في الريف، وضمان أنماط حياة صحية، ومعالجة تغير المناخ.

الاقتصاد خاصرة الأمن الغذائي للسوريين

يسير ملف الأمن الغذائي للمواطن في دائرة متشابكة، كل نقطة في قطر هذه الدائرة تؤثر بالنقطة التي تليها، فلتحقيق أمن غذائي مستقر للأفراد في الدول والمجتمعات، لابد من استقرار الإنتاج الزراعي، وخفض الاستيراد، وعودة عجلة الإنتاج أيضاً الاقتصادي الحكومي والفردي، و إضافة إلى تأمين الرعاية الصحية، الذي يوضح الخبير أنها نقطة مهمة في محيط الدائرة، تتجاهلها حكوماتٌ ومجتمعاتٌ كثيرة، وفي تقرير صادر عن الأمم المتحدة، أشار مدير البرنامج الإنمائي أخيم شتاينر”، إلى أن تعافي سوريا غذائياً واقتصادياً يتطلب استثماراً طويل الأجل في التنمية، وهذا ما تحدّث عنه الخبير الاقتصادي علي محمد قائلاً إن الاحصائيات الأممية تذكر أن خسارة الناتج المحلي في سورية 800 مليار دولاراً 14 عاماً، وثلاثة من كل أربعة أشخاص باتوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية في البلاد، منوهاً أيضاً أنه خسر الكثير من المواطنين السوريين دخولهم أخيراً، سواء بالقطاعيْن العام والخاص، ورغم أن الجميع يعرف أن القطاع العام يعاني من بطالة مقنّعة وفائض كبير في الأعداد والرواتب، لكن ستضاف هذه الأعداد على قائمة الناس التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي حسب الخبير الاقتصادي، الذي طرح حلولاً تتمثّل في زيادة عجلة الإنتاج، من خلال توفير القواعد السليمة وتطويرها، وعودة دعم القطاع الزراعي والمزارعين، بزراعات مستدامة، وهذه النقطة جوهرية أكد عليها برنامج العذاء العالمي، إضافة لوضع خطط حكومية قابلة للقياس والتقييم يتم من خلال تحديد التطور الاستراتيجي على صعيد الإنتاج والزراعة بعد البدء بها، مع دعم المنظمّات الدولية، كل هذه الإجراءات تخفض على المدى الطويل الاستيراد، وينخفض الفقر إلى الربع بعد ست سنوات.

ذاق السوريون كل أنواع العذاب، حزامهم رخو، وخاصرتهم رخوة، وتلون أمنهم بالأحمر القاني، بين الحرب، والغذاء، والصحة، لتكون كل الاحتمالات أمامهم مفتوحة في المرحلة المقبلة من تاريخ البلاد.

العربي الجديد

———————————-

لغط سوري حول نتائج استطلاع تناول أحمد الشرع/ طارق علي

أجرته “إيكونوميست” على عينة مكونة من 1500 مواطن أظهروا شعبية جارفة لرئيسهم الجديد

الثلاثاء 8 أبريل 2025

جاء في الاستطلاع أن 81 في المئة يوافقون على حكم أحمد الشرع، و70 في المئة عبروا عن تفاؤلهم بالاتجاه العام الذي تسير به البلاد، كما أعربت أعداد كبيرة عن شعورها بأن النظام الجديد أكثر أماناً، وأكثر حرية وأقل طائفية من حكم بشار الأسد.

نشرت مجلة “إيكونوميست” أخيراً افتتاحية حملت في طابعها استطلاعاً للرأي يتحدث عن تفاؤل السوريين بالإدارة الجديدة بعد أربعة أشهر من سقوط النظام السوري، وضمن الاستطلاع أوردت كثيراً من الأرقام المئوية الشاملة التي خلصت إليها، مما أفضى إلى اجتزاء جزء من تلك الأرقام وتعميمه وترويجه على نطاق واسع من قبل قنوات وصفحات ومواقع إلكترونية متحالفة مع السلطة الجديدة وبما يصب في مصلحتها، في محاولة لإظهار حال الانتصار حسب المسح الميداني بما يشبه مخاطبة العقل الجمعي للمتلقي، متغافلين عن فقرات أوسع وأكثر أهمية وحساسية جاءت ضمن الاستطلاع ولم تكن في مصلحة النظام الجديد، مما أحدث حالاً من الإرباك لمن تمكن من الاطلاع على التقرير كاملاً.

شعبية جارفة

جاء في الاستطلاع أن 81 في المئة يوافقون على حكم أحمد الشرع، و70 في المئة عبروا عن تفاؤلهم بالاتجاه العام الذي تسير به البلاد، كذلك أعربت أعداد كبيرة عن شعورها بأن النظام الجديد أكثر أماناً، وأكثر حرية وأقل طائفية من حكم بشار الأسد.

وركز التقرير بحسب من استطلع آراءهم أن أكثر من 90 في المئة من السنة يطلبون العودة الجزئية أو الكاملة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو أمر لم يحدث في سوريا منذ سقوط الخلافة العثمانية قبل أكثر من قرن من الزمن، ومقابل ذلك يطمح سبعة في المئة فقط في نظام علماني كامل.

تلك المعلومات كانت مجتزأة من سياقها الأصلي ضمن المادة، وكثافة التركيز عليها توحي بأنه كان ثمة تكاتف لئلا تصل بقية معطيات الافتتاحية إلى عقول السوريين، ويبدو ذلك جلياً ببحث معمق في المصادر المتاحة ليجد المشاهد نفسه أمام النسب ذاتها التي تدعم القيادة السورية بالمطلق من دون تحفظات، لكن مع القليل من التمعن والبحث المهني ضمن موقع الصحيفة نفسها باللغة الإنجليزية يمكن التأكد أنها أوردت أرقاماً أكثر قلقاً من ذلك، فقد تحدثت أن استطلاعها لم يشمل سوى 1500 شخص، مما يجعله قاصراً من النواحي القانونية والسياسية والاجتماعية والدينية والإحصائية، ولا يعدو كونه استئناساً بالرأي.

بحسب متخصصين قال بعضهم إن للإحصاء شروط مسح شامل وكامل ولا يمكن لـ1500 شخص مجهولين أن يعبروا عن تطلعات ملايين كثيرة من السوريين.

وبدوره تساءل الباحث في شؤون الإحصاء ميخائيل متّى خلال حديثه مع “اندبندنت عربية” عن السبل العلمية والمنهجية التي اتبعها فريق الإحصاء، وهل راعى النسب والتناسب، وأخذ في الاعتبار انعدام الشفافية أساساً والتعددية السياسية، وبأنهم يجرون استطلاعاً شمل عدداً من أناس لا يساوون ربع من قتلوا ضمن الانتهاكات منذ انتصار الثورة.

ويكمل الباحث “في العلوم الإحصائية تُغيب حقائق كثيرة في كثير من الأحيان لمصلحة قضايا سياسية، فهل الدروز والمسيحيون وغيرهم حقاً يشعرون الآن بالأمان أكثر؟ قطعاً لا، كما ذكر التقرير ذلك، لكن توجيهات واجتهادات جاءت للمنابر الإعلامية وأمرتهم بتمرير المطلوب فقط”.

ما خفي

خلال البحث ضمن الافتتاحية وجدت “اندبندنت عربية” أرقاماً أخرى إضافية مغايرة وتناقض ما سبقها، وهو ما لم يصل إلى كثير من السوريين ولعل ذلك ربما بسبب أن موقع المجلة محجوب ويتطلب الاشتراك المادي، وكان هذا عاملاً إضافياً في تمرير الأفكار للشعب بسلاسة.

إذ جاء في متن الاستطلاع أن 22 في المئة يقولون إن ماضي أحمد الشرع كزعيم لتنظيم جبهة النصرة (فرع القاعدة) يجب أن يمنعه من تولي القيادة، كذلك عبر المستطلعون عن كثير من الانتقادات والتحفظات على أداء الرئيس الانتقالي وتحديداً في ما يتعلق بالملف الاقتصادي.

نحو 60 في المئة من المستطلعين يعتقدون أن الأوضاع الاقتصادية إما لم تتحسن أو ساءت بعد انتصار الثورة، وأن معظم رواتب موظفي الدولة لم تدفع منذ تولي القيادة الجديدة الحكم في ظل نقص حاد بالسيولة النقدية، إضافة إلى ذلك يعارض معظم السوريين بشدة سياسة الشرع في دمج المقاتلين الأجانب ضمن جيشه الجديد، ويرى 60 في المئة ممن شملهم الاستطلاع أنه ينبغي ترحيلهم فوراً.

كذلك تشعر المجتمعات الدرزية والكردية والمسيحية بأنها أقل فقراً، وأقل حرية، وأقل أمناً من العرب السنة، فنحو 76 في المئة من المسيحيين والدروز، و73 في المئة من الأكراد، يريدون نظاماً مدنياً قانونياً علمانياً، وذكر الاستطلاع أن دعم الشريعة بين الرجال أكثر من النساء.

وفي هذا الإطار يوضح الخبير السياسي محمد مسعد أن الاستطلاع طُبِخ على عجل، فقدم رسالة سياسية تخطب ودها الإدارة الجديدة، ثم فرز بقية المستطلعين ليخرج منهم بنتائج منطقية على قدر عقول السوريين بعد كل التنكيل الواقع على أرواحهم وأملاكهم وأرزاقهم خلال هذه المدة، فقسم المستطلعين وسأل مناصري الشرع عن رأيهم وخرج بنسب مئوية عالية للغاية، ثم راح للأقليات المذهبية والعرقية التي جرى تمييع رأيها تحت زخم ضخ أخبار دعم الشرعية الجديدة.

وثيقة دعائية ذات طابع موجه

في هذا الصدد حاورت “اندبندنت عربية” الباحث والكاتب الأكاديمي الدكتور مالك الحافظ باعتباره متابعاً ومهتماً لما ورد في الاستطلاع، وقد عمل على تفنيده تقنياً وسياسياً بحيث يرى أن الاستطلاع الأخير الذي نشرته مجلة “إيكونوميست” البريطانية بشأن “شعبية” أحمد الشرع والسلطة الانتقالية في سوريا مجرد مادة استطلاعية مستقلة، بقدر ما كان، في بنيته وآلياته ومخرجاته، وثيقة دعائية ذات طابع سياسي موجه، تصاغ بلغة البحث، لكنها تفتقر إلى أبسط شروطه.

وأن يُقال إن “80 في المئة من السوريين يؤيدون أحمد الشرع”، من دون تقديم الشروط المنهجية والظروف السياسية التي أنتجت هذا الرقم، هو أشبه بما يسميه الباحث الإعلامي هربرت شيلر بـ”صناعة الرضا الجماهيري”، حين يُستثمر الرقم كأداة للهيمنة الرمزية، لا كأداة لقياس الحقيقة.

استطلاع في الهواء

يضيف الباحث “وفقاً لعلم قياس الرأي العام، أي استطلاع يحترم القواعد العلمية يجب أن يلتزم ثلاثة شروط منهجية أساسية، أولها حجم العينة النسبي بحيث لا يعتد بنتائج استطلاع أجري على 1500 شخص فقط، في بلد يتجاوز عدد سكانه 18 مليوناً، يعاني انقساماً مناطقياً ونزوحاً داخلياً وهشاشة سكانية شديدة، مع غياب الشفافية الكاملة حول الجهة الممولة أو المشرفة على الاستطلاع، مما يعزز فرضية وجود (صناعة علاقات عامة سياسية) أكثر من وجود بحث مستقل”.

وتابع قائلاً “أيضا آليات العينة التمثيلية، فإن لم يُعلن عن توزيع العينة حسب المناطق، الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، ومستويات التعليم والانتماء القومي والديني، فإن أية نسبة تُعرض من دون هذه المحددات هي تضليل ناعم، وأيضاً هناك الظرف السياسي والأمني، الاستطلاع يفترض شرطاً بديهياً هو حرية التعبير عن الرأي، وهو غير متحقق في أية منطقة”.

استطلاع مشروط أيديولوجياً

من هنا يمكن أن يندرج استطلاع “إيكونوميست” تحت ما يسميه الباحثون في الإعلام بـ”الاستطلاع المشروط أيديولوجياً”، أي الذي يُصاغ فيه الرأي العام لا استناداً إلى ما يقوله الناس، بل استناداً إلى ما يُراد لهم أن يقولوه في ضوء هوية الجهة الراعية، وهو ما يتطلب من المجلة كشف الجهة التي مولت الاستطلاع، وهو ما لم تفعله حتى الآن، وفق المتحدث، الذي أشار إلى أنه من الناحية العملية لا يمكن فصل هذه المادة عن أدوات ما يُعرف بالعلاقات العامة السياسية، التي تُستخدم بكثافة في المراحل الانتقالية لتسويق صورة “الزعيم المقبول”، القادر على التفاوض والمؤهل للقيادة.

وقد استخدمت كثير من الأنظمة والفواعل غير الحكومية هذه التقنيات لإعادة تدوير صورتها أمام العالم، عبر تقارير بحثية ممولة، أو دعوات لمؤتمرات دولية، كما حدث مثلاً مع دعوة وجوه من “السلطة الجديدة” إلى محافل اقتصادية مثل “دافوس”، بدعم من مؤسسات علاقات عامة تقاضت مقابلاً لذلك.

هندسة الرضا العام

نوه بأنه أولى جزءاً من وقته لمتابعة الاستطلاع ومخرجاته ورعاته، وتمكن من الحصول على مطابقات ونتائج تتعلق بتزييف الرضا الجماهيري عبر استطلاعات مغلقة، فإننا ننتقل من “قياس الرأي العام” إلى “هندسة الرضا العام”، وهو فرق جوهري بين وظيفة البحث ووظيفة التضليل.

ويقول الأكاديمي إن اللافت في خطاب التقرير ومروّجيه هو خلط فادح بين ما يُسمى بـ”البراغماتية السياسية” وفرض السلطة بالأمر الواقع، إذ يُقدم أحمد الشرع باعتباره “براغماتياً معتدلاً”، على رغم أن التجربة السياسية التي يقودها قائمة على مرجعية دينية أحادية، وسلوك سلطوي متراكم، وتضييق على الحريات، من دون أي برنامج مدني لإدارة التنوع أو تداول السلطة.

ويضيف أن ما يُروّج له في الإعلام بوصفه “اعتدالاً براغماتياً”، هو في الحقيقة تدرج تكتيكي في الخطاب لأغراض دولية، لا تحوّل جوهري في بنية السلطة أو مشروعها الفكري، والقول إن التأييد الشعبي لسلطة كهذه يعكس تحوّلاً عميقاً، هو استخفاف بالناس أولاً، وبالوقائع الاجتماعية ثانياً، وبمنطق الدولة نفسه ثالثاً، إذ يقدم التقرير أحمد الشرع بوصفه “براغماتياً معتدلاً” يقود تحولاً سياسياً تدريجياً من السلفية الجهادية إلى الواقعية السياسية، لكن هذا الطرح يفتقر إلى أية مقومات معرفية تبرر الانتقال من “الفكر الجهادي الصلب” إلى “العقل السياسي العمومي” من دون معالجة البنية المرجعية التي ما زالت تقوم على أيديولوجيا إقصائية عقائدية.

————————

العقوبات الأوروبية على سورية.. إلى أين؟

نشر في 7 نيسان/أبريل ,2025

بعد سقوط نظام الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أعاد الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية تقييم سياساتهم تجاه سورية، عبر بيانات وزيارات رسمية أكّدت دعم العملية الانتقالية في سورية، مع التشديد على شروط متعلقة بحقوق الإنسان، حيث شغل ملف العقوبات الأميركية والغربية على سورية حيزًا أساسيًا في النقاشات السياسية للدول الأوروبية والولايات المتحدة بعد سقوط الأسد، وشكّل توجهًا محوريًا في السياسة الخارجية السورية، لما لهذا الملف من أهمية في تحديد معالم المرحلة القادمة في سورية، إذ إن إبقاء العقوبات يعني دخول سورية في مرحلة لا استقرار اقتصادي وسياسي، وتوقف حركة التعافي المبكر الواسع والبدء بإعادة الإعمار، ويعدّ ملفّ العقوبات الأوروبية أكثر تعقيدًا، بسبب تفاوت مواقف الدول الأوروبية من الحكومة السورية الجديدة، وسينعكس هذا التفاوت على ديناميكية رفع هذه العقوبات وخطوات الدعم القادم لسورية.

تقدّم هذه الورقة قراءةً في المواقف الأوروبية قُبَيل سقوط الأسد مباشرة، وتبيّن كيف تفاعلت الدول الأوروبية مع انهيار نظام الأسد ومع تسلّم الحكومة الجديدة السلطة، من حيث العقوبات والدعم الاقتصادي، وتوضّح مدى تأثير رفع العقوبات الأوروبية على سورية في الواقع والمستقبل القريب، وتقدّم سيناريوهات مستقبلية للعقوبات الأوروبية بناءً على مواقف الدول الأوروبية من السلطة الجديدة في سورية، وبالتزامن مع العقوبات الأميركية القائمة.

أولًا: المواقف الأوروبية من نظام الأسد قُبيل سقوطه

مع بداية عام 2024، كان الموقف الأوروبي متمسكًا بعدم التطبيع مع نظام الأسد عبر “اللاءات الثلاث : لا لرفع العقوبات – لا للتطبيع السياسي معه – لا لإعادة الإعمار، في حال لم يتحقق انتقال سياسي في سورية وفق قرار مجلس الأمن 2254[1]، حيث أصدرت كُلّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا بيانًا، في الذكرى الثالثة عشر لانطلاق الثورة السورية، نددوا فيه بالقصف المستمر ضد المدنيين، ودعوا إلى الوقف الفوري لها[2]، وذلك بالتزامن مع إدانة نظام الأسد بسبب تجارته بالكبتاغون، وتحويل تلك التجارة إلى مصدر لتمويل جيشه وميليشياته و”آلته القمعية”. ولكن في الربع الثالث من عام 2024، بدأ تباين محدود في سياسات بعض الدول الأوروبية تجاه الأسد، حيث أعادت إيطاليا انخراطها سياسيًا مع نظام الأسد، عبر قرارها فتح سفارتها في دمشق في أيلول/ سبتمبر 2024، تحت ذريعة ” كبح النفوذ الروسي في سورية، ومعالجة أزمة الهجرة غير الشرعية”، عبر ما يعرف بـ “خطة ماتي” للحكومة الإيطالية[3].

وبالنظر إلى المواقف الأوروبية من نظام الأسد؛ نجد أن أولى بوادر التَغيُّر في السياسات الأوروبية، بهدف فتح العلاقات السياسية مع النظام، كانت في تموز / يوليو 2024، عبر مبادرة “وثيقة اللاورقة” التي قدمتها مجموعة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي: “النمسا، كرواتيا، قبرص، التشيك، اليونان، إيطاليا، سلوفاكيا وسلوفينيا”، وقُدِّمت هذه المبادرة إلى الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل، ودعت إلى مراجعة النهج الأوروبي تجاه سورية، وتضمنت مطالبات عدة، أهمها فتح العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد الأوروبي ونظام الأسد، عبر تعيين مبعوث أوروبي خاص لسورية.

ومن ثم، جاءت معركة “ردع العدوان” في فترة إيجابية بالنسبة للأسد على صعيد تطور العلاقات بينه وبين وبعض الدول الأوروبية، عبر تعيين مبعوث أوروبي في دمشق، وذلك في ظل استنزاف اقتصادي للدول الأوروبية، بسبب تقديم المساعدات المالية لأوكرانيا في حربها مع روسيا، كونها خط دفاع متقدم أمام التوجهات الروسية، وأصبح حلّ ملف اللاجئين ضرورة قصوى للدول الأوروبية، حتى لو كان هذا الحل يقضي بتراجع الدول عن تصريحاتها وعقوباتها ضد الأسد، وفتح علاقات معه كخطوة أولى.

ثانيًا: مصير العقوبات الأوروبية بعد سقوط نظام الأسد

كانت المواقف الأوروبية مرحّبة بشكل عام بسقوط الأسد، وذلك عبر مواقف عدة دول، أبرزها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا، وكان المشترك في المواقف الأوروبية هو التأكيد على وجوب الانتقال السلمي ونبذ التطرف، في حين كان الموقف الإيطالي حذرًا، إذ أكّد للحكومة السورية الجديدة أن لن يكون هناك تطبيع كامل، قبل أن تُثبت الحكومة السورية الجديدة كفاءتها في التعامل مع الأقليات. وجاء ذلك في كلمة لرئيسة الوزراء الايطالية جورجا ميلوني، أمام البرلمان الإيطالي[4].

وعلى الرغم من عدم انسجام المواقف الأوروبية من السلطة الجديدة في دمشق، اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوات جديدة إزاء العقوبات، في إطار التعليق أو التخفيف أو الإلغاء، حيث كانت العقوبات المرفوعة أو المعلّقة أوروبيًا، إما من الاتحاد الأوروبي أو من بريطانيا. ويمكن تصنيف تلك الخطوات كالتالي، مع شرح انعاكاسات كل خطوة على الواقع في سورية في ظل استمرار العقوبات الأميركية:

    العقوبات المرفوعة أو المخفّفة من الاتحاد الأوروبي:

 وشملت القطاعات التالية:

1- قطاعَي النقل والطاقة: علَّق الاتحاد الأوروبي، في 24 شباط/ فبراير 2025، العقوبات على قطاع الطاقة السوري الذي يشمل النفط والغاز والكهرباء، وقطاع النقل، وعلى الرغم من العقوبات الأوروبية المعلقة على قطاع الطاقة، تبقى العقوبات الأميركية عائقًا أمام تعافي هذا القطاع، فعلى الرغم من صدور إعفاء الأميركي مؤقت في كانون الثاني/ يناير 2025، شمل قطاع الطاقة لمدة 6 أشهر، يبقى هذا الإعفاء غير مُجدٍ بشكل حقيقي، وذلك لأن مدته غير كافية من أجل تعافي هذا القطاع، حيث لا يُشجع قِصر مدة هذا الإعفاء الشركات أو الدول على الاستثمار في قطاعٍ معقّد تقنيًا، مثل قطاع الطاقة، من ثم إذ قاطعنا العقوبات الأوروبية المرفوعة مع الإعفاء الأميركي المؤقت بالنسبة إلى قطاعي الطاقة والنقل[5]، فإننا نجد بحسب الجدول رقم (1) أن تخفيف العقوبات الأوروبية غيرُ ناجع، في حال استمرت أميركا في الاعتماد على سلوك الإعفاءات بدلًا من رفع العقوبات بشكل كامل عن القطاعات الاقتصادية ومؤسسات الدولة.

جدول رقم (1)

ومن ثم، لا يشكل الإعفاء الأميركي المؤقت مساحة عمل حقيقية لقطاعي الطاقة والنقل في سورية، حتى في ظل رفع العقوبات الأوروبية، وذلك لحاجة هذين القطاعين إلى تأسيس بنية تحتية لا يمكن إنجازها في فترة قصيرة، مما يجعل الشركات السورية عاجزة عن البدء بالعمل في هذين القطاعين، لعدم وضوج إمكانية تجديد هذاالإعفاء أو حتى إزالة العقوبات عن القطاعات، ولذلك لن يكون هناك عملية إصلاح تقنية فعلية أو إعادة تفعيل حقيقي لقطاعي الطاقة والنفط، دون رفع العقوبات الأميركية بشكل كامل.

2- القطاع المالي: شطب الاتحاد الأوروبي في 24 شباط /فبراير 2025 عدة كيانات اقتصادية سورية، من قائمة العقوبات المالية منها: المصرف الصناعي، مصرف التسليف الشعبي، المصرف التعاوني الزراعي، الخطوط الجوية السورية. وفي ظل استمرار العقوبات الأميركية، تكون المساحات التي فُتحت بعد الخطوة الأوروبية كالتالي:

    الخطوط الجوية السورية: سيُسهم شطبها نظريًا في السماح للخطوط الجوية السورية بالهبوط في المطارات الأوروبية، سواءا كان الطيران مدنيًا أو تجاريًا، كما تستطيع الخطوط الجوية السورية بحسب الشكل التالي القيام بعدة معاملات بينها وبين الشركات التقنية الأوروبية في مجال الطيران المدني والتجاري.

ولكن الإشكالية الداخلية في الخطوط الجوية السورية هي أنها لا تملك سوى طائرتين، وهما لا تتوافقان مع معايير الهبوط في المطارات الأوروبية، ولذلك هناك صعوبة في أن يكون هناك رحلات مباشرة بين سورية والدول الأوروبية على متن الخطوط الجوية السورية، حتى بعد رفع العقوبات عن الشركة، أي إن الإشكالية الحالية هي تقنية بحتة، وليست سياسية متعلقة بالعقوبات[6].

ولكن عمليًا تبقى معضلة نظام SWIFT إشكالية عملية ستواجه تلك البنوك، وإن رُفعت من قوائم العقوبات الأوروبية[7]، في ظل استمرار العقوبات الأميركية، إذ يعتبر SWIFT عصبًا أساسيًا في نظام التحويل المالي العالمي، وعلى الرغم من وجود مقرّه في بلجيكا، فإن الولايات المتحدة تُمارس ضغطًا قويًا وسلطة عليه، وبذلك تظلّ البنوك التي أزيلت من قوائم العقوبات المالية الأوروبية معاقبةً أميركيًا، وستتجنب البنوك العالمية العمل معها خشية من عقوبات أميركية (chilling effect)، وقد يرفض SWIFT تمكين البنوك السورية من استخدام هذا النظام، بسبب ضغط أميركي، كما حدث مع بعض البنوك الإيرانية المعاقبة أميركيًا، ودائمًا ما تفضل البنوك والشركات العالمية عدم التعامل مع الكيانات المعاقبة أميركيًا، لتجنب الصدام مع وزارة الخزانة الأميركية (OFAC)، ولكن يمكن إجراء بعض المعاملات المحدودة من البنوك المعاقبة أميركيًا وغير المعاقبة أوروبيًا، بحسب الجدول التالي:

وكخطوة عملية، في حال كان هناك شركة في سورية تودّ شراء معدات زراعية من دولة أوروبية، مثل ألمانيا على سبيل المثال، سيكون هناك 5 خطوات عامة لتتم هذه الصفقة، بحسب الشكل التالي:

– التبادل التجاري: أضاف الاتحاد الأوروبي استثناءً يسمح بتصدير السلع “الكمالية” إلى سورية، مع التأكيد على وجود آلية مراقبة تضمن أن لا يُستخدَم تعليق العقوبات لانتهاك حقوق الإنسان[8].

    العقوبات المرفوعة أو المخففة من قِبل بريطانيا:

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2017؛ أصبحت تدير نظام عقوباتها بشكل منفصل، ولكن بشكل موازٍ لخطوات الاتحاد الأوروبي، إذ أعلنت الحكومة البريطانية في 6 آذار/ مارس 2025 عن رفع التجميد عن أصول مصرف سورية المركزي والمصرف التجاري السوري و5 مصارف أخرى، وعن مصفاتي بانياس وحمص، وعن 9 مؤسسات أخرى لها علاقة بالنفط والطاقة، إضافة إلى مؤسسة تسويق القطن، والمؤسسة العامة للتبغ، والخطوط الجوية السورية. والأمر ذاته ينطبق على العقوبات البريطانية، إذ لن يكون لها تأثير حقيقي في ظل استمرار العقوبات الأميركية.

ثالثًا: السيناريوهات المستقبلية ما بين العقوبات الأوروبية والأميركية

بينما تعتمد سياسة العقوبات الأميركية على إزالة تلك العقوبات بعد الوصول إلى تفاهمات كاملة مع الدولة المُعاقبة، فتكون إزالة العقوبات كليًا هي الخطوة الدبلوماسية الأخيرة؛ تعتمد السياسة الأوروبية على رفع العقوبات تدريجيًا، بالتوازي مع تحسّن العلاقات الأوروبية مع الدولة المُعاقبة، وبناءً على التباين بين السياستين الأميركية والأوروبية إزاء العقوبات، تظهر السيناريوهات الآتية:

    رفع كامل للعقوبات الأوروبية والأميركية

يعدّ هذا السيناريو الأفضلَ للشعب السوري، ويتحقق في حال استكمال مسار سياسي ناجح تقوده الحكومة السورية الانتقالية، مع حصولها على القبول الدولي عبر التزامها داخليًا بالإصلاحات السياسية والدستورية، وإيجاد صيغة توافق مرافقة لخطوات تنفيذية مع (قسد)، والتزامها خارجيًا بتحييد أنشطة إيران بشكل كامل وكلّ الجماعات التي قد تُشكل تهديدًا على الأمن الأوروبي والأميركي، والتوصل مع أميركا إلى اتفاق بخصوص التوغل الاسرائيلي المستمرّ في الجنوب السوري، ومن الممكن أن ينصّ هذا الاتفاق على عدم وجود سلاح ثقيل في جنوب سورية. وسيبدأ هذا السيناريو بإخراج المؤسسات السورية الرسمية من قائمة SDN الخاصة بالعقوبات الأميركية[9]، وسيرافق هذا السيناريو انفتاح غربي اقتصادي قد يرافقه إطلاق برامج اقتصادية مشتركة أوروبية أميركية، تشمل مشاريع بنى تحتية، وإعادة دمج القطاع المصرفي في سورية بالنظام المالي العالمي بشكل كامل.

    رفع العقوبات الأوروبية واستمرار العقوبات الأميركية:

يجسّد هذا السيناريو انعكاس الفجوة الحاصلة بين أميركا والدول الأوروبية، ضمن الملف الأوكراني في سورية، ويُظهر اختلاف مقاربتي الطرفين في العقوبات، فبينما تعتمد الدول الأوروبية نهج التدرج والتفاعل السياسي المستمر كوسيلة للتغيير، تبقى أميركا متمسكة بالعقوبات كأداة ضغط حتى تحقيق كل شروطها غير المُعلنة بشكل واضح حتى الآن في الملف السوري. ويتمثل هذا السيناريو برفع الاتحاد الأوروبي لمعظم أو كل العقوبات الاقتصادية والمالية عن سورية، واستئناف التبادلات التجارية، في حين تُبقي واشنطن عقوبات على دمشق، تشمل القطاع المصرفي والتحويل بالدولار، مما يُكبِّل الاقتصاد السوري ويُقلّل جدوى العقوبات الأوروبية المرفوعة، ومن ثم سيستفيد الاقتصاد السوري من تخفيف العقوبات الأوروبية، ولكنه سيواجه قيودًا بسبب العقوبات الأميركية، وهذا يُفضي إلى العجز عن إطلاق عملية تعاف مبكر حقيقية، ومن ثم يستحيل العمل على إعادة الإعمار.

    استمرار العقوبات الأوروبية والأميركية

يتمثل هذا السيناريو بإبقاء العقوبات الأوروبية والأميركية، وهذا قد يكون انعكاسًا لحالة تفكك سياسية داخلية في سورية، أو فشل الدولة في بناء جيش سوري تقني، واستمرار العمل المسلّح بشكله الفصائلي مما يعزز حالة عدم الاستقرار الأمني. وقد تستغلّ فرنسا هذه المجريات ولا سيما أنها أظهرت تباينًا في آذار/ مارس 2025 عن موقف باقي الدول الأوروبية من رفع العقوبات، وطالبت بفرض عقوبات ردًا على أحداث الساحل السوري[10]. وفي حالة عدم الاستقرار، قد تخسر الحكومة الانتقالية الجديدة الدعم الأوروبي، وقد أشار بعض المسؤولين الألمان إلى أن قرارتهم تحتمل العودة والتراجع بأي وقت[11]، ويعود الاتحاد الأوروبي إلى استخدام ورقة العقوبات كورقة ضغط لتغيير سياسي، مما يُفضي إلى فرض عزلة سياسية واقتصادية على سورية، ودخول سورية في حالةٍ من التجميد السياسي والانهيار الاقتصادي، ولن يكون هناك تعاف مبكر حقيقي ولا إعادة إعمار.

ختامًا؛ من المهمّ أن تمضيَ الحكومة السورية الانتقالية في مسارَين: أولهما داخلي يتعلق بتوسيع المشاركة السياسية وهيكلة الجيش وقوى الأمن، لتفتيت الحالة الفصائلية الناشئة وزيادة انضباط العناصر، في ظل استمرار محاولات فلول نظام الأسد افتعال زعزعات أمنية. وثانيهما خارجي يتعلق بفهم المطالبات الأوروبية والأميركية والمواءمة بينها وبين السيادة والمصلحة الوطنية، من أجل التوصل إلى صيغة وطنية تحمل علاقات إيجابية مع دول الجوار والدول الغربية، لأن أي انتكاسةٍ في العلاقات الخارجية أو إقصاء سياسي داخلي في الفترة القادمة ستفتح المجال للدول الغربية المعارضة رفع العقوبات لزيادة نفوذها وأدوات إقناعها، وسترفض الأصوات الرسمية الأميركية رفع العقوبات عن الحكومة الحالية في دمشق.

[1] Syria: Statement on behalf of High Representative/Vice-President Josep Borrell at the EP debate on the situation in the country, European Union, 27 FRB 2024 https://bit.ly/4iENUZu

[2] Syria – 13th anniversary of the Syrian uprising – Joint Statement by the Foreign Ministries of France, Germany, the United Kingdom and the United States of America (15 March 2024), French Ministry of Foreign Affairs, 15 March 2024 https://bit.ly/41UvFbi

[3] Why Italy reopened its embassy in Syria and why the rest of the west should follow, Institute of New EUROPE, 23 SEP 2024 https://bit.ly/422eRzc

[4] Italy ready to engage with Syria after fall of Assad regime, says premier, Anadolu Agency, 17 DEC 2024 https://bit.ly/4kTUtZv

[5] يمان زباد، العقوبات الأميركية على سورية: بين الإرث الثقيل والسيناريوهات المستقبلية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 5 شباط / فبراير 2025، شوهد في 05 نيسان/ أبريل 2025، الرابط https://bit.ly/4hKFej9

[6] مقابلة مع مدير مكتب للخطوط الجوية السورية للطيران في دمشق، بتاريخ 28 آذار/ مارس 2025.

[7] هو اختصار لـ The Society for Worldwide Interbank Financial Telecommunications) – جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك)، وهو شبكة دولية لتبادل الأموال بين البنوك حول العالم، لا تتحكم فيها الولايات المتحدة الأميركية، ولكن لها نفوذ كبير فيها.

[8] Syria: EU suspends restrictive measures on key economic sectors, European Council, 24 FEB 2024 https://bit.ly/4isD2hb

[9] وهي اختصار ل SPECIALLY DESIGNATED NATIONALS AND BLOCKED PERSONS LIST)، وهي قائمة الأشخاص والكيانات المعاقبة أميركيًا، ويديرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع للوزارة، وتعتبر بمثابة قائمة سوداء أميركية تستهدف المصنفين من قبل أميركا كإرهابيين أو المسؤولين والمستفيدين من بعض الأنظمة الاستبدادية.

[10] وزير خارجية فرنسا: اقترحت فرض عقوبات على الضالعين في الهجمات على العلويين بسوريا، صحيفة الشرق الأوسط، 17 آذار/ مارس 2025، شوهد في 24 آذار/ مارس 2025، الرابط https://bit.ly/4iYyeQx

[11] من جلسة عقدها مركز حرمون للدراسات مع معهد الشرق الألماني، حضرها مسؤولون ألمان في 12 آذار/ مارس 2025

تحميل الموضوع

مركز حرمون

———————————–

حكومة غير معترف بها”… ماذا تريد واشنطن من الحكومة السورية؟

لا تنطلق السياسية الأميركية في هذا السياق من ثوابت شفافة وواضحة، بل تتخذ التصنيف ذريعةً للضغط والابتزاز

أثار كشف “النهار” أمس عن قرار الخارجية الأميركية، القاضي بتعديل الوضع القانوني لبعثة سوريا الدائمة في الأمم المتحدة، جدلاً واسعاً بين السوريين، بحسب تفاوت مواقفهم من الإدارة الجديدة، ومدى تقبّلهم لسياساتها. وقد فجّر هذا الكشف إشارات ودلالات سياسية ترتسم شكوكاً وتساؤلات، رفعت منسوب القلق لدى البعض، ومنسوب الارتياح لدى البعض الآخر.

مفاجأة دالّة

ربما يكون المصطلح المفتاحي الذي احتشدت حوله مواقف الطرفين هو “حكومة غير معترف بها”، والذي يشير إلى التوصيف القانوني الذي تتبناه اليوم الخارجية الأميركية في تعريفها السلطات الانتقالية في سوريا، إثر قرارها حرمان أعضاء البعثة الديبلوماسية السورية من التأشيرات من فئة G1، وخفض مستواها إلى G3، الأمر الذي أثقل كاهل الطرفين في محاولة كل منهما لسحب بساط التفسير في ما يوافق ميوله السياسية أو الطائفية، نظراً إلى صعوبة التمييز بين الاثنين، في ظل استقطاب حادّ تشهده سوريا.

وشكّل الكشف عن القرار الأميركي مفاجأة من العيار الثقيل لعدم وجود مقدمات دلّت على إمكان اتخاذه في هذا التوقيت. ولعلّ صدور القرار عن الخارجية الأميركية، بالتنسيق مع إدارة الهجرة، هو ما جعله يتسم بطابع أمني – سياسي مشترك. لكن، في خارج الولايات المتحدة، وتحديداً بخصوص العلاقة الأميركية – السورية، واضح أن الغلبة ستكون للطابع السياسي، بل إن الطابع الأمني لن يكون مرئياً حتّى.

ولا شك في أن جذور القرار الخاص بالفريق الديبلوماسي الحكومي تمتد إلى موقف الولايات المتحدة من “هيئة تحرير الشام”، المصنفة أميركياً وأممياً على قوائم الإرهاب، والتي خرجت حكومة دمشق من رحمها. وعلى الرغم من أن الخطاب الديبلوماسي الأميركي ابتعد في العلن عن هذه التسميات، فهو مستمر في تبنيها سرّاً، بل لعل هذه التسميات هي التي تشكل العمود الفقري للسياسة الأميركية في الملف السوري.

ثوابت غائبة

لا تنطلق السياسة الأميركية في هذا السياق من ثوابت شفافة وواضحة، بل تتخذ التصنيف ذريعةً للضغط والابتزاز، بغية استثمار ذلك في مواجهة التعقيدات التي انبثقت عن الملف السوري، وجعلته ينفتح على احتمال تفجُّر الصراعات فيه بين القوى الداخلية أو القوى الخارجية.

وبما أن واشنطن لم تمنح منذ البداية السلطة الانتقالية في سوريا “شيكاً على بياض”، إنما وضعت أمامها قائمة من الشروط والمطالب، أهمها التخلص من المقاتلين الأجانب والتعاون مع منظمة الأسلحة الكيميائية وتحقيق التشاركية في مؤسسات الحكم والإدارة… إلخ، كان لا بدّ لها من تجميع أدوات الضغط لضمان التزام السلطة الانتقالية الوفاء بتعهداتها.

وتدرك دمشق جيداً أن نزع الاعتراف الأميركي عن حكومتها سيجعل حصانتها ضد الضغوط التي تمارس عليها في أدنى درجاتها، ما سيدفعها إلى المضيّ قدماً في مسار براغماتي بات يغلّف حرفياً فاتورة المصالح الضائعة.

وفاقمت المجازر التي وقعت في الساحل السوري الضغوط على السلطة الانتقالية، التي باتت تبحث عن كسب الوقت لإبعاد كأس الاختبار الذي ستشكله نتيجة التحقيقات التي تقوم بها لجنة تقصي الحقائق، وهو سيكون الأخير في سلسلة الاختبارات، بدءاً بمؤتمر الحوار ومروراً بالإعلان الدستوري ووصولاً إلى تشكيل الوزارة، التي ظلّ نجاح السلطة في تجاوزها مشوباً بانتقادات أميركية لا تشي برضا واشنطن. وربما يأتي اختبار لجنة تقصي الحقائق كي يحدد النتيجة النهائية.

ثغرات في السيطرة

يجري ذلك بينما تظهر يوماً بعد يوم ثغرات إضافية في قبضة السلطة الانتقالية على زمام الأمور في مجالات عدة، منها السيطرة الميدانية على الأرض في بعض المحافظات والمدن، وهندسة قوات الجيش الجديد التي لا تزال عاجزة عن تجاوز شروخ الفصائلية والمناطقية، وكذلك ضعف الأداء في إدارة الاقتصاد ومؤسسات الدولة.

ويأتي الاستمرار في فرض العقوبات على دمشق، ورفض رفعها كلياً أو جزئياً على نحو ملموس، متوازياً مع تعميق الضغوط السياسية التي تجسدت أخيراً بقرار سحب الاعتراف من الحكومة، ليجعل من الصعب تحديد طبيعة الهدف الذي تسعى إليه السياسة الأميركية، إن كان مجرد ممارسة ضغوط لضمان مصالحها ومصالح حلفائها، أم يتعدى ذلك إلى محاولة رسم مسارات بديلة، قد يسلكها المشهد السوري مستقبلاً مع تغير الظروف.

النهار العربي

—————————–

من دولة إلى أمر واقع: البعثة السورية في نيويورك تتقلص قانونيًا/ أيهم الشيخ

8 أبريل 2025

في خطوة تحمل أبعادًا قانونية وسياسية بالغة الدلالة، أفادت تقارير إعلامية بأن الولايات المتحدة الأميركية أصدرت قرارًا بتغيير الوضع القانوني لبعثة سوريا الدبلوماسية لدى الأمم المتحدة، من بعثة تمثل دولة عضو في المنظمة الأممية، إلى بعثة تمثل حكومة غير معترف بها من قبل البيت الأبيض.

وبحسب ما تداولته تلك التقارير، فإن الولايات المتحدة أبلغت البعثة السورية في نيويورك، عبر مذكرة سُلّمت بواسطة الأمم المتحدة، بأن وضعها القانوني قد تغيّر من “بعثة دائمة لدولة عضو” إلى “بعثة تمثل حكومة غير معترف بها من قبل واشنطن”.

كما نصّت المذكرة على إلغاء التأشيرات من فئة G-1، الممنوحة لأعضاء البعثة، وهي الفئة المخصصة للدبلوماسيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة من قبل حكومات تعترف بها الدولة المضيفة.

ووفقًا للتقارير، جرى استبدال هذه التأشيرات بأخرى من فئة G-3، التي تُمنح لمواطنين أجانب مؤهلين وفق معايير الأمم المتحدة، دون أن يُعدّ ذلك اعترافًا من الولايات المتحدة بحكوماتهم.

ولطالما شكّل الاعتراف الدبلوماسي مدخلًا أساسيًا لشرعية الحكومات في النظام الدولي. وفي الحالة السورية، تزداد حساسية هذا الموضوع نتيجة طول أمد الصراع وتداخل المصالح الإقليمية والدولية.

قال الدكتور فاروق بلال، رئيس المجلس السوري الأميركي، في تصريح لموقع “الترا سوريا”: “دعونا نتفق أولًا على أن القرار المتعلق بالدبلوماسيين السوريين في الأمم المتحدة هو قرار إداري، وليس سياسيًا. الولايات المتحدة تتعامل مع وجود الدبلوماسيين على أراضيها من منطلق قانوني، ويتطلب ذلك حصولهم على تأشيرة من نوع G-1، وهي خاصة بالعاملين في المنظمات الدولية”.

وأضاف بلال: “الولايات المتحدة حتى الآن لا تعترف بالحكومة السورية الجديدة، ولذلك لا يمكنها إصدار تأشيرات G-1 للدبلوماسيين التابعين لها. لم يُطلب منهم المغادرة، لكن طُلب منهم البحث عن صيغة بديلة للحصول على تأشيرة أخرى تُمكنهم من البقاء”.

    تحويل التأشيرة من G1 إلى G3 تعكس موقفًا سياسيًا، مفاده أن الحكومة الحالية لا تُعتبر ممثلة للدولة السورية وفق متطلبات الاعتراف لدى الخارجية الأميركية

وأشار إلى أن: “ما يجري يعكس شكلًا من العلاقات غير الرسمية بين واشنطن ودمشق، مثل وجود مفاوضات وزيارات بين الطرفين حول بعض القضايا، ومنها ملف العقوبات. لكن لا أعتقد أن هذه العلاقة سترتقي إلى مستوى التمثيل الدبلوماسي الرسمي، طالما لا يوجد اعتراف أميركي بالحكومة السورية”.

وبشأن وضع مَقعد سوريا في الأمم المتحدة، أوضح الدكتور بلال: “التمثيل السوري في الأمم المتحدة لا يتأثر مباشرة بالموقف الأميركي، لأن حصول أي دولة على مقعد هناك لا يرتبط فقط بقرار الولايات المتحدة، بل يتطلب إجراءات معقدة تشمل المرور بمجلس الأمن ثم الجمعية العامة”.

وختم بالقول: “لكي يُلغى تمثيل دولة في الأمم المتحدة، يجب أن تصدر توصية من الجمعية العامة بناءً على تصويت بالأغلبية، بعد طرح القرار في مجلس الأمن. ما يحدث حاليًا هو مجرد ترتيبات إجرائية وإدارية، بانتظار أن يتضح الموقف الدولي من الحكومة السورية الجديدة”.

واشنطن تضغط على دمشق برسائل سياسية “جدية”: هل يتغير شكل العلاقة؟

في ظل تصاعد الحديث عن مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والنظام السوري، خصوصًا بعد سلسلة من القرارات والإشارات السياسية التي صدرت عن واشنطن في الآونة الأخيرة، تتجه الأنظار إلى الكيفية التي تتعامل بها الإدارة الأميركية مع دمشق، وما إذا كانت هذه السياسة تُنذر بتحوّل حقيقي في الموقف الدولي.

قال الدكتور بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق، في تصريحات خاصة لموقع “الترا سوريا”، إن الولايات المتحدة تتعامل مع دمشق كـ”سلطة أمر واقع”، وليست كدولة ذات شرعية كاملة.

وأوضح بربندي أن “واشنطن لم تُجرِ أي تواصل دبلوماسي مباشر مع النظام السوري سوى مرة واحدة، وكانت تلك المحاولة محصورة في تقديم شروط معينة للنظر في إمكانية الاعتراف به”، مشددًا على أن “العلاقة تقتصر حاليًا على المستوى الأمني، وضمن إطار التعامل مع الواقع لا أكثر”.

وفي تعليقه على القرارات الأميركية الأخيرة، أكد بربندي أن “هذه القرارات ليست تقنية، بل سياسية وجدية، وإذا أرادت واشنطن إيقافها لفعلت ذلك، لكنها تسعى من خلالها إلى توجيه رسالة واضحة إلى دمشق، وكذلك إلى حلفائها في المنطقة، وتحديدًا دول الخليج والاتحاد الأوروبي”.

وختم بالقول: “أعتقد أن هذه الرسائل ستدفع الدول الحليفة للولايات المتحدة، والتي تسعى إلى دعم استقرار سوريا، إلى ممارسة ضغوط إضافية على دمشق”.

بدورها، قالت وزارة الخارجية السورية، أمس الإثنين، إن الإجراء الذي اتخذته واشنطن بخصوص الوضع القانوني للبعثة السورية في الأمم المتحدة لا يعكس أي تغيير في الموقف الأميركي من الحكومة السورية الجديدة.

وأوضح مصدر مسؤول في وزارة الخارجية، في تصريح للوكالة العربية السورية للأنباء “سانا”، أن الإجراء المتعلق بتعديل الوضع القانوني للبعثة السورية هو مجرد إجراء تقني وإداري بحت، نافيًا أن يكون تعبيرًا عن أي تغيير في موقف البيت الأبيض من الحكام الجدد لسوريا.

وأشار المصدر إلى أن الوزارة مستمرة في التواصل مع الجهات المعنية لمعالجة هذه المسألة وتوضيح سياقها الكامل، بما يضمن وضوح المواقف السياسية والقانونية المرتبطة بهذا الأمر، مؤكدًا أن الخارجية ملتزمة بـ”مواصلة العمل الدبلوماسي والتنسيق ضمن الأطر الدولية لتحقيق تطلعات الشعب السوري في بناء وطنه”.

ويشير الباحث السياسي السوري محمود الحسن، في حديث لموقع “الترا سوريا”، إلى أن القرار الأميركي، لو كان سلبيًا تجاه الإدارة الجديدة وعدم اعتراف بها، لكان قد تضمن مطالبة البعثة الدبلوماسية بالمغادرة، لافتًا إلى أن هذا الإجراء يتم حاليًا معالجته عبر وزارة الخارجية السورية.

وأوضح أن هذا القرار جاء استباقًا لخطة تعمل عليها الحكومة السورية الجديدة لتبديل السفراء في بعض السفارات والقنصليات، وذلك بسبب ولائهم للنظام السابق وقيامهم بتجاوزات بحق المدنيين.

السياسي والإعلامي السوري – الأميركي، أيمن عبد النور، صرّح لموقع “الترا سوريا” أن :”الوضع القانوني السابق لبعثة النظام السوري في الأمم المتحدة كان وضعًا طبيعيًا لدولة عضو في الأمم المتحدة تعترف بها حكومة الولايات المتحدة، رغم إدراج أعضاء الحكومة السورية على قوائم العقوبات. لذلك، كان يُمنح أعضاؤها تأشيرات من نوع G1، لكن مع تدقيق دوري كل ستة أشهر لرصد أي مخالفات أو انتهاكات داخل الأراضي الأميركية، قد يتم إلى إلغاء هذه التأشيرة. وهذا يعني أنهم كانوا تحت مراقبة مستمرة، على عكس ممثلي بعثات الدول الأخرى الذين يحصلون على تأشيرات تمتد لفترات أطول”.

ويتابع عبد النور: “الآن، تغيّر الوضع. لم تعد الولايات المتحدة تعترف بالحكومة الممثلة لتلك البعثة، رغم أنها لا تزال دولة عضو في الأمم المتحدة. وكنتيجة لذلك، جرى تغيير تصنيف التأشيرات من G1 إلى G3. هذا التحوّل يُعد تخفيضًا في المكانة الدبلوماسية، إذ يؤدي إلى فقدان الحصانة الدبلوماسية، ويزيد من القيود على الحركة والمشاركة في بعض الاجتماعات، التي باتت تتطلب موافقات إضافية”.

وعن مدى رسمية البعثة بعد هذا القرار، يوضح عبد النور: “البعثة ما زالت رسمية، لكنها تمثل حكومة غير معترف بها من قِبل الولايات المتحدة. حيث تُعتبر حكومة أمر واقع، لا تمثل الدولة السورية بشكل شرعي لأنهم لا يزالون يعتبرونها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام”.

ويضيف حول الدوافع وراء القرار: “الأمر ليس سياسيًا فقط، بل هو مزيج من اعتبارات قانونية وسياسية. القرار بدأ من تدقيق قانوني روتيني أجرته إدارة خدمات الهجرة والجنسية (USCIS)، ما أدى إلى تقييم جديد للوضع. وزارة الخارجية الأميركية رأت أن هذه الحكومة امتداد لهيئة تحرير الشام، وبالتالي لا تنطبق عليها صفة الحكومة المعترف بها”.

ويختم عبد النور تصريحه بالإشارة إلى العلاقة بين القرار والموقف الأميركي من النظام السوري: “نعم، هناك ارتباط واضح. فموافقة وزارة الخارجية الأميركية على تحويل التأشيرة من G1 إلى G3 تعكس موقفًا سياسيًا، مفاده أن الحكومة الحالية – بما فيها التشكيلة الجديدة التي ظهرت قبل أيام – لا تُعتبر ممثلة للدولة السورية وفق متطلبات الاعتراف لدى الخارجية الأميركية، بل تُصنف كحكومة أمر واقع خاضعة لسلطة هيئة تحرير الشام المنحلة”.

ووفقًا لتقرير نشرته وكالة “رويترز”، في 25 آذار/مارس 2025، قدمت الولايات المتحدة قائمة بشروط إلى الحكومة السورية المؤقتة برئاسة أحمد الشرع، كجزء من محادثات تهدف إلى تخفيف جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا. تشمل هذه الشروط تشكيل حكومة شاملة تضم جميع الأطياف السورية، واحترام حقوق الإنسان، والابتعاد عن الجماعات الإرهابية. وحتى الآن، لم يتم الكشف عن تفاصيل محددة حول هذه الشروط، ولم تصدر الحكومة السورية تعليقًا رسميًا بشأنها.

————————

استبعاد أم احتواء؟ الإدارة السورية الجديدة في مواجهة تحدي المقاتلين الأجانب/ مصطفى ديب

7 أبريل 2025

في نهاية آذار/مارس الفائت، كشفت وكالة “رويترز” عن قائمة مطالب أميركية وجِّهت إلى الإدارة السورية الجديدة مقابل تخفيف جزئي العقوبات المفروضة على سوريا في عهد النظام السابق، حيث ذكرت الوكالة أن نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام وسوريا، ناتاشا فرانشيسكي، سلّمت وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، قائمة بهذه المطالب.

وأضافت “رويترز” أنه من بين هذه المطالب، التي سلّمتها فرانشيسكي لوزير الخارجية السوري في اجتماع خاص جرى عقدهُ على هامش مؤتمر المانحين في بروكسل، استبعاد المقاتلين الأجانب وعدم منحهم أي مناصب قيادية في الإدارة السورية الجديدة.

أثارت هذه التسريبات تساؤلات كثيرة بشأن مصير المقاتلين الأجانب في سوريا، ومدى قدرة الحكومة الجديدة على التعامل مع ملفهم الذي يُعد واحدًا من بين تحديات كثيرة تواجهها، خاصةً في ظل العلاقة المتينة التي تربط الحكّام الجدد بهم.

وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد صرّح، في نهاية العام الماضي، بأن الإدارة الجديدة قد تسمح للمقاتلين الأجانب بالحصول على الجنسية السورية نظرًا لمساعدتهم السوريين في الإطاحة بنظام الأسد وفق تعبيره، مؤكدًا أن دمجهم في المجتمع السوري ليس مستحيلًا.

تثير الشروط الأميركية، وعدم تعليق الحكومة السورية الجديدة عليها، بالإضافة إلى عدم الإعلان عن خطة واضحة للتعامل مع المقاتلين الأجانب، الكثير من التساؤلات، من بينها: كيف ستتعامل الإدارة السورية الجديدة مع المطالبات الأمريكية بخصوصهم؟ ما هو تأثير استبعادهم على الاستقرار الداخلي؟ كيف يمكن أن يؤثر استبعادهم على المؤسسة العسكرية؟ ما هو الموقف الداخلي من وجودهم؟ وما احتمالات وتداعيات تنفيذ قرار الاستبعاد بشكل كامل؟ وما السيناريوهات المحتملة؟

يرى الكاتب والباحث الأردني المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، حسن أبو هنية، أن هناك مبالغة كبيرة في تصوير خطر المقاتلين الأجانب والتهديد الذي يمثلونه على الصعيدين الداخلي والخارجي، مشيرًا إلى أن مشكلتهم في سوريا قد تكون أقل مما يروّج له.

واستبعد أبو هنية، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن يكون لاستبعادهم تأثير كبير على الإدارة الجديدة، مؤكدًا أن هناك صورة سائدة تصوّر هؤلاء المقاتلين على أنهم قادرون على تغيير شكل الدولة السورية وهويتها وعقيدتها القتالية أيضًا. كما جدّد تأكيده على وجود مبالغات في التعامل مع هذه المسألة، دون أن ينفي وجود مخاوف موضوعية حقيقية تتعلق بهم سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو حتى بعض الدول العربية.

يؤكد الكاتب والباحث السوري طارق عزيزة في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن المقاتلين الأجانب يمثّلون مشكلة أساسية بالنسبة إلى الحكومة. وأضاف: “ربما يؤثر استبعادهم على موازين القوى على الأرض، ما بين قوات هيئة تحرير الشام وإدارة العمليات العسكرية، التي أصبحت تابعة لوزارة الدفاع الجديدة، في مقابل الفصائل التابعة لها شكليًا فقط، أو التي لا ترتبط بها مطلقًا، وذلك نتيجة الدور المؤثر للمقاتلين الأجانب في المعادلة العسكرية الحالية”.

لكن على مستوى بناء المؤسسة العسكرية، يرى عزيزة أن: “ما تعلنه السلطة الجديدة من كلام عن بناء جيش سوري وطني يعبّر عن الشعب السوري، يتطلّب إخراج المقاتلين الأجانب من المشهد، خاصةً أنهم يحملون مشروعًا أيديولوجيًا لا ينسجم مع بناء هوية وطنية سورية جامعة”. وأكمل أن رموز السلطة الجديدة يحاولون إقناع العالم بأنهم تخلّوا عنه، أو في الحد الأدنى تخفّفوا منه” وفق قوله.

ويعتقد المحامي السوري مصطفى الكليب أن الحكومة تُدرك أهمية إبعاد المقاتلين الأجانب لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي من جهة، وتحريك ملف رفع العقوبات المفروضة على سوريا من جهة أخرى. لكنه يرى، مع ذلك، بأن المهمة ليست سهلة، وقد تؤدي: “إلى خلخلة داخل صفوف المؤسسة العسكرية على افتراض صحة أن الفصائل التي تضم هؤلاء المقاتلين قد تم حلها ودمجها بوزارة الدفاع”.

وعن كيفية تعامل الإدارة السورية الجديدة مع مطالبات واشنطن بخصوص المقاتلين الأجانب، يقول عزيزة إنه يظن أنها: “مطالبات غربية عمومًا وليست أميركية فقط، فالدول الأوروبية أيضًا لديها هذا الموقف بشأن المقاتلين الأجانب. بتقديري، سيكون هذا من أعقد الملفات التي على السلطة الجديدة التعامل معها، نظرًا لحساسية الملف داخليًا، من الناحيتين العسكرية والأمنية، وخارجيًا”.

وأضاف صاحب كتاب “الثقب الأسود”: “النجاح أو الفشل فيه له انعكاس على مصداقية السلطة وقدرتها على بناء الثقة مع الشركاء الدوليين المحتملين، بما لذلك من تأثير مباشر في مسألة رفع العقوبات أو التخفيف منها. أتوقع أن براغماتية الرئيس الانتقالي المعهودة قد تمكّنه من تجنّب الضغوط في هذا الشأن لبعض الوقت، لكنّه مضطر في النهاية لاتخاذ قرارات حاسمة، لأنها مسألة لا تحتمل الحلول الوسط”.

وبشأن الموقف الداخلي من وجود المقاتلين الأجانب، قال مصطفى الكليب إن هناك: “تأييدًا داخل المؤسسة العسكرية لوجودهم”، مضيفًا: “حتى الرئيس أحمد الشرع أكد أن هؤلاء الأجانب الذين ساهموا في الإطاحة بنظام الأسد يستحقون المكافأة، وتم تعيين عدد منهم في مناصب عسكرية عليا”.

وأوضح الكليب أن استبعادهم، بشكل فعلي وليس عبر تصريحات ترضية: “قد يخلق نوعًا من الفوضى. أما في حال كان الاستبعاد فقط عن مراكز القيادة، فلا أرى أنه سيكون ذا أثر يذكر، وسيكون بموجب تفاهمات داخل البيت للسلطة الحالية”، بحسب قوله.

ويتفق عزيزة مع الكليب بشأن التقدير الذي يحظى به المقاتلون الأجانب لدى السلطة الحالية، إذ يرى أنهم يتمتعون: “بتقدير واحترام كبيرين في أوساط المقاتلين والقادة، من الناحيتين الدينية والعاطفية، وكذلك لما اشتهر عنهم من شدّة البأس في القتال”.

لكنهم في الوقت نفسه بعيدون عن فهم: “تعقيدات المجتمع السوري والتنوع الديني والمذهبي الكبير داخله بما في ذلك ضمن أهل السنة والجماعة، ما قد يسبب إشكالات داخلية، على مستوى التعامل مع المدنيين السوريين، أو حتى ما بين المقاتلين الأجانب وزملائهم السوريين”.

ومن جهة أخرى، يرى عزيزة أنهم يشكّلون عبئًا على السلطة الحالية لكونهم: “من ضمن المتهمين الرئيسيين عن الانتهاكات الجسيمة والجرائم الطائفية التي وقعت خلال أحداث الساحل، وفق شهادات وتقارير حقوقية وإعلامية ومصادر محلية”، مما: “سيحتّم عليها في النهاية الموازنة والاختيار، بين الفائدة التي تجنيها من وجودهم ودورهم في سوريا، وبين سلبيات هذا الدور، وما يسببه لها من خسائر”.

وحذّر مصطفى الكليب من أن: “مصلحة سوريا المنهكة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى تتطلب تحقيق هكذا شرط”، مؤكدًا أنه قد لا يكون مطلبًا خارجيًا فقط، بل داخليًا: “من قبل كثيرين يرفضون أي وجود لأي قوى أجنبية في سوريا”.

وأكد أن وجود مقاتلين أجانب في وزارة الدفاع قد يؤثر سلبًا على قراراتها لأن بعض القيادات: “قد يكون لها ولاءات مرتبطة بأيديولوجيات معينة لا تخدم سوريا كدولة”، موضحًا أن اتخاذ القرارات في هذه الحالة قد لا يكون مبنيًا: “على أساس ما يخدم الأمن القومي السوري”. واختتم حديثه لـ”الترا سوريا” بقوله إن الجيش بطبيعته: “مؤسسة قومية، وإذا شعر الضباط بأن قراراتهم تُتخذ من قبل شخصيات غير سورية، فقد يؤدي ذلك إلى اضطراب داخلي أو حتى انقسامات مستقبلية”.

تواجه الحكومة الجديدة إذًا اختبارًا صعبًا لناحية التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب، وسيزداد الأمر صعوبة في حال تركيز الدول الغربية، والعربية كذلك، على هذه المسألة التي قد تكون من المسائل الحاسمة مستقبلًا في دفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى رفع العقوبات عن البلاد.

وتتزامن هذه التحديات الخارجية مع أخرى داخلية، إذ تدرك الحكومة الجديدة، وفق ما أفاد به ضيوفنا “الترا سوريا”، أن أي خطوة غير محسوبة في هذا الملف قد تؤدي إلى اضطرابات داخلية داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية. وما هو مؤكد، حتى الآن، أن استمرار هذه المسألة دون حل واضح قد يزيد من تعيد المشهد ويضيف عقبات أخرى أمام الحكومة في طريقها إلى نيل الاعتراف الدولي ورفع العقوبات.

الترا سوريا

——————————

المقاتلون الإيغور في سوريا.. بين دور عسكري فاعل ومستقبل غامض

7 أبريل 2025

في ظل المرحلة الانتقالية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام الأسد، يسلط الصحفي عمر فاروق الضوء، في تقرير بعنوان “ماذا يفعل الإيغور في سوريا” نُشر في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، على الوجود المتصاعد لمقاتلي الإيغور، الذين انخرطوا في صفوف المعارضة المسلحة واستقروا في شمال البلاد، وسط توترات دبلوماسية مع الصين ومواقف متباينة داخل الشتات الإيغوري.

يعيد فاروق في مقدمة تقريره استحضار اللحظات التي رافقت سقوط نظام الأسد، مشيرًا إلى أنه في مشهد أصبح مألوفًا في العاصمة السورية، انضم مقاتلون من الإيغور إلى آلاف المصلين في المسجد الأموي لأداء صلاة الجمعة، كجزء من تشكيلات المعارضة المسلحة التي أصبحت جزءًا من النسيج اليومي للمرحلة الانتقالية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.

منذ عام 2012، وصل آلاف الإيغور إلى سوريا قادمين من الصين عبر تركيا، وتقدر أعدادهم اليوم بنحو 15 ألف شخص، بينهم خمسة آلاف مقاتل، يتركزون في إدلب ومحيط جسر الشغور. ويطلق عليهم السوريون اسم “التركستان”، وقد أسسوا مدارس ومشاريع صغيرة من مطاعم ومحطات وقود، كما التحق المئات منهم بجامعة إدلب مجانًا، شأنهم شأن الطلاب السوريين.

اندماج عسكري ضمن الجيش الجديد

يشير فاروق في التقرير إلى أن الحكومة السورية المؤقتة ضمت الإيغور رسميًا ضمن هيكلها العسكري، تقديرًا لمشاركتهم الفاعلة في إسقاط النظام، وهي معركة يقول قادتهم إنها كلّفتهم نحو 1,100 قتيل. ومن بين هؤلاء القادة عبد العزيز داود حدابردي، الذي يقود فرع الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا، ويشغل حاليًا رتبة عميد في الجيش الجديد بصفته قائد الفرقة 133، إلى جانب اثنين من الإيغور برتبة عقيد.

وبحسب فاروق، يشكل وجود الإيغور، خصوصًا المنتمين للحزب الإسلامي التركستاني، تحديًا دبلوماسيًا للحكومة الجديدة. إذ إن الحزب مدرج على قوائم الإرهاب في الأمم المتحدة، كما أن الصين ترفض أي تخفيف لهذا التصنيف بسبب مخاوف أمنية، رغم الاتهامات الدولية الموجهة لها بشأن قمع أقلية الإيغور داخل أراضيها، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية وسياسات محو الهوية الثقافية والدينية في إقليم شينجيانغ.

في المقابل، يحظى الإيغور بدعم معنوي من الجاليات الإيغورية حول العالم. تقول الأكاديمية الكندية روكي توردوش: “نحن فخورون بهم” في إشارة للمقاتلين الإيغور في سوريا، وأضافت: “رؤية المعتقلين السوريين يتحررون من سجون الأسد أعطتنا أملًا بأن شعبنا سيخرج يومًا من سجون الصين”، مشيرةً إلى أن “بعضهم بكى عندما فُتحت أبواب المعتقلات، وكأنهم يفتحون بوابات السجون الصينية”.

الإسلامي التركستاني ينفي علاقته بالقاعدة

وفقًا لفاروق، قضى حدابردي، كغيره من الإيغور، سنوات يبحث عن مكان للاستقرار خارج الصين بعد تعرضه للاعتقال المتكرر، حيثُ تنقل بين ماليزيا وإيران وأفغانستان، قبل أن ينضم في نهاية المطاف إلى مجموعة إيغورية مسلحة.

وعلى الرغم من شطب واشنطن لحركة تركستان الشرقية الإسلامية من لائحة العقوبات الأميركية، إلا أن الصين تقول إن الإسلامي التركستاني يُعد امتدادًا لحركة تركستان الشرقية، وتتهمه بتنفيذ هجمات داخل الصين، بالإضافة إلى تفجير السفارة الصينية في بيشيك عاصمة قيرغزستان 2016، كما تقول الصين إن الحزب يملك صلات مع تنظيم القاعدة.

وأكد المتحدث باسم الإسلامي التركستاني في سوريا عدم مسؤولية الجماعة عن هذه الهجمات. وأضاف المتحدث أن الحزب لا يطمح إلى شن هجمات دولية، لأن هذه الحملات تتعارض مع مهمة الجماعة طويلة الأمد في حشد الدعم السياسي العالمي، وأنه لم يعد للحزب أي صلات بتنظيم القاعدة، بحسب فاروق.

انقسام بين الإيغور بشأن دعم الإسلامي التركستاني

يقول الإسلامي التركستاني إن أعضاءه جاؤوا إلى سوريا بحثًا عن مكان للاستقرار، لكن كثيرين منهم انضموا إلى القتال ضد نظام الأسد بسبب التشابه بين ممارسات النظام السوري وتلك التي واجهوها في الصين. وبحسب ما ينقل فاروق عن المتحدث باسم الحزب، فإن الإيغور لمسوا “أوجه شبه بين نظام بشار الأسد القمعي ونظام الحزب الشيوعي الصيني، ولذلك انضموا إلى القتال إلى جانب السوريين”.

وخلال السنوات التالية، شارك مقاتلو الإسلامي التركستاني في حملات عسكرية للمعارضة في جسر الشغور، وحلب، وإدلب، واللاذقية. وقد خسر حدابردي أفرادًا من عائلته في غارات جوية شنها النظام السابق، بينهم زوجته واثنان من أبنائه. وفي عام 2021، تخرج من الأكاديمية العسكرية التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب، وفي أواخر عام 2024، قاد مجموعة من المقاتلين شاركت في الهجوم السريع الذي أوصل المعارضة في نهاية المطاف إلى دمشق.

لكن احتمال استمرار ارتباط الحزب بجماعات جهادية عالمية دفع بعض قادة الشتات الإيغوري إلى التردد في إعلان دعمهم له، بحسب الأستاذ في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، شون روبرتس، مضيفًا أن العديد من المنظمات الإيغورية في الغرب “تجنبت الاعتراف بوجود الحزب أصلًا، وادّعت أنه مؤامرة من الصين لتشويه سمعتها على مستوى العالم”، وفقًا لفاروق.

وفي المقابل، يتبنى آخرون موقفًا مفاده أنه: “يجب أن نشعر بالفخر لإسقاط الأسد، هذا الدكتاتور الوحشي، وهذا يثبت أنه إذا حصلنا يومًا على دولة، فبإمكاننا أن نمتلك جيشًا”، بحسب كاتب التقرير، مضيفًا أن رئيس “الاتحاد الدولي لمنظمات تركستان الشرقية”، هداية الله أوغوزخان، قال في بيان نُشر على منصات التواصل الاجتماعي: “إن تمكُّن السوريين من إسقاط الدكتاتور ونظام الأسد القاتل والسيطرة على الحكم، شكّل بارقة أمل كبيرة بالنسبة لنا نحن شعب تركستان الشرقية”.

مستقبل غامض

وفقًا لفاروق، يعتمد مستقبل الإسلامي التركستاني في سوريا على نوع التنازلات التي قد تضطر الحكومة الجديدة لتقديمها للقوى الخارجية، إذ على الرغم من اعتبار آلاف المقاتلين الإيغور جزءًا من الجيش الجديد، لكنهم لا يزالون بلا جنسية سورية.

من جهته، قال الرئيس السوري، أحمد الشرع، إن المقاتلين الأجانب كانوا جزءًا أساسيًا من انتصار الثورة، وألمح إلى أن منحهم الجنسية قد يكون أمرًا يستحق الدراسة. كما سعت حكومته إلى طمأنة المجتمع الدولي بأنها لم تعد تتبنى الفكر الجهادي العالمي.

بحسب رئيس تحرير موقع “خراسان دايري”، افتخار فردوس، فإن استيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة في سوريا يُعد ثاني حالة خلال هذا القرن تسيطر فيها جماعة جهادية مسلحة على دولة بأكملها، لافتًا إلى التساؤلات التي أُثيرت تساؤلات حول ما إذا كان مقاتلو الإسلامي التركستاني قد اندمجوا فعليًا في المجتمع السوري، أم أُدرجوا شكليًا فقط لطمأنة المجتمع الدولي.

وأشار فردوس، وفقًا لفاروق، إلى أنه في أفغانستان، اشترت طالبان ولاء المقاتلين الأجانب لتقليص طموحاتهم العابرة للحدود، فيما تبنت تحرير الشام في سوريا مقاربة مماثلة، من خلال دمج الإسلامي التركستاني في هيكلها العسكري بشكل هرمي من الأعلى إلى الأسفل.

وفي نهاية المطاف، ترى الصين أن وجود مقاتلين إيغور في أفغانستان يشكل تهديدًا أكبر من وجودهم في سوريا، لذا سعت لتوطيد علاقاتها مع طالبان لضمان عدم شنّ هجمات انطلاقًا من أراضيها. وقد نجحت جزئيًا، إذ نُسبت فقط هجمات محدودة وضعيفة الصلة بالمقاتلين الإيغور، فيما يظل مصير الوضع في سوريا غير واضح، كما يقول فاروق في ختام التقرير.

الترا سوريا

————————-

قصة فرنسا مع الأقليات والطائفية السياسية في سوريا/ علاء الدين الكيلاني

8/4/2025

يبدي السوريون مخاوف عميقة، من دعوات أطلقتها شخصيات تنتمي لأقليات دينية، تدعو فيها إلى رسم خريطة جديدة للبلاد تتطابق إلى حد ما، مع خريطة الربع الأول من القرن الـ20، عندما أسست سياسة الاستعمار الفرنسي في سوريا التوجهات الانفصالية لدى بعض الطوائف، وشجعتها للمطالبة بالاستقلال عن حكومة دمشق، بعد إنشاء حكومات خاصة بها، تحولت تباعا إلى كيانات ودول مصطنعة لم تعمر طويلا.

ورأى خبراء أن ما يجري من تمرد على النظام الجديد تقوده فئات ممن فقدوا مكتسباتهم بسقوط نظام بشار الأسد المخلوع، إنما ينم عن رغبة للعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وإنتاج كيانات مستقلة، على غرار ما شهدته سوريا في ظل الاحتلال الفرنسي قبل 100 عام.

يستعرض هذا التقرير دور الاستعمار الفرنسي في زرع بذور الطائفية في المجتمع السوري وتوظيفها في تحقيق أهدافها الإستراتيجية حتى بعد زوال الاستعمار العسكري، وتأثير ذلك على مستقبل البلاد.

كيف أسست فرنسا لمآسي السوريين؟

تتحمل باريس إلى اليوم -حسب الكاتب الفرنسي كريستيان دو مولينر- قدرا كبيرا من المسؤولية، تجاه ما يجري في سوريا منذ عام 2011.

فقد اتسمت الحرب التي بدأها بشار الأسد في ذلك العام -وفق تحليله- ببعد ديني لا يقبل الجدل، ومع أنه ليس السبب الوحيد، لكنه أساسي، فقد تدخل حزب الله وإيران بشكل حاسم إلى جانبه لأنه علوي، وبالتالي فهو محسوب على الشيعة، وإن كان هناك من يطعن في هذا الانتماء.

ردّ مولينر في مقاله المنشور بصحيفة “لو فيغارو” الفرنسية على الصراعات التي شهدتها الساحة السورية، مُرجعًا أسبابها إلى جذور تاريخية تعود لنهاية الحرب العالمية الأولى، حيث حصلت فرنسا على تفويض من عصبة الأمم يتيح لها انتداب سوريا ولبنان بهدف تنظيمهما وتأهيلهما لتحقيق الاستقلال في أسرع وقت ممكن.

لكن ما فعلته باريس أولا هو أن مزقت المنطقة التي أوكلت إليها، حسب مولينر، فأنشأت منطقة علوية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ودولة عاصمتها حلب، ودولة أخرى مركزها دمشق، وأخيرا دولة درزية.

وأضاف “إذا كان المسيحيون والعلويون ينظرون إلى هذا التدخل بشكل إيجابي، فإن الأمر لم يكن كذلك مع المسلمين الآخرين. فقد فضل أولئك إنشاء مملكة يحكمها الأمير الهاشمي فيصل، وكان على فرنسا شن حرب دموية ضد دمشق. ولو كنا بين عامي 1920-1925 احترمنا الانتماءات الوطنية، وشكلنا تلك البلاد على أساس الشعور بالانتماء للمجتمع، لكنا بلا شك قد أنقذنا حياة 300 ألف إنسان في القرن الـ21”.

في سياق التاريخ، ستظل باريس حاضرة في المشهد السوري، رغم مضي نحو 80 عاما على رحيل آخر جندي فرنسي عن البلاد. فمنذ أن وطئت جيوشها الأراضي السورية، بررت احتلالها للبلاد وتقسيمها بمبررات الدفاع عن الأقليات.

وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث السوري من الطائفة العلوية محمد هواش أن دفاع باريس عن الأقليات، لم يأت عبثا، فقد كان يرمي إلى هدفين:

وأشار في كتابه “عن العلويين ودولتهم المستقلة” إلى أن وثائق الخارجية الفرنسية لعام 1920 أكدت صراحة أن أقاليم اللاذقية وجبل الدروز في السويداء، لم تكن تصلح لتكون دولا بالمعنى المتعارف عليه دوليا. غير أن إصرار القيادة الفرنسية على إنشائها، وتوحيدها لاحقا مع دولة دمشق وحلب في عام 1922 كان بسبب حاجتها إلى إقرار دستور، يضمن للمسيحيين وطنا قوميا في لبنان.

واستند في تعزيز رأيه، إلى وثائق ومحفوظات من الأرشيف الفرنسي تكشف وجود تعليمات إلى المفوضية الفرنسية في الشرق، تنص على إنشاء دولة مسيحية في لبنان مقابل الدولة السورية وعلى حسابها إذا اقتضى الأمر. في حين وقعت الأقليات المذهبية والعرقية وعلى رأسها العلويون -بحسب هواش- ضحية، وغدت عنصرا من عناصر المساومة.

وألمح إلى أن العلويين الذين يميلون بطبعهم إلى تصديق ما يوعدون به، علاوة على سذاجتهم السياسية، وقعوا في الفخ، عندما منحهم الانتداب كيانا وأبرز شخصياتهم، مقابل أن يضطلعوا إلى جانب الدروز وسكان الجزيرة السورية (الأكراد) بمسؤولية الانفصال عن الكيان السوري. مؤكدا أنه “لم تكن دولة العلويين في الواقع سوى حجة أو ذريعة لسلطات الانتداب الفرنسي، كي تتمكن من تقسيم وتمزيق سوريا كما تشاء، واستخدامها للمقايضة عندما تقتضي مصالحهم”.

هل العلويون والدروز ضحية؟

يرى هواش أن دولة العلويين ودولة جبل الدروز لم تكونا -بأفضل الأحوال- أكثر من عملة للمقايضة. وينطبق الأمر بصورة خاصة، على الدولة العلوية التي “أوجدها الانتداب، وأدارها الانتداب، ودفنها الانتداب لمصلحته” كما يقول.

وفق المصدر، لم تخف باريس -على الرغم من تجميل سياستها الاستعمارية برعايتها للأقليات والطوائف- تفضيلها للمسيحيين، مما أثار هواجس الأغلبية المسلمة، وضاعف من مخاوفها، وزد على ذلك، أن الأقليات بحد ذاتها لم تكن كلها، ثقافيا واجتماعيا، معدة للمساهمة في اللعبة الفرنسية التي تجاوزت قدراتها.

وتكمن المشكلة في أن أجهزة الانتداب استطاعت أن تغرس في أذهان معظم المواطنين وهمَ بقائها الدائم في البلاد، ورأى هواش أن من البديهي أن يؤخذ العلويون بهذا الوهم، الذي منحهم شبه دولة يحكمها ضباط فرنسيون من قمة الهرم إلى قاعدته.

في المحصلة لم يكن العلويون المأخوذون بالوهم الفرنسي سواء، فقد أشار الباحث هواش إلى أن وثائق الخارجية الفرنسية -التي ترجمها خلال إقامته في باريس وضمنها في الكتاب- تؤكد أنه مقابل من كان يسعى من العلويين للانفصال عن سوريا، ويدعمه بكل قوة، كانت زعامات علوية أخرى، وطنية ووحدوية، تمتلك رغبة أكيدة للاتحاد مع الدولة، والعودة إلى حضنها، مضيفا “ثمة علويون بارزون كانوا يعملون بلا كلل عندما اتضحت الحقائق، للانضمام للدولة السورية”.

ونقل عن محفوظات الخارجية الفرنسية، نص برقية موجهة إلى وزير الخارجية الفرنسي (الأرشيف، سوريا ولبنان، المجلد 492) وقعها زعماء عدة عشائر علوية في الساحل السوري عام 1936 -وهو العام الذي كانت المفاوضات السورية الفرنسية في باريس جارية خلاله على قدم وساق من أجل إعلان استقلال البلاد ووحدة أراضيها- أعلنوا فيها نفاد صبرهم من سياسة التفرقة المشؤومة التي ينتهجها ممثلو فرنسا، ومحاربتهم كل مبادرة لتوحيد سكان البلد الواحد.

وقالت البرقية “إن الحجج والذرائع التي يسوقها أنصار فرنسا لتبرير انفصالهم عن سوريا، بدعم خفي من الحاكم شوفلير وضابط الاستخبارات الكابتن فيللو، باتت مكشوفة، ومن السهل إثبات بطلانها، عدا عن أنها تتنكر لوطنهم وأصلهم بهدف تأمين المصالح والامتيازات الزائلة، التي يلوح لهم بها الحكام”.

من يطالب بحماية الأقليات؟

وتتعرض سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، لهجمات إعلامية تقودها حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، تتعلق بحقوق الأقليات، على الرغم من التصريحات التي أدلت بها الحكومة الحالية، تؤكد فيها حرصها على احترام التنوع في سوريا، وعدم المساس به، أو بحقوقه، وحمايته كجزء لا يتجزأ من المجتمع.

وشهد مصطلح حماية الأقليات، الذي تتبناه إلى جانب بعض القوى المحلية قوى خارجية، انتشارا واسعا عشية التمرد المسلح الذي قادته فلول الأسد للسيطرة على مدن الساحل السوري، بالتزامن مع تصريحات إعلامية، لشخصيات بارزة في محيطها الديني والاجتماعي.

في مقدمة تلك الشخصيات الزعيم الروحي للطائفة الدرزية الشيخ حكمت الهجري، الذي علق بشكل سلبي على تطورات المشهد السوري لا سيما بالتزامن مع تحرك الفلول في الساحل السوري في 7 مارس/آذار الماضي، مما استدعى ردود فعل مؤيدة ومعارضة، كشف تحليلها ظهور مستويات عالية لخطاب الكراهية، وتصاعد استخدام مصطلحي الأغلبية والأقلية.

وكذلك الشيخ وفيق أسعد رجب، وهو شخصية بارزة في الطائفة العلوية، وكان قد طالب -في بيان له- المنظمات الدولية بالتدخل لحماية المجتمع العلوي.

والراهبة أغنيس مريم دي لاكروا، رئيسة دير القديس مار يعقوب للروم الكاثوليك في ريف دمشق، التي ورد على لسانها ما هو أشد خطورة، حين طلبت من إسرائيل التدخل لحماية الأقليات في سوريا، قائلة “إذا أرادت إسرائيل، التي أعلنت بالفعل قربها من الدروز، أن تأتي إلينا للحماية، سوف نكون راضين جدا”.

واعتبر السياسي السوري، عماد غليون، أن أي حديث طائفي أو أقلي، كالذي يجري بصراحة على ألسنة بعض الفئات المتضررة من سقوط النظام المخلوع، هو عصيان يمثل حالة انقلابية على الدولة.

وأضاف غليون في حديث للجزيرة نت أن هذه الحالة تشجعها في الواقع قوى إقليمية، تطمح اليوم للعودة إلى المشهد السياسي السوري، عن طريق أشخاص يستغلون منصات التواصل الاجتماعي، لتزييف الواقع بهدف تضليل الرأي العام الداخلي والخارجي، واستجلاب التعاطف الدولي.

وانتقد غليون عملية تأجيج الرأي العام ضد القيادة الجديدة، وإشاعة حالة من عدم اليقين، في وقت تحتاج البلاد فيه إلى قوى إيجابية تساعد على نهوضها، ورأب التصدعات التي خلفها النظام السابق على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومواصلة بناء دولة ديمقراطية حرة يحكمها القانون، بعد عقود من الاستبداد والإقصاء.

طائفتان لا ثالث لهما

في السياق ذاته، وصف الكاتب السوري سمير سطوف، وهو مسيحي معارض سابق لنظام الأسد، المظلومية التي تدعيها بعض الأقليات، بالتعصب القاتل.

وكتب على منصة فيسبوك منتقدا ما تدعو إليه بالقول “في الساحل السوري، وفي شرق الفرات، وفي جبل العرب، وفي عموم سوريا، هناك طائفتان”.

وشرح ذلك قائلا “الطائفة السورية المؤمنة بوحدة سوريا شعبيا ومجتمعيا وجغرافيا، وهي الطائفة الحريصة على استقرار البلد، والمضي به إلى دولة المواطنة والحرية والديمقراطية، وفصل السلطات واستقلالية القضاء، والطائفة الأسدية المجرمة، التي يتفرع عنها تفريخا، أطراف قوى الثورة المضادة، وبعضهم يريد استكمال دورة الإجرام الأسدي، بغض النظر عن طروحاته وشعاراته المزيفة إن كانت عن وعي أو عن جهل”.

وأشار إلى أن المصطلحات المتداولة عن سنة أكثرية، أو عن أقليات مسيحية، أو علوية أو درزية أو إسماعيلية أو كردية أو آشورية، ليس سوى حرف لمسارات الواقع الثوري والوطني، عن المنحى الذي يؤدي إلى بناء بلد عابر للطوائف والأعراق، تطمح للوصول إليه الأكثرية الساحقة من السوريين.

المصدر : الجزيرة

——————————-

السلم الأهلي الهشّ: جمر الثنائيات السورية تطفئه 6 مبادئ/ زيدون الزعبي

08 ابريل 2025

بدت مطالبات بالسلم الأهلي عديدة غير جديّة، إن لم نقل ساذجة وغير عقلانية، فمن مطالباتٍ بعفوٍ عام إلى حلّ الأمر على قاعدة “تبويس الشوارب”، إلى أخرى دعت إلى تحقيق السلم عبر المحاسبة المباشرة، وبأن أي مطالبةٍ لتطبيق القانون ومسار العدالة الانتقالية ليس إلا مثالية زائفة لا معنى لها، خصوصاً في ظل تأخّر الدولة الناشئة في طرح مسارات عدالة جدّية.

تبدو قضية السلم الأهلي واحدة من أكبر مهدّدات الدولة السورية وهي تولد من جديد، فالاستقطاب الهائل بين الثنائيات السورية الحاضرة بقوة، قبل انتصار الثورة وبعده، يجعل السلم الأهلي، والاطمئنان الذي أشاعه شكل الانتصار، وبالحد الأدنى من الخسائر في الأرواح، في مهبّ الريح. فثنائية أكثرية – أقلية، التي تأخذ أشكالاً مختلفة بين سُنّة وعلويين، وكرد وعرب، وعلماني ومحافظ، ومعارض للنظام السابق ومؤيد له، تُنذر باقتتالٍ لا يبقي ولا يذر.

ومع وجود حوامل إقليمية ومحلية تسعى إلى إشعال الصراع وتسعيره، سواء بالتحريض الطائفي والمذهبي والقومي، أو حتى بالتسليح والتمويل، يصبح السلم الأهلي في غاية الهشاشة، وتكاد حربٌ طائفيةٌ تندلع مهما حاول منعها حماة السلم من دولة ومجتمع مدني وأهلي.

من زاوية أخرى، بدت مطالبات بالسلم الأهلي عديدة غير جديّة، إن لم نقل ساذجة وغير عقلانية، فمن مطالباتٍ بعفوٍ عام إلى حل الأمر على قاعدة “تبويس الشوارب”، إلى أخرى دعت إلى تحقيق السلم عبر المحاسبة المباشرة، وبأن أي مطالبةٍ لتطبيق القانون ومسار العدالة الانتقالية ليس إلا مثالية زائفة لا معنى لها، خصوصاً في ظل تأخّر الدولة الناشئة في طرح مسارات عدالة جدّية. وعليه، يبدو من الواجب اليوم وضع مبادئ أولى للسلم الأهلي، لا لتكون مبادئ نهائية، بل لتكون وثيقةً حيّةً منفتحةً على المقترحات والتطورات المحتملة للقضية السورية.

أولاً: انتصار شعب لا طائفة

يقول نيلسون مانديلا: “كرّست نفسي طوال حياتي لهذا النضال الذي يخوضُه الشعب الأفريقي. لقد ناضلتُ ضدّ هيمنة البيض، وناضلتُ ضد هيمنة السود. لقد اعتززتُ بمبدأ المجتمع الديمقراطي الحر الذي يعيش فيه كل الناس معاً في وئام وتكافؤ الفرص. إنه مبدأ أتمنّى أن أعيش من أجله وأن أحققه. وإذا لزم الأمر، هو مبدأ أستعد للموت من أجله”. من هنا، يمكن القول إن تأسيس قضية العدالة ربما كان كامناً في تحديد ماهية الصراع ونتائجه، فهل مَن انتصر هو فصيل أو فصائل المعارضة على جيش النظام؟ أم هو انتصار طائفةٍ على أخرى أو أخريات؟ أم هو انتصار الشعب المظلوم على نظام جائر ظالم؟ جواب هذا السؤال يكمن في توصيف ما جرى خلال السنوات الأربع عشرة المنصرمة، هل ما كان ثورةً أم حرباً أهلية؟ ربما كان التوصيف العلمي الأكاديمي حرباً أهلية، غير أنه، في ضمير غالبية السوريين، ثورة، ولا تسامح مع أي توصيفٍ له خارج هذا النطاق، فإذا كانت ثورة، فكيف تكون ثورة مكوّنٍ ما ضد مكوّنٍ ما، أو كيف يُلام على قمعها مكوّنٌ؟ وكيف يكون ضحيّتُها مكوّناً؟

تهدف الثورة إلى أن ينتصر الشعب على منظومة حكم سياسية، وعلى مجموعة القيم التي كانت تكرسها، وهذا ما تبنته شرائح واسعة من منتسبي الثورة! إذاً هي ثورة، وفي الثورة ينتصر الشعب، كلّ الشعب، لا جزء منه، ولا طائفة منه على جزء آخر أو طائفة أخرى. زد على ذلك، أن أحد أهداف الثورة السامية اقتلاع جملة ممارسات كانت السلطة البائدة تسعى إلى تكريسها، واحدة منها، وربما أهمها، هي الطائفية. إذ كانت السلطة البائدة تحاول وسم الثورة بأنها إرهاب، في تدليس وتضليل موصوف لربطها بالسُّنة، بمواجهة الأقليات، فيما جهدت الثورة في تثبيت أنها ثورة شعب، كل الشعب، ضد النظام، والنظام فحسب. بالتأكيد، سيقول قائل إن كل من هم في المخيمات، والغالبية الساحقة من المعتقلين، والمدن المدمرة هي مدن سُنّية وهذا صحيح، لكن هذا هو جوهر سردية السلطة التي حاولت تكريس الثورة بوصفها حراكاً لجزء من طائفة ضد طائفة، وبالتالي، يصبح انتصار الثورة، في أحد أهم أوجهه، انتصاراً على الطائفية بوصفها واحدة من أهم أدوات السلطة البائدة، لا تكريساً لها.

ثانياً: المواطنة بمواجهة خطاب الأكثرية – الأقلية

تبدو مصطلحات مثل الأكثرية والأقلية سائدة في خطاب النخب والعامة السورية، وبالتالي يظهر خطاب من قبيل حماية الأقليات في سرديات النخب السورية، بل حتى في خطاب “المجتمع الدولي” ليظهر الأقليات مجموعاتٍ قليلة ذليلة بمقابلة أكثرية دموية ذات أنياب تسعى لافتراس الأقلية، في حين أن قيم الثورة الأساسية تكمن في مفهوم المواطنة المتساوية، الذي يساوي بين المواطنين السوريين، بغضّ النظر عن الجنس والخلفية الإثنية. وما لم يسد خطاب المواطنة بين النخب، أولاً وعاشراً، فإن سردية انتصار جزء من الشعب على جزء آخر ستسود، ليصبح ما جرى حرباً أهلية، لا ثورة.

ثالثاً: منطق الدولة

ليس مفاجئاً القول إن النظام السوري البائد خلّف هيكل دولةٍ، ينخر الفساد والعقوبات مؤسساتها، فالقضاء فاسد ومترهّل ومثقل بقوانين بعضها بالٍ، وآخر ليس إلا سيفاً مسلّطاً على رقاب البلاد والعباد، ثم جاء قرار حلّ الجيش، الذي أصدره النظام البائد، وكرّسته السلطة الحالية، ليكون تكريساً لإنهاك الدولة. تبدو الدولة إذاً اليوم في حالة ضعفٍ شديد، وما لم تُدعَم الدولة فإن حرباً أهليةً وحرب الجميع ضد الجميع تنتظر البلاد، ومن دون أن تنصبّ الجهود اليوم على حماية الدولة ومنطقها، وبناء مؤسّساتها فإن السلم الأهلي في خطر داهم.

أول المعنيين بحماية منطق الدولة هو السلطة الحاكمة اليوم، فالمطلوبُ من السلطة الآن هو التحلّي بالحكمة اللازمة لحماية الدولة ذاتها، وتشميل القوى السياسية والاقتصادية كافة من دون أي إقصاء لأي تيار سياسي أو مكوّن اجتماعي، والإسراع في مسار العدالة الانتقالية، وإيجاد حلول منطقية لتضخم العمالة والبطالة المقنعة خارج إطار التسريح التعسفي، واجتراح حلول اقتصادية للفقر المستشري.

غير أن السلطة اليوم غير قادرة على مواجهة هذا الكم الهائل من التحدّيات، ما لم يتصدّ المجتمع المدني والأهلي لهذه المشكلات. بالتأكيد، سيقول قائل إن مساندة هذه السلطة تعني تمكينها، وربما تهيئة الظروف لاستبدادها في السلطة، وهذا صحيحٌ ومخاطرة لا بد منها، وإلا فإن انهيار هذه السلطة قد يعني انهيار هذه البلاد. عليه، على المجتمع المدني الاستمرار بالضغط لجهة تشميل منطق المواطنة وتعميمه، إلى جانب حماية منطق الدولة.

لا يكفي هذا بالطبع، إذ يبدو وجود السلاح خارج الدولة من أكبر مهدّدات الدولة الوليدة، ومن دون آليةٍ سلمية لضمّ الفصائل قائمة على أساس وحدة السلاح والتشميل في آن واحد، فلن تقوم للدولة قائمة.

رابعاً: حماية الوسط في مواجهة الاستقطاب

بالعودة إلى مانديلا الذي قال: “لا يولد أحد وهو يكره شخصاً آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. يتعلّم الناس الكراهية، وإذا كان يمكنهم تعلّم الكراهية، فيمكنهم أن يتعلّموا الحب أيضاً”. … وعليه، نرى أنه ما إن انطلقت الثورة السورية، حتى ظهرت استقطاباتٌ كانت تختبئ خلف ستار الخوف والقمع، فثنائيات المدن الكبرى مقابل الصغرى، والريف مقابل المدينة، وغرب سورية مقابل شمالها الشرقي، وعربي مقابل كردي، فضلاً عن انتماءاتٍ طائفيةٍ ودينيةٍ عميقة، غير أنه بعد تسلح الثورة بفعل قمعها الجنوني من النظام البائد، لم تتعمّق هذه الاستقطابات فحسب، بل ظهرت استقطاباتٌ جديدة كثنائية داخل – خارج.

في زمن الاستقطاب يذوب الوسط، بكل معانيه، وبدل الحوار تخنق البلاد لغة التخوين والعداء وخطاب الكراهية. يختلف الطرفان المستقطبان في كل شيء إلا عداء الوسط، الذي بحكم وسطيّته يسارع إلى الانكفاء ليترك الساحة للعداء والكراهية.

ما لم يكن الوسط فاعلاً وقوياً ومنخرطاً مع طرفي الاستقطاب، بالحوار معهما، وبالتجسير فيما بينهما، لا بالتعالي عليهما، وبعضلات مفرودة وظاهرة، فإن الاستقطاب سيعني انقسام المجتمع عمودياً، وربما تقسيم البلاد.

خامساً: التشميل

“أريد أن تهبّ ثقافات جميع الأمم حول منزلي بحرية، ولكنني لا أريد أن تقتلعني إحداها من جذوري” قال المهاتما غاندي يوماً. إذاً، ما لم يظهر الفضاء العام تشميلياً، بالمعنى الحقيقي للتشميل، فإن أي خطاب سلمٍ أهليٍّ يصبح عبثاً وصيحة في وادٍ. بالتأكيد، لا يجب أن يأخذ التشميل شكله الاستعماري على أساسٍ إثنيٍّ لما يصبح محاصصةً طائفية، فالعراق ولبنان حاضران في ضمير السوريين مثالَين لتفسيرٍ استعماريٍّ لمعنى التشميل. يكفي أن يكون التشميل سياسياً وجغرافياً وتقنياً، ليضمن تمثيل الجميع من دون الولوج في وحل الطائفية والمحاصصة، ففيما لو كان التمثيل سياسياً بضمان وجود تشكيلاتٍ من الأحزاب، والقوى السياسية، و/أو كان جغرافياً على قاعدة تمثيل المناطق، و/أو على أساسٍ تقنيٍّ كأن تمثل النقابات المنتخبة ديموقراطياً، فإنها، في غالب الأحوال، ستضمن تمثيل جميع المكوّنات بنسب منطقية، تماثل وجودها المجتمعي.

غير أن التشميل يجب أن يكون ذا معنى، لا أن يكون شكلياً، أي أن تكون فئات الشعب حاضرة في عملية اتخاذ القرار، لا في عملية التصديق الشكلية عليه. وكل تشميل محمودٌ، على أن يكون جدياً وفاعلاً.

سادساً: العدالة

يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): “إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه”، ويقول غاندي: “العين بالعين يعني مجتمعاً أعمى”.

لا يمكن لأي سلمٍ أهليٍّ أن يحدُث إلّا على قاعدة العدالة، فلا سلام من دون عدالة، عدالة لا تهدّد استقرار البلاد، ولا تقتصّ من طرفٍ على حساب آخر، فمن أمر ليس كمن نفّذ، ومن نفّذ ليس كمن هاجم بالكلام، ومن هاجم بالكلام ليس كمن صمت عن القتل، ومن صمت عن القتل ليس كمن كظم غيظَه، وسكت عن خوفٍ من الأسدية أو عن رغبة في البقاء في البلاد وعدم تركها لنظام الأسد ينهشها.

ورغم ذلك، لا يمكن لأي دولةٍ أن تحتمل معاقبة كل من أساء أو ارتكب ومن جميع الأطراف، وإلا سنشهد محاكماتٍ تقضّ مضجع البلاد برمتها، فالعدالة الانتقالية ليست إلّا جسراً بين ماضي سورية المثقل بالجراح، والمستقبل الحالم بالسلام والعدل. إنها ليست مجرّد قانون يُسنّ أو محكمة تُقام، بل هي نداءٌ إنسانيٌّ عميقٌ لاستعادة التوازن بين الذاكرة والنسيان، بين العقاب والمغفرة، بين الانتقام والمصالحة. تبدو العدالة الانتقالية اليوم بوابة الأمل الوحيدة، إذ لا يُطلب من الضحايا أن ينسوا، ولا من الجناة أن يختفوا، بل أن يعترفوا، أن يُواجهوا الحقيقة بقلوبٍ جريحة، وأن يجلسوا معاً في ساحة التاريخ ليعيدوا صياغته بعد أن شوهته سنوات القمع والدم.

ليست هذه المبادئ نهائية، ولا تفترض صحّتها النهائية، بل تطرح نفسها على طاولة الحوار بين الجميع ولصالح الجميع. أطرح هذه المبادئ لأقول: تعالوا إلى كلمة سواء، تنقلنا إلى مستقبل آمن.

العربي الجديد

——————————

«تقرير أولي» للجنة التحقيق في أحداث الساحل السوري… وطلب تمديد مرجح

الفرحان لـ«الشرق الأوسط»: التقينا عائلات كثيرة في اللاذقية ولم ننه عملنا

 دمشق: موفق محمد

7 أبريل 2025 م

كشف الناطق باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري ياسر الفرحان، أن اللجنة التي ينتهي تكليفها الرئاسي، الأربعاء، ستعد «تقريراً أولياً» وربما تطلب تمديد عملها «بسبب اتساع نطاق المهام».

وشدد على أن اللجنة لن تعلن عن استنتاجاتها وتوصياتها «قبل انتهاء التحقيق والتقصي». ولفت إلى أن المدة التي حددها القرار الرئاسي لعمل اللجنة حين باشرت عملها في 9 مارس (آذار) الماضي، هي شهر واحد ينتهي الأربعاء، «لكنها لم تُنهِ تحقيقاتها».

وأوضح الفرحان في حديث إلى «الشرق الأوسط» أن اللجنة تعمل في طرطوس حالياً «وتتحرك صوب كل الأماكن التي تبلّغت فيها بانتهاكات». وأكد أنها «لن تعلن نتائج إلا إذا توصلت إلى قناعات مدعومة بالحجج والأدلة في ترجيح الحقائق وتوصيف الانتهاكات وتحديد هوية المشتبه بهم، وهذا يحتاج أولاً إلى تحليل كل الشهادات وفحصها، واستنتاج التكييف القانوني للأفعال والوصول إلى نتائج محددة وتوصيات».

وشهدت مناطق الساحل السوري (اللاذقية، وطرطوس، وبانياس) في الأسبوع الأول من الشهر الماضي جرائم دموية طالت مدنيين من الطائفة العلوية وعناصر من الأمن العام.

وحمّلت الحكومة مسلحين موالين للرئيس المخلوع بشار الأسد مسؤولية الهجمات على قواتها، فيما اتُهم عناصر من الجيش والأمن العام ومجموعات رديفة بعمليات القتل بحق المدنيين.

وغداة هذه الجرائم، شكلت الرئاسة السورية «اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل»، من خبراء قانونيين. وأعلنت اللجنة في 25 مارس أنها جمعت عشرات الإفادات، مؤكدةً أن الوقت لا يزال مبكراً لإعلان نتائج التحقيقات.

اللجنة «تمثل الضحايا»

وعما إذا كان في تشكيل أعضاء اللجنة من يمثل الضحايا والأهالي، قال الفرحان لـ«الشرق الأوسط»، إن «القضاة أعضاء اللجنة ليسوا موظفين حكوميين، بل هم حقوقيون مستقلون، ابتداءً ممن هم خارج سوريا وعملوا في دول أوروبا أو مناطق أخرى، أو يعملون في الشأن الحقوقي بتوثيق الانتهاكات، وبعضهم لديهم مذكرات تفاهم وتعاون مع الأمم المتحدة، واثنان منهم موجودان في سوريا وهما من القضاة، والقضاء عادةً يُنظَر إليهم على أنهم سلطة مستقلة».

وشدد على أن «أعضاء اللجنة بالضرورة يمثلون الأهالي ويعملون من أجلهم ومن أجل العدالة، وبالتالي فإن اللجنة ما من أحد من أعضائها يمثل طرفاً دون طرف، فهم محايدون، وعملهم أن يكونوا قريبين من الأهالي، ولذلك تلتقي وجهاء وقيادات مجتمعية في الساحل السوري بكل مكوناته، تستمع إليهم بكل اهتمام وتناقشهم من أجل فهم السياقات التي يطرحونها للوقائع».

اتهامات «العفو الدولية»

وكانت منظمة «العفو الدولية» (أمنستي)، قد أصدرت تقريراً، الخميس الماضي، ذكرت فيه أن المجموعات التي ارتكبت الانتهاكات مرتبطة أو تابعة للحكومة السورية، ووصفتها بأنها «جرائم حرب».

وكشف الفرحان عن أن اللجنة دعت «العفو الدولية» إلى مشاركتها ما لديها من معطيات ومعلومات «لمناقشتها بين أعضائها ولحظ مضمونها في تقريرها النهائي، ولمعرفة كيف بنت استنتاجاتها».

لكنه توقف عند وصف المنظمة ما جرى بين 6 و10 مارس الماضي بأنها «جرائم حرب»، مشدداً على أن «جرائم الحرب تتطلب – إضافةً إلى إثبات الركن المادي – إثباتاً للركن المعنوي في القصد والعلم، وبحث السياقات والظروف المحيطة بالحوادث».

وشدد على أن «المنظمة لديها سياسات ومعايير… في مناصرة الشعوب، والضغط على حكومات العالم بما يشمل دولاً ذات ديمقراطيات عريقة، وتحمّل غالباً الحكومات المسؤولية عن انتهاكات، بوصفها الجهة المعنية بتأمين سلامة مواطنيها… نحن كحقوقيين في اللجنة الوطنية، نميل أيضاً إلى الانحياز إلى الضحايا بوصفهم الطرف الأضعف، مثلما نقيّم بإيجابية إجراءات وبيان الحكومة السورية التي قطعت مع سياسات الماضي في إنكار الانتهاكات».

ووصف بيان الحكومة الذي تضمن رداً على تقرير «العفو الدولية» بأنه «متوازن»، وقال إن «رئاسة الجمهورية استجابت للأحداث بإجراءات واضحة، منها تشكيل اللجنة الوطنية للتحقيق، لتعمل كجهة مستقلة غير حكومية».

وقال: «لست بصدد انتقاد تقرير (العفو الدولية)، ولكن عندي تساؤلات لم يوضحها البيان الصادر عنها… نحتاج إلى تعاون نفهم من خلاله، على سبيل المثال، كيف توصلت إلى أن المجموعات التي ارتكبت الانتهاكات مرتبطة أو تابعة للحكومة السورية؟ وما درجة الارتباط؟ فنحن نبحث في مدى السيطرة الفعلية للحكومة على هذه المجموعات؟ هل هي من بقايا الفصائل التي كانت تقاتل نظام الأسد؟ وهل انضوت في الأطر الوطنية الحكومية العسكرية، فعلياً أم شكلياً؟ وهل تلقى المتورطون تعليمات للقيام بهذه الانتهاكات؟ وبالتالي نبحث في مدى اتخاذ الإجراءات الممكنة التي كان لها أن تمنع وقوع هذه الانتهاكات».

وأشار إلى أن اللجنة «تبحث أيضاً في شهادات مجموعات عشوائية بأن سكان المنطقة المحيطة يمكن أن يكونوا قد تحركوا بدوافع ثأرية لأنهم فقدوا أحباءهم في الفترة الماضية، أو بدوافع عاطفية لفك الحصار عن عناصر الأمن العام، أو باستغلال الفوضى لتشكيل عصابات، ونهب الممتلكات وارتكاب جرائم قتل. كل هذا وغيره قيد بحث اللجنة، وتحتاج لتعرف من (العفو الدولية) كيف بنت استنتاجاتها».

«شهادات شجاعة»

وعن الإجراءات التي تتبعها لجنة التحقيق المستقلة، قال المحامي الفرحان: «في بداية عملها، قامت اللجنة بزيارات ميدانية أجرت خلالها لقاءات عامة مع مجموعات من الأهالي، متجاوزةً بذلك تحديات الخوف المحتمل للشهود بتحريضهم من جهات ما العائلات على عدم التعاون معها. لكن كثيراً من الأهالي أدلوا بشهاداتهم بحرية وشجاعة»، وفق الفرحان الذي أوضح أن «ما وجدناه أن هناك استجابة، وقد توافدت العائلات في أرياف اللاذقية، للحديث مع اللجنة».

وأضاف: «انتقلنا لاحقاً للاستماع إلى الشهادات في مركز اللجنة المؤقت من أصحاب البلاغات التي كانت تتلقاها اللجنة بشكل مباشر من العائلات التـي لم تلتقها من قبل، وكانوا يتحدثون بكل صراحة وبشكل غير مقيد، ويوجهون اتهامات مباشرة إلى من كانوا يعتقدون أنهم متورطون».

وعن إجراءات العمل على الأرض، أوضح الفرحان أنه «عند زيارتنا مواقع ميدانية، نقوم بتوصيف الحالة الراهنة وندرس كل ما تبقى من مسارح الجريمة، ويساعدنا فريق فحص أدلة جنائية، ونوثّق بالصور كل مشاهداتنا، كما كان معنا فريق لا يزال يعمل بفحص الأدلة الرقمية، واستخلص 93 مقطع فيديو حقيقياً من الممكن أن تدلنا على هوية المتورطين».

الهجمات على الأمن العام

وتقصت اللجنة بشكل رئيسي أماكن تعرض عناصر الأمن العام للاعتداءات التي أودت بحياة عدد منهم، في بداية الأحداث في 6 مارس. وزارت اللجنة، وفق الفرحان، هذه المناطق وفحصت آثار إطلاق نار عليها من أماكن وجود المهاجمين.

وذكر الفرحان أن عملية التقصي شملت «أماكن مدنية ومشافي حكومية أُسعف إليها جرحى الأمن العام ولاحقتهم فيها، وفقاً لشهادات الكادر الطبي، مجموعاتٌ مسلحة. كما عثرت اللجنة على مقبرة جماعية دفنت فيها مجموعات المسلحين بعضَ عناصر الأمن العام وهم في حالة تفاوض من خلال وسطاء، وفقاً لأقوال الشهود».

الشرق الأوسط

———————————-

احذروا.. الليبرالية الفاشية على الأبواب/ د. منصف المرزوقي

8/4/2025

قال نابليون عن تاليراند، الوزير الذي خدم كل الأنظمة المتتابعة وخانها كلها، وكان معروفًا بأناقته وظرفه وطراوة لسانه، إنه مثل النُفايات المخفية داخل جورب من الحرير الفاخر. جاءتني نفس الصورة وأنا أتفحص كتابات المدعو كرتيس يارفين، الذي يعتبره البعض المنظّر الأول للسياسة الأميركية الحالية، والرجل الذي يستقي منه حكامها بعض الأفكار و”القيم”.

أما جورب الحرير الفاخر، فكلمات رنانة مثل “التنوير المظلم” (Dark Enlightenment)، أو “الكاتدرائية” التي ترمز لكبرى الجامعات ومراكز البحث والصحافة والتي يجب تدميرها؛ لأنها هي التي تنتج وتصدر الأفكار والقيم الهدامة للديمقراطية، وبقية ما يسمى حقوق الإنسان.

ثمة أيضًا مفهوم “الرجعية الجديدة” التي ستعيد للرجعية القديمة شبابها وسمعتها. يبقى أنك عندما تدقق النظر فيما يختفي وراء هذه الكلمات المثيرة لن تجد إلا جلّ النفايات الفكرية المتعفنة لفاشية بداية القرن العشرين في أوروبا.

على سبيل العد لا الحصر:

    الأعراق البشرية ليست متساوية في الطاقات والقدرات، والعرق الأبيض هو العرق المتفوق.

    الديمقراطية ليست الحل وإنما المشكل؛ لأنها تضع القرار بين يدي جهلة.

    السلطة الفاعلة هي السلطة التنفيذية الممركزة كليًا بين يدي زعيم أوحد، أما السلطتان التشريعية والقضائية فمجرد هيئتين استشاريتين في أحسن الأحوال.

والآن الفكرة الوحيدة المضافة لسجل ثوابت الفكر الفاشي:

الدولة- الأمة تنظيم تقادم عهده ويجب التخلص منه لصالح تنظيم جديد يُساس فيه المجتمع كشركة اقتصادية خاصة، على رأسها مدير عام يتمتع بكل الصلاحيات. تحته مجلس إدارة يأتمر بأوامره، مكوَّن من نخبة النخبة، وهي بالطبع غير منتخبة ولا تدين بالولاء إلا للمدير العام.

أما ما يسمى الشعب، فيجب التعامل معه كما تتعامل الشركات مع مالكي أسهمها. هذا ما سيجبر المديرين العامين للأوطان على التنافس فيما بينهم لاكتساب أكبر عدد من الحُرفاء، ولا عزاء لكل الأوطان- الشركات المفلسة.

بطبيعة الحال، لا مجال في مثل هذا التنظيم لدولة خدمات مكلفة، ولبيروقراطية تتكفل بشحن المساعدات لمن لا يستأهلون البقاء في مجتمع عادَ لأوّل قوانين الطبيعة – كما يتصورها الفاشيون- أي غاب لا مكانَ فيها للتعاضد، وإنما للصراع الأزلي والبقاء فيها فقط للأقوى.

لقائل أن يقول: هراء في هراء. لكن، انظر لما يجري في أميركا اليوم. هناك رئيس يجمع بين يديه كل السلطات، يحل مؤسسة التعاون الدولي (USAID – الوكالة الأميركية للتنمية الدولية) التي سماها نائبه منظمة إجرامية دون إذن من الكونغرس، ناهيك عن تجاهل قرارات القضاء.

هو يتحدّث من الآن عن دورة ثالثة يمنعها الدستور الأميركي، إلا إذا انقلب على هذا الدستور وغيره، كما يحدث في العالم العربي وأفريقيا.

هناك أيضًا سياسة ممنهجة لإضعاف الدولة الفدرالية والحد من خِدماتها في كل المجالات الحيوية كالتعليم والضمان الاجتماعي. هناك هجوم منظم لتركيع الجامعات والإعلام وتدمير “الكاتدرائية” أي عش الدبابير الذي ينتج أفكار المساواة والعدالة ومناهضة العنصرية والحرب في غزة.

هناك التعامل مع الحرب في أوكرانيا لا كدعم دولة ديمقراطية لدولة ديمقراطية معرضة للغزو، وإنما كمقايضة تجارية، السؤال فيها: ماذا تجني أميركا من هذا الدعم؟ ولماذا مواصلته إن لم تدفع أوكرانيا الثمن بالتخلي لها عن معادنها النادرة؟

ألا يعني كل هذا أن ما كان يهرف به كورتيس يارفين في مكان قصي من الإنترنت المظلم، هو أيديولوجيا الطبقة السياسية المتحكمة في أقوى دولة في العالم اليوم؟

تفرض علينا هذه الظاهرة غير المسبوقة الانتباه لتحوّلَين جذريَين في الفكر والسياسة، سيكون لهما تأثير بالغ الخطورة على مستوى العالم، وخاصة على مستوانا نحن العرب.

التحول الأول: هو في مستوى الفكر الفاشي الكلاسيكي

حقًا ما زال يحتفظ بالثوابت القديمة من تأليه القوة، وعبادة الزعيم، واحتقار الأعراق الدونية، وتقسيم المجتمع لنخبة لها كل الحقوق، وأغلبية عليها كل الواجبات.

الجديد هو أن الفاشية الجديدة لم تعد تؤمن بالدولة كأداة ضرورية أو فعالة للتحكم في القطعان البشرية. هي تستخف بالدولة في حدودها الجغرافية الضيقة كتنظيم تقادم عهده ولا ضرورة لبقائه، بسبب التحولات الهائلة في التكنولوجيا وعولمة سيطرة رأس المال.

أي قيمة للسبع والخمسين دولة أفريقية التي لا تصل ميزانيتها لميزانية الشركات العشر الكبرى في العالم مثل: ميتا وغوغل وأمازون وسبيس إكس.. إلخ؟

أي سلطة حتى لدولة أوروبية خارج حدودها مثل التي تتمتع بها هذه الشركات، وهي تتحكم في العقول وفي القلوب، وتستطيع أن تضع في الحكم من تشاء وتمنعه عمن تشاء في أغلب مناطق العالم؟

يجب أن نتذكّر أن الفكرة ليست بالطرافة التي قد نتصور، فشركة الهند الشرقية البريطانية (British East India Company) التي أُنشئت سنة 1600 ولم تختفِ إلا سنة 1858 كانت تملك جيوشًا وتتحكم في التجارة العالمية، وكانت رأس حربة الاستعمار البريطاني في العالم.

هل سيعيد التاريخ نفسه ونشهد يومًا جيوشًا لشركات ميتا وغوغل للتحكم في إمبراطوريات لم تعد مرتبطة بحدود جغرافية أصبحت من مخلفات ماضي ما قبل الثورة المعلوماتية؟

التحول الجذري الثاني هو الذي تشهده النظرية الليبرالية بما هي أيديولوجيا الحرية كقيمة القيم

فمنذ ولادتها في بريطانيا في القرن الثامن عشر وانتشارها في العالم، كانت الركيزة الأساسية أنه لا تناقض، بل كل التكامل ما بين الليبرالية في تعبيرها الاقتصادي أي الرأسمالية، وبين تعبيرها السياسي أي الديمقراطية.

هذا التكامل بين غصنين نبتا من نفس الجذع هو الذي أصبح مشكوكًا فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما تحرَّرت الليبرالية الاقتصادية من كل الضوابط لتعطينا رأسمالية متوحشة، آخرُ همّها مصالح الشعوب ومصلحة الطبيعة.

لذلك كتبت في التسعينيات؛ أنه إذا كانت الشيوعية هي ألد أعداء الديمقراطية في القرن العشرين، فإن ألد أعدائها في القرن الواحد والعشرين ستكون الرأسمالية المتوحشة.

هذا الصراع الذي كان آنذاك جنينيًا، هو الآن واضح وضوح الشمس في النهار.

ألا يقول كورتيس يارفين إن الديمقراطية هي المشكل وليس الحل؟ كيف لا تكون المشكل وهي التي تنتج حركات الاحتجاج ضد تدمير القطب الشمالي بحفريات البحث عن البترول والغاز، أو مواصلة تسميم الهواء والتسريع بكارثة التحول المناخي؟ كيف لا تكون المشكل وهي التي تحث شعب المواطنين في أميركا وأوروبا على التصدي لهيمنة الشركات الكبرى على الفضاء الافتراضي بلا حسيب أو رقيب؟

من الطبيعي أن تكره الأيديولوجيا الجديدة الدولة الديمقراطية، وهي التي تضع الحد الأدنى من القوانين الحامية لحقوق الطبيعة والعمال، أو للحفاظ على خصوصية الأشخاص وما تبقى لهم من حرية. إنها حجر العثرة الوحيد المتبقي أمام زحف الرأسمالية المتوحشة.

ما نشهده اليوم عبر الأيديولوجيا المتسيدة في أميركا، هو تحوّل الليبرالية الكلاسيكية إلى ليبرالية استبدادية، يتقدم فيها رجال الأعمال لإدارة شؤون العالم بدل سياسيين عالقين في منظومة ليبرالية ديمقراطية أصبحت عبئًا على الرأسمالية.

إنه الطلاق بالثلاث بين المكونين الأساسيين لليبرالية الغربية القديمة، وتمازج مكونها الاقتصادي مع العنصرية الفجة والنخبوية المتطرفة. أي أن ما نشهده اليوم في أميركا هو ولادة أيديولوجيا مستحدثة نتيجة التحولين، ويجوز تسميتها بـ”الليبرالية الفاشية”.

ما تبعات ولادة هذه الأيديولوجيا المخيفة علينا نحن العرب؟

كلنا ندرك الترابط بين وحشية الآلة العسكرية الصهيونية والدعم الذي تتلقَّاه من الإدارة الأميركية الحالية. لكن ما لا ننتبه له أن الصهيونية، كما يجسدها اليوم نتنياهو، ليست إلا الصيغة الإسرائيلية للأيديولوجيا الشريرة.

    هي تتغذى من نفس الأفكار العنصرية الفجّة.

    هي أيضًا تسعى لتطويع القضاء.

    هي أيضًا أدارت ظهرها للقيم الإنسانية التي حاولت النخب التقدمية طوال القرن العشرين تشريعها لبناء عالم تجمعه أفكار وقيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بكل بنوده، وأساسًا البنود: 19، 20، 21 التي تضمن الحق في الديمقراطية.

    هي أيضًا لا تؤمن إلا بشرعية القوة وتسخر من قوة الشرعية.

    هي أيضًا لم تعد تعترف بحدود الدول وتريد الضم والتوسع، (كندا وغرينلاند “الجزيرة الدانماركية”، ناهيك عن إعادة احتلال قناة بنما).

ماذا عن الديمقراطية؟

هل يمكننا، نحن الذين أتينا للمشروع الديمقراطي وهو في أخطر الأوضاع، أن ننشد مع المتنبي:

أتى الزمانَ بنوه في شبيبته      فسرّهم وأتيناه على الهرم

أليس المستقبل للنظام الذي يقوم على الاستبداد السياسي والحرية المطلقة لرأس المال، أكان رأس المال الخاص أو رأس مال الدولة الاستبدادية؟

أليس المستقبل لعودة الاستعمار القديم، وفلسطين بداية المشروع؟ والسؤال: من سيكون المستعمر الآخر بخلاف إسرائيل؟

الأهم من كل هذا، ماذا أعددنا لمثل هذا العالم المجنون الذي يتشكل تحت أعيننا، ونحن فيه أكثر من أي وقت مضى كالأيتام على مأدبة اللئام؟

إذا أتتك كل هذه الأفكار السوداء، تذكّر أن مثل هذا النظام لن يتحرك في فراغ يدمر ويبني كما يشاء.

هو سيرتطم بمقاومة جبارة بدأت ملامحها تتشكل في أميركا منذ تسلم الإدارة الجديدة، وستتصاعد ما ستتصاعد في كل مكان.

إن قدر كل نظام سياسي الارتطام بنقيضه الذي لا يوجد بدونه، وأن يكون الصراع بينهما أزليًا، وذلك لسبب بسيط: كل نظام سياسي، أكان ديمقراطيًا أو استبداديًا، لا يعكس إلا جزءًا من الأبعاد الثلاثة للطبيعة البشرية التي سميتها: الإنسان المفترس، والإنسان الفريسة، والإنسان الفارس.

مما يعني أن كل انتصار للإنسان المفترس على الإنسان الفارس، أو للإنسان الفارس على الإنسان المفترس في صراعهما على استعباد أو تحرير الإنسان الفريسة، هو دومًا انتصار مؤقت.

لذلك محكوم على السياسة أن تتواصل صراعًا مريرًا إلى آخر يوم من تاريخ الإنسانية.

بدون وهْم، لكن بدون إحباط، علينا فقط أن نستعد لأصعب وأشرس المعارك لنقوم بدورنا كسدّ للهمجية الجديدة، وكقوى تعيد البناء على الخراب ألف مرة ومرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

طبيب أعصاب، حصل على جائزة المغرب العربي في الطب لأبحاثه عن الإصابات الدماغية عند الأطفال المعاقين، وجائزة المؤتمر الطبي العربي لكتابه. “المدخل إلى الطب المندمج” وله اكثر من عشرين مؤلف. رئيس تونس السابق

——————————

دروس من تجربة ألمانيا لسوريا: كيف يعيد الشعب بناء وطن مدمر؟/ مختار الإبراهيم

2025.04.08

حين تنهار الدول تحت وطأة الحروب، يصبح السؤال الأكثر إلحاحا: كيف يمكن النهوض من جديد؟ هذا السؤال واجهته ألمانيا بعد دمار الحربين العالميتين، وواجهته سوريا بعد أكثر من عقد من تدمير النظام الممنهج للمدن والبنى التحتية.

في كلتا الحالتين، لم تكن الدولة وحدها من تصدّت لمهمة الإعمار، بل لعب المجتمع — بأفراده ومبادراته — دورا محوريا في إعادة بناء ما تهدّم.

وفي تجربة ألمانيا فقد لعب النشاط المجتمعي والمبادرات الأهلية دورا مهما وأساسيا في مساعدة الدولة على النهوض من آثار الدمار الذي خلفته الحربان العالميتان.

وبلغ عدد الضحايا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عام  1945 نحو 6 إلى 7 ملايين ألماني (مدنيين وعسكريين)، وطال الدمار أكثر من 70% من المدن الكبرى مثل برلين ودريسدن وكولن، وكانت البنية التحتية شبه منهارة لا كهرباء، لا ماء، ولا حتى صرف صحي، وهو ما يشبه إلى حد كبير الدمار الذي تسبب به نظام بشار الأسد لسوريا بين 2011–2024 حيث يُقدّر عدد الضحايا بين 800 ألف شخص والمليون (الرقم يختلف بحسب المصادر) وطال الدمار أغلب المدن الكبرى وكذلك الأرياف، أما اللاجئون والنازحون فيقدر عددهم بأكثر من 14 مليون سوري (نحو ثلثي السكان) بين لاجئ ونازح داخلي.

ولتسليط الضوء على التجربة الألمانية من جهة النشاط المجتمعي ودورها في إعادة إعمار ألمانيا تحدثنا إلى الناشط المجتمعي الألماني يورغ بيتزنر، وهو ذو باع طويل في العمل المجتمعي، لمعرفة كيف تمكّن المجتمع الألماني من مساعدة الدولة الألمانية بالنهوض من ركام الحرب خلال زمن قياسي وكيف لعب الرأسمال الخاص دورا في تحقيق ما يسمى المعجزة الاقتصادية الألمانية Wirtschaftswunder وهي مصطلح استخدم للمرة الأولى عام 1950 لوصف إعادة الإعمار فائقة السرعة والتطور الذي حصل في اقتصاد ألمانيا الغربية والنمسا بعد الحرب العالمية الثانية وذلك باستعمال نوع من النيوليبرالية القائم على اقتصاد السوق الاجتماعي.

ويشير بيتزنر الذي أمضى أكثر من 35 عاما في العمل المجتمعي بمنتظمات حكومية وخاصة “الفترة الزمينة التي تلت الحربين العالميتين كانت متشابهة حيث كان هناك أعداد ضخمة من الأرامل، والأيتام، والجرحى، والنازحين، الدولة كانت شبه منهارة وهنا أسهمت الجمعيات الأهلية والمنظمات الخيرية في تقديم المأوى والغذاء للفقراء والمشردين ودعم الفئات المتضررة حتى الرعاية الصحية للجرحى والمرضى بما في ذلك الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين.

ويسوق بيتزنر في حديثه لموقع تلفزيون سوريا بعض الأمثلة البارزة التي أسهمت بدعم المجتمع الألماني مثل الجمعيات الدينية كالكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية، التي لعبت دوراً مهماً في تنظيم المساعدات الإنسانية، حيث دعمت تلك الجمعيات بناء المدارس والمستشفيات والمراكز الاجتماعية. كما وأسهمت بإصلاح شبكات المياه والكهرباء والمواصلات التي تضررت بشدة.

أما بالنسبة للتعليم فقد تم تنظيم برامج التعليم غير الرسمي ومحو الأمية، خاصة للأطفال الذين توقف تعليمهم بسبب الحرب.

كما بادرت جمعيات محلية بتوفير فرص عمل ومصادر دخل عبر تعاونيات إنتاجية زراعية وأسواق تبادل ومقايضة للسلع في ظل ندرة العملة والسلع وورش صغيرة لإصلاح الأدوات وإعادة تدوير المواد المتاحة لدفع عجلة الاقتصاد المحلي.

“واجب مجتمعي”

من جهته يرى المؤرخ حكيم الحمود أن من واجب المجتمع ذاته أن يطرح مبادرات للمصالحة المجتمعية وذلك بالتوازي مع عملية العدالة الانتقالية التي تقودها دون شك الحكومة بمؤسساتها القضائية وعبر محاكم مختصة.

ويضيف الحمود -الذي يعمل كمترجم ضمن مركز التوثيق في ميونيخ (Munich Documentation Center) الذي يهدف إلى دراسة تاريخ النازية وجرائمها- أن المجتمع الألماني كان يعاني الانقسامات والعداء بعد الحرب العالمية الثانية لذلك نشأت مبادرات أهلية للحوار والتسامح بالتوازي مع محاكمات كبار المسؤولين الألمان أمام المحكمة العسكرية الدولية (IMT) في  نورمبيرغ كما تم تنظيم فعاليات ثقافية وتعليمية لترسيخ القيم الديمقراطية والإنسانية.

ويرى حمود في حديثه مع موقع تلفزيون سوريا أن الجمعيات الشبابية والطلابية لها دور كبير في تشكيل وعي جديد يقوم على السلم، وكذلك التعاون مع برامج الإعانة الدولية فعند دخول برامج دولية لإعادة الإعمار مثل خطة مارشال، كانت المبادرات الأهلية شريكة في توزيع المساعدات، ووسيطًا بين الدولة والناس، وعنصرًا فعّالًا في تحديد الأولويات المحلية.

ويلفت الحمود إلى أنه رغم الدمار الهائل بعد الحربين، ساعدت روح المبادرة المجتمعية والتضامن الأهلي في تسريع عملية التعافي، وتخفيف الضغط على الدولة، ووضع أساس متين لبناء مجتمع ديمقراطي واقتصاد قوي كما نراه اليوم في ألمانيا.

ويسوق الحمود أمثلة لمنظمات ومبادرات مجتمعية وأهلية ألمانية لعبت أدواراً مهمة في إعادة بناء ألمانيا بعد الحربين العالميتين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية مثل الصليب الأحمر الألماني Deutsches Rotes Kreuz – DRK الذي أُسس قبل الحرب، لكنه لعب دورًا محوريًا بعد الحربين قدّم الإغاثة للنازحين، والجرحى، والمساعدات الغذائية، ولمّ شمل الأسر وعمل بالتعاون مع المنظمات الدولية مثل الصليب الأحمر الدولي.

ويسهب الحمود أكثر بتقديم أمثلة لمنظمات ما تزال تقدم خدماتها حتى اليوم  مثل منظمتي  Diakonie الديّاكوني و Caritas كاريتاس وهما منظمتان تنتميان إلى الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية على التوالي، وفرتا خدمات اجتماعية ضخمة بعد الحرب: إيواء، رعاية نفسية، تعليم، دعم للأسر الفقيرة، وما تزالان من أكبر مؤسسات العمل الاجتماعي في ألمانيا حتى اليوم حتى أن أغلب اللاجئين السوريين تلقوا دعماً من هاتين المنظمتين.

وفي الدور المجتمعي يركّز الحمود على دور المرأة في عملية إعادة البناء حيث لعبت المرأة الألمانية في نهوض البلاد بعد الدمار ولعبت “نساء الأنقاض” دورا محوريا وتم إنشاء منظمة غير رسمية أشبه حركة مجتمعية عفوية لتوثيق جهود آلاف النساء الألمانيات اللاتي شاركن في تنظيف الأنقاض وإعادة بناء المدن المدمرة بأيديهن وأسهمن بشكل كبير في إعادة البنية التحتية دون انتظار دعم الدولة.

ويختم الحمود كلامه بأن تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تُعد من أنجح نماذج النهوض بعد دمار شامل ويمكن الاستفادة منها في الحالة السورية عبر تصميم خطة إعادة إعمار شاملة تشبه “مارشال” لكن خاصة بسوريا وبناء مؤسسات دولة جديدة على أساس الشفافية والعدالة والمساءلة وتشجيع العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية وكذلك توظيف الطاقات السورية في الداخل والخارج (كما فعل الألمان بالعلماء والمهندسين الذين عادوا) والأهم ضمان بيئة إقليمية ودولية داعمة وليست متصارعة داخل سوريا.

تظهر التجربة الألمانية بعد الحربين العالميتين أن المجتمعات قادرة على لعب دور حاسم في إعادة بناء الدولة، إلى جانب الجهود الحكومية والدعم الدولي، فمن خلال المبادرات الأهلية، والعمل المجتمعي المنظم، والتعاون مع المؤسسات الرسمية والدولية، تمكن الشعب الألماني من المساهمة في إعادة إعمار بلاده في ظروف شديدة التعقيد.

ويمكن أن تقدّم هذه التجربة نموذجا يدرس ويبنى عليه بسياقات تناسب الحالة السورية، التي تواجه تحديات واسعة النطاق في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد وبناء الدولة الجديدة.

تلفزيون سوريا

—————————–

سقوط الأسد يكسر صمت النص: تأثير متوقع للسياسة في مستقبل دراما سوريا/ حسام الملحم

2025.04.08

لم يخلُ الموسم الدرامي لرمضان 2025، من تأثر بالتغيير السياسي والتطورات التي حصلت في سوريا نهاية العام الماضي وتجلّت بسقوط نظام بشار الأسد.

هذا التغيير السياسي الذي انتظره السوريون 14 عاماً حصل بالتزامن مع مواصلة العديد من المسلسلات أعمال التصوير، لينتقل التأثير من الميادين التي جمعت السوريين فرحاً بسقوط الأسد، إلى “لوكيشن” التصوير، فاستغلت بعض الأعمال الموقف، وأقحمت السياسة بالدراما بصورة غير مدروسة طالما أنها لم تكن جزءاً من حكاية العمل الأصلية، وهي مسألة يمكن للمشاهد السوري التقاطها.

العديد من الأعمال السورية عرضتها الشاشة العربية خلال الموسم الدرامي الرمضاني، لكن أعمالاً قليلة تصدرت المشهد وحظيت باهتمام الجمهور، ومنها مسلسل “تحت سابع أرض” لكاتبه عمر أبو سعدة ومخرجه سامر البرقاوي، وبطله تيم حسن، بالإضافة إلى مسلسل “البطل” المأخوذ عن مسرحية “زيارة الملكة” للكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان، والنص فيها لرامي كوسا والإخراج لليث حجو.

كما عرض أيضاً مسلسل “نسمات أيلول” ودارت أحداثه في إحدى القرى السورية، وهو من تأليف علي معن صالح وإخراج رشا شربتجي، وجرى عرضه عبر منصة “شاهد” كالعملين السابقين أيضاً.

السياسية حاضرة في الدراما

ما يجمع بين هذه الأعمال تطرق مباشر أو غير مباشر لمواقف أو حالة سياسية معاصرة سبقت سقوط الأسد، ففي “نسمات أيلول” و”تحت سابع أرض” مُررت جمل وعبارات ذات بعد سياسي لم تتناول سقوط الأسد والتغيير السياسي بشكل مجرد، فالمقدم موسى في “تحت سابع أرض” اقتبس بتصرّف عن سهيل الحسن، الضابط السابق في نظام الأسد والمتورط بانتهاكات بحق سوريا وشعبها.

واستعار أحد ممثلي مسلسل “نسمات أيلول” عبارة درجت على لسان مواطن سوري قبل سنوات تعكس مرارة الاعتقال ومخاوف السوريين من زنازين الأسد.

أما مسلسل “البطل” فقدّم نهاية تعكس انهيار نظام الأسد وتصور إخراج فصائل المعارضة المشاركة في عملية “ردع العدوان” للمعتقلين في السجون السورية، لكن دون أي تمهيد وتبرير درامي يمنح الخاتمة شيئاً من موضوعية غائبة، طالما أن الأحداث التي تدور في إحدى قرى الساحل كانت تحصل في السنوات الأولى من الثورة حين كانت العمليات العسكرية على أشدها في مناطق متفرقة، ليقفز العمل بالزمن والمنطق إلى مشهد النهاية.

التأثر بالحالة السياسية لم ينحصر بما هو أمام الكاميرا، ووصل إلى الكواليس، فالمقابلات التي أجراها ممثلون وممثلات بعد سقوط النظام، ومنهم من تشبث بموقفه الداعم للأسد حتى بعد صور معتقلات صيدنايا والفضائح وانتهاكات حقوق الإنسان التي عرّت ذلك النظام أمام العالم، ما دفع مثلاً لاستبعاد سلاف فواخرجي من مسلسل “حبق” الذي كان يفترض أن يشارك في الموسم الرمضاني قبل إعلان الشركة المنتجة انسحابها من المنافسة في الأيام الأخيرة التي سبقت العرض.

ولا يمكن اعتبار الموسم الدرامي لرمضان الماضي مؤشراً على ثبات حضور بعض الممثلين من عدمه، طالما أن التغيير السياسي في سوريا حصل في الوقت الذي كانت به شركات الإنتاج نفّذت جزءاً من أعمالها، وتتجه لاستكمالها فقط، ما يضع الموسم المقبل أمام إعادة ترتيب محتملة لأدوار البطولة وحضور الممثلين بعد استبعاد كثير منهم وتحويلهم للاجئين، وتقريب غيرهم بناءً على مواقفهم السياسية.

تحرر درامي بعد سقوط الأسد

كثيراً ما تتأثر الدراما بالسياسة، وقد تكون انعكاساً لها أو وسيلة للتعبير عنها، أو للتأثير على الرأي العام، ضمن مجموعة عوامل، منها حالة الرقابة والتوجيه، إذ تفرض بعض الدول رقابة على الأعمال الدرامية بما يتماشى مع توجهات النظام  السياسي، كما تعمل على توجيهها لتمرير رسائل محددة أو تثبيت صورة ذهنية معينة، وهو ما كان يفعله النظام السابق الذي فتح الباب لإنتاج أعمال درامية تعكس رؤيته للحدث في سوريا، رغم هبوط هذه الأعمال الفنية وضعفها على مستوى النص والبطولة والإخراج وفجاجة الطرح وعدم القدرة على الإقناع.

ويمكن القول إن سقوط الأسد حرر الدراما السورية من الرقابة الأيديولوجية المحكمة منذ عقود والتي كانت تضع خطوطاً حمراء لا يسمح بتجاوزها، ما يبشّر بانفتاح غير مسبوق على قضايا مغيبة، كالفساد داخل مؤسسات الدولة ونسبه لأًصحابه فعلاً، وجرائم الحرب والانتهاكات، مع إمكانية تقديم “الرواية المحرّمة” سابقاً، وهي وجهة نظر الثورة السورية والمعارضة، فيما جرى، وكيف جرى، مع التأثر بالسياق السياسي الحالي، وإمكانية الوصول إلى تمويل مستقل أو عربي أو دولي، لإنتاجات درامية سورية تعكس الواقع وتعيد للدراما السورية بهاءها الذي أطفأته هيمنة المخابرات عليها خلال سنوات الثورة.

واستطاعت الدراما السورية قبل عامين، الاستفادة من عنصر الرمزية والإسقاط، حين قدّمت للمشاهد مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” في رمضان 2023، وعرضه تلفزيون سوريا والتلفزيون “العربي 2” لأكثر من مرة، وحينها قدّم العمل رسائل سياسية من خلال رموز وأحداث تاريخية أو قصص يمكن إسقاطها على الواقع، وبعد سقوط الأسد، اتجهت بعض المنصات والمحطات العربية لعرض المسلسل لأول مرة.

كما أن الحكم الطويل الممتد لأكثر من ستة عقود، لعائلة الأسد، راكم الموضوعات التي جرى التعتيم عليها، ومنها مثلاً، مجازر حماة في ثمانينيات القرن الماضي، ودور الأجهزة الأمنية والعسكرية فيها، وهي موضوعات يمكن إعادة تقديمها درامياً بصورة كاشفة قد تكذّب رواية السلطة السابقة وتوثق الجريمة وتعلي صوت الضحايا والناجين، وهذا ما يسهم عملياً في إعادة كتابة تاريخ البلاد بصورة صادقة.

لا داعي للعجلة أو الاستسهال

أوضح الممثل السوري، نوار بلبل، لموقع تلفزيون سوريا، أن بعض المسلسلات السورية في رمضان 2025 غيّرت نهايتها تماشياً مع التغيير السياسي، معتبراً أن هذا التغيير “لا ينم عن أمانة فنية”، بل يشير إلى انتهازية ومجاراة لـ”التريند”، مع إمكانية التنويه لتطورات الأحداث على الأرض، لكن دون تغيير في مسار العمل ككل.

وحول مسألة حضور أو استبعاد الممثلين الذين تعاملوا بسلبية مع التغيير في سوريا، يرى نوار بلبل أن استمرارية عمل هؤلاء لا ترتبط بشركات الإنتاج فقط، إذا كان الشارع لا يتقبل الممثل، مع الإشارة إلى أن ممثلين كثراً لم يقدموا أي موقف سياسي أو تمجيد لنظام الأسد أو تلاعب بأوجاع الناس، وهؤلاء يتعامل معهم المشاهد السوري بتفهم.

والمشاهد السوري اليوم هو الحكم وسيلفظ الممثلين المصفقين للنظام السابق بصرف النظر عن سويتهم الفنية، لأن المواقف السياسية لها ثمن، وكل ممثل عارض النظام السابق خلال الثورة كان على علم مسبق بأن عمله سيتوقف وهي حالة متوقعة، مع أن شركات الإنتاج لن تفضل المغامرة ومنح مساحات وفرص لأسماء لا يتقبّلها الشارع سياسياً، والجمهور لا ينسى ويدرك رغبة بعض الممثلين بتسيّد المشهد في ظل أي نظام سياسي، وهو ما دفع لانعطافات حادة في المواقف السياسية لبعض الممثلين.

وتعمل بعض الجهات الإنتاجية حالياً ضمن توجه غير معلن، نحو عدم تعميق التعاطي الدرامي مع الحالة السياسية في سوريا والتغيير الإيجابي برحيل الأسد، لأسباب سياسية، وهي مسألة تتعارض مع رغبة السوريين بنقل حكايتهم وقصتهم إلى العالم، على اعتبار أن الثورات لا تقاس بموازين شركات الإنتاج، بحسب نوار بلبل.

من جهته، أوضح الكاتب السوري فؤاد حسين (من أعماله مسلسل نقطة انتهى ووصايا الصبار، في رمضان 2024) لموقع تلفزيون سوريا، أن سقفاً عالياً من الحرية بات متاحاً أمام موضوعات دسمة درامياً كانت ممنوعة، وأصبح لزاماً على كل كاتب سوري تقديم هذه الموضوعات التي كانت ممنوعة، بشرط ألا يكون هناك استسهال، مشيراً إلى العمل على مسلسل حول قضية المعتقلين بشكل مسترع.

وعلى الكاتب تقديم حكايته بطريقة غير مباشرة أو فجة أو سخيفة أو تجرح المشاهد ولا تقدم الغرض الدرامي، كما أن الإدارة السورية الجديدة لن تمنع الموضوعات التي كانت ممنوعة، فطرحها يخدم الإدارة أصلاً، لكن تصوير مسلسل عن سقوط الأسد يتطلب الفهم وكشف الحقائق، وعدم الاستعجال.

وكان الكاتب الدرامي على مدار عقود مضطراً لمراوغة الرقابة عند محاولة طرح الهم السوري، ومن المستبعد وجود مشكلات مماثلة من هذا النوع مع الإدارة الجديدة، إذ أوضح حسين أنه يعمل حالياً على مسلسل يتطرق إلى مجازر حماة تحت اسم “نزيف داخلي”، وهو موضوع كان ممنوع الطرح في وقت سابق.

ولم يعد هناك حاجة لمراوغة الرقابة حالياً مع وجود هامش واسع من الحرية، وهذا هو الأمر الصعب، فمع كل هذه الحرية الإبداعية في طرح الموضوعات على الكاتب العناية بطريقة طرح الموضوع، وعدم تقديم المسائل بإطار إخباري، والتقاط الموضوع والبناء عليه وتحميله ما كان يعجز عن قوله في عهد النظام البائد، بحسب حسين.

عودة مأمولة وسقف حرية عالٍ

الدراما السورية عائدة بقوة، فقوتها سابقاً كانت مستمدة من واقعيتها والتصاقها بالشارع، وجرى تغييبها في الفترة الماضية لأنها كانت كاذبة وتجميلية لصورة النظام أو تحاول تمرير الرسائل من تحت طاولة النظام وتعجز عن إيصال الرسالة للجمهور، بحسب فؤاد حسين.

ويرى أنه يمكن للكاتب اليوم أن يقول ما يريد بشرط ألا يؤذي العقد الاجتماعي في سوريا، وأن يحافظ على السلم الأهلي، وهناك أمانة تاريخية وإنسانية وأخلاقية لقول الحقيقة والموضوعات الحساسة، مع الحاجة للجنة تقييم فكري تبت في هذه المسائل، فالدراما تعلو الواقع بشبر، ومهمتها نقل الحكاية وإيصال الرسالة دون فجاجة.

وبين عامي 2011 و2018 على وجه التحديد، كانت الدراما السورية غائبة الفعالية تماماً حتى ظهور مسلسل “غداً نلتقي” ومسلسل “عندما تشيخ الذئاب” وكان تمرير هذه الأعمال نتيجة تغيير في جهاز الرقابة لدى السلطة، والنتيجة كانت استعادة السلطة السابقة لجهاز الرقابة السابق مع وضع شروط صارمة أمام تمرير النص الدرامي.

“الدراما السورية مؤثرة، والممثل السوري لديه شعبية جارفة في الوطن العربي لا يقاسمه بها إلا الممثل المصري” أضاف فؤاد حسين، مع الإشارة إلى ضرورة الوصول لاستقرار أمني يجذب إلى التصوير في سوريا، فالمشاهد سئم الأعمال البلاستيكية أو الأعمال المعرّبة التي لا تلامس الواقع.

ومن الضروري التعامل مع الدراما على أنها صناعة وطنية ستقدم دخلاً مهماً وتمنح فرص عمل لآلاف الأشخاص، وهي جزء من اقتصاد البلاد، كونها مورداً مالياً مهماً بحاجة إلى تسهيلات، مع الإشارة إلى تسهيلات لوجستية قدمتها الإدارة السورية الجديدة للعاملين على مسلسلات رمضان الماضي في سبيل متابعة تصوير أعمالهم لتكون جاهزة وفق مواعيد العرض.

وتعليقاً على المقابلات التي أجراها فنانون بعد سقوط الأسد وأبدوا خلالها تعاطفاً مع نظامه، اعتبر الكاتب أن مهمة الفنان تتلخص بالوقوف أمام الكاميرا، ثم العودة إلى الكواليس، دون تقديم وجهات نظر سياسية، لأن شرعية الفن مستمدة من العمل على الإصلاح.

والفنان الذي سلك موقفاً سلبياً من التغيير السياسي في سوريا وبالغ في الدفاع عن نظام دمّر سوريا، سيتحمل العاقبة بمفرده، ومن المستبعد تصديره درامياً لأن هذه المواقف تعمّق الهوة بين الفنان والشارع الذي يضم بين مكوناته من فقد فرداً من عائلته غرق في البحر، أو قضى في المعتقل، أو جرى السطو على أرزاقه، وفي هذا إهانة للشعب السوري.

أسهم سقوط نظام الأسد، في كسر حالة “التقديس” التي عملت أجهزة الأمن والمخابرات على تكريسها في ذهن المواطن، عبر تصوير عائلة الأسد كـ”أرباب” أو “آلهة” للشعب، وصار ممكناً تفكيك هذه الشخصيات وقراءة عدوانيتها وطغيانها وجرائمها، بالإضافة إلى تناول المرحلة التاريخية السابقة من حياة السوريين بصورة متعدد السرديات يسمع فيها الجمهور لأول مرة صوت الثورة والمنشقين والمكونات الاجتماعية والإثنية السورية، دون تكميم أفواه.

ويمكن الاستفادة في هذا الإطار من تجارب سابقة عاشها العالم بعد سقوط الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية، وسقوط “الأبارتايد” في جنوب إفريقيا، وسقوط النازية في ألمانيا، حين جرى تقديم مسلسلات ودراما وثائقية حاكمت الماضي ونادت بتكريس العدالة الانتقالية، وفقا لما يراه ، بحسب ما يراه الكاتب فؤاد حسين.

تلفزيون سوريا

———————————

سلاماً لفارس الظلال/ رباب هلال

08 ابريل 2025

كنت جديراً مثلنا بالاستحقاق الكبير؛ زوال الكابوس الأسديّ، أيّها الفارس رامي الهنّاوي، تتنفّس الصعداء، وتقول: “وأخيراً، سنشرب ونأكل معاً، نسهر ونغنّي، كما نشاء”. لكن، ماذا لو أنّك بيننا، وقد انقضت شهور أربعة، فيها: “تغيّر الرسّام. ولم يرسم الوجوه، وإنّما العلامات والندوب.”(نيرودا).

مع انطلاقة الثورة، 2011، انطلق رامي مع الحشود في الشوارع، يهتف للحريّة: “شفت رفقاتي نزلوا للشارع، فنزلت، كان لازم كون معهم!” هذا ما قاله ببساطة وعفويّة حين سُئل عن سبب انخراطه في الثورة.

في الشارع، لم يلبث أن نجح رامي في تعلّم قراءة الثورة، فانتبه إلى السوس ينخر أثاث البلاد كلّه، ثقوبه الهائلة طُليت بدهان كثيفٍ من الزيف والنفاق والشعارات الفارغة. انتبه إلى عويل المظلومين المكبوت، وإلى قلوب أمّهات شحبت بانتظار أكبادها المرميّة خلف القضبان، وإلى شساعة الجهل والأميّة المكتومين. “في الشارع، فهمتُ أكثر معنى الظلم. فاكتشفتُ أنّني ظُلمت بدوري. كنت أحبّ المدرسة، وأرغب في تحصيل الشهادات، لكنّ أحد المدرّسين، والمشهود له بالقسوة والفشل، جعلني أكره المدرسة بما فيها. كنتُ يافعاً، لا أقبل أن يظلمني أحد أو يمسّ كرامتي، وقفت في وجه المدرّس، أردع عنّي الإهانة، وعن زملائي الساكتين خوفاً. فلو كان لدينا قانون عادل، لطرد المدرّس الفاشل، وصان حقّي في التعلّم. أليس هذا سبباً كافياً لتفجير ثورة؟” لم ينل رامي الشهادة الثانويّة، فامتهن النجارة وصناعة الأثاث.

كان رامي بفطرته السليمة وتربيته، متجاوزاً الانتماءات الضيّقة وهويّاتها القاتلة. انتسب إلى هيئة التنسيق الوطنيّة منذ تأسيسها في دمشق، واعتنق لاءاتها الثلاثة: لا للطائفيّة، لا للسلاح، لا للتدخّل الخارجيّ. بزعامة المناضل اليساري عبد العزيز الخيّر. وأسوة بغيره من الرفاق الشباب، أصبح رامي تلميذاً وصديقاً للخيّر.

سيتعرّف رامي الهنّاوي، من أشرفيّة صحنايا، إلى الفنّانة والكاتبة كفاح علي ديب، من اللاذقيّة، وإلى زيدون الزعبي من درعا، ليكوّنوا مثلّثاً يرمز للوحدة الوطنيّة. وبأولى أحرف أسمائهم، شكّلوا اسمهم الموحّد “كرز”، الذي شاع في شوارع دمشق وغوطتها، وفي عديد من مناطق البلاد المنكوبة، على يد النظام المجرم. كانوا يهرعون إليها، وتجمّعات وطنيّة أخرى من المحافظات كافّة، بالتبرّعات الأهليّة، وبما تتيح لهم مقدّراتهم الشخصيّة، لإغاثة إخوتهم، ومن دون تمييز، لتأمين مختلف حاجاتهم الملحّة، رغم استفحال شراسة القبضة الأمنيّة.

ولأنّ أشدّ ما يرعب الطغاة: الكلمة، ووحدة الشعب، نهج الأسد الطاغية مبدأه: فرّق تسد! وقام بحملته الوحشيّة ضدّ الشعب الثائر؛ قمع المثقفين بضراوة لإفراغ الشارع البسيط منهم، إثارة النعرات الطائفيّة، القبليّة والعشائريّة، تأجيج البطش والتضليل الإعلاميّ. ليُعتقل الـ”كرز”، سنة 2012. ستنجو كفاح وزيدون، ويغادرا البلاد قهراً وقسراً. وبقي رامي سجيناً إلى أن غُيّب، وكثير من المعتقلين سواه، في المجهول الرهيب.

أجمع من عرفوا رامي على أنّه كان أشجعنا وأكرمنا. أصبرنا، وأشدّنا إيماناً بأنّ ما فعله إنّما كرمى لحريّة سوريّة وللسوريّين جميعاً. وبحسب شهادات رفاق الزنازين الناجين رغم تعذيبه الوحشيّ، ظلّ يتحدّاهم. كان بطلاً غيوراً، نفى عنّا تهماً عديدة، ونسبها إليه. أشرف كطبيب حنون على جراحنا الجسديّة، ودعمنا النفسي. وقلّما كان يستريح أو ينام. كان أنبلنا. 

لو أنّك هنا، يا ابن العفّة، لهُرعت لإغاثة إخوتك في حمص والساحل، درعا وكوباني، غير آبه بإهمال المؤرّخين فرسان الظلال.

وعرة كانت طريقنا لمعرفة مصيرك وعبثيّة، فلا شهادة وفاة لك أو جثّة، فأسقطَنا اليأس في التسليم لغيابك الأبدي. دفنّاك في قلوبنا المكلومة. وكان تأبينك مهيباً. عزاؤنا في أن تلتقي روحك بروح أمّك/ أمّنا، ذبيحة انتظارك.

اليوم، يا رامي، نتساءل بوجل مزمن، إن كان الرسّام الجديد سيعيد رسم سوريّتنا ثانية، برفقة رسّامي الوطن المهرة، بألوان أطيافنا الجميلة، وزخرفات مواطنتنا الآمنة، فتنجو البلاد. بينما نسمعك تناشدنا: “لا أريد أن يفكّر بي أحد، فلنفكّر بالأرض كلّها، ونحن ننقر على الطاولة بحبّ. لا أريد أن تعود الدماء، لتلطّخ الخبز واللوبياء، والموسيقى. (نيرودا)

العربي الجديد

————————————–

نازك العابد.. المتمرّدة الدمشقية/ تيسير خلف

08 ابريل 2025

فتاة دمشقية متمرّدة فرضت في مطالع القرن العشرين قيمها بقوة شخصيتها وصدق حجتها. طاردتها السلطات الفرنسية فاضطرّت للفرار إلى شرقي الأردن، ثم إلى فلسطين قبل أن تعود إلى بيت أهلها لتتابع دراستها في جامعة أميركية.

تصلح قصة حياة المناضلة النسوية الدمشقية نازك مصطفى العابد موضوعاً لمسلسلٍ تلفزيونيٍّ عن فتاة متمرّدة واجهت مجتمعاً كاملاً بجسارة، وفرضت قيمها بقوة شخصيتها وصدق حجتها. والقصة لا تنتهي عند هذا الحد، فقد خاضت هذه العشرينية مغامرة عابرة للحدود، إذ طاردتها السلطات الفرنسية حتى اضطرّت للفرار إلى شرقي الأردن، ثم إلى فلسطين قبل أن تعود إلى بيت أهلها لتتابع دراستها في جامعة أميركية وتتخرّج مهندسة زراعية كما رغبت.

حين كانت تعيش في الموصل مع والدها مصطفى باشا العابد الذي كان والياً هناك من عام 1905 وحتى 1908، أسست مع مجموعة من الموصليات “حزباً” للدفاع عن اللغة العربية في وجه “اللمز والتهكم” من المعلمات التركيات. وفي 1914، نفيت مع عائلتها إلى إزمير بسبب ميولهم العروبية. وتخبرنا وثيقة عثمانية أن نازك العابد، وفي أثناء زيارتها أقرباءها في إسطنبول في يوليو/ تموز 1916، خلعت الحجاب ودخلت بصحبة سيدة أجنبية إلى أحد المسارح سافرة، فأوقفها ضابط سابق، يبدو أنه يعرفها ويعرف أهلها، وأخذها إلى قسم الشرطة ريثما يجري ترحيلها إلى سورية، غير أن ابن عمّها عبد الرحمن العابد تقدّم بطلب إلى نظارة الداخلية أوضح فيه أن أهلها يقيمون في الأناضول (الجانب الآسيوي من تركيا)، متمنّياً إيقاف قرار إبعادها إلى سورية، وهو ما حصل فعلاً.

منذ وصولها إلى دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 1918، عملت نازك العابد على تأسيس جمعية تعنى ببنات شهداء الثورة العربية، وجمعت أكثر من مائة سيدة وآنسة من العائلات الدمشقية المعروفة في بيت شقيقتها. وانتخبت بالإجماع رئيسة للجمعية التي نشطت في الشهور اللاحقة في تنظيم حفلات خيرية تتضمّن خطباً وقصائد وعروضاً فنية. وفي الفترة نفسها، نشرت مجلة “العروس” خبراً عن “إنشاء منتدى أدبي نسائي في الفيحاء، بمساعي حضرة الآنسة نازك، كريمة مصطفى باشا العابد التي يسّر لها المنفى أن تتخرّج في مدرسه الأمريكان، فجاءت وكلها غيرة على إنهاض همم النساء، ونشر الأدب بينهن.

قضية الحجاب والانتخابات

فاقم الحفل، الذي نظّمه المنتدى النسائي في 25 مايو/ أيار 1920، بحضور الملك فيصل، الجدل الذي كانت تثيره محاضرات وجلسات النقاش في المنتدى النسائي عن الحجاب، ما دعا وزير الخارجية يومها عبد الرحمن الشهبندر إلى إلقاء خطاب قال فيه: “إن المرأة السورية لا تستطيع الآن رفعه ما دام الوسط الذي نشأت فيه بعيداً عن حيّز التمدّن درجات عديدة”.

وفي أثناء انعقاد جلسات “المؤتمر السوري العام” لوضع مسوّدة القانون الأساسي للبلاد، نشطت نازك العابد في كتابة المقالات والدعوة في المهرجانات الخطابية إلى منح المرأة حقها في الانتخاب والترشّح، باسطة أفكارها بطريقة غير مباشرة، حيث كتبت في أحد المقالات: “وأنت، أيتها المرأة السورية، إن لك طريقاً تصلين به إلى السعادة الحقيقية والهناء الدائم. أيتها العذراء طالبي أباك، أيتها الفتاة طالبي أخاك، أيتها المرأة طالبي زوجك في الطريق الوحيد الذي نصل فيه إلى حقوقنا المقدسة”.

وحين بدأت نُذُر الانتداب الفرنسي على سورية تطوّعت نازك مع مجموعة من نساء دمشق للمشاركة في المعركة المرتقبة، وشكلت جمعية “الهلال الأحمر النسائية”، بعدما منحها الملك فيصل رتبة رئيس (نقيب) فخرية، بإرادة ملكية مؤرّخة بيوم 17 يوليو/ تموز 1920، أي قبل أسبوع من معركة ميسلون التي استشهد فيها وزير الحربية بقذيفة مدفع سقطت قربه، ففارق الحياة بين يدي المسعفات وفي مقدمهن نازك العابد.

من معان إلى عمّان

تبنّت نازك العابد وسائر أعضاء جمعية نور الفيحاء موقفاً مناوئاً للانتداب الفرنسي، وعندما تصدّت مديرة المدرسة صبحية التنير لهذه القوات بمظاهرة للتلميذات، أصدرت تلك السلطات قراراً بإبعاد المديرة إلى خارج سورية، الأمر الذي استدعى تضامناً كاملاً من نازك العابد معها، وقرّرت أن ترافقها إلى شرقي الأردن. وبقيت هناك ثمانية أشهر، وسعت خلال هذه المدة إلى تأسيس مدرسة للبنات، بالتعاون مع التنير، غير أن والدتها قدمت إلى عمّان فانقادت إليها بعاطفة الأمومة وعادت إلى دمشق.

وهناك حاولت السلطات الفرنسية استمالة نازك إليها، وعرضت عليها إعادة مدرسة بنات الشهداء لها، لكنها رفضت، فوضعتها السلطات الانتدابية تحت المراقبة، كما شدّدت المراقبة على أبويها، فاستكانت للوضع رأفة بحال والديْها اللذيْن تقدّم بهما السن، وكانا يرغبان بالسكينة بعد سنواتٍ من النفي والملاحقة. ولكن زيارة المبعوث الأميركي السابق تشارلز ريتشارد كراين عضو لجنة كينغ كراين إلى سورية في نيسان/ إبريل 1922 لنازك في بيت أبيها لكي يعرض عليها منحة دراسية في الولايات المتحدة، أثار استياء السلطات الفرنسية، فعزمت على إبعادها إلى بيروت. وبعدما رفضت الامتثال للقرار، وضعتها تحت الرقابة المشددة، ومع ذلك شاركت في تنظيم مظاهرات نسائية، ظهرت في إحداها في المقدّمة وهي تهتف وتخطب، داعية النساء إلى الثبات أمام الجنود والرشّاشات، حتى بلغت الحماسة بهن أن صعدن إلى إحدى المصفّحات الفرنسية وأخذن مسدّسات الواقفين وراء الرشاش.

وفي تلك الليلة، أبعدت نازك عن دمشق بحيلة دبّرها خالها مدير شرطة دمشق أحمد حمدي الجلاد إلى قرية يملكها والدها في غوطة دمشق، وبقيت هناك مخفورة عشرة أيام. وفي هذه الفترة، كانت تهمة تحاك ضدها عقوبتها من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، فما كان منها إلا أن فرّت متخفية إلى حيفا في فلسطين، حيث استقبلت هناك استقبال الأبطال وأقيمت لها الحفلات التكريمية، حتى أن الشاعر اللبناني وديع سعادة كتب فيها قصيدة مطلعها:

أنازك تبـدو والرجال تطلع.. أَمِ الكوكب الدريُّ في الليل يسطعُ

وما ضرَّها هذا الســفور وكلهم.. عيون لمرآها تغضُّ وتدمـعُ

توسّط خالها لها بالعودة إلى دمشق مقابل التوقف عن مناوأة الفرنسيين، فعادت، ولم يُعرف بعد ذلك شيءٌ من أخبارها سوى خبر في مجلة العروس يفيد بأن الآنسة نازك العابد وافت إلى دمشق لقضاء العطلة الصيفية وستعود إلى الأستانة لإكمال دراستها في كلية روبرت الأميركية. وفي 1929 التقتها الكاتبة الأميركية روزيتا فوربس في أثناء زيارتها دمشق، فكتبت تصف لقاءها بها: “مكثت مع نازك العابد، ابنة أحد الباشاوات المحليين. كانت لا تزال ترتدي حجاباً أسود ثقيلاً مزدوجاً، كان منظره يدعو للرثاء. وكانت المجلة النسائية أسسها في ظلّ الحكم العربي قد تعرّضت للقمع. وأغلقت أغلب المدارس. وفي حريم بيت العابد، كانت نازك، القصيرة، السمراء، الجادّة، المهتمة بالزراعة أكثر من اهتمامها بالحب ـ تتحدّث بيأس عن بلدها”.

العربي الجديد

—————————

الفضاء العكِر/ يعرب العيسى

08 ابريل 2025

ما أفضل ما تفعله لتصفية الماء العكر؟ امنحه الوقت الكافي ليفعل ذلك بنفسه، بأن تتركه وشأنه. سيساعد على ذلك فهم أن الحكايات كلها متشابهة، لديها قواعد صارمة من الصعود نحو العقدة، ثم الذروة، المكوث قليلاً في الخوف والقلق، ثم الهبوط نحو الحل. تنفس الصعداء، ثم الصعود مجدداً نحو عقدة جديدة.

تفعل الأشياء نفسها في المسلسلات، والروايات، وسير الأجداد، ونمائم السهرات، وفي حياتنا كذلك.

حياتنا وحدها ما تبدو عصية على إدراك القواعد الحكائية فيها، لأنها تحدُث الآن، ولأننا نعيش في داخلها. وحين تنتهي أو تمضي أجزاء وازنة منها، سنبدأ بالتعامل معها كما هي حقاً: حكاية.

سنعيد فهمها، وفهم ما جرى فيها، ولماذا جرى، سنقول لأنفسنا: نعم نعم صحيح، هكذا تفعل الأشياء.

سنغفر لمن نراهم الآن أشرار الحكاية، وسنضمد جراح من ظننا أنهم متمارضون، وسنربت على كتف من نتشفى منه الآن، ففي نهاية الحكايات تستعيد أغلب الشخوص إنسانيتها.

في بلدي الآن تجري حكاية. حكاية كبيرة من تلك التي يسميها النقاد ملحمية، شخوصها تراجيدية، وضحاياها بسطاء. تسيل فيها دماء كثيرة، وأغلبها دماء بريئة، وأسباب نزفها غير مفهومة، ولكنها تسفك.

يوماً ما، ستنتهي هذه الحكاية، أو بشكل أدق، هذا الفصل الدامي منها، وعندها سنراها بطريقة أخرى، وسنندم لكمّ الأخطاء التي ارتكبناها تحت تأثير الغضب أو الخوف أو اضطراب الرؤية.

ألم يقولوا منذ زمن بعيد إن الأهواء تلوث الفهم؟ وأي الأهواء أشد من الخوف والغضب؟

في مسار الحكاية التي يكتبها بلدي لنفسه، هناك الكثير من هذين الملوثين، لذلك تبدو الحدود رجراجة، والعلاقات مضطربة، والمستقبل غامض، ونبدو نحن الناس حمقى. وفوق كل ذلك، أو ربما لأجل كل ذلك، هي واحدة جيدة بين الحكايات.

وللأسف، في الحكايات الجيدة، تعاني الشخصيات كثيراً، تتحمل فوق طاقة البشر بكثير، وهذا ما نحن عليه.

في أجواء هذه الحكاية، من الطبيعي أن يكون الفضاء العام مجنوناً، خصوصاً إذا ما كان تلقيه، والانخراط فيه، يتمّان عبر وسائل غير بريئة بالضرورة، مثل أن تفهم المشهد في بلاد بهذا الاضطراب من وسيلة مثل فيسبوك، فيها مساحة كبيرة لعبث العابثين، وتحريض المحرضين، وفيها من القدرة على جرّ أعقل العقلاء إلى الساحة الخلفية لملعب الغوغاء.

المجازر التي وقعت، وما زالت تقع في الساحل كان لها أن تكون الدرس الأخير الذي نحتاجه لإقفال هذه التراجيديا، لولا أنها تجري في فضاء عكر، ملوث بالحقد وبالخوف، وباضطراب الرؤية. وبصراخ بدائي يستنهض شهوة الدم، ولكن، وبحكم أنه يعلو في وسيلة عصرية مثل فيسبوك، فهو يغلّف نفسه بمغالطات عقلية (وضميرية كذلك) مثل الإنكار، التبرير، الخلط بين ضحايا ومجرمين، توجيه اللوم إلى هوامش الأشياء بدلاً من متنها، مثل أن يقتل طفل بطريقة وحشية في قرية ببانياس، فتعوض عجزك عن محاسبة القاتل، بتفنيد تفاصيل الصورة المنشورة لجثته، أو تقرّع ممثلاً لأنه لم ينشرها، أو تنفي القصة من أساسها، أو تذهب إلى اتهام الاهتمام بها على أنه تعطيل لقضايا كبرى، أو مئات التقنيات الدفاعية الأخرى.

أفهم أن هذه طبيعة الأشياء في الحكايات الكبرى، لكني أفهم أيضاً، أن على واحد من هذه الأحداث، أن تصبح الفصل الأخير من حكايتنا، لنبدأ بحكاية جديدة، تذهب باتجاه ذروة مختلفة، ليست فيها دماء. وريثما يحين ذلك، ليس لنا سوى أن ننتظر صفاء هذا الفضاء.

العربي الجديد

————————–

فصل الموظفين ومنحهم إجازات قسرية: إعادة الهيكلة والواقع المؤلم/ حبيب شحادة

08 ابريل 2025

تفيد إحصاءات حكومية سورية، صدرت في عام 2023 عن المكتب المركزي للإحصاء، بأن أعداد الموظفين في الوزارات بلغت نحو مليون موظف. تريد الحكومة الانتقالية شطب أكثر من 300 ألف منهم، وسط استياء من موظفين تعرّضوا للفصل بعد سقوط النظام.

يقول شادي مهنا والغصّة تخنق حنجرته إنه يعمل على بسطة في حي المزّة في دمشق. ويسرد لـ”سورية الجديدة”: “بعد 20 عاماً في الوظيفة العامة فصلوني بذريعة أنني فائض”… كان آخر يوم عمل له في وزارة الصحة منذ حوالي ثلاثة أشهر، “عملتُ في مجال التجهيزات الطبية في أحد مشافي دمشق العامة، واختصاصي صيانة أجهزة طبية، وهناك حاجة ماسة له في القطاع الطبي”.

مهنا واحد من مئات الموظفين الذين تعرّضوا لفصل تعسّفي من وزارة الصحة، إلى جانب مئاتٍ من وزارات أخرى شملتهم عمليات الفصل التعسّفي أو ما تطلق عليه الحكومة المؤقتة “إجازة مأجورة ثلاثة أشهر”. ويبحث مهنا اليوم عن لقمة عيشه في شوارع دمشق، بعد توقف راتبه وعدم التزام الحكومة الحالية بدفع رواتب إجازته القسرية ثلاثة أشهر.

وبحسب خبراء في الإدارة وقانونيين، تحدُث عمليات فصل العاملين أو صرفهم من الخدمة وفق خلفية سياسية وغير مهنية، ويطالب هؤلاء الخبراء بالتريث وعدم صرف العاملين، موضحين أن هذا يحدث وفق إجراءات غير قانونية.

لا أرقام مُعلنة من الحكومة السورية لعدد الموظفين المفصولين، ولكن منظمة حقوقية وثقت فصل أكثر من مائة ألف من المؤسسات الرسمية التابعة للدولة في الأشهر الأربعة الفائتة بعد سقوط النظام، رغم احتجاجات شعبية خرجت لمواجهة قرارات الفصل، ورغم أنّ رواتب غالبية المفصولين الشهرية لا تتجاوز حاجز 30 دولاراً.

وفي مطلع فبراير/ شباط الفائت، قال وزير التنمية الإدارية محمد السكاف إن الدولة السورية “لن تحتاج سوى ما بين 550 ألفاً إلى 600 ألف موظف”، أي أقل من نصف العدد الحالي من الموظفين المقدّر بحوالي 1.3 مليون موظف حكومي. وذلك فيما تفيد إحصاءات حكومية، صدرت في عام 2023 عن المكتب المركزي للإحصاء، بأن أعداد الموظفين في الوزارات الحكومية بلغت أقلّ من مليون موظف. تريد الحكومة المؤقتة شطب أكثر من 300 ألف منهم، وفق كلام وزير المالية (السابق) محمد أبا زيد.

احتجاجات ضد الفصل

وقد شهدت العاصمة دمشق ومدن الساحل السوري عدّة احتجاجاتٍ عمّالية ضد قرارات فصل العاملين من وظائفهم، بذريعة إعادة هيكلة القطاع العام، والتخلص من فائض العمالة التي خلفها النظام المخلوع، لكن تلك الاحتجاجات اختفت بعد الأحداث الدموية في الساحل السوري في منتصف الشهر الماضي.

وتعمد حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فصل موظفين لديهم خدمة سنوات طويلة من دون تعويضهم ماليا، إلى جانب أن آخرين يعانون من عبء تسديد أقساط قروض حكومية كانوا قد أخذوها بناء على وظيفتهم الحكومية. وكان الشرع قد قال في زيارته إلى اللاذقية، في 17 فبراير/ شباط الماضي، عن مشكلة الموظفين: “إنهم في إجازة لثلاثة أشهر ولن يُفصل أحد”، وفق قوله.

وكانت إجراءات الفصل تلك مع حديث حكومي عن رفع رواتب موظفي القطاع العام في البلاد بنسبة 400%، وفق وزير المالية، في تصريح نقلته عنه وكالة رويترز في فبراير/ شباط الفائت، لكن ذلك لم يتحقق، عدا أن رواتب أغلب العاملين توقفت نتيجة سياسة حبس السيولة التي اتبعتها الحكومة.

وقد طالب الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية بوقف تسريح موظفين وإعطاء إجازات بلا راتب لآخرين، واعتبر أنه لا يحقّ للحكومة اتخاذ إجراءات بفصل موظفين مثبتين في القطاع العام.

صرف عشوائي وغير قانوني

يتمنّى استشاري التدريب والتطوير الإداري عبد الرحمن تيشوري من الحكومة السورية أن تنظر بشكل مختلف إلى موضوع القطاع العام وتطويره وتخليصه من مشكلاته الإدارية والتقنية والمالية، وقال لـ”سورية الجديدة”: “ليس بهذه الطريقة يمكن إصلاح القطاع العام رغم وجود فائض عمالة”. ويقترح إبعاد من ليس لديه عمل حقيقي ومن لا ينتج ويحقّق قيمة مضافة بعد إجراء تقييم أداء للعاملين وفق مؤشّرات تقيس الأداء، إذ هناك فصل لبعض العاملين ومنهم كفاءات وخبرات معروفة تملك القدرة على إدارة المرفق العام، بحسب تيشوري الذي يقول إن “التسريح فوضوي وعشوائي”، واصفاً هذا الأسلوب بأنه غير علمي وغير منهجي ويضر بالقطاع العام، “ناهيك بعمليات طرد للموظفين بناءً على خلفيات سياسية وغير مهنية”، داعياً إلى التريّث وعدم صرف العاملين كما يحصل اليوم.

في المقابل، لا ينكر تيشوري أن هناك موظفين يشكلون عائقاً أمام إصلاح القطاع العام، لكن هناك حاجة لرفع أداء القطاع العام بإعادة هيكلته بطرق علمية، والحل الأنسب للعمالة الزائدة تدريبها ونقلها إلى جهات تحتاجها ضمن رؤية متكاملة لإصلاح القطاع العام.

وقد تعدّدت عمليات إيقاف العاملين من القطاع العام بين الفصل من الخدمة (من كان موظفاً كذوي “شهداء”) وكفّ يد، وإجازة مأجورة وبلا أجر، إلى جانب إيقاف تجديد عقود العمال المؤقتين، وفق ما رصدت “سورية الجديدة”.

وقد تعهدت الإدارة الجديدة في سورية في يناير/ كانون الثاني الماضي (2025) بإصلاحات جذرية في الاقتصاد السوري، بطرق تتضمّن خططاً لطرد ثلث العاملين في القطاع العام وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وأثارت وتيرة الحملة المعلنة على الهدر والفساد احتجاجات من موظفين حكوميين لأسبابٍ منها المخاوف من الفصل الوظيفي على أساس طائفي، وهو ما حدث في بعض القطاعات، وفق رصد “سورية الجديدة”، وكانت أول عمليات تسريح للعاملين بعد أسابيع من إطاحة نظام الأسد.

ويرى خبراء أن عمليات الفصل التعسفي وعدم صرف رواتب العاملين ستفاقم الوضع المعيشي لهؤلاء ولعائلاتهم في ظل عدم وجود نظام إعانة اجتماعية أو تعويض بطالة في بلد يعاني 80% من سكانه الفقر، حسب البنك الدولي.

يرى القانوني والمحامي السوري عارف الشعال أنّ ما يجري من فصل للعاملين يندرج في إطار “إجراء غير قانوني”. وقال لـ”سورية الجديدة” إن العمّال المسرّحين تحقّ لهم مراجعة المحكمة الإدارية والاعتراض على التسريح، ما عدا حالة الإجازة بأجر التي يعتبر فيها الموظف على رأس عمله قانونياً. وأضاف أن تنوع قرارات الإبعاد عن العمل موضوع دقيق تجب مقاربة كل حالة منه على حدة، معتبراً أن المتعاقد يختلف عن العامل المثبت وعن العامل غير المثبت. ووفق الشعال، لكل حالة من هذه الحالات سياق قانوني مختلف تجب مقاربتها على حدة.

وينظم القانون الأساسي للعاملين (رقم 50 لعام 2004)، الذي لا يزال سارياً، الأوضاع القانونية للعاملين، مثل أصول التعيين والدرجات والتثبيت، كما يتضمّن فقرات خاصة بالتسريح مثل حالات عدم الترفيع في التقييم الدوري مرّتين متتاليتين أو ثلاثاً خلال خدمته. وينصّ في المادة 137 على أنه “يجوز بقرار من رئيس مجلس الوزراء صرف العامل من الخدمة من دون ذكر الأسباب التي دعت لهذا الصرف”.

النتائج المجرّبة

ليست أهمية هذا الموضوع في الجانب الإنساني فقط، أي في إلقاء مائة ألف أسرة في منحدر البطالة والفقر، بل في الآثار الخطرة على المجتمع والدولة، والاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني. وقد يكون مفيداً مراجعة تجارب دول أخرى سرّحت موظفي القطاع العام. ومن أشهر هذه الحالات، بريطانيا في بداية ثمانينات القرن العشرين، حين اتخذت رئيسة الوزراء في حينه، مارغريت تاتشر، قرارات تسريح موظفين ضمن سياستها لخصخصة القطاع العام، وقد أدّت هذه القرارات إلى اضطرابات واسعة، وتراجع بريطانيا في قطاعات حيوية مثل قطاع التعدين. كما أدّى تسريح الموظفين في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى ارتفاع معدلات البطالة، ونشوء نوع من أنواع المافيا والعصابات وانفلات الأمن، وانتشار الجريمة. وأقرب الأمثلة اليونان واسبانيا، فقد اتخذ البلدان قرارات بتسريح أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، في محاولة لتعامل مع ارتدادات أزمة الاقتصاد العالمي 2008، وأدّى التسريح إلى اضطراباتٍ وفوضى وصدامات بين الشرطة والمحتجين في البلدين.

ولم يكن أمام الحكومة اليونانية من حلول سوى اللجوء للمؤسّسات المالية الدولية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، واللذين فرضا أيضاً إجراءات تقشّف، وسّعت من دائرة الاحتجاجات والاضطرابات، ووصلت إلى شلّ الحياة، وتوقف شبكة النقل والمؤسسات الخدمية، وفقدان الثقة بالدولة وبمؤسساتها.

ما زالت القضية في سورية طازجة، وحصلت ضمن سلسلة من الأحداث المزلزلة، بدأت بإسقاط نظام ديكتاتوري متجذّر. ولذلك لم تُلمس بعد الآثار التي ستترتب على تسريح هذا العدد الكبير من الموظفين، ولكنها، كما تخبرنا تجارب غيرنا، ستظهر عاجلاً أو آجلاً، وستكون تكلفة معالجتها أكبر بكثير من عائد توفير رواتب هزيلة لمهنا ورفاقه.

ويتذكر مهنّا سنوات عمله الطويلة في خدمة القطاع العام، ويقول إنّ فصله من عمله “انتقامي وانتقائي”، وأنّه يخشى خسارة تعويض نهاية الخدمة في ظل قرارات الحكومة التي جعلته “مشرّداً يبحث عن لقمة عيشه اليومي”.

العربي الجديد

———————–

جمهورية القلق/ شعبان عبود

08 ابريل 2025

على مدار حكم حافظ الأسد، استحقّت سورية بجدارة لقب “مملكة الرعب والصمت” الذي أطلقه المعارض الراحل رياض الترك بعد فترة وجيزة من خروجه من سجن طويل، وبعد وصول بشّار الأسد إلى السلطة.

كان الترك جريئاً بما يكفي لقول ذلك في قلب دمشق في محاضرة له في إحدى منتديات الحوار الوطني التي رافقت “ربيع دمشق”، وتزامنت مع موجة تفاؤل عمّت غالبية السوريين إثر وصول شاب تعلّم في الغرب وصار رئيساً بعد توريثه الحكم. لكن موجة التفاؤل تلك سرعان ما خمدت في أعقاب إغلاق المنتديات واعتقال أبرز رموزها ووأد ظاهرة الربيع تلك.

الرئيس الشاب المتعلم في الغرب ورموز نظامه الذين نجحوا في وأد الربيع المحلي، وكما يعرف الجميع، لم يستطيعوا فعل شيء للربيع العربي في محطته السورية سوى مواجهته بالعنف والدم، وبعد 13 عاماً من الإيغال في هذا الخيار كان حتمياً أن يسقط من اختاره. سقط نظام بشّار الأسد بعد ثورة تكلفتها كانت باهظة جداً ومؤلمة جداً.

بكلّ تأكيد، لن يستيقظ السوريون على نظام جديد ودولة متعافية في صباح اليوم التالي وكأن شيئاً لم يكن، لن يحظوا بذلك لأن المنتصرين ورثوا فقط الدمار والخراب، مصرفاً مركزياً فارغاً، وعقوبات دولية، وشعباً ممزّقاً، لا بل ربما شعوباً سورية.

آلاف من السوريين بدأوا بعد ثلاثة أو أربعة أيام من سقوط النظام يطالبون الطبقة الحاكمة الجديدة بكل شيء، بدأوا يحلمون بكلّ شيء وينتقدون كل شيء، ويُحبطون من أي قرار جديد. كان واضحاً أن هناك جمهوراً متعباً يريد أن يقفز بأقصى سرعة من مستنقع الدولة المتهالكة إلى برّ الدولة المستقرّة، الآمنة، القوية، العادلة، الحديثة، الطبيعية. لكن ذلك كان مجرد أضغاث أحلام فقط، ولنعترف: لقد كانت التركة ثقيلة.

ربما ذلك يفسّرُّ كثيراً من مشاعر القلق والخوف والتوجس التي يعيشها غالبية كبيرة من السوريين اليوم، وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله تنوع المجتمع السوري وتعدّد طوائفه وإثنياته، وتموضعاته السياسية والاجتماعية والثقافية، عندها سندرك كم هي متشعبة مطالب السوريين وأسباب قلقهم. بصراحةٍ، هي تبدأ من خوف جمهور المنتصرين على ثورتهم وعدم التفريط بكل التضحيات، وبالتالي، الدعم الكامل غير المشروط للسلطة الجديدة، مروراً بخوف وقلق بعضهم على هوياتهم الاثنية والطائفية والثقافية الخاصة، وقلق بعضهم الآخر على شكل الدولة وهويتها المستقبلية، وصولاً إلى قلق الناس العاديين على وظائفهم وأعمالهم ومستقبلهم.

تزيد ذلك كله ضربات إسرائيلية بين حين وآخر، وخوف من تدخلات إقليمية، وانتهاكات داخلية، وفوضى سلاح لم تضبط بعد، و”سوشيال ميديا” مليئة بالإشاعات، حتى الإدارة الجديدة ذاتها تواجه انتقادات داخلية وخارجية من هنا وهناك وتنتظر رفعاً للعقوبات الغربية. جعل ذلك كله من السوريين عموماً ضحايا للقلق والتوجس والخوف والانتظار، نحن اليوم مجرد جمهورية قلقة.

وبكل تأكيد، يُضاف إلى ذلك قضية أساسية تتعلق بمصير الكيان السوري وشكله وفيما إذا كان السوريون قادرين على الحفاظ وحدتهم كوطن جامع لكل الطوائف يبقى مبعثاً كبيراً للقلق، التأخّر في الوصول إلى تفاهمات أو اتفاق بين الإدارة الجديدة وبعض الزعامات الروحية والدينية في السويداء، مثل الذي حصل بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديموقراطية مظلوم عبدي يعتبر أحد أهم بواعث القلق عند كثيرين، وخاصة بعد دخول إسرائيل على هذا الملف وتلويحها بإمكانية التدخل، من دون أن ننسى أن ما جرى في منطقة الساحل السوري من أحداث دامية ومؤلمة سيبقى مبعث قلق وخوف عند فئات واسعة من السوريين.

باختصار، يمكن القول إن مستقبل الكيان السياسي ووحدته الجغرافية وسيادته على جميع أراضيه ومدى جاهزية جميع السوريين، بكل تنوعهم وتناقضاتهم وخلافاتهم، للدفاع عن ذلك، والاتحاد حوله سيبقى أحد أهم أسباب القلق الذي سيرافق مسيرة إعادة بناء الدولة السورية في لحظتها هذه.

العربي الجديد

——————————-

العبور بسوريا إلى الأمان المجتمعي والتداول السلمي للسلطة/ د. علاء الدين آل رشي

7/4/2025

ليس الحديث عن سوريا اليوم ترفاً نظرياً ولا محاولة متأخرة لتجميل الواقع، بل هو استحقاق وجودي يستوجب مراجعة جذرية لعقل الدولة والمجتمع معاً.

لقد أصبح من الضروري إعادة التفكير في أدوات الخروج من الأزمة، وتحديد شروط العبور نحو أمان مجتمعي حقيقي، وبناء منظومة سياسية قائمة على التداول السلمي للسلطة، لا على الهيمنة، ولا على توازنات الخوف.

    أولاً: المطبات الراهنة وإعادة إنتاج الأزمة

هناك تفكك اجتماعي واضح، وغياب لثقة المواطن بالمؤسسات، وتحلل في منظومة القيم الجامعة.

لقد أنتج النظام عبر عقود طويلة عقلية أمنية مغلقة حولت السياسة إلى مرادف للولاء، وأفرغت المؤسسات من مضمونها، وخلقت طبقة من المستفيدين ترتبط بوجود السلطة لا بوجود الدولة.

هذا الواقع لا يمكن تجاوزه برفع شعارات أو مواقف عاطفية، بل لا بد من تفكيك بنية التفكير التي سادت لعقود، ومواجهة آثارها على مستوى التعليم، والإعلام، والعلاقات الاجتماعية، وحتى داخل الأسرة السورية نفسها. فالمأساة التي نعيشها اليوم ليست فقط بفعل الحرب، بل نتيجة تفاعل عوامل منها الفراغ السياسي، والتجريف الفكري، وانعدام المشاركة المجتمعية الحقيقية.

    ثانيًا: الأفخاخ المزروعة واستراتيجية الإرباك

لقد نجح النظام خلال سنوات الصراع في زرع سلسلة من الأفخاخ، كان هدفها إرباك المشهد وتشويه البدائل.

من هذه الأفخاخ: تحويل المعارضة إلى مزيج غير متجانس من المشاريع المتضاربة، بعضها مرتبط بأجندات خارجية، وبعضها فوضوي الطابع، وبعضها اندفع نحو التطرف كرد فعل على الانسداد السياسي.

كما عمد النظام إلى تفريغ بعض المناطق من سلطته عمداً، ليتيح الفرصة لصعود نماذج غير قادرة على إدارة الحياة المدنية، ثم استخدم هذه النماذج لتأكيد روايته: “أنا أو الفوضى”. هذه الاستراتيجية لم تكن عشوائية، بل جزء من رؤية مدروسة هدفها خلط الأوراق، وتشويه كل مشروع بديل، وجعل المستقبل يبدو أكثر قتامة من الحاضر.

ومن ضمن الأفخاخ أيضًا: تكريس الهويات الفرعية بديلاً عن الهوية الوطنية الجامعة، واستخدام الخطاب الطائفي والمناطقي لتفتيت المجتمع السوري، وهو ما أوجد حالة من الانكفاء والتوجس المتبادل بين مكونات البلاد.

    ثالثًا: ضرورة تغيير العقلية السائدة

لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح دون تغيير جذري في العقلية العامة السائدة، سواء لدى من في السلطة أو لدى النخب المعارضة أو حتى على مستوى الرأي العام. لا يمكن الاستمرار بعقلية التخوين، ولا بمنطق “كل من ليس معي فهو ضدي”. العقلية المطلوبة اليوم هي عقلية المشاركة، العقلية التي تؤمن بالتعدد، وتحترم الحق في الاختلاف، وتسعى إلى إدارة التنوع لا إلى قمعه.

نحتاج إلى ثقافة جديدة ترى أن الوطن ليس مشروعًا أيديولوجيًا مغلقًا، بل مساحة مشتركة للجميع، يتم فيها تقاسم السلطة، وتوزيع المسؤولية، وتكريس مفهوم الحقوق والواجبات على قدم المساواة. لا يمكن بناء دولة حديثة إذا بقيت المفاهيم التقليدية للزعامة، والتفويض المطلق، والاستقواء بالأمن، هي التي تتحكم في المشهد.

    رابعًا: الأمان المجتمعي… ما قبل السياسة

قبل أن نتحدث عن الانتخابات والدساتير والمؤسسات، لا بد أن نتحدث عن الناس: عن الأمان النفسي، عن المصالحة الاجتماعية، عن استعادة الروابط المنهارة بين مكونات المجتمع. لا يمكن تحقيق أمان سياسي دون أمان مجتمعي يسبقه.

والمصالحة هنا لا تعني مجرد إسقاط المسؤوليات أو القفز فوق الجراح، بل تعني بناء سردية جديدة للمستقبل، قائمة على الحقيقة، والاعتراف، والعدالة، والمشاركة في صياغة العقد الاجتماعي الجديد. هذه المصالحة لا بد أن تُصمَّم بشكل مهني، عادل، شفاف، يراعي حقوق الضحايا، ويمنع منطق الانتقام أو التصنيف الجماعي.

    خامسًا: التداول السلمي للسلطة… منطق الدولة لا منطق الغلبة

واحدة من أعمق مشكلات الحكم في سوريا كانت في مصادرة السياسة، واحتكار السلطة، وإخضاع المؤسسات السيادية للمزاج الشخصي، بدلاً من أن تكون أدوات لخدمة المجتمع والدستور. لهذا، فإن الدعوة إلى التداول السلمي للسلطة لا تعني تغيير الأشخاص فقط، بل تعني تغيير فلسفة الحكم نفسها.

لا يمكن بناء مستقبل مستقر على سلطة لا تعترف بحق الاختلاف، ولا تؤمن بدورية الحكم، ولا تفصل بين السلطات. الدولة ليست امتدادًا للعائلة، ولا للإرث التاريخي، بل مشروع دائم لإدارة الحياة العامة بناء على التمثيل والرقابة والمحاسبة. وإذا لم يتم إعادة تعريف مفهوم الشرعية، فلن يكون هناك استقرار حقيقي، بل مجرد هدنة هشة.

التداول السلمي للسلطة يجب أن يُصاغ على شكل قواعد واضحة، لا استثناءات، تبدأ من صياغة دستور جديد يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، ويضمن الحق في التعبير، والتنظيم، والرقابة الشعبية على الأداء العام.

    سادسًا: كيف ننظر إلى المستقبل؟

المستقبل لا يبنى على الأمنيات، بل على خطط واضحة وواقعية. علينا أن نفهم أن الانتقال من حالة الاحتراب إلى حالة الدولة ليس انتقالًا آنيًا، بل عملية طويلة تتطلب توافقًا وطنيًا، وإرادة سياسية، وتحييدًا حقيقيًا للتدخلات الخارجية.

الخطوة الأولى نحو هذا المستقبل تبدأ من بناء مشروع وطني جامع، يتجاوز الانقسامات السياسية والطائفية، ويرتكز على مبادئ العدالة والحرية والمواطنة. كما ينبغي العمل على إصلاح مؤسسات التعليم والإعلام، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتطوير الاقتصاد الوطني بعيدًا عن الاحتكارات والفساد.

أما على المدى القريب، فثمة أولويات عاجلة يجب التركيز عليها، منها: إطلاق سراح المعتقلين، الكشف عن مصير المفقودين، وقف العمليات الأمنية العشوائية، تمكين المجتمع المدني، وإنهاء التمييز القائم على الانتماء السياسي أو المناطقي أو الطائفي.

     من الخوف إلى العقل

لقد سادت سوريا لعقود حالة من الخوف: الخوف من الدولة، من الآخر، من المستقبل. واليوم، نحن أمام فرصة نادرة لكسر هذا الخوف وبناء عقل سياسي جديد لا يقوم على ردود الأفعال، بل على الوعي، وعلى إدارة الخلاف، وعلى استعادة الثقة بمفهوم الدولة لا السلطة.

لا أحد يملك وحده مفاتيح الحل، ولا أحد يستطيع أن يفرض مستقبلًا على الجميع. لكن ما يمكن أن نتفق عليه، هو أن لا أحد يريد لسوريا أن تبقى رهينة للخوف، أو أن تعيش أبدًا على هامش التاريخ.

إن تجاوز المطبات، وفهم الأفخاخ، وتغيير العقلية، والبدء بمشروع الأمان المجتمعي، هي مقدمات ضرورية لعبور حقيقي نحو وطن يعيش فيه الناس بكرامة، وتدور فيه السلطة لا الرؤوس.

المصدر : الجزبرة مباشر

 كاتب سوري

——————————–

في محاولة جعل الخارج مصدراً للشرعية/ سمر يزبك

08 ابريل 2025

في لحظة تحوّل حاسمة وخاطفة، أعادت القوى العسكرية، الممثّلة وقتها بعملية ردع العدوان، تشكيل معادلة الحكم في سورية، مدفوعةً بمتغيّراتٍ لم يكن أحدٌ ليتصوّر تحقّقها خلال المائة يوم الماضية. أعاد هذا الواقع الجديد تعريف مفاهيم الشرعية ومصادرها، في سياقٍ يتجاوز التصوّرات التقليدية عن السلطة والتوقّعات لجميع السوريين، حتى الذين تمكّنوا من إسقاط النظام وجدوا أنفسهم فجأة في دمشق والشعب السوري يحيط بهم ويحتفل بانتصارهم. … كانت التحوّلات سريعةً وعنيفةً، ولم يكن أحد من السوريين (كلّ السوريين) جاهزاً لها.

منذ انتقلت هيئة تحرير الشام من كيان عسكري يعمل خارج المنظومة السياسية إلى فاعلٍ يسعى إلى تقديم نفسه جزءاً من الدولة، برز سؤال جوهري: كيف يُبنى الاستقرار في ظلّ هشاشة داخلية متزايدة؟ مع تولي أحمد الشرع قيادة المشروع، أضحى التحدّي مركّباً بين إعادة تموضع الداخل السوري واستجابة الخارج المتحفّظ، فالجرح المجتمعي العميق، الذي فاقمته المجازر في الساحل أخيراًً، لا يمكن رأبه عبر إجراءات شكلية تقتصر على تشكيل لجنة تحقيق يبدو من تصريحات الناطقين باسمها (حتى الآن) أنها تراوغ لإخفاء المقتلة التي وقعت تحت شعار الغضب المتفجّر عقب عملية الغدر بعناصر الأمن الوطني السوري في الساحل. كان بإمكان القائمين على الأمر القيام بعدّة أشياء، بدلاً من صناعة سياقٍ موحّد للمجزرة وربطها بالجريمة التي وقعت في محاولة للتعمية على الظلم الذي يحيط بالسوريين العلويين أينما كانوا (حتى في دمشق البعيدة استُهدف بعضهم بذات الحجّة). أصبح الإصلاح وضمان الوحدة الوطنية يتطلّب مشروعاً سياسياً يتجاوز ثنائية الإقصاء والاستحواذ، والقيام بخطواتٍ رمزية كإعلان الحداد، وخطوات عملية كإعلان المنطقة منكوبةً. بالتوازي، تتواصل المفاوضات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول رفع العقوبات، ما يضع النظام الجديد أمام معضلة كبرى: هل تُبنى الشرعية عبر التنازلات للخارج، أم عبر استعادة الداخل المنهك بمصالحة حقيقية؟… الشرعية هنا ليست مجرّد اعتراف قانوني، بل ديناميكية اجتماعية تتفاعل مع السلطة في إطار سياقٍ متحوّل، إذ لم يثبت التاريخ استقرار أنظمة استمدّت مشروعيتها من إرادة غير إرادة شعوبها.

في ظلّ هذه الجدلية، يُختبر مفهوم “الشرعية الدولية” بوصفه أداةَ ضغط أكثر منه معياراً موضوعياً. فالنظام الذي يجعل وجوده مرهوناً برضا الخارج يصبح هشّاً، متغيّراً بتغير المصالح الدولية، لا بصمود قاعدته الاجتماعية. على العكس، فإن الشرعية التي تُبنى من الداخل، على قاعدة المصالحة لا الإقصاء، والتعدّد لا التصنيف، وحدها القادرة على مقاومة المتغيّرات. إن السلطة التي لا تعكس مجتمعها، بل تكتفي برؤية نفسها عبر أعين القوى الكبرى، تفقد سيادتها، حتى لو رفعت شعارات الاستقلال. فالتاريخ أثبت أن الأنظمة التي سعت لاكتساب مشروعيتها عبر الخارج تحوّلت أدواتٍ في لعبة الآخرين، لا كياناتٍ سياسيةً ذات سيادة.

ليست التنازلات الداخلية علامةَ ضعف، بل تجسيد لقدرة السلطة على التفاوض مع ذاتها قبل أن تفاوض الآخرين. أمّا الشرعية التي تأتي منحةً خارجيةً، فهي ليست سوى تأجيل مؤقّت للانهيار، لأن من يمنحها اليوم قد يسحبها غداً وفقاً لمصالحه. إن جوهر السيادة لا يُقاس بمدى تحدّي الخارج، بل بمدى القدرة على احتواء الداخل وتحويل تنوعه مصدرَ قوّة. فالتنازل للمواطنين ليس انكساراً، بل تأسيس لحائط صدّ يحمي الدولة من الابتزاز الدولي. الدولة التي تعيد بناء نسيجها الوطني بعيداً من سياسات الإقصاء والنبذ، ترسل رسالةً واضحةً: شرعيّتها لا تُمنح، بل تُصنع، ليس في العواصم البعيدة، بل هنا، بين الناس، الذين يمنحونها معناها الحقيقي.

لم يعد المجتمع الذي خضع لستّة عقود من مركزية السلطة كياناً متجانساً، بل فسيفساء من الهُويَّات المكبوتة التي انفجرت مع أول تصدّع في البنية السلطوية. وهكذا، ليس تماسكه الظاهري دليل قوة، بل انعكاس لآليات الضبط التي جعلت الاستقرار مرتبطاً باستمرار القمع، لا بوجود عقد اجتماعي متجدّد. في هذا السياق، لم تعد الدولة مشروعاً توافقياً، بل باتت بنية قابلة للتفكيك وإعادة التشكيل بحسب مسارات السلطة لا وفقاً لإرادة شعبية حقيقية، ممّا يجعل استدامة أيّ نظام جديد مرهونةً بقدرته على إعادة إنتاج شرعية لا تقوم على الإكراه، بل على احتضان التعدّدية بوصفها شرطاً للتماسك لا سبباً للانقسام.

العربي الجديد

————————

الزلزالُ السوريّ الأقسى لعام 2025/ عبير نصر

08 ابريل 2025

لا يخفى على أحدٍ أنّ فنَّ اللعب على التناقضات الطائفية، وما ترتّب عليها من فشل أخلاقي (خاصة إبّان الثورة السورية)، كان من أهم أسباب صمود نظام الأسد، وتفتّق ذلك عن أشدّ أزمات المجتمع السوري خطورة، إنتاج هُويَّاتٍ فرعيةٍ خامدةٍ ستندلع شرارتها متى يتوافر فراغٌ سياسي وأمني ملائم. وواضحٌ أنّ الانفجارَ الطائفي اليوم هو القاعدة وليس الاستثناء لسقوط الأسد، فها هي فيديوهات التحريض تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما أبرزها التي يصرخ فيها شخص ينتمي للأكثرية في وجه آخر “أقلوي” يدعو إلى التسامي على الجراح: “ما الذي يُجبرني على العيش معك وقد باتت القوة في أيدينا؟”. وفي سياق تفصيل ذلك، وقريباً من الإدراك الحيوي والعقلاني للوقائع الراهنة، يبدو هذا كلّه مُتوقَّعاً في بلدٍ لم يحظَ السوريون فيه بفرصةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لبناء هُويَّةٍ وطنيةٍ خالصةٍ بعد الاستقلال. فبدايةً، جاءت نكبة فلسطين لتتسيّد صدارة الأولويات العربية، ثمّ الارتدادات الكارثية التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، ففشل الوحدة السورية المصرية، وبلغ التأزّم مداه إثر انغماس السوريين في كوارث “البعث”، ليفقدوا طهرانيتهم بكلّ ما سيعتري كيانهم الطريّ لاحقاً من اختلالاتٍ وإكراهات… هذه المخاضات العسيرة جعلت من حكم الأسد الولي الأكبر لشعبٍ بلا هُويَّة ناجزة، سيتحوّل تباعاً أقواماً متفرّقةً تفصل بينها جدرانٌ شاهقةٌ من المظلوميات والأحقاد مسجونةً في مزرعةٍ يديرها لصوصٌ رعاعٌ باسم الأيديولوجيا القومية، عبر علاقات مشبوهة من الإكراه على العيش المشترك.

ونظراً إلى التحدّيات واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم بالواقع الحالي نوعاً من الإفلاس الهُويَّاتي البيّن، يفتّح الأذهان على أسئلة مصيرية كُبرى وسط البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين وإبراز قيمتها، وهي ليست مجرّد ترفٍ نظريٍّ أو سجالاتٍ فارغة، إنّما جُهد يُثمَّن لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين، واعتبار الهُويَّة الدينية هُويَّةً صُغرى تشكّل فضاءً معرفياً مضافاً، تجنّباً لتبنّي العنف الطائفي خياراً للتغيير السياسي.

ممّا تقدّم من معطياتٍ مهّدت لصحوةٍ طائفية لا نظير لها في سورية تاريخياً، يتأكّد أنه لا يمكن استيعاب إشكالية “انتقائية التعاطف” من محسوبين على “الأكثرية”، وعدم استجابتهم لمجازر العلويين بعيداً من التحوّلات الأيديولوجية والهُويّاتية المُستظلَّة براية المظلومية “السُّنية”، التي أنتجتها ممارسات حكم الأسد بالمعنى السياسي الاستبدادي، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على دخول السوريين في تيهٍ مظلم يصعب الخروج منه، وسط محاولاتٍ لإعلاء خطاب “الشعب السوري واحد”، ليس حالةً عيانيّةً مجسّدة، بل استجابةً واقعيةً حتميةً، خاصّة أنّ هذا الشعار الأثير تجلّى بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، حين ناضل المسلم والمسيحي والكردي معاً لتحرير سورية من المستعمرّ الفرنسي، بعيداً من أيّ فتنةٍ طائفيةٍ أو نزعةٍ انفصالية، حتى تمكّن حافظ الأسد “العلوي” نفسه من الوصول إلى الحكم. وللمفارقة، تغدو الهُويَّة الوطنية الجامعة أبرز ضحاياه. لذا من الطبيعي أن يتطوّر خلافٌ بسيط بين شخصَين ينتميان إلى طائفتَين مختلفتَين صداماً أهلياً مريراً قد ينتهي بحمّام دمٍ بسبب التحريض الممنهج. خذ مثالاً ما حصل في أشرفية صحنايا بين الدروز وعشائر من دير الزور، ولحسن الحظّ تدخّل العقلاء وجرى احتواء الخلاف.

هذا العبث الممنهج، وقوامه إحياء الهُويَّات الجزئية التي تدغدغ المشاعر الدينية لحشد مزيد من التأييد والمشروعية، يطرح سؤالاً ملحّاً عن إمكانية إحياء الهُويَّة السورية، وقد أتت سياسةُ نظام الأسد الطائفية الخبيثة أُكلها مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها. في السياق، يؤكّد مستشار الأمن القومي الأميركي خلال رئاسة جيمي كارتر، زبيغنيو بريجينسكي، أنّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والشعوب هي تعميق الانقسام المذهبي والعرقي، من خلال تمكين طائفةٍ بعينها ودعمها لقهر بقية المكوّنات. بالتالي، يمكن القول إنّ تركة الأسد الثقيلة بالتوازي مع سطوة الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وتشابك الملفّات الدولية والإقليميّة، تدفع السوريين إلى تبنّي تعريفات خاصّة بهم بهدف حماية أنفسهم. وقد حدث هذا الانسحاب الطائفي أيضاً على ضفة المؤيّدين أيّام حكم الأسد، وهو تقوقعٌ محمولٌ على سياساتٍ تمييزيّة تثير عصبيات فرعية ما قبل وطنية. في المقابل، لا يبدو أنّ النخب السورية بعمومها، وعلى الرغم من فداحة المشهد العام، تقوم بمراجعة إسعافية لاحتواء التحدّيات التي يطرحها الواقع المأزوم الأشد استعصاءً، وفيه يتحوّل منشورٌ “فيسبوكيّ” تافه إلى ساحة احترابٍ همجيٍّ مرفقة بالتخوين والاتهامات، ليُكفَّر شخص وتُنزع من آخر هُويَّته السورية لأتفه الأسباب، فلا شكّ في أنّ سورية تعاني من أنيميا حادّة في الانتماء، وعلى خلفية ذلك، لنستحضر حادثة شهيرة تختصر ما سبق، ففي 2021 شهدت مباراة لكرّة السلة بين منتخبَي سورية وكازاخستان، ضمن تصفيات كأس العالم، حادثةً مثيرة للجدل، وهي عزف النشيد الإيراني بدلاً من السوري، ولم يُبدِ اللاعبون السوريون لحظتها أيّ اعتراض أو استغراب، باستثناء واحد (!).

على أيّ حال، لطالما أُثيرت شرارات طائفية بدت ظواهرَ مارقةً أمكن ضبط تداعياتها، هي نفسها اليوم تغدو أكثر استفزازاً وحضوراً. فمثلاً، تبرُز ظاهرة “التكويع” واحدةً من أبرز مخرجات تشوّه الهُويَّة السورية الجامعة المفقودة حالياً، أو هي، في أقلّ تقدير، بأسوأ حال مع استمرار دعوات التحريض الطائفي الممنهجة ضدّ “الأقلّيات”، بينما يحتاج الخلاص إلى عمل سوريّ موحّد تجنّباً للانجرار وراء أيّ هُويَّة فرعية. لذا قد يبدو مغرياً، وبلغةٍ تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية، النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة، حتى أنّ بعض النُخب العلمانية الأكثر انفتاحاً قبلت الأسلمة ردّاً على نظامٍ رسّخ مصطلح اللوحة الفسيفسائية (المثيرة للسخرية) من دون الخوض في تفاصيلها، نوعاً من الالتفاف السياسي على جوهر المشكلة، ودفعَ باتجاه صراعٍ مكبوتٍ انفجر عندما رُفِع الضغط عنه، استجابة لكثير من المفاهيم السياسية المؤسَّسة على مرجعيات طائفية بحتة.

ضربَ سورية، في 6 فبراير/ شباط 2023، زلزال مدمّر طرحَ أسئلةً وجوديةً شائكة، ولم يملك السوريون آنذاك رفاهية الوقت للبحث عن إجابات ليقينهم المطلق أنهم سيُتركون وحدهم في مهبّ الريح، فسارعوا ينظّمون أنفسهم بعيداً من منطق الاصطفاف الطائفي لاحتواء الكارثة، واعتبر حراكهم محطّةً لاستعادة جاذبية الخيار الوطني، الذي فقدَ كثيراً من قوته وثقله، حينها وصلت شاحنات مساعدات إنسانية إلى مدينة جبلة الساحلية قادمةً من قلب إدلب. واليوم يأخذ سوريون وضعية المزهرية بينما تتعرّض البلاد لزلزالٍ أشدّ قوة وتدميراً، وهو الفوضى العدمية المتمخّضة عن السقوط المفاجئ لنظامٍ قمعي احترف في عملية ضبط المصطلحات الطائفية لمصلحته، محوّلاً البلاد جمهوريةَ رعبٍ منزوعة المواطنة، أفقدت الهُويَّة السورية حمولتها الوطنية كلّها، في استعراضٍ مسرحيّ مبتذل للتخوين والمزايدة والانتقام.

نافل القول، نفذت مليشيات موالية لنظام الأسد عمليات إبادة جماعية بحقّ السنّة خلال الثورة، واليوم تستعيد المجازر حضورها في قرى الساحل العلوية، وما زال السوريون (في الحالتَين) يتخندقون داخل أوكارهم الطائفية، يصمّون آذانهم عن ارتدادات الزلزال الذي يبتلع البلاد. وعليه، لنتفق: إذا لم يجمعهم طفل بانياس الذي ربط سرواله بحزامٍ قماشي لشدّة فقره، والذي قُتل في مجزرة حرف بنمرة، وبغضّ النظر عن دينه، فلا يمكن أن يجمعهم أيّ شيء آخر.

العربي الجديد

————————-

أسامة الرفاعي وبناء ما دمّره الأسد/ حسام أبو حامد

08 ابريل 2025

بعد يوم من اعتقال مفتي سورية السابق (المُقال) أحمد حسّون في مطار دمشق، قرّر الرئيس أحمد الشرع تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً لسورية، يرأس مجلساً أعلى للإفتاء. ولا يبدو القرار مجرّد استعادة منصب تاريخي رمزي، بل يعكس جهداً استراتيجياً يبذله الشرع لتوطيد السلطتَين الدينية والسياسية، بإعادة “ما دمّره النظام الساقط”، بحسب تعبير الشرع. لكن للقرار تداعياته، لا سيّما على الخطاب الديني وتوازن القوى داخل التيّار السلفي وفصائله المتعدّدة، وفي مقدّمها هيئة تحرير الشام بقيادة الشرع، ما يعكس تعقيدات المرحلة الانتقالية في سورية.

لطالما احتلّ منصب المفتي مكانةً مرموقةً في التاريخ الديني والثقافي للبلاد، وقد منحه بشّار الأسد لأحمد حسّون في العام 2005. وعلى الرغم من ولاء الأخير الشديد للنظام إلى درجة تبريره مجازر الأسد (لقّبته المعارضة “مفتي البراميل”)، أُقيل حسّون (2021)، حين ألغى الأسد منصب المفتي بعد أن كان سلطة قائمة بذاتها، لتُسند الفتوى إلى مجلس فقهي تابع لوزارة الأوقاف، ضمّ أعضاء من مختلف الطوائف والأديان (ثلثهم شيعة)، ما فُهم أنه خطوة موجهة ضدّ الغالبية السُّنية في البلاد، لتقليص حضورها الديني في حدود عضوية مجلس طائفي، ما ألغى عملياً الصفة الرسمية للمرجعية السنّية، ومنحها للمرجعية الشيعية. وعلى غير العادة، خلا مجلس الشعب “المُنتخَب” في يوليو/ تموز 2020، من أيّ عضو من المؤسّسة الدينية السُّنية، وتقلّص عدد التجّار السُّنة لمصلحة زعماء الميليشيا. تزامن ذلك مع إحكام النظام (ابتداءً من 2017) قبضته على معظم المراكز الحضرية في سورية، ومع تنامي النفوذ الإيراني في مؤسّسات الدولة ومفاصلها، واكتفى الأسد بالتحالف مع رجال المال وتجّار الحروب والمخدّرات، لإنعاش سلطة ابتلعت الدولةَ ومؤسّساتها.

اليوم، يعيد مجلس الإفتاء الأعلى برئاسة اسامة الرفاعي، المُعيَّن من الشرع، رسم خريطة النفوذ الأيديولوجي الديني بضمّ شخصيات من مختلف المذاهب الإسلامية السُّنية (سلفيون وصوفية وأشاعرة)، والهدف المُعلَن تعزيز الوحدة الدينية وتجنّب الانقسام، عبر ضبط الخطاب الديني المُعتدل الذي “يجمع بين الأصالة والمعاصرة مع الحفاظ على الهُويَّة”. يُراد للخريطة الجديدة إضعاف نفوذ رجال الدين السلفيين المستقلّين من خلال هيئة منظّمة، وتقليل خطر الفتاوى الراديكالية التي زعزعت استقرار الحكم (مجازر الساحل). لذلك، اختار الشرع شخصية لها تاريخ طويل من النشاط الديني ومعارضة النظام البائد. لكنّه ليس مجرّد اختيار رمزي، بل يعكس مقاربةً براغماتيةً للحكم، تسعى إلى استخدام السلطة الدينية أداةً للشرعية والتماسك.

ويوحي التصديق على نهج الرفاعي (بتعيينه مفتياً) المتجذّر في الصوفية بأن السلطات الجديدة تنأى بنفسها عن الميول المحافظة المتطرّفة، التي رسمت صورة هيئة تحرير الشام، ويبدو أن السلفيين المتشدّدين قد استشعروا الخطر، فمعروفٌ عن أسامة الرفاعي موقفه الصارم خلال سنوات الثورة من التطرّف الديني، ومن المقاتلين الأجانب، وسبق أن انتقد هيئة تحرير الشام. وللسلفية مآخذها على التيّار السُّني الأشعري (الصوفي) عموماً، الذي ينتمي إليه معظم أعضاء مجلس الإفتاء (باستثناء أربعة سلفيين من أصل 14)، فترى أنه طالما استقوى بسلطتَي الأسدَين (الأب والابن)، وقوّاهما، لاستمراره مهيمناً في المجتمع. قد تنظر العناصر السلفية الأكثر تطرّفاً داخل هيئة تحرير الشام، وفي فصائل رديفة، لتعين أسامة الرفاعي محاولةً للحدّ من نقائها الأيديولوجي. فبعد يومٍ من تعيين الرفاعي، تداولت منصّات التواصل الاجتماعي فيديو لسلفيين يعتدون على حلقة صوفية داخل مسجدٍ في حماة استنكاراً لتلك الطقوس. وعلاوة على مخاطر تذمّر سلفي متشدّد، يزيد تأكيد السردية الإسلامية السُّنية شعور الأقليات الدينية والإثنية (العلويون والدروز والمسيحيون…) بالتهميش، حتى الأكراد بدأوا يذكّرون بفتاوى أسامة الرفاعي المؤيّدة لتركيا في مواجهة قوى كردية.

في فترة انتقالية محفوفة بعدم اليقين، قد تعزّز محاولة إعادة رسم خريطة النفوذ الديني واقع الاستقطاب الطائفي، بدلاً من ترويج خطاب ديني “معتدل”، خصوصاً في غياب نظام سياسي تشاركي، وآليات حوكمة شفّافة تمنع الانحدار نحو الاستبداد السياسي، الذي كان أداة هتكت السلم الأهلي، ودمّر بها نظام الأسد الساقط المجتمع والدولة في سورية.

العربي الجديد

———————————

سؤال أخير إلى عبد اللطيف علي (1954- 7/3/2025)

منذر مصري

8 أبريل 2025

(حرصًا على الباقي من إنسانيتنا، نحن السوريون)

1- عبد اللطيف علي بكلماته:

أذكر قراءتي هذا المنشور في حينه، منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر، بعدها كتب عبد اللطيف علي منشورات عديدة، يصحّ القول إنّه كتب عن كلّ شاردة وواردة، وعن كلّ كبيرة وصغيرة، منها ما يقرب من السيرة الشخصية، كما في منشوره “حكايتي مع الطائفية” 1/3/2025، الذي لم أقرأ يومًا ما يضاهيه رهافة وصدقا في تناول تلك القضية الشائكة، إلّا أنّي أفضّل منشوره هذا رغم حدّيته، التي كانت ربّما سبب تأثري الشديد به وعدم نسياني إيّاه، يجيب فيه عبد اللطيف على العديد من الأسئلة الجوهرية المطروحة، كما يستشرف الاحتمالات الأشد كارثية في الوضع السوري، وبالأخص المنطقة الساحلية حيث يحيا.

22/12/2024:

“لا يمثّلني، ولا تشرّفني قرابته أو صداقته، كلّ من مارس التطبيل للنظام البائد، كلّ من مارس التشبيح باسم النظام البائد، كلّ من تماهى قليلًا أو كثيرًا في الموقف السياسي مع النظام البائد، كلّ من احتمى بمظلّة الفساد التي أمّنها له النظام البائد فسرق أو اختلس أو انتفع أو ارتشى، كلّ من والى النظام البائد تحت أية عناوين، وبالأخصّ تحت العنوان الطائفي، كلّ من يدعو اليوم إلى العفو عن الفاسدين والمجرمين ممّن يزعمون البراءة من النظام البائد ويبرّرون ارتكاباتهم بمنطق الاضطرار والخوف والغلبة على أمرهم، كلّ من يدعو أو يتبنّى أو يؤيّد ضمنًا الانعزال في كيان طائفيّ أو مذهبيّ أو مناطقيّ أو قوميّ.

وللعلم… فأنّا أعلن منذ اليوم طلبي اللجوء إلى أقرب كيان سوريّ غير تقسيميّ في حال تمكّن الطائفيون والمذهبيون والقومجيون من تقسيم سورية: أنا عبد اللطيف شعبان علي، المواطن السوري ذو السبعين عامًا والمقيم في بلدة جبلة الساحلية، بعد أن هاجرت وزوجتي (هجرةً وليس لجوءًا) إلى الولايات المتحدة الأميركية منذ ستّ سنوات، وحصلنا على الإقامة الدائمة ما يسمّى (Green Card)، وعدت إلى سورية لأبقى فيها وأذوق كلّ ما ذقته من الفقر والقهر والذلّ، وعندما انتهت صلاحية جواز سفري لم أقم بتجديده. #سورية_موحّدة_لجميع_السوريين. #لا_لقانون_العفو_العام. #نعم_لمحاسبة_المرتكبين. #المحاسبة_جوهر_العدالة”.

2- قيد نفوس مختصر:

الاسم: عبد اللطيف علي.

الأب: شعبان. هناك كثيرون عبد اللطيف علي، يحدد، ابن شعبان علي، معلم المدرسة. كما يقول في نهاية منشوره “حكايتي مع الطائفية”: “ما لم أطلعكم عليه بَعد هو أنّ المرحومَ والدي كان رجلَ دينٍ علويّ”.

الدين: “لستُ يهوديًّا ولا مسيحيًّا ولا سنّيًّا ولا شيعيًّا ولا درزيًّا ولا إسماعيليًّا ولا علويًّا، ولا عربيًّا ولا كورديًّا ولا تركمانيًّا ولا شركسيًّا ولا آشوريًّا ولا كلدانيًّا ولا سريانيًّا ولا آراميًّا ولا فينيقيًّا ولا إغريقيًّا ولا فارسيًّا ولا روميًّا… أنا كلّهم، أنا سوريّ”.

العمر: 70 سنة. مواليد: 1954. مصياف. حيث عمل أبوه أربع سنوات، قبل أن تعود وتستقر العائلة في جبلة.

الحالة التعليمية: يعرّف بنفسه على صفحته: “حقوقي (حاصل على شهادة جامعية من كلية الحقوق) متقاعد. أكتب في الشعر والأدب والسياسة”.

الحالة العائلية: متزوج ولديه ثلاثة أبناء، حسبما علمت، مجد وبشر وصفاء.

الإقامة الحالية: جبلة – حي الجبيبات. عاد إلى سورية، بعد حصوله مع زوجته على (Green Card) في الولايات المتحدة الأميركية. عاد لأجل ماذا؟ يجيب: [لأذوق الفقر والقهر والذل]! فليتفضّل أحدكم ويشرح لي معنى هذه الإجابة؟ واللّـه أنا الذي لم أغادر إلى أي مكان، واستطعت أن أخترع ألف سبب وسبب لبقائي، وذقت ما ذقت من المرارت، ليس الفقر أبا القهر وأبا المذلات أحدها، أعترف، لا قدرة لي أن أفهم!

3- معارض متطرّف:

عبد اللطيف علي ليس معارضًا لنظام الأسد فحسب، بل، يصحّ القول، معارضًا متطرفًا؟ وإلّا ماذا إذًا توصف هذه المواقف التي يتخذها من القضايا السورية الأشد جذرية:

– رفض قطعي لكل من كانت له علاقة مع النظام البائد، فلا عذر عنده لمن: “تماهى كثيرًا أو قليلًا” مهما كانت ظروفه، ولا يجد داعيًا لمجرد التلميح إلى هذه الظروف.

– ضد قانون العفو العام، الذي قد يجد به الكثيرون، وربّما منهم السلطة الحالية، حلًا ما للحالة البالغة التعقيد في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية في سورية، بعد حكم دام /54/ سنة، كان النظام فيها يقوم على نشر الفساد، إلى أن نخر عظامه هو نفسه!

– إصرار على العدالة، ولا عدالة إلّا في محاسبة المرتكبين: “الفاسدين والمجرمين ممّن يزعمون البراءة من النظام البائد ويبرّرون ارتكاباتهم بمنطق الاضطرار والخوف والغلبة على أمرهم”. حتّى إنّه لا يأتي على ذكر العدالة الانتقالية، ربّما لأنّها تقوم على التسويات! فالمحاسبة بعرفه جوهر العدالة.

– رفض مطلق لفكرة تقسيم سورية إلى كيانات، طائفية أو مذهبية أو مناطقية (يا صديق م. أ. م) أو قومية. معلنًا أنّه: “إذا تمكن الطائفيون والمذهبيون والقومجيون من تقسيم سورية، فإني سأطلب اللجوء، (لا إلى الولايات المتحدة، حيث لديه إقامة دائمة، ولا يحتاج سوى لتجديد جواز سفره، ولا إلى أوروبا، ولا إلى الإمارات، ملجأ السوريين كافة، موالين أو معارضين بل إلى) أقرب كيان سوري، غير تقسيمي” (يشترط)!

4- اليوم الأخير من حياة عبد اللطيف علي:

وكأنّه كان يستشعر الخطر، 6 منشورات، خلال اليوم الذي قتله فيه أولئك الذين كان يعلن انتماءه لهم، ويستميت في دفاعه عنهم. إلّا أنّي آتي على ذكر هذه التفاصيل، ليس لضرورتها فيما أكتبه فحسب، بل لشعوري بأنّه كان وما يزال هناك من يريد أن يعتم عليها! أن يقلل من أهميتها ومن أهمية دلالتها، فهي، إذا فهمتم ما أعني، تشكل عامل إحراج شديد للطرفين معًا، كلّ من زاوية! وأيضًا استجابة لرغبة مني بالحيلولة بينها وبين النسيان والضياع، باعتبارها شهادة لا مثيل لها عن مصائر السوريين الفجائعية، بفعل تراكم الموت وأكوام جثامين السوريين فوقها:

7/3/2025  ليلًا 12.46: “الأصدقاء الكرام الوضع في جبلة يهدأ. الساعة الآن 12.45 ليلًا سوف أحاول النوم تصبحون على خير”.

7/3/2025 صباحًا 10.13: “… يا أهلنا في الساحل وفي عموم سورية أنتم وبلدكم المستهدفون بالفتنة ودمكم ومستقبل أولادكم هو الذي يهدر لكي يأتي الغرباء فيقطفوا ثمار الدم دون أن يتهدم حائط في بلادهم. #عاشت_سوريا_وطنًا_نهائيًّا_لجميع_مكوناته_وأبنائه”.

7/3/2025 صباحًا 10.46: يعيد نشر نصّ كتبه في 7/3/2023! يوم موته منذ سنتين، عن الخوف من الزلزال، الذي بعرفه يماثل الخوف في 7/3/2025:

“خوف! أنا وجميع من حالُهم مثلُ حالي… هل يحقّ لنا أن نخافَ من الزلزال؟ أنا من المواطنين السوريين الذين يرون أنّ الوضع العامّ ليس سيئًا بل كارثيًّا، وأنّ لا أملَ في صلاحه خلال الأجل الذي قد تمتدّ إليه حياتهم مهما طالت، فالناسُ جُرّدوا من كلّ مقوّمات الفعل التي تؤهّلهم لإحداث التغيير ووضع قطار الإصلاح على سكّته، والقيّمون على البلاد يرون في التغيير خطرًا عليهم فيحاربونه ويقطعون عليه السبل… ما الذي قد يُحدِثُه لنا الزلزال؟! الموت؟! وهل الموتُ قياسًا بما نحن فيه وما سنؤول إليه أمرٌ سيئ؟! لا… لا يحقّ لي أن أخاف من الزلزال! لكنني أتحدث في المبدأ… لست خائفًا أبدًا، وهذا لا صلة له بالشجاعة والجبن، بل بالانسجام مع ما أومن به وأعتقد أنّه صحيح”.

7/3/2025 ظهرًا 12.16: يشارك بثًّا بالصوت والصورة لزيدون الزغبي: “ثلاث رسائل: 1- إلى العلوي… إياك والسلاح إياك والاستزلام لحفنة من المجرمين والمطلوبين. 2- إلى السنّي… الدولة هي ولية الأمر الدولة قوية وليست ضعيفة الدولة هي التي تدافع عنك وعن غيرك بحماسك وتحريضك ونزولك إلى الشارع أنت تؤذي الدولة وتحيّدها. 3- إلى الدولة… عليكم التعجيل في تشكيل حكومة جامعة حقيقية. الفوضى تعني ضياع النصر”.

7/3/2025 بعد الظهر 2.23: “صديقي السوري… السوري اليوم وأنت تمرّ بأصعب اختبار تذكر أنّك سوري فهذه الحقيقة هي لو تعلم أغلى من كل ما تكتنزه من جواهر وهي التي تبقيك إنسانًا وتمنعك من الانحطاط إلى درك الوحوش”. واضعًا صورة لمنشور عبد الرحمن طالب أحد نشطاء اللاذقية، مع جملة: “تحاصرنا وخبَّأَنا العلويون في منازلهم”.

“لا أستطيع أن أبطل التفكير، بماذا كان يشعر به عبد اللطيف وهو يواجه قاتليه؟ “أهلًا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة”. لم يشفع له تأهيله بهم، ولا قوله نحن معكم، ربّما ظنّوه يكذب، ربّما هذا لا يهمهم. ربّما سمعوا الجملة ذاتها من ضحايا قبله!”

7/3/2025  بعد الظهر 3.51: آخر الكلمات الأخيرة التي كتبها لنا عبد اللطيف علي، قبل ثلاث ساعات من مقتله: “عزيزي الشاب العلوي المضلل: ليكن معلومًا لديك، أنّ أولئك الذين جندوك وسلحوك ودفعوا بك إلى أتون معركتهم مع السلطة الجديدة، إنما هم يستغلون فقرك وسذاجتك لكي يشعلوا بك وبأمثالك نارًا ودخانًا يمكنهم من الإفلات بأرواحهم وأموالهم التي جنوها على حسابك وحساب أهلك وهم أجبن من أن يخوضوا معركتهم بأنفسهم فيلجؤون إلى التلطّي وراء شعارات طائفية خائبة تقسيمية مدمرة تعمي بصيرتك وتخدر عقلك فتتبعهم إلى مصير أسود ينتظرهم عاجلًا أم آجلًا. فاستيقظ وألق سلاحك قبل فوات الأوان وقبل أن تجرّ بحماقتك أقرب الناس إليك إلى ذات المصير الأسود المحتوم”.

5- المقتلة:

– على لسان ابنته: “أنا بنت عبد اللطيف علي. لا شك في أن فلول النظام اللي عملت كمين للأمن العام في جبلة كانت مساهمة في تفجّر الوضع في المدينة. ولكن من دخل إلى بيتنا وقتل أبي وأخوتي هم من الفصائل التي جاءت من الداخل عندما تمت الدعوة للفزعة والنفير العام. مظهرهم. لهجتهم. كلماتهم. كلها تؤكد ذلك”.

– على لسان زوجة ابنه، باختصار بعض التفاصيل، لكلماتها ولقسوتها: “أنا براءة زوجة بشر عبد اللطيف علي شاهد على مجزرة ضد الإنسانية، مبارح حوالي الساعة سبعة المسا دق علينا الباب ببيت عمي مجموعة مسلحة من الأرتال. دخلوا جبلة لتطهيرها من اللي سموهن فلول نظام، فتح عمي الباب وقلن أهلا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة.

سألوا: شو اسمك

– عبد اللطيف علي وهادا بشر ابني ومجد

– شو بتشتغلو

– أنا متقاعد من وظيفة مدنية وبشر دكتور ومجد موظف مدني

– أنتو من جبلة هون

– إي

– يعني أنتو سنة

– لا علوية

….

قالوا الشباب والعم يلا لبرا وأنتو ضلو جوا… قتلو التلاتة. حبيبي بشر ومجد وعمو عبد صارو جثث. تلت أبرياء ما أذوا نملة. كل الدنيا بتعرف منين قتلوهن الوحوش. يا حبايب قلبي المحروق ما راح خلي قصتكن تموت معكن بدي أاحكي لكل العالم عنكم”.

6- هواجس:

لا أرى أن هناك داعيًا لأستخلص العبر، ولا أن أشير إلى النقاط الهامة من هذه الرواية الدامية، فهي تقول، وعلى نحو كامل البلاغة، كل شيء بنفسها، غير أني لا أستطيع أن أبطل التفكير، بماذا كان يشعر به عبد اللطيف وهو يواجه قاتليه؟ “أهلًا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة”. لم يشفع له تأهيله بهم، ولا قوله نحن معكم، ربّما ظنّوه يكذب، ربّما هذا لا يهمهم. ربّما سمعوا الجملة ذاتها من ضحايا قبله! ويعدونها مجرّد محاولة للهرب من الموت! لا ريب أنّه شعر بالخطر، أولئك الذين كان يناصرهم، هم الآن أمامه بسلاحهم يهددون حياته وحياة أبنائه! لا أظنّهم أمهلوه ليراجع موقفه منهم، أتراهم أتاحوا له لحظة خاطفة للندم؟ أم أنّه كان يفكر بأنّ هذا ما كان يحذّر منه، هذا ما كان يخافه تحديدًا. أتراه شططًا أن أتخيله يقول: “أغفر لكم لأنّكم لا تعلمون ماذا تفعلون؟”. فلقد حدث هذا مرّة، ومن غير المستبعد أن يفكر عبد اللطيف علي هكذا! أليس هو من كتب في 24/2/2025: “أمّا أنا… فأفضّل أن أموت بيد أيّ سوري… على أن أحتمي بغريب غير سوريّ… فكيف إذا كان دعيّ حمايتي إسرائيليًّا؟”. بينما أنا في الحقيقة أخالفه في ذلك كليًّا وأفضّل العكس تمامًا، أن أموت بيد غريب على أن أموت بيد سوري. أذكر أن صديقًا نبهني، بقدر من المزاح، إلى أن ما كتبته عن طوفان الأقصى قد يعرضني للتصفية الجسدية من قبل إسرائيل، فأجبته، بقدر من الجدّية، أني أعدّ هذا شرفًا! ثم يأتيني هذا الهاجس القاتل، ترى هل كان يفكّر بابنيه، هل كان يخاف في تلك اللحظة عليهما؟ فإذا كان موته ثمنًا ما لبقائه، وثمنًا لمواقفه، ويمكنه، وربّما يمكنني، أن أتقبّله شخصيًّا أنا نفسي، ولكن موت ابنيه، قتل ابنيه، لا هو ولا أنا ولا أب في العالم يحقّ له أن يتقبّله! ما أراحني ولو قليلًا، هو أنّي فهمت من شهادة براءة أنّهم قتلوه أوّلًا، وعلى مسافة أبعد، وكأنّها رحمة ربّانية، أنّه لم ير ابنيه يقتلان أمامه! تصوروا أنّ هذا ما أرجوه، وأدعوا اللّـه لأن يكون ما حصل!

7- السؤال الأخير:

لن يكون لدي ما أسأله لعبد اللطيف علي لو أنّه نجا، لو أنّه عبر، مع ابنيه، هذا السيل الجارف من الموت! لأنّي أظنّه سيبقى على ما يعرفه الجميع عنه، وسيعيد، ربّما بنبرة أشد: “ألق سلاحك قبل أن تجرّني وتجرّ ابني إلى المصير الأسود المحتوم”. لا أظنّه سيغيّر ما عاند عليه دهرًا! علمًا بأنّه لم يعف من نقده السلطة الحالية، فمثلًا في 6/3/2025 مساء 7.11 يكتب: “القرارات السيئة إمّا أنّها تتخذ عن غباء وجهل فتأتي بنتائج معاكسة لأهدافها وإمّا عن دهاء ومكر وعندئذ الطامة الكبرى”. ومن نصحها أيضًا: “عليكم التعجيل في تشكيل حكومة جامعة حقيقية. الفوضى تعني ضياع النصر”. إلّا أنّه لدي سؤال واحد لأسأله لعبد اللطيف علي بعد رحيله الفاجع، سؤال أخير:

“ماذا لديك لتقوله لنا الآن؟”.

ضفة ثالثة

———————————

جبال الساحل السوري/ سمر يزبك

8 أبريل 2025

هناك في جبال الساحل السوري المقابلة للبحر، في الأزقة التي تفيض برائحة الموت، حيث لا صراخ يُسمع، وحدها الجدران المتصدعة في البيوت الأفقر تحكي حكايات الذين سقطوا ولم يجدوا الوقت للبكاء.

يطوّر القتلة خطاب الخوف، كي لا يصدأ. بلا خوف، سوف يفكر الناس بالتضامن، وهو أمر يجب تفاديه بأي ثمن. لم يعد العنف عشوائيًا، بل بات أداة تعيد تشكيل الذاكرة. تم تجهيل الفاعلين هذه المرة بطريقة ما بعد حداثية، لم تُسمَّ الأشياء بأسمائها، كي لا تضيع السردية الرسمية، ليس للسلطة هذه المرة، بل للثورة نفسها. شبح النظام القديم حاضر فوق رؤوس المنتصرين، الذين هيّأوا أنفسهم لاحتفال النصر، وليس لديهم ترف الحديث عن مجازر، ولا عن ضحايا، ولا عن ذاكرة من سقطوا. كي لا يفقد القتلة أعذارهم الجاهزة، كان لا بد من إعادة تعريف الضحية. المجزرة، سيسميها خبراء الكلام لاحقًا “ردود أفعال انتقامية”، وسيُختصر الألم في لغة باردة تُحيل المذبحة إلى مجرد ملاحظة هامشية في تقرير طويل عن مسؤولية الأسد المسبقة وفلوله عن المجزرة، وعن السكين التي تحز الجسد لتخرج قلب الشاب أمام أبيه.

لم يكن سقوط النظام إيذانًا بولادة جديدة، لعله لم يسقط تماما، بل كان مجرد تبديل للأقنعة في مسرح لم يتغير ديكوره سوى بلون الدم. يبدو الزمن حاضرًا في المشهد، لكنه في الحقيقة أول الضحايا، يسقط أولًا، ينسحب من الجغرافيا، يصبح بلا معنى. لا فرق بين الليل والنهار حين يكون الموت سيد الإيقاع. الأيام أصبحت متماثلة بالنسبة للضحايا، لا مستقبل في تلك الجبال، حيث كان يشعر وكأن الكون خُلق للتو، وكأنه أول من يطأ الأرض، لم يكن هناك مكان لحسابات الطوائف. لم يكن القتل عنوانًا للهويات، بل للحرب التي لا تعترف إلا بالدم. لكنه الآن بات رقصة مكررة، حفلة وحشية، نظرة الضحية إلى عيني القاتل، لم تكن هذه مجرد نزهة للقاتل في حديقة الضحية، بل عبورًا إلى حيث تُصنع الخرائط بالدم، حيث الحدود القصوى للأشياء، للوحشية البشرية…

في زحام الدم السوري، توقفت الضحية أن تكون فردًا تعرض للظلم، بل تحولت إلى هوية جماعية تُصنّف وفقًا لمنطق ديني. بعض القتلى يُبكى عليهم، تُنشر صورهم، تُحكى حكاياتهم، بينما يُمحى الآخرون، يُعاملون كأرقام في تقارير باردة، كأن الموت نفسه بات امتيازًا مقننًا. لم يكن السؤال من مات، بل كيف منح له الموت؟ وكيف ستُروى حكايته رسميا أهو شهيد أم فلول أم مجرد أضرار جانبية لأخطاء فردية؟

عندما ينهار النظام، ألا يعني ذلك سقوط أدواته، أم يُعاد تدويرها؟ هل علينا تجرع نفس الكأس؟ يُعاد استثمار الخوف، يُعاد تعريف العدو. في هذه الفوضى، كان لا بد من خصم جديد، من كبش فداء يُلقى عليه إرث النظام السابق، يُحوّل إلى رمز يجب تصفيته. هكذا وُضع العلويون في مرمى الخطاب الجديد، لا كأفراد، بل كامتداد لشبح لم يُدفن بعد، كأثر يجب محوه كي تكتمل الحكاية الجديدة. لم يكن الأمر محاسبة عادلة، بل عنفًا يستمر، فقط بوجهة مختلفة.

السلطة تحتاج دائمًا إلى عدو، إلى وقود يبقي آلة الخوف دائرة. لم يكن القتل مجرد موت، بل أداة لإعادة تشكيل السردية، لتبرير المزيد من الدم، ليبقى الصراع مستمرًا حتى بعد أن تغيرت وجوه القتلة. هل كان هذا ما احتفل به السوريون يومًا، ورقصوا في الشوارع من أجله؟ منطق جديد للهيمنة، لكنه يظل وفيًا لمنطقها القديم.

حين خرج السوريون مطالبين بالحرية، خرجوا ضد القتل، أيًا كان القاتل، وأيًا كان القتيل. لم يخرجوا مطالبين بالسلطة بل خرجوا مطالبين بالعدالة. من يذكر: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، من يذكر: “الشعب السوري ما بينذل”، ولكن اليوم، هناك شريحة من الشعب تُقتل ولا تجد تضامنًا كافيًا من بقية مكوناته، وكأنه حقًا ليس شعبًا واحدًا، وكأن الألم أصبح مشروطًا بالهوية. هكذا تتشكل السرديات المتنافرة، فتتمزق الجماعة إلى شعوب متباعدة. حاول نظام الأسد تفتيت النسيج السوري وفشل، لكن اليوم، في لحظة امتلاك الحد الأدنى من حرية قول الحقيقة، يجد العلويون أنفسهم بحاجة إلى تضامن من بقية مكونات الشعب السوري، ليس فقط لحمايتهم، بل لحماية ما تبقى من معنى الثورة.

“من يذكر: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، من يذكر: “الشعب السوري ما بينذل”، ولكن اليوم، هناك شريحة من الشعب تُقتل ولا تجد تضامنًا كافيًا من بقية مكوناته، وكأنه حقًا ليس شعبًا واحدًا، وكأن الألم أصبح مشروطًا بالهوية…”

لقد مروا بالجحيم وكأن النور قد انطفأ في عيونهم، ومع ذلك، يحاولون إيجاد تمييز – ربما أصبح أكثر استحالة- بين قاتليهم وحماتهم الذين فرحوا وهللوا بانتصارهم؛ يهربون رغم بساطتهم من تحليلات تعيد إنتاج نفس الخرائط الدموية. لم تكن هذه مجرد جرائم، ولم يكن هذا الموت عاديًا، بل كان يحمل بُعدًا رمزيًا، حيث لا تُزهق الأرواح فقط، بل يُعاد تشكيل معنى الحياة نفسها.

إذا كان منشأ الخوف هو ذعر الذات من صورتها المتخيلة، فإن الكذب لتنظيف الخوف مما يدل عليه، والبحث عما يبرر القتل، يدلان معًا على هشاشة مموهة بالحقد، وعلى ما ستفرضه هذه المرآة المؤجلة من مجازر جديدة، على مساحة أكبر اتساعًا.

هم هناك، في تلك القرى المتناثرة على سفوح الجبال، لا يطلبون أكثر من أن تُروى حكايتهم كما هي، بلا تهذيب، بلا خوف من كسر السردية. لم يكن ذنبهم أنهم وُلدوا في مكان خاطئ في لحظة خاطئة، ولم يكونوا امتدادًا طبيعيًا للنظام كما أُريد لهم أن يُختزلوا. يتجنبون الكلام، لا لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأن الكلام لم يعد وسيلةً للفهم، بل ذريعة للمحو. لا يغادرون منازلهم بعد الغروب، ينظرون إلى بعضهم، كأنهم يشهدون على اختفاءٍ بطيء، لا لأجسادهم، بل لمستقبلهم ومعناهم، وكأن استمرارهم في الحياة يستدعي إثباتًا دائمًا بأنهم ليسوا القتلة. صار الخوف لباسًا يوميًا، لا من الطائرات، بل من الروايات. لم تعد الحرب حرب مواقع، بل حرب سرديات، كل واحدة تبحث عن ضحية “صحيحة”، وعن قتيل يمكن النوح عليه علنًا.

أولئك الذين سقطوا هناك، لم يكونوا أرقامًا، لكنهم عوملوا كأرقام. لم يُسمح لهم أن يكونوا ضحايا، لأن ذلك يُربك المعادلة، يُشوش على الرواية التي اعتادت الأبيض والأسود. يعيشون في الفراغ بين صورتين: صورة المجرم المفترض، وصورة الضحية غير المعترف بها. وبين الصورتين، تضيع الوجوه، وتُمحى التفاصيل. لكنهم ما زالوا هناك، رغم كل شيء، ليسوا تمثيلات لأحد، ولا أوراقًا في يد أحد، فقط بشر، يسألون عن مكانهم في الحكاية. تلك الحكاية التي تتغاضى عن تحديدها حتى الآن جماهير السلطة القائمة في حين أن هذه السلطة، هي من تتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن المجازر التي وقعت بحق مواطنيها، سواء بالسماح الضمني، أو بالعجز المتعمد، أو ربما….

العلويون ليسوا حالة استثنائية في الألم السوري، لكن استثناءهم كان في الطريقة التي أُجبروا بها على الصمت، وعلى التماهي القسري مع النظام، كأنهم طُلب منهم أن يحملوا إرث الجلاد، وأن يتنكروا لضحاياهم في الوقت ذاته. لم تُمنح لهم المسافة التي تسمح بإعادة التفكير، ولا الزمن اللازم للحزن. كانوا دائمًا في قلب العاصفة، لكن بصمت مدوٍ. لا أحد يريد أن يسمع حكاياتهم لأن سردها قد يعيد تعريف معنى الضحية خارج التصنيفات الجاهزة. في سردية الثورة، كانت هناك لحظة نقاء، لحظة حلم بأن العدالة لا تستثني أحدًا، بأن الحرية لا تُمنح بشروط. لكن هذه اللحظة لم تصمد أمام ثقل الدم، وأمام منطق الثأر المتسلل بهدوء إلى خطاب التحرر. صار من الممكن تبرير كل شيء باسم الثورة، حتى نفي الآخر، حتى إعادة إنتاج منطق النظام، ولكن بلون جديد. كأننا نُعيد تدوير الوحش، لا لنحاربه، بل ليتخذ هيئة أخرى تناسب المرحلة. إن من نجا من موت القصف، لم ينجُ من موت المعنى.

تحتاج هذه الجبال إلى من يُنقذها، إلى من يصغي. تحتاج إلى خطاب جديد، إلى صمت صادق، يعترف أولًا بما فاته أن يعترف به. ففي مرات كثيرة، لم يكن الخذلان فعلًا مقصودًا، بل نتيجة طبيعية لواقع صُمم ليمنع التقاء العيون، وليجعل كل فئة تنظر للأخرى من وراء زجاج الخوف. ومع ذلك، ما زال هناك من يُصرّ على أن يقول: لسنا خصومًا، ولسنا ورثة أحد. نبحث عن أمان لا يُكلفنا أرواحنا، وعن وطن لا يطلب منا أن نكذب كي نعيش. تلك اللحظة التي فيها يعترف الناس ببعضهم، لا كرموز، بل كضحايا متساوين، قد تكون اللحظة الوحيدة التي تستحق أن تُسمى انتصارًا. لأن الثورة، التي بدأت بـ “الشعب السوري واحد”، لا تنتهي إلا حين يعود هذا النداء حقيقة، لا شعارًا. وما لم يحدث ذلك، ستبقى الحرب مستمرة، وإن تبدّلت أدواتها. ستبقى الجبال شاهدة، لا على ما جرى فقط، بل على ما لم يُفعل بعد.

—————————-

======================

تحديث 07 نيسان 2025

——————————-

ماهر الشرع أميناً عاماً للرئاسة السورية… تبريرات ومخاوف/ جلنار العلي

07 ابريل 2025

أوردت وسائل إعلام سورية، أول من أمس السبت، خبر تعيين ماهر الشرع وهو شقيق الرئيس السوري أحمد الشرع، أميناً عاماً لرئاسة الجمهورية العربية السورية، من دون أن يصدر حتى مساء أمس الأحد أي بيان رسمي بذلك. علماً أن هذا المنصبَ منصبٌ رفيعٌ في هيكل رئاسة الدولة، ويختص عادة بإدارة شؤون رئاسة الجمهورية من الناحية الإدارية والتنظيمية. وأثار الخبر انتقادات وتساؤلات ركزت تحديداً على المخاوف من إعادة تعزيز سيطرة العائلة الحاكمة على مفاصل البلاد، بعد إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لا سيما أن الخبر جاء في سياق سياسي معقد.

ولا تزال سورية تعاني من تداعيات الحرب الاقتصادية والأحداث المتواصلة منذ بدء الثورة السورية عام 2011، بما فيها الأحداث التي لحقت إسقاط الأسد. ولدى سورية والسوريين تجربة مع النظام السابق الذي عمد إلى حصر السلطة بيد العائلة والذين يدينون بالولاء المطلق له. في المقابل، ذهب البعض لتبرير قرار كهذا بالربط بينه وبين متطلبات المرحلة الانتقالية التي تجعل، من وجهة نظرهم، الرئيس يفضل الاعتماد على أفراد من عائلته في عدد من المناصب.

تعيين ماهر الشرع

جاء تسريب التعيين بعدما غاب عن التشكيلة الوزارية التي أعلنها الرئيس السوري في 29 مارس/ آذار الماضي اسم ماهر الشرع، الذي كان يتولى منصب وزير الصحة في الحكومة المؤقتة (عقب إسقاط الأسد)، في وقت لاقى توليه المنصب حينها قبولاً، لا سيما بسبب خلفيته المهنية طبيباً.

في هذا الصدد، اعتبر الصحافي والكاتب السوري عمار ديوب، لـ”العربي الجديد”، أنه “ليس من الصائب تعيين السيد ماهر الشرع في هذا المنصب”، مضيفاً أن “هناك أعرافاً دبلوماسية تقضي بإبعاد المقربين عن المناصب القيادية سواء أكان أخاً أم ابناً”. وبرأيه، فإنه “مع حساسية الوضع السوري في المرحلة الانتقالية، كان يفضل ألا يتم هذا الأمر الذي لا يبعث رسالة جيدة للداخل ولا للخارج”، موضحاً أن “تعيينه سيبدو أشبه بتعيين بشار الأسد شقيقه ماهر الأسد (الذي كان قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري السابق، وهو على لائحة العقوبات الأميركية)، بينما سيبدو للخارج أن عائلة الشرع هي التي تتحكم بالسلطة”. ومن غير المستبعد، وفق ديوب، “أن تظهر حساسية للأمر في أوساط الإدارة نفسها، وضمن الفصائل التي أوصلت الشرع إلى السلطة”، موضحاً أن “المجال سيفتح لبقية المسؤولين في الدولة للاقتداء بهذا التصرف، وتعيين أقاربهم في المناصب، بينما الوضع في البلاد في مرحلة انتقالية هشة تحتاج الى دقة كبيرة في التعيينات”. ورأى أن أداء ماهر الشرع “جيد في مجال اختصاصه في الطب، لكن في العمل الإداري والدبلوماسي، أعتقد أنه اختيار غير موفق”.

بدوره، قال المحلل السياسي محمد جزار، لـ”العربي الجديد”، إن تعيين ماهر الشرع “كان يمكن أن يمر من دون ضجيج لو كنا في دولة مستقرة وحكومة منتخبة”. لكن في الظروف الحالية التي تمر بها سورية، “لا بد أن يكون كل فعل أو إجراء من جانب السلطة مدروساً بعناية، ولا يترك انطباعات سلبية عنها، خصوصاً إذا كانت مماثلة لما عهدناه في النظام السابق”. يعكس هذا التعيين، وفق جزار، “ظاهرة لازمت الحكم الجديد، وهي عدم الثقة إلا بمحيطها والمقربين منها، وهذه مسألة تلخص جوهر المشكلة بين الإدارة الجديدة وعموم السوريين الذين ينتظرون منها انفتاحاً أكبر تجاههم، وألا تظل تدور في حلقاتها الخاصة”. ورأى أن “الحذر الزائد من جانب السلطة ليس له ما يبرره، وعليها أن تبادر إلى اتخاذ خطوات باتجاه الانفتاح على المجتمع، وعدم تبديد ما تبقى من رصيدها الشعبي في مثل هذه التعيينات”. كما شدد على ضرورة “ألا يُسكَت عن مثل هذه القرارات، لأن تمريرها يعني إعطاء الضوء الأخضر للسلطة للتمادي فيها”.

في المقابل، رأى الباحث السياسي عباس شريفة، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “لا خطورة من تعيين ماهر الشرع”، عازياً ذلك إلى أن “حساسية المرحلة وخشية القيادة على أسرار الدولة تدفعها لوضع شخصية ذات ثقة عالية”. وأوضح خصوصاً أنه “في ظل مرحلة انتقالية ربما يتسبب أي تسريب لأسرار الدولة في مشكلة كبيرة، ما دفع بالقيادة للاعتماد على شخصية مقربة من الرئيس في هذه المرحلة”. وبشأن ردود الفعل، لفت إلى أن “هذا التعيين خلق حساسية لدى بعض السوريين على الرغم من كفاءة الدكتور ماهر الشرع”، مشيراً إلى أن “الاعتماد على القرابة في زمن النظام البائد كان تجربة سيئة بالنسبة للسوريين الذين يطالبون بنظام جديد مفارق لكل ما كان يفعله النظام السابق”.

أما من وجهة نظر قانونية، فقد اعتبر المحامي رامي الخيّر، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “لا يوجد في القانون السوري ما يمنع مثل هذه التعيينات، ولكن العرف المؤسساتي العالمي يقول إنه لا يمكن لشخصين من درجة القرابة نفسها أن يكونا في مكان واحد”. ولفت إلى أن ذلك “لا يتطابق أيضاً مع روح الثورة السورية وتطلعاتها، إضافة إلى أن ثقة الشعب السوري بالسلطة الجديدة هي فعل تراكمي، ولم يمض وقت جيد على بنائها، إذ أمام الحكومة تحديات أهمها الملف الأمني وإعادة الأمان إلى عموم سورية”.

وأشار الخيّر إلى أن الكثير من السوريين توجسوا من تعيين الرئيس أخيه ماهر الشرع في منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية العربية السورية، “ذلك أن إدارة سورية كلها أكبر مما كانت تديره حكومة الإنقاذ في إدلب. ويبدو أن الحكومة تعتمد هذه الطريقة لترتيب أوراقها في هذه المرحلة، مفضلاً الانتظار للأيام المقبلة طالما أن القرار اتخذ فعلياً، وعلى السوريين مراقبة ما يمكن أن يقوم به السيد ماهر الشرع لمصلحة البلاد، أو خلاف ذلك”.

منصب حساس

من جهته، اعتبر المحامي عدي الشوّا، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه لا يوجد أي مانع قانوني من أن يجري الرئيس السوري أي تعيينات من ضمن عائلته. لكنه أضاف أنه “منطقياً، يعد منصب الأمين العام في رئاسة الجمهورية حساساً جداً ويتطلب اطلاعاً ومعرفة واسعة على كل مفاصل الرئاسة من اجتماعات وأعمال وصياغة دساتير وغير ذلك من بروتوكولات ولقاءات وتحركات للرئيس، خصوصاً في الظروف الحالية التي تعاني البلاد فيها من عدم استقرار عام”. لذا يعتمد الرئيس، وفق الشوّا، في هذه الحالة، “على واحد من خيارين: إما شخص يثق به بالمطلق من أصدقائه ومعارفه، أو أحد أقربائه الذين لديهم كفاءات”، مشيراً إلى أن “هذا المنصب بروتوكولي يعتمد على السرية، وليس منصباً سياسياً”.

——————————-

المناطقية بطعم الطائفية/ سميرة المسالمة

7 أبريل 2025

بعيدًا عن ضجيج المناسبة، وضمن أهميتها الوجودية، أناقش من جديد وبرغبة غير “احتفالية” فكرة الخلافات حول تاريخ انطلاقة الثورة السورية لعام 2011، فالدخول في معركة الاصطفافات بين تحديد يوم انطلاقتها صار أقرب منها إلى حالة صراع تكاد تقفز كلماته من خلف الشاشات الإلكترونية، وتتحوّل إلى سلاح حرب يزيد من عوامل تمزقنا، ويدخلنا في نفق الانعزال المناطقي. فبعد سنة واحدة من اندلاعها، اشتعلت الخلافات فيها، وحولها، وبين مناصريها. وما يؤلم أنها اكتست بُعدًا حديًا يمكن رده إلى فكرة “مدنية الثورة أو ريفيتها”، وكأن الريف صار بعيدًا عن وعي الحريات، وكأن المدينة صارت غير حاضنة لكل أريافها ومحافظاتها السورية.

فالخلاف على تحديد تاريخ انطلاقة الثورة ليس بسبب الانتماء لضرورتها، أو أهدافها، أو مآلاتها الحتمية، بل هو خلاف على توصيف البدايات فيها، بين التمهيد والانطلاق، أو بين إرهاصات الثورة وبدايتها الفعلية، وعندما أجاهر علنًا بأنني “حورانية الثورة”، أي مع توثيق لحظة انفجار بركانها الذي لم يخمد منذ ساعتها في (18 آذار/ مارس)، فهذا لا يعني الدخول في صراع مع دمشقيي التأريخ للثورة، فدمشق مدينتي التي لا أعرف بديلًا عنها في قلبي، ولا الهدف من إعلان هذا الاعتقاد التركيز على مناطقية الانتماء، كما حاول بعض المتابعين لمنشوراتي إلصاق التهمة بي، لكن لأن منطق حكمي نبع من الحالة الجامعة لتوصيف الاحتجاجات بأنها ثورة على النظام السوري، بدأت من لحظة انطلاقها في درعا، ولم تخمد، وهي حالة توسعت حتى شملت كل سورية تحت هتاف واحد: “يا درعا حنّا معاك للموت” وربما يعود اليوم الهتاف من أجل شد أزرها في مقاومتها البطولية كسابقة تاريخية سورية لعدوان إسرائيل عليها.

أي أن شرعية حوران بالاحتفاظ بتاريخ الانطلاقة الأولى موثقة بختم كل المدن، وهذا لا ينفي أن من أراد توقيتها (15 آذار/ مارس) كان على حق، نسبة إلى شجاعة تلك الوقفات والتظاهرة الاحتجاجية في دمشق لإطلاق المعتقلين من السجون، في وقت كان فيه النظام الأسدي الأمني يطبق على أفواه الناس، نعم كان على حق من أراد أن ينسب تاريخ الثورة إلى مظاهرات دمشق، لكنه حق غير منصف لحقيقة وبطولة ودماء شهداء درعا، على الأقل كما يرى ذلك أهل درعا والمنخرطون بها في ذلك الوقت.

وهنا أريد العودة إلى الخلط الحاصل بين اعتزاز الناس بانتماءاتهم المحلية، وبين ممارسة التنمر المناطقي البغيض، سواء كانت انتماءاتهم المحلية للمدن الكبرى، أو للقرى الصغيرة، أو المتناهية في الصغر، فالأولى لا تدخل في باب التفاخر على الآخرين، والتقليل منهم، لذلك فحالة التأزيم التي يفتعلها بعض الناس بين المكونات، أو الشرائح المجتمعية السورية، وترسيم الحدود بين المحافظات على أساسها، على رغم أن كلًا منها فيه ما فيه من خليط تلك المكونات ما يمكنها أن تؤدي إلى حالة صراع مناطقي تتحول إذا امتزجت مع انتماءات عرقية، أو مذهبية، إلى صراع طائفي قد يصعب مع الوقت وقفه ومعالجة نتائجه.

فالهوية المحلية هي جزء من تنوعنا الثقافي المبني على أساسه المشتركات الوطنية، ما لم تنزلق فعليًا لتكون مصدر تفوق يبرر التنمر المناطقي، يمكنها  أن تمارس دورًا فاعلًا في تعزيز العيش المشترك، على نقيض ما شهدناه من خلال بعض وسائل التواصل الاجتماعي، من مدعيات التحضر السطحي في مواجهة الثقافة الريفية الثرية بعطائها وقيمها، مستخدمة الهوية المحلية كوسيلة تقسيم حضاري يستدعي إقصاء الآخرين، أو الانتقاص منهم، ما جعل الخلط واردًا في هذه الحالة بين الانتماء المحلي بصفته المؤشر على التنوع الثري، وبين التنمر المجتمعي الذي يمكن أن يكون أحد أشكال التمييز الطائفي حتى بين المنتمين إلى ذات الطائفة من شرائح ومناطق مختلفة.

محافظاتنا السورية غنية بتنوع المرجعيات الثقافية لأهاليها، وهذا يدعم الوحدة المجتمعية التي تعود لثقافة محلية سورية واحدة رغم تنوعها الإثني والديني، والرهان على تشظيها من خلال إثارة النعرات القبلية، أو الطائفية، والتقليل من شأن أحدها مقابل التعظيم لأخرى، هو عمل دوني ممارسته لا تأتي من عبث، ونتائجه تحل على المجتمع المقصود النيل منه، ولكنها تتوسع لتنال من كل المحيطين به، وخاصة في المجتمعات المتنوعة التي تمتد بين المحافظات وصولًا إلى دول الجوار وما بعدها.

*كاتبة سورية.

ضفة ثالثة

————————————

الدبلوماسية السورية الجديدة وأنماط التعاون الدولي/ مهيب الرفاعي

الإثنين 2025/04/07

شكّل نظام الأسد كتلة سياسية ودبلوماسية لا يستهان بها في الشرق الأوسط استطاعت أن تحكم سوريا لمدة 54 عاماً، واستطاع الأسد أن يفرض سيطرته على سوريا لعقود عبر مزيج من القوة العسكرية، والمناورات السياسية، والتحالفات الاستراتيجية، والعلاقات العامة وتشكيل الرأي العام حول بعض القضايا الاقليمية. عندما تولى حافظ الأسد الحكم، كانت سوريا تعاني من اضطرابات سياسية متكررة وانقلابات متوالية، لكنه تمكّن من ترسيخ سلطته مستفيداً من شبكة أمنية قوية وسياسة توازن دقيقة داخل الدولة، مع تعيينات بحسب الولاء الحزبي والأمني للأسد، واستطاع أن يفرض نفسه كقائد قومي، مستخدماً سياسة الاحتواء تارة والقمع تارة أخرى، مع تامين غطاء دولي بحكم شبكة العلاقات الخارجية والمناورات الدبلوماسية، مما مكّنه من البقاء في الحكم وسط أجواء متقلبة داخلياً وخارجياً.

سياسة سوريا الخارجية في عهد نظام الأسد

كانت السياسة الخارجية المتقنة والمراوغة إحدى أبرز أدوات الأسد في تعزيز موقعه في المنطقة. انتهج براغماتية واضحة، سمحت له بالمناورة بين القوى الكبرى، خصوصاً الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. من جهة، وثّق علاقاته مع السوفييت، الذين قدموا له دعماً عسكرياً واقتصادياً ساهم في صمود النظام السوري أمام التحديات الإقليمية، ومن جهة أخرى، لم يقطع الأسد خطوط التواصل مع الغرب، بل استغلها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية عند الحاجة. أما في الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد تبنّى موقفًا أكثر براغماتية، دعم الفصائل الفلسطينية، وتدخل في لبنان ليخلق وزناً لنظامه في المنطقة وتكون لبنان ورقة ضغط على الغرب بيد نظام حافظ الأسد الأمر الذي أجبر الغرب على فرض عقوبات على نظامه، وتجديدها وتعزيزها بين حين وآخر حيث كانت الحرب الأهلية اللبنانية اختباراً عملياً لاستراتيجية الأسد الإقليمية. تدخله هناك لم يكن مجرد خطوة عسكرية، بل كان جزءاً من مشروع طويل الأمد لترسيخ النفوذ السوري في لبنان. ورغم ما حققه الأسد من استقرار سياسي داخلي ونفوذ إقليمي، إلا أن نظامه واجه تحديات صعبة.

نرجسية وضعف خبرة

داخلياً، كان هناك استياء اقتصادي متزايد، ومعارضة إسلامية تصاعدت حدتها مع حركة الإخوان المسلمين، إضافة إلى التوترات الطائفية الكامنة، لا سيما بين القادة السنة والقادة العلويين. وخارجياً، كانت علاقاته مع العراق متوترة، وصداماته مع إسرائيل مستمرة، فضلًا عن الضغوط التي فرضتها المنافسة مع الأردن وقوى إقليمية أخرى. كل ذلك جعله في حالة تأهب دائمة للحفاظ على التوازنات التي بناها بحذر شديد، وورثها نظام ابنه بشار ،  الذي فرط بجزء كبير من ملامحها بحكم ضعف خبرته السياسية ونرجسيته في التعاطي مع القضايا المحيطة بسوريا.

اعتمدت دبلوماسية نظام الأسد عموماً على التحالف مع المعسكر السوفييتي ورفض الانصياع للغرب، وهذا ما خلق حالة عداء مع المعسكر الغربي، الذي ساهم بشكل كبير بدوره في تقويض حكم الأسد في سوريا، وحاصره بمجموعة من العقوبات القاسية والقطيعة السياسية والدبلوماسية، ودعم المعارضة لبناء مسار سياسي انتقالي في البلاد. اعتماد نظام الأسد على القمع الأمني، والانخراط في النزاعات الإقليمية، والتحالفات المتقلبة، جعل سوريا في عهد الأسد عرضة لمخاطر خارجية أوقعت الشعب السوري في حالة من الضياع والشتات لا سيما بعد العام 2011. نهجه في الحكم أثبت فعاليته على المدى القصير، لكنه ترك إرثاً مليئاً بالتحديات التي لا تزال تؤثر على استقرار البلاد حتى الآن. تأثير الأسد لم يقتصر على فترة حكمه، بل امتد ليشكل جزءاً من معادلات الصراع والتوافق في المنطقة، وهو ما يجعل فهم سياساته ضرورياً لاستيعاب تعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط.

دبلوماسية سوريا ما بعد الأسد

بعد 14 عاماً من الحرب والنزاعات، شهدت سوريا تحولاً أمنياً كبيراً أسفر عنه إسقاط نظام بشار الأسد، تبعه تحول سياسي وتشكيل حكومة ضمت 23 وزيراً من أصحاب الكفاءات.  لم يكن سقوط الأسد مفاجئاً تماماً، إذ سبقته احتجاجات داخلية وضغوط إقليمية ودولية متزايدة، فضلًا عن تآكل نفوذه داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية؛ وكان على الإدارة الجديدة في دمشق أن تسارع لاتخاذ إجراءات لملء الفراغ الإداري والمؤسساتي. تشكلت حكومة انتقالية جديدة برئاسة أحمد الشرع، جاءت لتضم مجموعة واسعة من الفاعلين السياسيين، بما في ذلك شخصيات من المعارضة المسلحة، والتكنوقراط، والمستقلين، وذلك في محاولة لتحقيق توازن بين مختلف مكونات المشهد السوري الجديد. الملفت كان الإبقاء على شخصيةأسعد الشيباني وزيراً للخارجية، الذي دخل معترك السياسة والدبلوماسية بخطوات جيدة وثابتة وتفاعلية مع الجهات الفاعلة والضامنة في سوريا، والذي لعب دوراً مهماً في إدارة الشؤون السياسية في حكومة الإنقاذ في إدلب. كما يتمتع بعلاقات قوية مع دول الخليج وتركيا، مما جعله خياراً مثالياً لقيادة الدبلوماسية السورية في المرحلة الانتقالية.

شكل فريق الشيباني معالم وأولويات السياسة الخارجية لسوريا الجديدة والتي ركزت على استعادة العلاقات مع الدول العربية بعد القطيعة التي استمرت سنوات، والتفاوض على رفع العقوبات المفروضة على سوريا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي؛ مع العمل على إعادة سوريا إلى المنظمات الإقليمية والدولية بعد تعليق عضويتها في العديد منها، و المشاركة في ملفات مهمة بالنسبة للشرق الأوسط تتمثل في ضبط الحدود واتفاقيات تقويض الإرهاب في المنطقة.

العلاقات الخارجية

ركز فريق الشيباني على التقارب مع دول الخليج، حيث بدأ الشيباني بجولة خليجية شملت قطر، السعودية، والإمارات، ودعا إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين سوريا وهذه الدول، بالإضافة إلى إعادة فتح السفارات وتفعيل التعاون الاقتصادي، وأعلنت قطر دعمها للمرحلة الانتقالية،  مع الحرص على تقديم الدعم بما يخص  إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية قبل تقديم دعم مالي مباشر لإعادة الإعمار، ورحبت السعودية بالحكومة الجديدة، لكنها أكدت ضرورة ضمان استقرار سوريا وإبعاد النفوذ الإيراني عن الساحة السياسية والعسكرية، أما بالنسبة لدولة الإمارات فقد أبدت استعدادها لتمويل مشاريع إعادة إعمار ضخمة، مع أن أبو ظبي تأخرت بالترحيب بالإدارة الجديدة بحكم سعيها مسبقاً لإعادة نظام الأسد إلى الحاضنة العربية . وتشير التحركات الدبلوماسية الأخيرة إلى رغبة سوريا في إعادة بناء علاقاتها مع دول الخليج، في خطوة تعكس تحولاً في استراتيجيتها الخارجية بعد التغيير في قيادتها. زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بعض العواصم الخليجية، وتصريحات المسؤولين السوريين حول أهمية التعاون الخليجي، تثير تساؤلات حول مدى جدية هذا التقارب، وهل هو خطوة تكتيكية أم بداية لتحالف جديد؟ دول الخليج كانت لسنوات من أبرز الأطراف المؤثرة في المشهد السوري، حيث لعبت أدواراً مختلفة وفقاً لمصالحها الاستراتيجية. واليوم، مع التغيرات التي يشهدها الإقليم، هناك إدراك متزايد بأن استقرار سوريا يصب في مصلحة الخليج عموماً، سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية. إعادة إعمار سوريا، وعودة دمشق إلى محيطها العربي، قد تمثل فرصة لدول الخليج لتعزيز نفوذها وتقليل التأثير الإيراني في المنطقة.

لكن هذا التقارب لا يخلو من التحديات. فالتباينات السياسية بين سوريا وبعض العواصم الخليجية لا تزال قائمة، كما أن دمشق تحتاج إلى تقديم ضمانات حول سياساتها المستقبلية حتى تحظى بدعم خليجي حقيقي. بالمقابل، تحتاج دول الخليج إلى تحديد ما إذا كانت ترى في هذا التقارب مجرد خطوة تكتيكية، أم أنها مستعدة لتطوير شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع سوريا الجديدة، تكون بذلك جزءاً من إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة.

عزز فريق الشيباني تواصله مع تركيا لتطوير العلاقات ودفع التعاون إلى مستويات أعلى بين دمشق وأنقرة بعد 14 عاماً من القطيعة. كان هناك اجتماع مهم بين الشيباني ووزير الخارجية التركي، حيث تم التوصل إلى تفاهمات أولية بشأن ملف اللاجئين السوريين في تركيا، ومسألة القوات التركية الموجودة في شمال سوريا؛ ووافقت تركيا على سحب بعض قواتها تدريجياً، شرط ضمان عدم عودة التهديدات من المناطق الكردية، ووافقت سوريا وافقت على إعادة دمج بعض الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في الجيش السوري التابع لوزارة الدفاع، وترتيب إجراءات اتفاقيات الدفاع المشترك بين البلدين، بهدف عدم حصر ملف مكافحة الإرهاب بيد أميركا وحدها.

وتتبنى الحكومة السورية الجديدة سياسة خارجية واقعية ترتكز على تعزيز العلاقات مع دول الجوار وفق منهجية أمنية–دبلوماسية متكاملة. تبدأ هذه المقاربة بتوقيع اتفاقيات أمنية ثنائية ومتعددة الأطراف مع دول الجوار، خاصة تركيا، والعراق، ولبنان، والأردن، تتضمن بنوداً واضحة بشأن تنسيق الدوريات الحدودية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الخارجة عن القانون وتنظيم “داعش” والجماعات المتطرفة، وتنفيذ عمليات ميدانية مشتركة لملاحقة شبكات التهريب والإرهاب. وقد تم تفعيل عدد من مذكرات التفاهم التقنية في هذا السياق، تشمل التعاون في استخدام أنظمة المراقبة المتقدمة والطائرات المسيرة وتقنيات الكشف المبكر.

ملف الإرهاب وتجارة المخدرات

هذا التعاون الميداني مسبوق بإنشاء غرف عمليات مشتركة تضم ضباطاً وخبراء من دول جوار سوريا، تعمل في مراكز تنسيق حدودية قريبة من مناطق التهريب والنشاطات غير الشرعية لا سيما في الحدود الجنوبية في ظل التوترات الأخيرة هناك. كما يجري تشكيل وحدات أمنية مشتركة من عناصر مدربة تتولى مهام السيطرة على المعابر، وضبط شبكات التهريب، وتأمين طرق الإمداد والمخازن الحدودية. هذا الملف هو إرث نظام الأسد السيء الذي أدى إلى تسميته “نظام الكبتاغون” و أدى إلى إصدار عقوبات غربية جديدة باسم “قانون الكبتاغون 1 و 2”.  وتأتي هذه الخطوات كردّ وضمان للفعل الجاد من الإدارة السورية الجديدة حيال هذا الملف، في إطار شراكات أمنية قائمة على الثقة المتبادلة والمصالح المشترك بين حكومة دمشق الجديدة والدول المجاورة؛ على عكس ما كان يفعله نظام الأسد حين ظل يستخدم ملفات التهريب والمخدرات كأوراق ضغط على دول الجوار.

ولتوسيع نطاق الفعالية العملياتية، تعتمد الدبلوماسية السورية الجديدة على الربط الإلكتروني وتبادل قواعد البيانات الأمنية، وذلك من خلال إنشاء أنظمة معلومات موحدة، يتم عبرها تبادل بيانات المسافرين، وتتبع تحركات المشتبه بهم، والتعاون في تحليل أنماط التهريب العابر للحدود. كما يجري العمل على توحيد قواعد البيانات الاستخباراتية المتعلقة بالجماعات المسلحة والجريمة المنظمة، بالتنسيق مع أجهزة الأمن في الدول المجاورة.

تشير المعطيات الميدانية إلى تصاعد خطير في أنشطة التهريب عبر الحدود السورية–الأردنية، حيث تم استخدام الطائرات المسيّرة لنقل المخدرات والأسلحة، وقد سجلت الأردن بين آب/أغسطس 2023 وتموز/يوليو 2024 إسقاط أكثر من 15 طائرة محمّلة بمواد مهربة، بحمولات تتراوح بين 2 و35 كيلوغراماً، كما نفذت الأردن ضربات على الحدود السورية في كانون الثاني/يناير 2014 بهف تقويض مصالح المهربين.

وتدار هذه العمليات عبر نحو 150 شبكة تهريب فرعية نشطة في الجنوب السوري، يتراوح عدد أفراد كل شبكة بين 20 و150 عنصراً، وتتوزع الأدوار بين ناقلين للمواد ومسلحين لمواجهة حرس الحدود. ويقدّر العدد الإجمالي لعناصر هذه الشبكات ببضعة آلاف، أغلبهم من السكان المحليين المتأثرين بالفقر وسوء الأوضاع المعيشية، في حين تقودهم عناصر ذات سوابق جنائية. وتعد منطقتا الحماد والشعاب أبرز بؤرتين لنشاط التهريب في الجنوب السوري.

سابقاً، أشارت إحصائيات الجيش الأردني إلى إحباط أكثر من 1700 محاولة تهريب بين 2020 ومنتصف 2023، بمعدل يقارب 485 محاولة سنوياً، ما يعكس ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرة التهريب. وتشير شهادات محلية إلى وجود متورطين من القرى الأردنية الحدودية، مدفوعين بالروابط العشائرية الممتدة عبر الحدود في تسهيل تمرير هذه العمليات، وتوفير الحماية والدعم اللوجستي لبعض الشبكات.

بالإضافة إلى ذلك، تؤكد الخارجية السورية في حوارها على أن سوريا تقف ضد تهريب البشر والهجرة غير الشرعية بما ينعكس بالضرر على الملف الأمني الذي تسعى دمشق إلى تنظيفه في سلسلة الانتقالات إلى حكم جديد وحوكمة أمنية ودبلوماسية تضمن حفظ حقوق دول الجوار؛ عبر تفعيل مواثيق أمنية والحرص على دور وزارة الداخلية السورية وقوات خفر السواحل والأمني العام.

وتترافق هذه الجهود العملية مع تأسيس لجان سياسية–أمنية مشتركة تُعقد اجتماعاتها بشكل دوري، وتضم ممثلين من وزارات الخارجية والدفاع في سوريا والدول المجاورة والدول المهتمة من المنطقة، لمراجعة التقدم، وتقديم حلول استباقية لأي تصعيد أمني محتمل. وهذه اللجان تؤدي دوراً محورياً في تعزيز الفهم السياسي المتبادل، وفتح قنوات دبلوماسية مرنة قادرة على امتصاص الأزمات. في موازاة ذلك، تولي الحكومة السورية اهتماماً كبيراً بـ بناء القدرات البشرية المشتركة، من خلال تنظيم برامج تدريب أمني وجمركي تستهدف عناصر الشرطة وحرس الحدود، وتُنفذ بدعم دولي أو عبر تبادل الخبرات مع الدول المجاورة. كما تُطرح مبادرات لتعزيز البنية التقنية للرقابة الحدودية من خلال التعاون مع منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والإنتربول.

وفي بعد آخر لا يقل أهمية، تعتمد دبلوماسية دمشق الجديدة على الدبلوماسية الإعلامية كأداة مكمّلة للدبلوماسية الرسمية، عبر الترويج لخطاب يؤكد أن الإجراءات الأمنية السورية تهدف إلى حماية استقرار المنطقة ككل، وليست موجّهة لأي طرف. كما تحرص على إظهار التزامها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان في تعاملها مع الملفات الأمنية الحساسة؛ لا سيما ملفات النظام السابق وعلاقاته الأمنية والاستخباراتية مع أنظمة عالمية.

ملف العقوبات الغربية

خلال العقد الأخير، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات مشددة على نظام الأسد، بلغت ذروتها مع قانون قيصر الذي شمل قطاعات حيوية كالنقل والطاقة والمصارف والتجارة، وصُمم لمنع إعادة الإعمار وتقديم يد العون لنظام الأسد لانتشاله قبل الوصول إلى حل سياسي، ونجح في ذلك إلى حد بعيد، رغم ما سببه من أثر كارثي على الشعب السوري نتيجة لضعف الموارد وقلة السيولة بين يديه بالأصل نتيجة للتضخم الذي بلغ 188% عام 2021 مثلاً.  وبالرغم من وجود إعفاءات إنسانية، فإن إيصال المساعدات بقي صعباً بسبب تعقيدات لوجستية ومالية، وأدى إلى تعطيل تحويل الأموال ومنع بيع بعض السلع الأساسية في مناطق سيطرة نظام الأسد. خلال أزمة كورونا، تم اقتراح حلول تقنية مثل استثناءات مؤقتة وإنشاء آليات رقابة شبيهة بالنموذج السويسري-الإيراني. واستُصدرت بالفعل استثناءات بعد كورونا وزلزال 2023، إلا أن النظام استغلها لتقوية نفوذه ونفوذ الجمعيات الإغاثية التي يشرف عليها بأذرع أخطبوطية.

اليوم، وبعد مرور حوالي 5 سنوات على قانون قيصر، تم تجديده لخمس سنوات أخرى، ما يعكس استمرار النهج الأميركي تجاه سوريا، غير أن رفع أو إبقاء العقوبات ليس بيد المنظمات أو الأفراد، بل يتعلق بتقديرات استخباراتية وسياسية أميركية و يتعلق بقرار رسمي من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ الذي يبدو أنه يراوغ في التوصل إلى حل و مقاربات سلمية للملف السوري؛ لا سيما مع تصاعد دور فصائل عسكرية  وانتهاكاتها التي زعزعت ثقة الغرب نوعاً ما في إدارة دمشق الحالية وزادت صعوبة رفع العقوبات، لذلك ترى الدول الغربية أن العقوبات أداة ضغط فعالة اليوم أكثر من الماضي.

يأتي هنا دور الدبلوماسية السورية في عكس هذه النظرة، وتقديم ضمانات أكثر لترقية ملف العقوبات ووضعه على أجندة الحوار الدبلوماسي مع الغرب. تُظهر الإدارة الأميركية حذراً واضحاً في تعاملها مع الوضع الجديد في سوريا، حيث أعلنت عن تخفيف محدود للعقوبات لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، دون أن يشمل ذلك رفعاً كاملاً للعقوبات المفروضة على الحكومة السورية الجديدة. هذا التوجه يعكس محاولة غربية لتقديم دعم إنساني مشروط، مع الحفاظ على الضغط السياسي، في انتظار تقييم مدى التزام القيادة الجديدة في دمشق بحقوق المرأة والأقليات والتوقف عن الانتهاكات والبدء بحوار وطني شامل وعام يضم جميع الأطياف والمكونات وتشكيل حكومة سورية وطنية قادرة على تنفيذ إصلاحات شاملة؛ لتكون هذه المساعدات بيد أمينة.

لعب الحراك الدبلوماسي السوري مؤخرًا دوره لتعزيز الحضور الأوروبي، خصوصًا الفرنسي والألماني،  لا سيما في متابعة التطورات الميدانية في سوريا. فقد زار وزير الخارجية الفرنسي ونظيرته الألمانية دمشق عدت مرات بدعوة من الخارجية السورية، حيث شددوا على مجموعة أهداف منتظر تحقيقيها أهمها حماية الأقليات ومشاركتهم في الحكم والعملية الانتقالية، مع رفض توجيه الأموال الأوروبية نحو دعم هياكل إسلامية جديدة متطرفة. وأسفر عن هذا الحراك الدبلوماسي أعادة فتح بعض السفارات في دمشق، وأبرزها السفارة الألمانية بتمثيل دبلوماسي معتاد.

على الرغم من هذا،  يتقاطع الحذر الأمريكي مع الانخراط الأوروبي في لعب دور دبلوماسي نشط، لكن مشروط، في انتظار وضوح أكبر في مسار التحول السياسي في سوريا، خاصة وأن القرار النهائي بشأن العقوبات والاعتراف قد ينتقل إلى إدارة ترامب القادمة.

ملف الجنوب و توغل إسرائيل

بشكل أو بآخر تعتبر تل أبيب حكومة دمشق الجديدة تهديدًا لها بحكم خلفيتها الإسلامية وامتلاكها خبرة عسكرية لا يستهان بها، بعد عملية ردع العدوان. وعليه فقد شنت إسرائيل منذ الأيام الأولى سقوط نظام الأسد غارات عنيفة على عدة مواقع حيوية تشمل ثكنات عسكرية ومراكز بحوث عسكرية وأفرع أمنية ومطارات حربية؛ بالإضافة إلى توغل مستمر في الجنوب السوري (القنيطرة ودرعا) وعمليات برية واسعة متجاوزة خط فض الاشتباك 1974 أسفرت عن شهداء وجرحى مدنيين.  عملت وزارة الخارجية في المدة الماضية على إعادة تفعيل محادثات دولية بشأن ملف اعتداءات إسرائيل، مع التمسك بمبادئ الدبلوماسية العامة وإدانة الأعمال العدوانية على الأراضي السورية، ومحاولة تل أبيب إثارة النعرات الطائفية لا سيما عبر استمالة الأقليات وترسيخ أفكار الانفصال ودعم تمرد الجماعات المسلحة منهم. يأتي هذا عبر تقديم وزارة الخارجية السورية شكاوى لمجلس الأمن وإصدار بينات إدانة واستنكار بسبب انتهاك اتفاقية 1974، ما يزيد معاناة الشعب السوري عمومًا وسكان الجنوب السوري خصوصًا. فتحت وزارة الخارجية السورية قنوات تواصل لا سيما مع الأردن وتركيا بخصوص التوغل الإسرائيلي، ما يمهد لسيناريوهات اتفاق جديد يضمن سلامة وأمن المناطق الجنوبية ومنع أي صدام عسكري جديد على الأراضي السورية. يتفق الأتراك مع هذه الخطوة لا سميا وان التحرك الإسرائيلي الأخير كان نتيجة للوجود التركي في سوريا والذي اعتبرته تل أبيب تهديًا لها.

ما يهم بالنسبة للدبلوماسية السورية هو الانتقال إلى دائرة علاقات دولية آمنة، توفر مناخاً من الراحة السياسية والاقتصادية والأمنية للسوريين، ويضع البلاد مجددًا على خارطة العمل السياسي في المنطقة واستعادة دور دمشق كوسيط وضامن عربي فاعل.

المدن،

—————————-

الإجراء الأميركي الجديد: الأسد سقط رسمياً.. بانتظار “الاعتراف” بالشرع

الإثنين 2025/04/07

يتداخل في قرار الإدارة الأميركية بتغيير وضع البعثة الدبلوماسية لدى الأمم المتحدة، عدد من المسوغات القانونية، إلا أن المؤكد هو أن الولايات المتحدة لا تعترف بالإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع.

لكن السؤال الأبرز المثير للقلق، هو هل الإجراء سياسي موجه ضد حكومة الشرع؟ أم هو تأكيد أميركي بانتهاء اعترافها بحكومة الرئيس المخلوع بشار الأسد، وبطبيعة الحال البعثة التي لاتزال موجودة منذ حقبة وجوده؟

وفي وقت متأخر من مساء الخميس الماضي، أبلغت واشنطن البعثة الدبلوماسية السورية في نيويورك، بتغيير ضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة. ونصّت المذكرة على إلغاء التأشيرات الممنوحة لأعضاء البعثة من فئة “ج-1″، المخصصة للدبلوماسيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة والمعترف بحكوماتهم في البلد المضيف، إلى فئة “ج-3” التي تُمنح للمواطنين الأجانب المؤهّلين أممياً للحصول على سمة، من دون أن تكون الولايات المتحدة معترفة بحكوماتهم.

لا اعتراف بحكومة الشرع

وتعليقاً على القرار الأميركي، أكد السياسي السوري المقيم في واشنطن محمد علاء غانم، أن التأشيرات التي ستُمنح للدبلوماسيين السوريين، قد تتغيّر بالفعل من الآن فصاعداً، موضحاً أن السبب هو عدم اعتراف الحكومة الأميركية بالإدارة السورية الجديدة، وما زالت تسمّيها في مراسلاتها الداخلية بـ”السلطات التابعة لهيئة تحرير الشام”.

ولفت غانم إلى أنه منذ سقوط نظام الأسد، وحتى اليوم، لم تعترف الحكومة الأميركية بأي حكومة سورية جديدة، ولذلك تم إخطار الدبلوماسيين رسمياً بأن عليهم التقدم للحصول على نوع مختلف من التأشيرات، لضمان استمرار وجودهم القانوني.

هل يطرد الدبلوماسيون؟

وحول ما إذ كان القرار يعني أن واشنطن ستطرد الدبلوماسيين، أكد غانم أن الولايات لن تطلب منهم المغادرة، كما لا يعني القرار فرض أي قيود جديدة على حركتهم في نيويورك علاوة على القيود المفروضة سابقاً.

ولفت إلى أن القرار “هو إجراء قانوني تماشياً مع اللوائح الناظمة لإصدار التأشيرات وليس عقاباً على أي شيء”، كما أنه “غير مرتبط بأي حدث سياسي جرى مؤخراً”، موضحاً أنه حتى يتحقق الاعتراف الأميركي بالإدارة السورية الجديدة، سيعود الدبلوماسيون للحصول على تأشيرات “ج-1”.

إجراء ضد وفد الأسد؟

من جهته، أكد الدبلوماسي المنشق عن نظام الأسد جهاد مقدسي، أن الإجراء الأميركي موجه ضد أفراد الوفد السابق المعتمدين منذ حقبة نظام الأسد وحكومته، وبالتالي هو موجه ضد الأخير الذي سقط قانونياً، وليس موجه ضد الإدارة الجديدة.

وقال في تغريدة على منصة “إكس”، إن هناك إيجابية في القرار الأميركي، هي “اعتراف الولايات المتحدة بسقوط النظام السابق نهائياً عبر القيام بتغيير الحالة السياسية والقنصلية لوفده”.

وأوضح مقدسي أن تعديل نوعية إقامات الدبلوماسيين أمر ضروري قانونياً، لأنهم فاقدو التمثيل من باب الاعتماد الدبلوماسي وبالتالي يجب وضعهم بتصنيف قنصلي مختلف وفقاً لقوانين دائرة الهجرة الأميركية.

استعصاء دبلوماسي؟

وأكد مقدسي أن كل البعثات الدبلوماسية اعترفت بالإدارة السورية الجديدة، ولا يوجد أي حالة استعصاء دبلوماسي، وبالتالي لا يوجد مشكلة تمثيل دبلوماسي للحكومة السورية الجديدة، إنما هناك مشكلة ضرورة تبديل طواقم أو بعض الأفراد.

وفيما يتعلق بالاعتراف بالإدارة السورية، قال مقدسي إن لا مشكلة بالاعتراف، لكن هناك دولاً لها توقعات سياسية يمكن أن تؤثر على سرعة تطور العلاقة معها، بينما أشار إلى عدم وجود بوادر نزاع على السلطة في سوريا، وبالتالي لا يوجد مشكلة بالشرعية، لكنه أشار إلى وجود اتفاقات سياسية إطارية داخلية (ناشئة) مع معظم المكونات السورية التي لها مطالب محقة “ونأمل استكمالها”

وقال مقدسي: “هذا لا يعني أبداً أن الطريق معبد بالورود أمام السلطة السورية الجديدة، لديهم تحديات هائلة داخلياً وخارجياً ليس مكانها موضوع الإقامات. هناك تعقيدات ومشاكل دولية ورثها العهد الجديد، ويتعامل معها بواقعية رغم البيروقراطية الثقيلة، ورغم محاولات زج طلبات سياسية اضافية غير منطقية ببعض الحالات”.

————————–

واشنطن “لا تعترف” بحكومة الشرع: تخفيض سمة البعثة السورية

الإثنين 2025/04/07

أكد مصدر سوري من واشنطن لـ”المدن”، قرار الإدارة الأميركية بتغيير وضع البعثة السورية، من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة، إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة، موضحاً أن القرار هو جزء من تحرك أمني لمراجعة جميع التأشيرات للدول التي بها حروب و”إرهاب”.

أسباب القرار

وقال المصدر اليوم الاثنين، إن القرار أتى ضمن سياق أمني أميركي لا يشمل سوريا فقط، إنما يشمل مراجعة جميع التأشيرات من الدول التي لديها حروب على أرضيها وجماعات مصنفة على إنها “إرهابية”، مشيراً إلى أن القرار بدأ التحضير له قبل تشكيل الحكومة السورية الجديدة.

ولفت إلى أن الإدارة الأميركية أعطت إشارات قبل إصدار القرار، وذلك عبر إصدار مذكرة منعت بموجبها قيام أعضاء مجلس الشيوخ بأخذ صور تذكارية مع العلم السوري الجديد، إلى جانب منع رفعه على مبنى السفارة السورية المغلق في واشنطن.

وذكر المصدر أن الإدارة الأميركية ستصدر خلال الساعات المقبلة، توضيحاً حول أسباب القرار، مؤكداً بأن خلفية القرار أمنية وليست سياسية.

البعثة الدبلوماسية

وفي وقت متأخر من مساء الخميس، أبلغت واشنطن البعثة الدبلوماسية السورية في نيويورك، بتغيير ضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة، حسب ما ذكرت صحيفة “النهار” اللبنانية ليل أمس الأحد.

ونصّت المذكرة التي تبلغتها البعثة عبر الأمم المتحدة، على إلغاء التأشيرات الممنوحة لأعضاء البعثة من فئة “ج-1″، المخصصة للدبلوماسيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة والمعترف بحكوماتهم في البلد المضيف، إلى فئة “ج-3” التي تُمنح للمواطنين الأجانب المؤهّلين أممياً للحصول على سمة، من دون أن تكون الولايات المتحدة معترفة بحكوماتهم.

بدوره، أرسل الوفد السوري برقية إلى الخارجية السورية في دمشق، لأجل تبليغها بمضمون المذكرة الأميركية.

وجاء في البرقية أن “البتّ بقرار منح السمات الجديدة يعود للهيئة الأميركية لخدمات المواطنة والهجرة، وذلك بعد القيام بعدد من الخطوات والإجراءات الرامية لتغيير الوضع القانوني للوفد وأعضائه، كما هو مبين في المذكرة”.

وأشار الوفد في نص المذكرة التي حصلت عليها الصحيفة، إلى أن المذكرة الأميركية “تضمنت إعلاناً صريحاً ومباشراً بعدم اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالحكومة الانتقالية السورية الحالية، وقد تتبعها خطوات مماثلة لجهة عدم الاعتراف من قبل دول أخرى تشاطر الإدارة الأميركية بعض مشاغلها”.

—————————————–

هل السلم الأهلي مجرد “ترند”؟/ سلام الكواكبي

الإثنين 2025/04/07

جرت العادة المجتمعية، والرسمية وشبه الرسمية، والإعلامية وسواها، على أن يتم تبني مصطلح بسيط، وكذلك المركب، في كل حقبة زمنية محددة. وقد يُصار من خلاله العمل على تمرير رسائل أو أجوبة، أو محاولة هروب وتهرّب من ضرورة الوضوح والإيجاز في عرض البرامج أو الأفكار. كما أن هناك زماناً ومكاناً لكل تعبير بسيط أو مركب، لكي يُشغل المشهد العام ويكون على “الموضة”، والمتعارف عليه في زمن وسائل التواصل الاجتماعية بـ”الترند”. وذلك من دون أن يعي مطلقوه أو مستخدموه أو من لف لفهم، معناه وحمولته ومآلاته.

وعلى سبيل المثال، فقد انتشر مصطلح التنمية المستدامة في حقبة زمنية معينة، كثر فيها الكلام عن أمور التنمية وشروط استدامتها من دون انقطاعات تذكر. ثم انتشر بشكل واسع النطاق، مصطلح الحوكمة الرشيدة. ها وكنت إن طرحت سؤالاً تفسيريا على المستخدمين، فمن النادر أن تحصل على جواب دقيق يشير إلى معرفتهم بالمضمون. المهم في الأمر اللجوء إلى استخدام المصطلح في الشاردة وفي الواردة، وذلك بهدف إظهار امتلاك المستخدم لكل المفاهيم الرائجة ومتابعته الواعية لما ينتجه علم الكلام، الذي يفضي إلى معنى أو الذي لا معنى له. فصارت النصوص تشترط من صاحبها أن يلجأ إلى عبارة من هذه العبارات لإغناء نصه. فإن خط أحدهم نصًّا خالٍ من هذه العبارات أو ما شابهها، فمن المؤكد برأي المحيط، أن نصّه سيكون فقيرا وضعيفًا، مما سيجعله عرضة للانتقاد. وكما سيتم اعتباره خارجاً عن الإطار المعرفي المعتمد.

لقد كان اللجوء إلى استخدام هذه المصطلحات وسيلة ناجحة لإظهار المعرفة بالشيء. فكيف لك أن تتحدث عن الاقتصاد من دون الإشارة إلى التنمية المستدامة مثلاً؟ وكيف لك أن تشير إلى مشاكل الإدارة العامة أو الخاصة دونما إشارة إلى ما يسمى بالحوكمة الرشيدة؟ بالمقابل، هل المطلوب منك أن تعي بدقة ماذا تعني هذه العبارات أو ماذا تفضي إليه؟ بالتأكيد لن يسألك أحد عن ذلك. حتى أن مصطلحاً نبيلاً كمصطلح الشفافية قد صار يقحم في كل عبارة تعالج مسائل اقتصادية وإدارية وحتى سياسية. فإن لم تتحدث عن الشفافية في معرض علاجك لمواضيع مرتبطة بهذه النقاط، فأنت ضعيف وغير متمكن. وكذلك، ترتبط بعض المفاهيم والمصطلحات بشروط يفرضها العمل مع بعض الجهات المانحة. فترى مثلاً أن منظمة تعنى بتطوير الزراعة ستستخدم مفهوم الجندرة في معرض حديثها عن برامجها المقترحة من دون معرفة معناها الدقيق، بل وأحيانًا، بمعرفة للحمولة المفاهيمية، ولكن يجري إقحام المفهوم في غير مكانه. ويكون الدافع إلى ذلك هو مجرد ورودها في النص الذي حمل الإعلان عن المنحة التي تسعى المنظمة للحصول عليها.

اليوم ينتشر في المجتمع السوري وفي الإعلام السوري وفي أحاديث السياسيين والمثقفين السوريين مصطلح السلم الأهلي. ويبدو للمتابع، أن هذا المصطلح الجميل يُقحم في كل النصوص. فإن كان الحديث عن كرة القدم وعن الدوري الذي تلعبه فرق محلية، فمن المفترض الإشارة إلى أن هذه الألعاب تعزز السلم الأهلي. أما إذا اختلف فريقان على أرض الملعب، فمن المؤكد أن خلافهما قد يهدد السلم الأهلي. وإن رضي النقاد عن مسلسل تلفزيوني ما، فسيصار إلى القول بأنه أيضاً يعزز السلم الأهلي. أما إذا كان النقاد مختلفون عن نوعية وسوية هذا المسلسل، فمن المؤكد أن أحدهم سيشير إلى أن هذا العمل قد يهدد السلم الأهلي. وإن جرت مناظرة تلفزيونية بين فريقين من طلاب المدارس، فمن المؤكد أن منشط هذه المسابقة سيقحم مصطلح السلم الأهلي في معرض حديثة عن المسابقة وأهدافها. أما إن كان الحديث يتطرق إلى احتفال فئة معينة من المجتمع السوري بأعياد دينية أو وطنية، فمن المؤكد أيضاً وأيضاً بأن التعليق سيتوج بالإشارة إلى السلم الأهلي.

في أحد برامج الفنان زياد الرحباني الساخرة، يجري حوار بين شخصين يفاضلان بين الأحزاب اللبنانية. فيقول الأول بأن حزبه هو الأفضل لأنه مع “العدالة الاجتماعية”. فيجيبه الثاني مستنكرًا ومشدّدًا على أن حزبه أيضًا هو مع العدالة الاجتماعية. ثم يُضيف ساخرًا مسائلاً الآخر “هل تعرف حزبًا هو ضد العدالة الاجتماعية؟”.

تذكرت هذا المقطع القديم وأنا أتابع ظاهرة تكرار اللجوء الى استخدام مفهوم “السلم الأهلي”، وإقحامه في الشاردة والواردة على لسان المسؤولين السوريين الجدد أو من يلوذ بهم من إعلاميين. وصار من الطبيعي أن ترد العبارة في معرض الحديث عن الأداء الحكومي الجديد. وقد بدأ واضحا بأن استهلاك هذا المفهوم تضاعف إثر قيام بعض الفصائل الحكومية بمذابح في منطقة الساحل السوري. فصار الإعلام يتحدث عن السلم الأهلي كما المسؤولون المحليون يشيرون إلى الحفاظ على السلم الأهلي، ولم ينقص إلا أن تخرج علينا أغان وأناشيد تتحدث عن السلم الأهلي. ويغيب عن مستخدمي هذا المصطلح أنهم بتكرار هذا الاستخدام يفرغونه من حمولته، ويجعلونه عبارة مستهلكة، ربما تفضي يوماً إلى أن يلفظها الناس.

إن العمل على إرساء مفهوم السلم الأهلي بشكل فاعل وحقيقي في المجتمع، لا يستوجب فقط إدراج المصطلح في النصوص التعبيرية، وكأنه وظيفة مدرسية. السلم الأهلي يحتاج إلى مشروع وطني واضح وإلى تحديد المسؤوليات وإلى عدالة انتقالية تعمل على إدانة المجرمين من أي جهة أتوا. السلم الأهلي يحتاج إلى عقد اجتماعي يجري الاتفاق عليه من خلال حوار وطني يجري على مستويات عدة، من النواة الصغيرة إلى النواة الكبرى. وذلك للوصول إلى نتائج تعكس آمال الشعب السوري في مستقبل أقل خطورة مما هو متوقع.

المدن

————————

أنا قاضية من حمص… ما مستقبل مهنتي في سوريا الجديدة؟/ نوارة محفوض

07.04.2025

أنا شخص أؤمن بالقانون، وبأن يكون القانون هو المرجع في الحكم وإدارة البلاد، أحلم بسوريا آمنة وحرة لجميع أبنائها وأن نعيش جميعاً متساوين أمام القانون، ولكني أخشى اليوم أن المناخ العام في المدينة تغير، ارتدت حتى اللحظة أربعة من زميلاتي الحجاب بحكم أن مدراءنا اليوم في العمل هم شيوخ، وبررن الأمر أنهن يرغبن في تجنب أي موقف مزعج، وأعتقد أن العدد سيزداد.

تتوالى الشهادات حول ارتكابات متعددة تطاول مجموعات مختلفة في سوريا.

يوثق هذا المقال شهادة قاضية تعيش وتعمل في مدينة حمص حول الأحداث والتطورات في عمل القصر العدلي في المدينة منذ انهيار النظام الأسد وحتى اللحظة، ونتحفظ عن ذكر الاسم حماية للقاضية لضرورات أمنية.

عملت نوارة محفوض، وهي باحثة في مجموعة “السلم الأهلي” في حمص، على توثيق وكتابة الشهادة.

أدخل القصر العدلي في حمص صباحاً لأبدأ نهار عمل جديداً، تطالعني على يمين المدخل لافتة عُلقت منذ أيام قليلة “من يحرر يقرر”، يتآكلني القلق من المستقبل الغامض وأكمل طريقي إلى مكتبي.

أنا قاضية، وسأمتنع عن التصريح باسمي خوفاً من أي تبعات قد تهدد أمني الشخصي، عملت وعشت في مدينتي حمص لسنوات طويلة. دخلت قوات المعارضة السورية إلى حمص في 6 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تابعت بعدها طريقها إلى دمشق وسقط النظام السوري في الثامن من الشهر ذاته، توقف بعدها العمل في جميع المؤسسات الحكومية لفترة. وعند استئناف العمل في القصر العدلي بحمص دُعيت مع زملائي القاضيات والقضاة لحضور اجتماع مع ممثل السلطات الجديدة. كانت هيئة تحرير الشام سيطرت على العاصمة وأعلنت تدريجياً تشكيل حكومة مؤقتة وتعيين السيد شادي الويسي وزيراً للعدل فيها. كنت قرأت أن السيد الويسي خريج كلية الشريعة، وقد شغل مناصب عدة في حكومة الإنقاذ التي حكمت إدلب سابقاً، من ضمنها المدعي العام ووزير العدل، وقد عرف عنه تطبيق أحكام الشرع الإسلامي لا القانون الوضعي.

وصلنا يوم الاجتماع المعلن إلى القصر العدلي، على الباب الخارجي استقبلنا شباب مسلحون، طلب أحد منظمي الاجتماع منا نحن القاضيات  تغطية رؤوسنا، تجاهلت غالبيتنا الطلب ودخلنا المبنى، ولكن، وعلى باب قاعة الاجتماع أخبرونا أن من ترغب في حضور الاجتماع عليها أن تغطي شعرها، وألا إجبار ولكن من لا ترتدي غطاء الرأس عليها أن تعود الى المنزل. أسقط في يدنا، تبادلنا النظرات المستسلمة وأخرجت كل منا الشال الذي وضعته استعداداً لهذا الموقف في حقيبتها. أصروا بعدها على أن تجلس النساء والرجال في جهات مختلفة من القاعة، وكان رجال يحملون السلاح يملأون القاعة، يقفون خلفنا، حولنا، وفي مقدم القاعة، كنا جميعا نشعر بالرهبة.

بدأ الشيخ أبو عبدالله الكلام، وهو من إدلب، عُين رئيساً جديداً للقصر العدلي، كان يرتدي جلابية وذقنه طويلة وغير مشذبة، وكان يرافقه شيخ مصري اسمه أبو محمد  لم يتم تعريفه بأية صفة رسمية. أعلن الشيخ عبدالله أنهم سيعملون على تغيير بعض القوانين لتتناسب مع الشرع الإسلامي، وأن الشرع هو مصدر التشريع في المستقبل. وشرح أنهم سيستعينون بمجلة الأحكام العدلية الصادرة أيام الخلافة العثمانية (مجلة الأحكام العدلية وضعتها لجنة من العلماء في الدولة العثمانية، وهي عبارة عن قانون مدني مستمد من الفقه على المذهب الحنفي، وتشتمل على مجموعة من أحكام المعاملات والدعاوى والبينات، وضعتها لجنة علمية مؤلفة من ديوان العدلية بالأستانة ورئاسة ناظر الديوان سنة 1286هـ). تكلم الشيخ المصري أيضاً، ثم فتحوا الباب لتلقي الأسئلة.

سأل أحد القضاة، وهو مسيحي الديانة، عن دوره في المستقبل في حال كان الشرع الإسلامي مصدر التشريع، ألا يعني ذلك أن كل القضاة يجب أن يكونوا مسلمين؟ وكيف يمكن لمثله أن يكون له مكان في مستقبل هذه البلاد بالتساوي مع جميع أبنائها، وأن يساهم في بنائها؟ أجاب الشيخ أبو عبدالله: “أنت مواطن عربي سوري، لا تسألني هذا السؤال! لكن نحن سنحكم بالشريعة الإسلامية بالنهاية”. تركتنا هذه الإجابة المراوغة غارقين في الحيرة. ماذا عن القاضيات النساء؟ بدأ السؤال يعتصر قلبي. ترك الشيخ عبدالله الإجابة معلقة، “هذا القرار متروك للأيام، يوجد مذهبان مختلفان، أحدهما يقول إن المرأة لا تولى القضاء نهائياً. المذهب الثاني يقول إن المرأة تولى القضاء في ما عدا قضاء الحكم. علينا أن ننتظر ونرى كيف سيصوت مجلس القضاء الأعلى في المستقبل”. (تمنع المذاهب المالكية والشافعية والحنابلة تولية القضاء للمرأة أو لغير المسلم تماماً، بينما ينص المذهب الحنفي جواز تولي المرأة القضاء في الأموال من دون القصاص والحدود.)

خلال حديثه، أشار الشيخ عبدالله إلى النظام السابق مراراً بالنظام النصيري البائد، فقاطعه أحد القضاة: “تقول إ/نك هنا لتعمل على طمأنتنا، ولكنك تستخدم صفة النصيري!” (نصيري هي الصفة التي يستخدمها بعض الإسلاميين للإشارة إلى أبناء الطائفة العلوية، بهدف نسبها إلى مؤسس الطائفة موسى بن نصير دلالة على أنها طائفة باطنية مارقة تتهم بالغلو).  “قرابة خمسين قاضية وقاضياً هنا هم علويون، وأنا أحتج على وصفك النظام بأنه علوي  أساساً!”، أضاف القاضي زميلنا. “وهل تنكر أن النظام استغل الطائفة؟” صرخ الشيخ عبدالله، أجاب زميلنا: “النظام استغل منتفعين من كل الطوائف!”، قاطع الشيخ المصري زميلنا هنا قائلاً: “إنها مجرد زلة لسان بحكم أننا اعتدنا استخدام هذا التعبير في إدلب”، وانتهى الاجتماع بعد هذه النقطة.

غادرنا الاجتماع وقلوبنا يملأها الخوف، بدأ الكثير منا بمناقشة الأمر وإبلاغ الأصدقاء والمعارف، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي حملة احتجاج، ونوقش الأمر بشكل واسع في المجتمع الحمصي، فتراجعت الهيئة عن التعيينات، أعلن عن تعيين مدير جديد للقصر العدلي هو السيد أبو حذيفة حسن الأقرع، أبحث عن صفحته على فيسبوك، تطالعني خطبة يلقيها من على منبر جامع الجيلاني في بابا عمر في 14 كانون الثاني وهو باللباس العسكري ويرتدي جعبة السلاح: “الله أكبر يا أمتي كبري، واستبشري بالعز والسلطان، الله أكبر يا أمتي أبشري واستبشري يا أمة الإحسان. الله أكبر يا أمتي جلجلت وتكبكب الأعداء في السلطان، الله أكبر يا أمتي والجهاد طريقنا، هذا سبيل ربنا في الفرقان. انتصرنا على أكبر طاغية في هذا الزمان، على آل الأسد وشبيحتهم، وعلى روسيا وعلى إيران وعلى حزب الشيطان… تكبكبوا وسقطوا والحمد لله”، يقول صارخاً ويكبر الحشد. في مكان آخر كتب معلقاً على زواج جماعي أقيم في حلب قبل سقوط النظام لأربعين شابا وصبية من حفظة القرآن: ” من الذي أباح هذا الاختلاط؟ من الذي أباح دخول النساء على الرجال أو العكس؟ من الذي أباح للمرأة أن تدخل إلى صالة أو ملعب للزفاف؟ كنا في حفل تكريم في المسجد، والآن في عرس جماعي في صالات وملاعب. حسبي الله ونعم الوكيل، هذا من المنكرات التي لا ينبغي السكوت عليها”، احتوت صفحته أيضاً على صور له وهو يتكلم إلى مقاتلين في “معسكرات الإعداد” في مناطق الشمال السوري عندما كانت خاضعة للمعارضة السورية.

السيد الأقرع خريج كلية الشريعة، كما وزير العدل في الحكومة المؤقتة السيد شادي الويسي. وقد وردت معلومات أن التعيينات في القصور العدلية عبر البلاد مشابهة، إذ تم تعيين شيوخ وخريجي شريعة في درعا وطرطوس وريف دمشق ومحافظات عدة.

درج

—————————————-

الشرق الأوسط ساحة لتداعيات الاضطراب الأميركي- الأوروبي/ روبرت فورد

بعد تركيز دول “القارة العجوز” على القوة العسكرية بدلا من “القوة الناعمة”

آخر تحديث 07 أبريل 2025

واشنطن – يُسرّع الاضطراب في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة من وتيرة التغيرات في السياسات العسكرية والاقتصادية الأوروبية، وهي تغيرات من شأنها أن تبدأ بالتأثير على علاقات أوروبا مع جيرانها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتعيد الدول الأوروبية تركيزها على القوة العسكرية بوصفها أداة جيوسياسية تهدف إلى تقليص اعتمادها على الولايات المتحدة، غير أن بناء قاعدة صناعية عسكرية متقدمة، وتصنيع أسلحة عالية الجودة، وتعبئة وتدريب جيوش أكبر حجما، سيحتاج إلى وقت.

وفي مستهل هذه المرحلة من التحول الجيوستراتيجي، تواجه أوروبا صعوبات في تعزيز نفوذها الناعم في الشرق الأوسط، خصوصا في ظل انخفاض ميزانيات المساعدات الاقتصادية. وستحتاج العواصم الأوروبية، أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء شراكات جديدة، لا سيما مع دول الخليج، وإلى تحديد أولوياتها الاستراتيجية بشكل واضح ومحدد.

إيران

تتفق واشنطن والدول الأوروبية الرئيسة على ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وتعتبر العقوبات أداة ضغط أساسية لتحقيق هذا الهدف. إلا أن تحسن العلاقات بين واشنطن وموسكو، واحتمال أن تضطلع موسكو، التي تُعد تهديدا مباشرا للأمن الأوروبي، بدور الوسيط مع طهران، يثير قلقا لدى عدد من المحللين الأوروبيين. فقد زوّدت إيران روسيا بآلاف الطائرات المسيّرة التي استخدمتها في استهداف الأراضي الأوكرانية، وساهمت في تطوير برنامج الطائرات المسيّرة الروسي، ما يُعمّق الريبة الأوروبية، كما في واشنطن، إزاء أي اتفاقات وسطية قد تُبرم عبر موسكو.

الأوروبية إلى التأثير في أي اتفاق قد يُبرم بين واشنطن وموسكو وطهران. ومن المرجّح أن تنسّق الدول الأوروبية عن كثب مع دول الخليج ذات النفوذ، مثل السعودية والإمارات، التي تشاركها الهدف نفسه بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، فإن انخراط أوروبا في أي عمل عسكري أميركي أو إسرائيلي ضد إيران يبدو غير مرجح، إذ لا ترغب العواصم الأوروبية في إثارة مشاكل إضافية مع إدارة ترمب، خاصة في ظل اعتمادها المستمر على دعمه في ملف أوكرانيا. ولهذا، من المرجح أن تكون الانتقادات الأوروبية لأي ضربة أميركية ضد إيران محدودة النبرة والتأثير.

الميزانيات والقوة الناعمة

الأهم من ذلك أن التهديد المتزايد من جانب روسيا يدفع معظم الدول الأوروبية إلى رفع ميزانياتها العسكرية، ما يؤدي في المقابل إلى تقليص ميزانيات المساعدات الاقتصادية الخارجية. وقدرت مؤسسة “بروغل” البحثية الاقتصادية في بروكسل، في فبراير/شباط، أن تحقيق الهدف الذي أعلنته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، برفع الإنفاق العسكري الأوروبي إلى نحو 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، سيتطلب 250 مليار يورو سنويا. (وللمقارنة، من المتوقع أن تبلغ ميزانية الدفاع الفرنسية لعام 2025 نحو 51 مليار يورو، بينما بلغت ميزانية الدفاع الألمانية في عام 2024 ما يقارب 82 مليار يورو، مع خطط لزيادتها بشكل كبير في عام 2025).

وفي موازاة ذلك، شرعت العواصم الأوروبية في تقليص المساعدات التنموية. فقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أمام البرلمان في فبراير/شباط، أن حكومته ستخفض المساعدات الخارجية بأكثر من 13 مليار جنيه إسترليني (نحو 16 مليار يورو)، لتمويل زيادة مماثلة في الإنفاق الدفاعي. كما دعا وزير الدفاع الفرنسي، في مارس/آذار، إلى زيادة قدرها 40 مليار يورو في ميزانية الدفاع خلال السنوات المقبلة، في وقت كانت فيه باريس قد خفّضت بالفعل مساعداتها الخارجية بأكثر من الثلث لتصل إلى 3.8 مليار يورو في عام 2025. أما ألمانيا وهولندا، فقد قلصتا أيضا ميزانيات المساعدات الخارجية بشكل حاد خلال العامين الماضيين. وتأتي هذه التخفيضات الأوروبية إضافة إلى التقليصات الكبيرة التي نفذتها الولايات المتحدة في مجال مساعداتها الخارجية.

وسيحد خفض المساعدات الاقتصادية من قدرة أوروبا على تعزيز قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، في ظل الانسحاب الأميركي المتزايد من المنطقة، إلا أن هناك مسارات بديلة يمكن لأوروبا من خلالها توسيع حضورها. فقد اعتمدت أوروبا، على مدار العقود الماضية، بشكل كبير على قدراتها المالية لكسب النفوذ. ففي فبراير/شباط 2024، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقا مع مصر يشمل نحو 7 مليارات يورو من المساعدات والاستثمارات موزعة على مدى ثلاث سنوات. ووفقا للإحصاءات الرسمية، فقد تلقت الأردن نحو 4 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011، كما اتفق الجانبان على حزمة مساعدات واستثمارات جديدة بقيمة 3 مليارات يورو للفترة الممتدة بين 2025 و2027. وبالمثل، حصل لبنان على نحو 3.5 مليار يورو من المساعدات الأوروبية منذ عام 2011.

ومع تصاعد الضغوط على الميزانيات الأوروبية خلال السنوات المقبلة بسبب الإنفاق العسكري المتزايد لردع روسيا، إلى جانب متطلبات البرامج الاجتماعية الداخلية ذات الحساسية السياسية، سيصبح من الصعب تبرير الإبقاء على مستويات مرتفعة من الدعم لدول مثل مصر والأردن ولبنان. ويزداد هذا التحدي تعقيدا في ظل استمرار الدول الأوروبية في تمويل برامج مساعدات تنموية في كل من أفريقيا وآسيا.

ومع انحسار تدفق المساعدات الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المرجح أن تزداد أهمية الدعم القادم من دول الخليج وتركيا وحتى الصين. ومع ذلك، لا تقتصر القوة الناعمة على الدعم المالي فقط؛ ففي ظل تراجع الإقبال على الدراسة في الولايات المتحدة، يمكن لأوروبا أن تواصل استقطاب الطلاب إلى جامعاتها وبناء جسور مع الجيل القادم. وعلاوة على ذلك، ومع تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، ستجد الدول الأوروبية والإقليمية نفسها أمام حاجة متزايدة للتنسيق فيما بينها وإدارة النزاعات الإقليمية. وسيتاح لها هامش أوسع للتحرك في هذا الإطار دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة، لا سيما في النزاعات التي لا ترتبط بإسرائيل بشكل مباشر.

وبشكل مماثل، تحتاج سوريا في السنوات المقبلة إلى مساعدات اقتصادية ضخمة. حيث قدر البنك الدولي في عام 2022 أن تكلفة إعادة الإعمار لا تقل عن 250 مليار دولار (ما يعادل 230 مليار يورو على الأقل)، ومن المرجح أن تكون التكلفة الفعلية اليوم أعلى بكثير. وفي مؤتمر بروكسل التاسع للمانحين من أجل سوريا، الذي عقد في مارس/آذار 2025، تعهدت الدول الأوروبية بتقديم نحو 5.8 مليار يورو، وهو تقريبا نفس المبلغ الذي جرى التعهد به في مؤتمر مارس/آذار 2024.

ويعكس الحفاظ على هذا المستوى المرتفع من الدعم- رغم التخفيضات العالمية في ميزانيات المساعدات- مدى الأهمية التي توليها أوروبا للملف السوري. وتسعى حكومات أوروبية كبرى، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، إلى تحقيق الاستقرار وإعادة إعمار سوريا، جزئيا لتفادي موجة جديدة من اللاجئين السوريين نحو أراضيها. وفي هذا السياق، قامت وزيرة الخارجية الألمانية بزيارة ثانية إلى دمشق في مارس/آذار، وأعلنت عن حزمة مساعدات جديدة بقيمة 300 مليون يورو لدعم جهود إعادة الإعمار.

وبالتوازي، علق كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في فبراير/شباط العقوبات المفروضة على شركات سورية محددة تعمل في قطاعي الطاقة والنقل، إضافة إلى خمسة مصارف تجارية سورية، وذلك في خطوة تهدف إلى دعم الشركات الحكومية والقطاع الخاص في البلاد.

في المقابل، لا يُبدي الرئيس الأميركي دونالد ترمب اهتماما يُذكر بالملف السوري، إذ غرّد عقب سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي قائلا إن “سوريا ليست مشكلة أميركا”. ويعتقد عدد كبير من المحللين في واشنطن أن إدارة ترمب ستسحب القوات الأميركية من شرق سوريا خلال السنوات القليلة المقبلة، كجزء من استراتيجية أوسع تركز على مواجهة التهديدات في آسيا.

وعلى خلاف الموقف الأوروبي، لم تُخفف إدارة ترمب العقوبات المفروضة على سوريا، باستثناء بعض الخطوات المحدودة التي اتخذتها إدارة بايدن في منتصف يناير/كانون الثاني. كما امتنعت عن تقديم أي تعهدات جديدة بالمساعدات خلال مؤتمر بروكسل للمانحين. وصرحت مسؤولة أميركية بارزة خلال المؤتمر بأن الإدارة لا تزال تشكك في استعداد الحكومة السورية للتخلي عن “التطرف العنيف” و”انتهاك حقوق الإنسان”، مؤكدة أن “أي قدر من المساعدات الخارجية أو تخفيف العقوبات لن يكون كافيا” لجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار.

وفي حين أعادت ألمانيا فتح سفارتها في دمشق بطاقم دبلوماسي محدود، لم تُبدِ إدارة ترمب حتى الآن أي استعداد للجلوس مع الحكومة السورية لبحث مستقبل العلاقات الثنائية.

ومن اللافت أن المبعوث الخاص للرئيس ترمب إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، صرح في فبراير/شباط أمام منظمة يهودية أميركية بأن سوريا ولبنان قد تُقدمان في نهاية المطاف على توقيع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. ووفقا لمصادر مطلعة في واشنطن، قد تربط إدارة ترمب تحسين علاقاتها مع دمشق بموافقة الأخيرة على الانضمام إلى “اتفاقات أبراهام”. ومن المرجح أن تمارس إدارة ترمب ضغوطا على دمشق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل منحها إعفاء كاملا من العقوبات.

أما الدول الأوروبية، فلم تُصدر أي إشارات مماثلة بخصوص تطبيع سوريا مع إسرائيل، وإن كانت لا تعارض هذا المسار في حال قررت دمشق السير فيه.

أوروبا وغزة وإسرائيل

ينصبّ التركيز الأوروبي تجاه إسرائيل حاليا على الحرب في غزة وإعادة إعمار القطاع بعد توقف القتال. وقد رفضت الدول الأوروبية مقترح ترمب الذي يدعو إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة وتسليم إدارتها إلى الولايات المتحدة ومستثمرين من القطاع الخاص. كما أكدت حكومات فرنسا وألمانيا وإيطاليا أن هذه الفكرة تتجاهل القانون الدولي وتُعيق الوصول إلى حل الدولتين.

وفي أعقاب انتقاداتهم لخطة ترمب في فبراير/شباط، أعلن وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة دعمهم للخطة المصرية التي أقرها القادة العرب في مارس/آذار. وإذا ما جرى تنفيذ هذه الخطة، فمن المتوقع أن تساهم الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي في تمويلها، انسجاما مع السياسة الأوروبية الرامية إلى استقرار غزة وإعادتها إلى السلطة الفلسطينية.

وتُظهر السياسات الأوروبية ميلا واضحا نحو دعم إعادة الإعمار في غزة، إلا أن القيود المتزايدة على الميزانيات ستدفع العواصم الأوروبية إلى إعادة ترتيب أولوياتها بين ملفات عدة، منها سوريا، ومصر، والأردن، ولبنان، وغزة. ومن المرجح أن تضع بعض الدول الأوروبية أولويات خاصة بها، فقد تختار دول معينة توجيه مساعداتها إلى بلدان يمكن أن تُسهم فيها هذه المساعدات في تقليل تدفقات الهجرة من الجنوب إلى الشمال. في المقابل، قد تتبع دول أوروبية أخرى خيارات القوى السياسية المحلية، فتُفضل، على سبيل المثال، دعم الفلسطينيين أو سوريا أو لبنان، بحسب توجهات الرأي العام الداخلي وظروف كل دولة.

في المقابل، من غير المرجح أن تُبدي إدارة ترمب أو الحزب الجمهوري، وحتى جزء كبير من قيادة الحزب الديمقراطي، أي استعداد لتمويل إعادة إعمار غزة. كما سيكون من شبه المستحيل تمرير هذا التمويل سياسيا في واشنطن إذا اعترضت عليه إسرائيل قبل انتخابات عام 2028. ونتيجة لذلك، يُتوقع أن تتحمل دول الخليج القسم الأكبر من تمويل خطة إعادة الإعمار العربية، والتي تُقدّر قيمتها بـ53 مليار دولار.

إسرائيل

لن تتغير المواقف الأوروبية تجاه إسرائيل بشكل مباشر نتيجة التوتر القائم في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن مؤشرات توتر مستقبلي بين أوروبا وتل أبيب باتت واضحة. فلكل دولة أوروبية علاقتها الثنائية الخاصة بإسرائيل، والتي تتأثر بعوامل عدة، منها التاريخ والسياسات الداخلية والأولويات الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال، تُعد إسبانيا وأيرلندا، نظرا لبعدهما الجغرافي عن المشرق، من بين أكثر الدول الأوروبية انتقادا لإسرائيل.

ومن اللافت أن كبار القادة السياسيين في الحزبين الأميركيين بدأوا يبتعدون تدريجيا حتى عن المجاهرة بدعم حل الدولتين. وفي هذا السياق السياسي، يُرجَّح أن تعترف واشنطن بضم إسرائيل لأجزاء من غزة والضفة الغربية، في حين لا تزال العواصم الأوروبية، على الأقل في خطابها العلني، متمسكة بحل الدولتين، وستعمد إلى انتقاد أي عملية ضم تنفذها إسرائيل.

ومن السهل تخيل تصاعد الدعوات داخل بعض الأوساط الأوروبية إلى فرض إجراءات اقتصادية ضد إسرائيل. وإلى جانب ذلك، وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن تسعى أوروبا، مع تزايد إنتاجها من الأسلحة والمعدات العسكرية عالية الجودة، إلى تسويق هذه المنتجات في دول الشرق الأوسط لتحقيق وفورات الحجم في خطوط الإنتاج، على غرار ما تفعله واشنطن من خلال بيع طائرات “إف – 35” لعدد من الدول.

ومن المرجح أن تدفع الضغوط المالية المتزايدة، خصوصا في النصف الثاني من هذا العقد، بعض العواصم الأوروبية إلى التجاوب بشكل أقل مع الاعتراضات التي قد تطرحها إسرائيل أو الولايات المتحدة حيال صفقات بيع الأسلحة إلى الدول العربية، ما قد يشكل بؤرة توتر جديدة في العلاقات بين الجانبين.

المجلة

——————————

ما احتمال «الثورة المضادة» في سوريا؟/ حسام جزماتي

2025.04.07

قُدِّر للثورة السورية ألا تصل إلى منتهى غايتها إلا بعد سنوات طويلة جرت فيها مياه كثيرة، ومتعاكسة، في النهر. كان منها الانقلاب على الربيع العربي، في بعض بلدانه الأولى، بثورات مضادة، ووقوع دول أخرى منه في حروب أهلية فعلية بين مسيطرين على مناطق متصادمة محلياً.

ويشيع، في الأوساط المحيطة بالسلطة الجديدة في دمشق، أنها تتوجس من قيام بعض القوى الخارجية، ويشار هنا إلى إيران أساساً لا حصراً، بتشجيع وتمويل وتسليح بقايا مقاتلي نظام بشار الأسد، الذين استقر عليهم وصف «الفلول»، للقيام بثورة مضادة تستند إلى الأوضاع غير المستقرة بين العلويين، وربما بالتنسيق مع مجموعات أخرى من غير المتفقين مع الحكم الجديد إلى هذه الدرجة أو تلك، مما يُنظر إليه على أنه حلف أقليات قد يهدد، في حال اجتماع هذه القوى، النظام الوليد الذي يستند إلى قاعدة ورمزية عربية سنّية واضحة. وبالنظر إلى خلفيته الإسلامية فإن أنصاره يستحضرون الانقلاب على الرئيس الإخواني محمد مرسي في مصر كمثال مقلق عما يمكن أن تؤول إليه الأمور في سوريا في حال لم يضع حكامها الجدد على رأس سلم أولوياتهم قضايا من نوع بسط السيطرة، وتجريد المسلحين من عتادهم، والوصول معهم إلى تفاهمات سياسية أو أمنية قدر الإمكان.

وتنتج عن هذا الهاجس مجموعة من الإجراءات، كالمبادرة إلى تسوية أوضاع عسكريي النظام السابق في الجيش والأمن وما في حكمهما، والتساهل في إطلاق سراح عدد من قادتهم المعروفين لقاء تحييدهم عن الممانعة بشكل نهائي. كما نتج عنه، من وجهة معاكسة، توتر شديد عبّر عن نفسه، منذ حدوث عمليات تمرد مسلح في السادس من شهر آذار الفائت، على شكل دعوات عامة إلى النفير وتوجه قوات فزعة إلى الساحل، مما أدى إلى ارتكاب مجازر لم تنتهِ امتداداتها وما تزال قيد تحقيق يستمر حتى الآن.

ورغم أن نتائجه لم تتضح بعد، ولا درجة دقته في التعبير عما جرى، فإن من شأن هدوء الأوضاع أن يبدد بعض المبالغات التي راجت في «فورة الدم» الأولى عن تضافر جهات خارجية كبرى، وقوى إقليمية فاعلة، وداخلية منظمة، لمحاولة القيام بانقلاب على السلطة في دمشق من جبال اللاذقية. وأوكلت الرواية، فعلياً، أمر هذه المهمة الجسيمة إلى مقاتل سابق في قوات «الحرس الجمهوري» هو مقداد فتيحة (أبو جعفر) الذي أسس ما سماه «لواء درع الساحل»، من دون أن يملك أحد معطيات كافية عن مدى جدية هذا «اللواء» وعدد أفراده وقدراته العسكرية.

وبما أنه من بدائه الانقلابات أن تعتمد على الجيش فمن المهم أن نتذكر أن هذا الأخير، بالصيغة التي كانت قبل سقوط النظام، قد تبخر كلياً في أثناء معارك التحرير؛ فانفرطت قاعدته من المجندين الذين تركوا مواقعهم، وكرّت سبحته من الضباط الذين فروا إلى خارج البلاد أو إلى بلداتهم، ولم يبق إلا طلل القطعات التي ما تنفك تتعرض لقصف إسرائيلي مدمر.

وبما أن الدولة المتحكمة، أو «العميقة» إن شئنا، في نظام الأسد كانت مخابراتية وعسكرية، تتكون من ضباط يجمعهم مزيج من الولاء والطائفية وشبكات القرابات والمصالح المشتركة، وقد انهارت كلياً مع سقوط النظام ثم بإعلان حل الجيش السابق والأجهزة الأمنية؛ فإن احتمال حدوث «ثورة مضادة» بالمعنى المألوف بعيد عن الواقع السوري، بعد أن فقد هؤلاء أذرعهم التنفيذية بانحلال مؤسساتهم كلياً، وتحولهم إلى أفراد من الماضي لا تعني رُتبهم شيئاً.

نعم، قد تحاول قلة منهم إشعال نار تمرد أو مقاومة، في ظروف مؤهِّبة داخلياً وبوجود دعم خارجي قد يجري توفيره؛ غير أن هذا سيكون أقرب إلى الاحتجاج المحدود جغرافياً. وحتى في حال وجود قوى عديدة تعارض الحكم الحالي، من مناطق متعددة وخلفيات ديموغرافية متباينة، فإن ما يجمع هذه البيئات من أسباب الاعتراض السلبي أكثر بكثير مما يوحّدها في مشروع مشترك بالإيجاب. فقواعدها وهمومها ومنطلقاتها وأهدافها وتحالفاتها من المستحيل أن يرتقها عنوان «تحالف الأقليات» التبسيطي والمثير للحذر غير المفيد لدى الجمهور.

هل السلطة الحالية في مأمن إذاً؟ لا. لكن ما يجب أن تخشى منه في الحقيقة ليس ثورة مضادة تعيد بشار الأسد، أو نظامه من دونه، إلى الحكم، فهذا احتمال بات وراءنا. هناك مخاطر أخرى أكثر واقعية يجدر التفكير فيها جدياً. ومنها بناء الجيش الجديد من فصائل متخالفة ومعتدة بوجودها الذاتي، والتوجه الواضح إلى قيامه على أعمدة عربية سنّية تُشعر الآخرين بأنهم سينضمون كملتحقين بعد التأسيس في أحسن الأحوال، وكذلك استقطاب متطوعين جدد في الأمن من البيئات نفسها إلى درجة أن انتساب شاب مسيحي مؤخراً أصبح حدثاً طريفاً لندرته أو انعدامه. فضلاً عن انسحاب ذلك على أوجه مختلفة من الحياة الحكومية.

لا ترغب أي سلطة في أن تُراكم الأعداء بالطبع، لا سيما في مراحلها التأسيسية الهشة حين لا تملك القوة الكافية. غير أن نقص استشعارها لحساسيات الآخرين كما يرونها، وافتراض أنه من المناسب لهم أن يجلسوا على الكرسي الذي أعدّته لهم وتظنه عادلاً؛ لا يكفي لبناء دولة متماسكة في الزمن الحديث والوضع الراهن.

تفهم الآخرين بعمق واحترامهم كشركاء… طريق آمن وحيد.

تلفزيون سوريا

——————————

بين النصوص الغائبة والمحاسبة المطلوبة.. كيف سيتعامل القضاء السوري مع جرائم القتل الطائفي؟/ وائل قيس

5 أبريل 2025

تباينت الآراء بشأن تقرير منظمة العفو الدولية الذي اتهم ميليشيات موالية للحكومة السورية الانتقالية بارتكاب مجازر طائفية في مدينة بانياس الساحلية، خلال يومي 8 و9 آذار/مارس 2025. وبينما رأى خبراء قانونيون تحدثوا لموقع “الترا سوريا” أن النظام الجزائي السوري يفتقر إلى التوصيف الدقيق لجرائم القتل الجماعي ذات الطابع الطائفي، أكد حقوقيون على ضرورة محاسبة جميع مرتكبي جرائم القتل الجماعية دون تمييز، بالإضافة إلى إطلاق حوار مجتمعي يؤسس للسلم الأهلي.

وبحسب العفو الدولية، فإن عمليات القتل الجماعي التي شهدتها مدينة بانياس، أسفرت عن مقتل أكثر من 100 مدني، حيث استُهدف الضحايا بعد التأكد من انتمائهم الطائفي، وتعمّد المسلحون إطلاق النار على رؤوسهم من مسافات قريبة، فيما تُركت جثثهم في الشوارع والساحات. وأشارت المنظمة إلى أن بعض المسلحين حمّلوا الضحايا مسؤولية انتهاكات ارتكبها النظام السابق، ما يكرّس الطابع الانتقامي والممنهج لتلك المجازر.

جرائم بانياس انتهاك جسيم للقانون الدولي

وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنييس كالامار، إن هذه الجرائم تُعد انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني “وترقى إلى مستوى جرائم الحرب”، مشددةً على أن تقاعس السلطات السورية عن التدخل لوقف القتل يضعها أمام مسؤولية مباشرة، داعيةً إلى توفير العدالة والحقيقة للضحايا، ومحذّرةً في الوقت نفسه من أن “غياب المحاسبة يهدد بإعادة البلاد إلى دوامة من الفظائع وسفك الدماء”.

وكان الرئيس السوري، أحمد الشرع، قد تعهد في التاسع من آذار/مارس الماضي بمحاسبة مرتكبي الجرائم، وأعلن عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق في أحداث الساحل الدامية، بالإضافة إلى تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي. وقالت لجنة تقصي الحقائق إنه من غير الممكن أن تستطيع إنجاز مهمتها خلال 30 يومًا، وأنها قد تطلب تمديد المهلة، مرجحةً إنشاء محكمة خاصة لملاحقة المتورطين في الأحداث التي شهدتها المنطقة.

وتعليقًا على تقرير العفو الدولية، قال المتحدث باسم لجنة الحقائق، ياسر الفرحان، في مقابلة مع “التلفزيون العربي”، إن اللجنة تتفق مع المنظمة في ضرورة حماية الشهود، مشيرًا إلى اتخاذ تدابير تضمن سرية الشهادات وأماكن اللقاء. وأضاف “أنه من غير الواضح درجة ارتباط الحكومة السورية بالميليشيات التي قالت المنظمة إنها ارتكبت الانتهاكات”، وتساءل “هل تعني المنظمة أنها متعاونة مع الحكومة أو تابعة لها؟”.

وفيما أكد الفرحان أن اللجنة “تحترم معايير أمنستي العالية”، لكنه أشار إلى أن “تحديد مسؤولية الحكومة يجب أن يأتي بعد تحديد كافة الظروف والسياقات، والتأكد من أن هذه العناصر التي ارتكبت الانتهاكات تخضع فعلًا لسيطرة الدولة السورية، وهل دعمت هذه المجموعات وهل قصرت في اتخاذ الإجراءات لمنع هذه الانتهاكات”.

القانون الجزائي قاصر على معاقبة جرائم القتل الجماعي

تثير جرائم القتل الجماعي ذات البعد الطائفي في سوريا تساؤلات قانونية معقدة حول كيفية تكييفها في إطار القانون الجزائي السوري، وإمكانية مساءلة الجهات المسؤولة عنها، بما في ذلك الميليشيات المرتبطة بالحكومة، ضمن منظومة العدالة على المستوى الوطني في ظل مرحلة الاستقرار الهش الذي تعيشه البلاد.

توضح المحامية ولاء محمد سبتي أنه “في القانون الجزائي السوري لا يوجد هذا التحديد للجريمة”، وتضيف في حديثها لموقع “الترا سوريا” أن “القاضي مضطر لتكييف الجرائم وفق النصوص الموجودة، وبالتالي يحاكم المجرم على جريمة قتل شخصين أو أكثر وفق المادة 534 من قانون العقوبات”، لافتةً إلى أن حكم هذه الجريمة يكون عادة “الأشغال الشاقة المؤبدة”، وبالتالي نجد أننا “حذفنا هنا الإبادة الجماعية على أساس طائفي”.

وتنص المادة 534 من قانون العقوبات السوري، الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 148 بتاريخ 22 حزيران/يونيو 1949، على أن “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة على القتل قصدًا إذا ارتُكب: لسبب سافل، أو تمهيدًا لجنحة أو تسهيلًا أو تنفيذًا لها أو تسهيلًا لفرار المحرضين على تلك الجنحة أو فاعليها أو المتدخلين فيها أو للحيلولة بينهم وبين العقاب”، بالإضافة إلى مرتكبي الجرائم “للحصول على المنفعة الناتجة عن الجنحة”.

كما تشمل المادة مرتكبي الجرائم التي تستهدف “موظف أثناء ممارسته وظيفته أو في معرض ممارسته لها”، أو “حدث دون سن الـ15 عامًا، أو شخصين أو أكثر”، فضلًا عن “حالة إقدام الجرم على أعمال التعذيب أو الشراسة نحو الأشخاص”.

وبحسب سبتي، فإن “القانون الجزائي السوري قاصر على المعاقبة على هذه الأفعال”، مشددةً في حديثها على أن “هذا الذي يدفعنا للمطالبة بقانون عدالة انتقالية، يحدد ويوصف الجريمة بالركن المادي والمعنوي”، لافتةً إلى أنه “من الممكن الاستعانة بالاتفاقات الدولية الموقعة عليها سوريا، من بينها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”.

النظام القضائي لم يرتسم بما يتعلق بالميليشات أو القوات المسلحة

تُطرح اليوم تساؤلات جوهرية حول إمكانية فتح تحقيقات جنائية محلية في جرائم القتل الجماعي، خاصةً تلك المرتكبة من قبل ميليشيات مرتبطة بالحكومة السورية، أو خلال فترة حكومة تصريف الأعمال التي تولت مهامها من التاسع من كانون الأول/سبتمبر 2024 حتى 29 آذار/مارس 2025، إضافةً إلى مدى قانونية اعتماد الأدلة الدولية أمام المحاكم السورية في مسار العدالة.

ووفقًا لمصدر قضائي تحدث لـ”الترا سوريا”، مفضلًا عدم الكشف عن هويته، فإن “كونها ميليشيات يجب أن يفتح بحقها تحقيق خاص بلجان تحقيق خاصة”، وأضاف موضحًا أن سبب اللجوء لهذه الآلية يعود إلى “شكل النظام القضائي في سوريا الذي لم يرتسم بما يتعلق بالميليشات أو القوات المسلحة”، مشيرًا إلى أنه “سابقًا كانت القوات المسلحة تابعة للقضاء العسكري، ولها شرطة عسكرية خاصة بها تتابع هذه الجرائم. أما الآن، وبما أن القضاء العسكري لم يفتح، فإن محاكمتهم أمام القضاء المدني غير واردة”.

وينوه المصدر القضائي إلى أن العناصر المنضوية ضمن هذه الفصائل أو الميليشيات “لم يُرسلوا للقضاء المدني، وليس لديهم قضاء عسكري”، وبالتالي هذا السبب الذي كان وراء تم تشكيل لجنة تقصي الحقائق للتحقيق بجميع مجازر الساحل، مؤكدًا أن من “الطبيعي أن تأخذ هذه اللجنة قرارات سواء بالعسكريين الأفراد أو الميليشيات”.

وفيما يتعلّق بالمعايير القانونية بشأن شروط قبول الأدلة الدولية أمام المحاكم السورية لضمان مشروعيتها في المساءلة الجنائية، يؤكد المصدر القضائي أن “من مهام هذه اللجنة الاستماع لجميع الشهادات”، ولذا يرى أن من “الأولى استماع لجنة تقصي الحقائق إلى شهادات المنظمات الدولية”، لكن يضيف مستدركًا أن “هناك تقاطع حول هذه النقطة، لأن من ذهبت إليهم المنظمات الدولية، هم أنفسهم الأشخاص الذين زارتهم اللجنة، واستمعت إليهم”.

الحصانات لا تسقط في جرائم الإبادة أو الحرب

أظهرت عديد التقارير أن فصائل مسلحة تابعة أو موالية للحكومة، بالإضافة إلى مجموعات مدنية، ومجموعات موالية للنظام السابق، شاركت في جرائم القتل الجماعي التي ارتُكبت في الساحل السوري في آذار/مارس الماضي. حول هذا التفصيل، تشير سبتي إلى أن المتفق عليه في جرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، أن “هذه الجرائم تسقط فيها الحصانات، وأيضًا يسقط التقادم”.

وهنا توضح سبتي أنه “مهما طالت المدة لا تسقط هذه العقوبة أو الجريمة بالتقادم، بالتالي مساءلة الميليشيات المرتبطة بالحكومة قانونيًا أمر وارد”، لكنها تشير في المقابل إلى أننا “نحتاج فقط إلى إرادة سياسية”، وتضيف موضحة أن “بصرف النظر إن هؤلاء الأفراد المتورطين سوريين أو غير سوريين، نظرًا لأن التنازع في القوانين يكون في الحالات المدنية والأحوال الشخصية”.

وأضافت سبتي أنه في حال كانوا الأفراد المتورطين بهذه الجرائم من غير السوريين غير متواجدين على الأراضي السورية، فإنه “من الممكن اعتماد مذكرات تفاهم مع الدول المتواجدين فيها لملاحقتهم، أو من الممكن مطالبة الدول محاسبتهم عن الجرائم التي جرموا بها في سوريا”، وهو ما يعني أن هناك عدة خيارات متاحة لمحاسبة المتورطين السوريين أو غير السوريين خارج الأراضي السورية.

وترى سبتي، التي تُحضر لرسالة دكتوراه في القانون الدولي، أن تقارير منظمة العفو الدولية، وما يشابهها من تقارير لمنظمات دولية، من الممكن أن “تُسرع في مسار العدالة الانتقالية، لكن وفقًا لما سيتم اعتماده في القانون المرتقب”. وأضافت “نحن ننتظر وضع قانون عدالة انتقالية شامل يحدد الجرائم والعقوبات، بما يشمل التطبيق الزماني والمكاني”.

ومن ضمن هذه التحديدات أو التفصيلات التي ينبغي أن يتضمنها قانون العدالة الانتقالية المرتقب، تشير سبتي إلى ضرورة تحديد “ما يحق للقضاة أو أعضاء الهيئات الفنية الاستعانة به، على سبيل المثال، يمكن أن يتضمن قانون العدالة الانتقالية أحقيتهم بالاستعانة بتقارير منظمات”، لافتةً إلى أن “الاستفادة من لجان التحقيق الدولية المستقلة منذ 2011 تُسرّع من مسار العدالة الانتقالية، وتُغني عن بدء التحقيقات من الصفر”.

يجب على الحكومة عدم التمييز بين الضحايا

في ظل توجه السلطات إلى دفن جثث الضحايا دون مراسم أو توثيق للهويات، تبرز الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات تضمن حقوق عائلاتهم في الوصول إلى الحقيقة، وتحقيق العدالة، وجبر الضرر. وتتزايد أهمية هذه الإجراءات في سياق تغيب فيه الشفافية، فضلًا عن ضبابية آليات المساءلة الرسمية.

في تعليقه على هذا السؤال، لفت مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في بداية حديثه لـ”الترا سوريا”، إلى أن تقرير الشبكة يتقاطع مع تقرير منظمة العفو الدولية في بعض النقاط، بما في ذلك مقتل مسلحين بعد نزع سلاحهم، مؤكدًا أن النتائج التي خلصت إليها الشبكة “متشابهة بشكل كبير جدًا” مع نتائج تقرير العفو الدولية.

وقالت الشبكة الحقوقية في تقريرها إن مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق نفذت هجمات منسقة على مواقع أمنية للحكومة الانتقالية في الساحل السوري، أسفرت عن سقوط قتلى في صفوف المدنين وعناصر الأمن العام، ما دفع القوات الحكومية إلى الرد بعملية أمنية موسّعة لملاحقة المهاجمين، شاركت فيها قوات رسمية وفصائل محلية مدنية وتنظيمات أجنبية. سرعان ما تحولت العمليات إلى مواجهات عنيفة اتسمت بالانتقام والطائفية، كان للفصائل الحكومية أو الموالية لها الدور الأبرز في ارتكابها.

لكن عبد الغني يشير إلى أنه يختلف مع توصيف منظمة العفو الدولية لأحداث الساحل الدامية على أنها “ترقى إلى جرائم حرب”، موضحًا أن ما حدث هو “نزاع داخلي بين فلول النظام والحكومة الانتقالية”. ويستدرك قائلاً: “يجب أن نُمعن النظر في طريقة ربط هيكلية فلول نظام الأسد بالأسد نفسه”.

يلخص مدير الشبكة الحقوقية هذه النقطة في جانبين: أولهما أنه لا يرى وجود أي ارتباط فعلي بين تلك الفلول ونظام الأسد، مؤكدًا أن هذه الفلول “عبّرت عن استيائها وكرهها للنظام”، مشيرًا إلى أنها “لا تتبع تنظيميًا لنظام الأسد، وبالتالي فهذا لا يُعد استمرارًا للنزاع”.

ويؤكد عبد الغني في الجانب الثاني أن فلول النظام “لم يسيطروا على منطقة جغرافية لفترة زمنية معتبرة، أو تخرج عن سيطرة الدولة”، موضحًا أنه “لا توجد هيكلية واضحة لمجموعات الفلول حتى يُصنَّف ما جرى كنزاع مسلح داخلي”. وعلى هذا الأساس، يرى أن “الفصائل ارتكبت جرائم قتل خارج نطاق القانون، لكنها لا ترقى إلى جرائم حرب، بل تُعد انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان”.

ولضمان العدالة لجميع الضحايا، يشدد عبد الغني في نهاية حديثه لـ”الترا سوريا” على ضرورة “عدم التمييز بين الضحايا، سواء من قُتلوا على يد فلول النظام أو قوات وفصائل موالية للحكومة”، مؤكدًا “أهمية محاسبة جميع المرتكبين بمحاكمات عادلة وتجريد الرسميين من رتبهم، مع إطلاق حوار مجتمعي يؤسس للسلم الأهلي ويرمم آثار الانتهاكات”.

———————————–

========================

الحكومة السورية الانتقالية: المهام، السير الذاتية للوزراء، مقالات وتحليلات تحديث 08 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

تشكيل الحكومة السورية الجديدة

——————————-

ما هي «الأمانة العامة للشؤون السياسية» السورية؟/ حسام جزماتي

غموض الهيكلية والتبعية، ومسؤوليات بلا ضفاف

08-04-2025

        في خطوة فاجأت الكثيرين، أصدرت وزارة الخارجية في دمشق، في السابع والعشرين من آذار(مارس) الفائت، قراراً بإحداث «الأمانة العامة للشؤون السياسية»، كقسم جديد ضمن هيكليتها، يتولى الإشراف على إدارة النشاطات والفعاليات السياسية في البلاد، والمشاركة في صياغة ورسم الخطط العامة في الشأن السياسي، والعمل على إعادة توظيف أصول حزب البعث، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ولجان منحلة بما يخدم المهام والمسؤوليات السياسية والوطنية. كما نص القرار الموقّع من الوزير المسؤول أسعد الشيباني.

        يأتي استغراب الخطوة من أن المهام المذكورة ليست من اختصاص وزارة الخارجية. وفي المقابل يرجع تفسيرها إلى أن الجهة المذكورة مرتبطة، منذ تأسيسها، بالشيباني شخصياً حين كان يعمل باسم مستعار هو زيد العطار (أبو عائشة). ومن هنا جاءت تبعيتها لوزارته دون اهتمام بالحدود بين الدبلوماسية الخارجية والسياسة الداخلية.

        لكن القرار لم يأتِ بجديد في نظر من يتابعون نشاط هذه الهيئة منذ الأيام الأولى لمعركة «ردع العدوان» وصولاً إلى سقوط النظام صباح الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024. فقد لعبت «إدارة الشؤون السياسية»، وهو اسمها في السنوات الماضية، دوراً مفصلياً في تأمين تغطية خارجية ومحلية للمعركة عبر بياناتها منذ أن واكبت دخول قوات «إدارة العمليات العسكرية» مدينة حلب ووقوفها في مواجهة معطيين سكانيين لهما بُعدان سياسيان، هما المسيحيون والأكراد. ثم أتى دور الشيعة في بعض الريف الحلبي، والإسماعيليين في مدينة سلمية، والعلويين بدءاً من ريف حماة. لكن الأهم كان لقاء الشيباني بالروس في مهمة حاسمة لإقناعهم بالتخلي عن دعم بشار الأسد لأن المعركة لا تستهدفهم ولن تضر مصالحهم في سورية. وتبعه دور مماثل لعبه في دمشق، إثر تحريرها مباشرة، بتطمين السفراء والبعثات الأجنبية إلى أن الحكم الجديد باحثٌ عن السلام مع الجميع والتعاون معهم. جنباً إلى جنب مع إصدار بيانات متلاحقة نحو كل الأطراف؛ بدءاً من دول الجوار، كالعراق ولبنان والأردن، وحتى المجتمع الدولي.

        أما داخلياً فقد أتيحت الفرصة، التي لم تكن نتيجتها طيبة على كل حال، لاثنين من قيادات هذه الإدارة هما المتحدث الرسمي السابق باسمها عبيدة الأرناؤوط، ومديرة مكتب المرأة فيها عائشة الدبس؛ أن يخاطبا السوريين في لقاءات مصورة. بينما سارع زملاؤهما إلى شغل مناصبهم المحلية بعد أن أعلنت الإدارة عن تعيين ممثلين لها في محافظات: دمشق وريفها؛ وحلب، واللاذقية وطرطوس، وحمص، وحماة، ودرعا (مع القنيطرة والسويداء)، ودير الزور (مع الرقة والحسكة)، وإدلب.

        منذ الأسابيع الأولى لسقوط النظام وضع كل من هؤلاء يده على مبنى فرع حزب البعث في المدينة المكلّف بها وبدأ بتكوين المكاتب. وبالنظر إلى طبيعة التوسع المفاجئ للإدارة، وانشغال رئيسها الشيباني بالسفر، مع محافظته على ميله إلى الإمساك بالقرار؛ شهد تشكيل الفروع قدراً كبيراً من الارتجال والاجتهاد مع الغموض الكبير في حدود مهامها حتى في أذهان ممثليها، والتوظيف السريع لكوادر من طلاب «كلية العلوم السياسية والإعلام» بجامعة إدلب وسواهم. حتى استقرت أخيراً في «أمانة» يقودها مجلس يتكوّن من مدراء الشؤون السياسية في المحافظات.

        صورة حديثة لفرع حزب البعث في مدينة درعا بعد تحويله إلى مكتب تابع لإدارة الشؤون السياسية.

        وفي كل مديرية نوعان من المكاتب؛ الأول فرعي يمتد إلى المدن الثانوية الكبيرة في المحافظة، والثاني مكاتب مركزية ستة في مقر الإدارة. هي مكتب الشباب الذي يبدو بديلاً عن منظمات الطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة المنحلة، ويهدف إلى «تجهيز الشباب للدخول إلى عالم السياسة». ومكتب شؤون المرأة الذي «يعنى بالمجال الحقوقي والاجتماعي والثقافي والسياسي للمرأة السورية». ومكتب التعاون النقابي الذي ينظم عمل النقابات كما اتضح من القرارات المعلنة لنقابة المحامين بحل مجالس الفروع الموروثة عن نظام الأسد وتشكيل مجالس بديلة «بناء على تكليف الإدارة السياسية» وفق ما نصت القرارات. ومكتب الفعاليات الذي يوافق على الأنشطة العامة بعد تحديد مدى توافقها مع «قيم المجتمع» كما يراها. ومكتب التنمية المجتمعية الذي ينظم ندوات حوارية حول القوانين مثلاً، ويرفع توصياته لوزارة العدل. ويعمل على مكافحة العادات السيئة «كالتدخين وشرب الكحول وتهوّر سائقي الدراجات النارية». ومكتب شؤون الطوائف الذي لعب دوراً هاماً في إدارة شؤون المسيحيين والدروز في إدلب أصلاً، وما يزال يتابع مهامه. كما يضم كل فرع مقهى ثقافياً.

        أمكن جمع هذه المعلومات من المصادر المفتوحة ومن شهادات من وقعت نشاطاتهم تحت دائرة اشتغال «الأمانة العامة للشؤون السياسية» التي لم تعلن، حتى الآن، هيكلية واضحة، فلم تنشئ موقعاً إلكترونياً ولا حتى قناة على تلغرام.

        فضلاً عن الارتداء الدائم الخانق للبدلة الغربية وربطة العنق والابتسامة، يعاني المسؤولون الجدد في «الشؤون السياسية» من مصاعب التأسيس وتداخل المهام. ولا سيما قبل الإعلان عن الحكومة الانتقالية، في 29 آذار(مارس) الفائت، التي حملت أعباء الثقافة والسياحة والرياضة بتكليفها وزراء مختصين بهذه الحقائب، بعد أن كان كثير من هذه النشاطات يدخل ضمن مسؤوليات بلا ضفاف وجد ممثلو «الشؤون السياسية» أنفسهم أمامها حين أُرسِلوا إلى المحافظات، بالتوازي مع تعيين محافظ ومدير للأمن وقائد شرطة في كل منها. وظلت مهام الممثل، الذي يبدو للمراقبين كأنه حل محل أمين الفرع في سلطة البعث، تتراوح بين رعاية المناسبات واستقبال الزوار لملء المساحة بين المجتمع وبين السلطات المحلية بوساطة تشغل مكان المجتمع المدني، وبين ضبط التعبيرات السياسية للسكان والفاعلين بما أن تشكيل الأحزاب ما يزال «مبكراً» كما ترى السلطة الجديدة في العاصمة، والتي منحت نفسها أعواماً خمسة لمرحلة انتقالية.

        منذ عدة سنوات ظهرت «إدارة الشؤون السياسية» كجسم هامشي غامض ظل لوقت طويل مرتبطاً بأبي محمد الجولاني (أحمد الشرع) مباشرة كقناة خارجية خاصة دون أن يكون لها موقع رسمي في جماعته «هيئة تحرير الشام». وفي منتصف 2024 أُعلِن عن تأسيسها «المديرية العامة للشؤون السياسية» في «حكومة الإنقاذ السورية» العاملة وقتئذ في إدلب، بهدف «رفع الوعي السياسي والفكري لدى الكوادر الحكومية» ومهام أخرى.

        وفي البداية لم يُعرف من موظفيها سوى زيد العطار، الذي كان يكلّف بعض المساعدين الشبان بتأمين إقامة وتنقلات الضيوف الأجانب، من صحافيين وباحثين وسواهم، الذين يصحبهم أو يرسلهم إلى المنطقة. ومع توسع نشاطاتها قليلاً أبرزت هذه الإدارة اسم عبيدة الأرناؤوط، ممثلها الحالي في حمص، كمتحدث رسمي، وسعد نعسان، ممثلها الآن في حلب، لإدارة «دار الثقافة والمعارف» التي فخرت بتنظيم معرض إدلب للكتاب في أيلول (سبتمبر) من عام 2024. وهو أبرز النشاطات التي كان الشيباني يستفيد منها لتقديم صورة مختلفة عن المنطقة، وتسويق «نموذج إدلب» الذي تحاول المجموعة الآن نقل ما يمكنها منه إلى دمشق.

موقع الجمهورية

—————————-

ثلاثة تحديات تواجه الدولة السورية/ بشير البكر

الإثنين 2025/04/07

مرت أربعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، وسيطرة الفصائل العسكرية بقيادة “هيئة تحرير الشام” على السلطة في العاصمة، وعدة مدن سورية أخرى، ولم تتمكن من استعادة أجزاء مهمة من التراب السوري، في الشرق والجنوب، في محافظات الجزيرة (الرقة، دير الزور، الحسكة) ودرعا والسويداء. وتبين خلال الحقبة الماضية أن هذه المهمة ليست سهلة، بل هي معقدة، وذات كلفة مختلفة من مكان لآخر.

أربعة أشهر ليست مهلة كافية للحكم على أداء القيادة السورية الجديدة، التي تولت السلطة استنادا إلى مقولتي “الشرعية الثورية”، و”من يحرر يقرر”، وظل التريث سيد الموقف إلى حين إعلان تشكيلة الحكومة السورية في نهاية الشهر الماضي. ومن هذا التاريخ وصاعدا بات الباب مفتوحا أمام الذين صمتوا طيلة المدّة الماضية، كي يمنحوا للسلطة فرصة كافية كي ترتب وضعها، وتعلن عن خططها وتوجهاتها.

صار واضحا شكل نظام الحكم خلال المرحلة الانتقالية، التي يبدو أن الرأي استقر على أن تكون مدتها خمسة أعوام، وتكفي قراءة سيرة وزراء الحكومة، لتشكيل صورة شبه وافيه حول الطريقة التي ستدار بها سوريا، حتى نهاية المرحلة الانتقالية على الأقل، وربما لبعدها، طالما أن الذي يقرر هو، الطرف الذي يمتلك القوة العسكرية على الأرض.

تشكيل الحكومة هو الخطوة الأولى نحو تفعيل الدولة، التي تعطلت بسقوط النظام، وكانت مدّة الشهور الأربعة الماضية بمثابة تصريف أعمال، ومحاولة لبناء جسر نحو المرحلة الانتقالية، التي من المقرر أن تشهد إعادة بناء مؤسسات الدولة، التي بقيت لما يزيد عن نصف قرن دولة عائلة الأسد، بمواصفات سياسية وأمنية واقتصادية، تضمن للعائلة الحكم إلى الأبد. والأمر المنشود اليوم هو، أن يتم تأسيس الدولة من جديد، على غير الأسس والوظائف والعلاقات بين الحاكمين، في زمن عائلة الأسد، وعلى نحو خاص جهاز الحكومة، وأنظمة عمل السلطات الإدارية والتنفيذية والقانونية.

تواجه هذه المهمة ثلاثة تحديات رئيسية. الأول هو السيادة، أن تكون سيادة القانون، وليس سيادة الحكام، وتصبح الدولة صاحبة الحق الحصري في ممارسة السلطة على الأرض والسكان داخل حدود ترابية، ويتجلى ذلك في حقها الحصري في التشريع واحتكار الممارسة الشرعية للعنف. ومن يمارس ذلك مؤسسات ليس من طرف واحد، بل على أساس العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. ولا يقتصر الأمر على سيادة القانون فقط، بل يتعداه إلى استقلال الدولة نحو الخارج، أي عدم وجود سلطة أخرى غيرها فوق الإقليم الترابي، بالإضافة إلى التكامل الترابي وتحقيق عملية التجانس الثقافي بين السكان، وردع العدوان الخارجي، وفي حال بلادنا تشكل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وعمليات قضم الأراضي، أبرز التحديات، وما لم تتمكن السلطة من ردع العدوان، فإن مشروع إعادة الدولة مهدد، أو انها سوف تكون دولة ضعيفة فاشلة.

التحدي الثاني هو المواطنة، التي هي رديف الحرية، وهذا يتطلب المساواة التي تقوم على فصل السلطات، ولا سيما سلطة القضاء، والفصل بين الدين والدولة، ومشاركة المواطنين في الشأن العام. وكي لا يبدو الأمر نظريا، فإن الأحداث الطائفية التي شهدها الساحل السوري قبل شهر تصلح لأن تكون درسا حقيقيا، لأنها كانت امتحانا فعليا لمسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، ليس فقط تأمين الحماية الجسدية لأرواح الأهالي وممتلكاتهم، وإنما للسلم الأهلي، بوصفه أساس التعايش بين المكونات المختلفة. فالمصلحة العامة في نهاية المطاف هي مجموع المصالح الخاصة. كما أن المواطنة تعني العضوية في الدولة، وليس في طائفة، أو جماعة دينية أو مناطقية، وهذا يتطلب المساواة في جميع الحقوق، السياسية والمدنية والاجتماعية، وعلى مر التاريخ لم تستحق الكيانات تسمية دول، إلا حينما جمعت بين الحاكمين والمحكومين، والمواطنون محكومون بوصفهم رعايا في دولة هم أعضاء فيها، وليسوا رعايا حاكم.

والتحدي الثالث هو، الفصل بين نظام الحكم، وبين الدولة التي تتشكل من مجموعة من المؤسسات، تعمل على تنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع. وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم سواء كان جمهوريا أم ملكيا، اشتراكيا أو رأسماليا، فالدولة كيان جامع بين مؤسسات الحكم والمواطنين، لا تختلف ولا تتأثر بذلك، وهذا أمر معمول به من خلال جملة من الثوابت في الدول الحديثة كافة، الجمهورية مثل فرنسا، والملكية مثل بريطانيا. وحينما يحصل تغيير وزاري في بلد من هذه البلدان، فإن الذين يغادرون هم الوزراء، وليس الحكومة، وهذا يتطلب في الحالة السورية مغادرة منطق من “يحرر يقرر”، الذي قد يصلح لفترة قصيرة، تفرضها ظروف عاجلة، وهذا يتطلب الفصل بين شرعية نظام الحكم، وشرعية الدولة، التي تقوم على بناء جهاز حكم ومؤسسات، تعمل بموجب أنظمة وقوانين، وهذا الذي يضمن استمرارية الدولة، على الرغم من تغيير الأنظمة السياسية، ما يفرض على السلطات السورية إعادة بعض أجهزة الدولة القديمة إلى العمل، ولا سيما ذات الطابع التقني كالشرطة، التي تحافظ على الأمن العام.

المدن

——————————-

الحكومة الانتقالية في سوريا… خطوة إلى الأمام أم أزمة جديدة؟/ حايد حايد

جهات سياسية أساسية لا تزال تعارض التشكيلة الجديدة

آخر تحديث 07 أبريل 2025

بعد ترقب طويل، أعلن الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، عن تشكيل حكومة انتقالية جديدة، وذلك بعد نحو أربعة أشهر على الإطاحة بنظام بشار الأسد. ويُعد تعيين وزراء شباب وضم عدد كبير من التكنوقراط والمستقلين من أصحاب الكفاءات تحولا ملحوظا مقارنة بالحكومة المؤقتة السابقة التي كانت خاضعة لـ”هيئة تحرير الشام”. ورغم أن تشكيل الحكومة لاقى ترحيبا من قبل الكثير، إلا أنه أثار في الوقت ذاته مخاوف، لا سيما فيما يتعلق بضعف تمثيل النساء والخلفيات المثيرة للجدل لبعض الوزراء.

وعلى الرغم من القبول الواسع نسبيا داخل سوريا وخارجها، فإن جهات سياسية أساسية لا تزال تعارض التشكيلة الجديدة. فقد رفضت القوى السياسية الكردية في الشمال الشرقي، إلى جانب المجلس العسكري في السويداء وجهات محلية أخرى في المحافظة، الحكومة بشكل قاطع، مشيرة إلى أنها خاضعة لسيطرة الدائرة المقربة من الشرع ولا تعكس تنوع سوريا أو تعدديتها السياسية. ويشكل هذا الرفض نكسة كبيرة للشرع، إذ يقوض التقدم الذي أحرزه مؤخرا في مساعي إدماج هذه المناطق ضمن إدارته. ومن دون التوصل إلى تسويات، ستتلقى جهود توحيد البلاد سلميا ضربة كبيرة، مما يزيد الانقسامات ويضاعف خطر الاضطرابات في المستقبل.

تفاؤل حذر

في يوم السبت الموافق 29 مارس/آذار الماضي، كُشف النقاب عن الحكومة الانتقالية المؤلفة من 23 وزيرا خلال حفل أُقيم في دمشق. وبينما احتفظت “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها بتسع وزارات، شغل بقية المناصب تكنوقراط مستقلون وشخصيات من المجتمع المدني، مما أضفى على التشكيلة مزيجا من الخبرة المهنية والتمثيل المجتمعي. ومن بين الأسماء البارزة، رائد الصالح، قائد منظمة “الخوذ البيضاء”، الذي عُين وزيرا لشؤون الطوارئ والكوارث، وهند قبوات، الناشطة المعارضة والمدافعة عن قضايا المجتمع المدني، التي تولت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.

وفي ظل الضغوط الدولية المتزايدة لتحقيق انتقال سياسي شامل، ضمّت الحكومة الجديدة أربعة وزراء من الأقليات السورية: مسيحي، درزي، كردي، وعلوي، من بينهم امرأة واحدة. وعلى الرغم من استمرار بعض المخاوف، قوبل هذا الإعلان بترحيب حذر من قبل المراقبين الدوليين والسوريين، فضلا عن المحللين والمواطنين، الذين اعتبروه خطوة ذات مغزى في مسار التحول السياسي في سوريا.

ورغم الإعلان عن الحكومة الانتقالية، سارعت جهات فاعلة رئيسة في السويداء وشمال شرقي سوريا، وهما المنطقتان الأساسيتان اللتان لا تزالان خارج نطاق إدارة الشرع، إلى رفض التشكيلة الجديدة فورا. فقد أعلنت الإدارة الذاتية بقيادة الأكراد في الشمال الشرقي، إلى جانب المجلس الوطني الكردي، وهما أبرز كتلتين سياسيتين كرديتين، أنهما لا تعترفان بشرعية أو صلاحية هذه الحكومة. وفي السويداء، عبّر مجلسها العسكري عن الرفض من خلال بيان رسمي، ويُقال إن هذا المجلس يضم عددا من الفصائل المسلحة ويتماشى مع موقف الزعيم الديني الدرزي البارز، حكمت الهجري.

ورغم أن هذه الجهات أعلنت معارضتها بصورة منفصلة، فإن المبررات التي استندت إليها جاءت متطابقة إلى حد كبير. إذ تكشف أحاديث خاصة مع مصادر قريبة من هذه الجماعات أن أبرز ما يثير استياءها هو عدم التشاور معها قبل تشكيل الحكومة. وترى هذه الأطراف أن غياب الحوار المسبق حول المشاركة والتمثيل يجعل من الحكومة الانتقالية كيانا لا يعكس حقيقة التنوع السوري ولا التعددية السياسية.

غياب التشاور

شددت المصادر على أن إدراج مسيحي ودرزي وكردي وعلوي في التشكيلة الحكومية يعكس، في نظرها، نهجا سطحيا يشبه ممارسات النظام السابق في تمثيل المكونات الدينية والإثنية. وأوضحت أن مجرد تعيين أفراد من هذه الجماعات لا يرقى إلى مستوى التمثيل الحقيقي، إذ لا توجد ضمانات بأن هؤلاء الوزراء سيمثلون مصالح وحقوق وتطلعات مجتمعاتهم استنادا إلى خلفيتهم فقط.

وفي استباق لهذه الانتقادات، تطرق الشرع إلى هذه المخاوف في خطاب ألقاه بمناسبة عيد الفطر، مؤكدا أن الحكومة صُممت لتعكس تنوع المجتمع السوري، مع رفض صريح لفكرة المحاصصة الطائفية أو الإثنية. وأشار إلى أن اختيار الوزراء جرى بناء على الكفاءة والخبرة، دون اعتبار للانتماءات الأيديولوجية أو السياسية، وأن الهدف الأساسي من التشكيل هو إعادة بناء الدولة. كما أقر بأن عملية التشكيل خضعت لمراجعة دقيقة، لكنه اعترف بأن من الصعب إرضاء الجميع.

مخاوف مشتركة

رغم أن الانتقادات المتعلقة بغياب التشاور لم تلقَ صدى واسعا خارج الأوساط المعارضة في السويداء وشمال شرقي سوريا، فإن بعض المخاوف الأخرى التي طرحتها تلك الجهات تتقاطع مع هواجس سكان مناطق مختلفة من البلاد. من أبرز هذه القضايا ضعف تمثيل النساء في الحكومة الانتقالية، وهو ما لا يعكس تطلعات شريحة واسعة من السوريين، رجالا ونساء على حد سواء. إذ لم تضم الحكومة سوى وزيرة واحدة، ما يسلّط الضوء على فجوة واضحة في التمثيل الجندري.

وتبرز أيضا مخاوف أساسية بشأن هيمنة “هيئة تحرير الشام” وحكومتها (الإنقاذ)، التي تسيطر على تسع وزارات، من ضمنها وزارات سيادية بالغة الأهمية مثل الدفاع والخارجية والداخلية والعدل. كما أثارت خلفيات بعض الوزراء المعينين قلقا بالغا، وعلى رأسهم وزير العدل مظهر الويس، الذي لا يحمل مؤهلا قانونيا رسميا، ويُعرف بانتمائه الأيديولوجي “السلفي”، ما أثار مخاوف من احتمال تغليب الفقه الديني على مبادئ الحقوق القانونية.

كما أثار تعيين أنس خطّاب وزيرا للداخلية موجة عارمة من الانتقادات، بسبب توليه سابقا رئاسة جهاز الأمن العام التابع لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، وهو الجهاز الذي وُجهت إليه اتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتزداد حدة الانتقادات نظرا لكون خطّاب مدرجا على قوائم الإرهاب الأميركية منذ عام 2012، وعلى قوائم الأمم المتحدة منذ عام 2014، ما من شأنه أن يعقّد بشكل بالغ جهود الحكومة في المجال الدبلوماسي ويقيّد قدرة وزارة الداخلية على التعاون مع الشركاء الدوليين.

وتأتي حدة الخطاب المتصاعد ضد الحكومة الجديدة في توقيت بالغ الحساسية، تزامنا مع توقيع اتفاقيات واعدة مع جهات فاعلة رئيسة في شمال شرقي سوريا والسويداء، كانت قد بعثت الأمل بإمكانية السير في مسار سلمي نحو تحقيق الوحدة الوطنية.

ففي 10 مارس/آذار، وقّع الشرع اتفاقا مع الإدارة الذاتية يقضي بدمج جميع المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إطار إدارة الدولة السورية. كما أُعلن عن اتفاق مماثل مع ممثلين عن الطائفة الدرزية في السويداء، بهدف إدماج المحافظة في مؤسسات الدولة.

غير أن نجاح هذين الاتفاقين مرهون بحل قضايا أساسية، في مقدمتها مطلب الإبقاء على الاستقلال العسكري والإداري في تلك المناطق، وهو ما ترفضه دمشق بشدة. ويُرجَّح أن يؤدي رفض الحكومة الجديدة وما أثاره من توتر إلى تعقيد مسار التفاوض بشكل إضافي. ومع تعاظم هذه التحديات، قد يصبح التوصل إلى اتفاق نهائي مشروطا بإجراء تعديل وزاري، أو حتى تشكيل حكومة جديدة بالكامل، وهو ما سيسعى الشرع على الأرجح لتجنّبه.

ولا يمكن التقليل من خطورة الموقف. فـ”قوات سوريا الديمقراطية” تسيطر على ما يُقدّر بنحو 100 ألف مقاتل مدرّب ومجهز جيدا، ما يجعلها القوة العسكرية الأكبر خارج سيطرة الدولة. كما أن سيطرتها على أغنى المناطق السورية بالموارد تشكّل فرصة حيوية لإنعاش الاقتصاد المنهك، إذا ما نجحت جهود إعادة الدمج. أما في حال فشل التسوية السياسية، فقد تنزلق البلاد مجددا إلى صراع مسلح، وهو سيناريو ستكون تبعاته كارثية على جميع الأطراف.

ورغم أن السويداء تفتقر إلى القوة العسكرية التي تتمتع بها “قوات سوريا الديمقراطية،” فإن العوامل الخارجية تُضفي على المشهد بُعدا إضافيا من التقلبات. فإسرائيل، التي لها مصلحة واضحة في إبقاء سوريا مقسّمة وحكومتها ضعيفة، قد تبادر، في حال اندلاع مواجهة، إلى تقديم الحماية للسويداء، سواء طلب سكانها ذلك أم لا. ومثل هذا السيناريو لن يؤدي فقط إلى زعزعة استقرار البلاد، بل قد يعيد رسم خارطة التحالفات الإقليمية ويُطلق شرارة تحولات جيوسياسية يصعب التنبؤ بها.

في لحظة مفصلية كهذه، حيث يتحدد مصير سوريا، فإن المضي قدما يتطلّب قدرا كبيرا من الصبر، والدبلوماسية، وتقديم التنازلات المتبادلة. أما البديل، وهو مزيد من الانقسام، وعدم الاستقرار، أو حتى اندلاع حرب مفتوحة، فمن شأنه أن يُبدد كل ما تحقق من خطوات نحو سوريا موحدة وذات سيادة. لقد آن أوان القيادة الواقعية، لا المغامرات المتهورة.

المجلة

—————————–

اختراع سوريا الجديدة/ مصطفى إبراهيم المصطفى

2025.04.07

يشير مفهوم الوطن إلى وجود ارتباط جماعي بإقليم معين، وما يتراكم على ذلك من عنصر ضميري يتمثل في أن هذا الإقليم دار الآباء والأجداد، فالجماعات الإنسانية حينما راحت تتجه إلى الاستقرار في بقاع معينة من الأرض ارتبطت بأقاليم جغرافية محددة ارتباطاً شديدا تبعا لما تقدمه هذه الأقاليم من موارد طبيعية تمكنها من الاستقرار. من هنا، لاحظ بعض الدارسين أن الأقاليم أو البلدان التي تحل بها الكوارث، أو ينعدم فيها الأمان، أو تصبح مواردها شحيحة لا تعود محببة لساكنيها. بمعنى أن مستوى الوطنية ينخفض لدى سكان بعض البلدان.

الوطنية والاستبداد

رغم أن الشعوب اعتادت – بالعموم – أن تراكم في ثقافاتها عبارات وشعارات توحي بحب الوطن والوطنية، إلا أن ذلك قد يكون اعتيادا أو تلقينا لا يعكس الواقع في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى يستخدم مفهوم الوطنية (من حب الوطن) كأسلوب للمزاودة أو القهر، ففي الأنظمة الاستبدادية – على سبيل المثال – تحتكر سلطة الاستبداد التي تحرق الوطن جهارا نهارا صفة الوطنية وتقوم بتوزيع نياشين الوطنية للأكثر ولاء لها. أي، لأولئك الذين يشاركونها وليمة نهش جثمان الوطن، ويجعلون من تعاملها مع الوطن كغنيمة أو كمزرعة سلوكا طبيعيا من خلال تلك المشاركة. وعلى المقلب الآخر تجد المواطن يشتم البلد كلما صادفه موقف مزعج، ففي شوارع المدن السورية – قبل الثورة – يكاد لا يمر يوم لا تسمع فيه شتيمة للبلد تأتي على لسان شخص غاضب. أما بعد الثورة وما تسببت به الأحداث الدامية من هجرة كثير من السوريين، نجد أن كثيراً من هؤلاء المهاجرين يعبر عن عدم رغبته بالعودة إلى أرض الوطن رغم سقوط النظام الذي تسبب بهجرتهم، ورغم أن الوطن في مفرداتهم جنة الله في الأرض.

سوريا ليست كما نتصور

إن سوريا على حقيقتها ليست كما نتصور، لكنها تماما كما صورها “رايموند هينبوش” بقوله: “لقد قرر الموقع الجغرافي لسوريا قدرها التاريخي. إن كونها جسرا بريا بين قارات ثلاث ووقوعها وسط الصحراء والسهوب قد عرضها لتحركات أعراق متعددة ولغزوات القبائل البدوية، والتي ولدت (التنقلات والغزوات) تعددية ثقافية اجتماعية. إن التركيبة الجغرافية المعقدة لسوريا شكلت أساسا بيئيا لتعددية اقتصادية اجتماعية عززت بدورها الاختلاف الثقافي. هذه التعددية، والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة، ولم تولد نظاما شاملا موحدا ينتج قوى مكافئة تشاركية. كما أن سوريا، التي كانت جائزة تنازعتها الإمبراطوريات المتنافسة، وربما بسبب موقعها المكشوف، لم تشهد عبر التاريخ قيام دولة متأصلة قادرة على توحيد مجتمع كهذا ينزع إلى الابتعاد عن المركز.

تاريخ سياسي مزور

وليس الواقع الاجتماعي والثقافي وحده ما يحاول السوريون غض الطرف عنه أو تجاهله، إنما يمتد الأمر إلى التاريخ السياسي المعاصر لهذا البلد حديث النشأة، إذ لطالما تغنى السوريون بالمرحلة التي تلت الاستقلال، فمن المعروف أن النظام السياسي الذي ساد في سوريا منذ أوائل الأربعينيات أنه نظام برلماني ديمقراطي، لكن الواقع يشير إلى أن الصورة لم تكن وردية كما يحاول بعضهم تصويرها من خلال استحضار بعض الصور التي تعكس بيئة حضارية في بعض المدن الكبيرة، أو استحضار بعض التصريحات أو بعض المواقف لساسة ذلك الزمان، إذ تشير الحقائق والوقائع إلى أن الفئات التي وقفت وراء ذلك النظام ودعمته كانت من الفئات البرجوازية المطعمة ببقايا الإقطاع والملاكين العقاريين، وهؤلاء على حد تعبير المناضل الكبير عبد البر عيون السود نظروا إلى تحقيق الاستقلال وكأنه نهاية المطاف، فانصرفوا إلى قطف الثمار متناسين نضال الشعب السوري من أجله طوال ربع قرن. وهكذا، لم تكن هذه الطبقة السياسية قادرة على تحمل أعباء المرحلة الجديدة المضطربة، وهو ما أدى إلى النقمة عليها، والإطاحة بها فيما بعد دونما اعتراض شعبي يذكر.

سوريا المستقبل

ما سبق مجرد ادعاء أن الوزير الدكتور نضال الشعار أحد أعضاء الوزارة السورية الجديدة أراد أن يقوله تلميحا، ففي لقاء مع إحدى المحطات التلفزيونية اعترض الوزير الشعار على مصطلحات اعتبرها كلاسيكية مثل: إعادة إعمار سوريا، وإعادة إنتاج سوريا مرة أخرى، وقال تعقيبا على ذلك: نحن أمام فرصة “اختراع سوريا جديدة”. نحن الآن نفكر بسوريا جديدة من دون العناصر التي كانت تتحكم بها في السابق، فإعادة إنتاج سوريا تعني إنتاج شيء قديم متعب ومنهك، ولكن يجب التفكير مرة أخرى بأن سوريا هي دولة وليدة حاليا، ونحن أمام فرصة تاريخية بأن نرتب هذه الدولة كما نراه مناسبا للشعب السوري. وبالتالي، أنا أتمنى من السوريين أن يبدؤوا باستخدام تعبير “اختراع سوريا الجديدة” التي ستكون مختلفة عن سوريا الماضي. إنها سوريا الدولة المسالمة الصديقة المتطورة التكنولوجية. سوريا التي تزهو بأبنائها وبخبرات أبنائها. هذه سوريا التي نحلم بها. هذا ما قاله الوزير، وذاك ما ظننا أنه يرمي إليه، إذ لا يوجد في سوريا ما نحبذ العودة إليه، أو ما نفضل الإبقاء عليه.

إن ما جاء في كلام الوزير الشعار دعوة لبناء بلد. دعوة لانخراط الجميع في ورشة عمل مهمتها بناء علاقات اجتماعية جديدة، واقتصاد جديد، وثقافة جديدة، وباختصار شديد: هي دعوة لممارسة الوطنية والإحساس بحب الوطن كما يجب أن يكون، لا كما كان مجرد شعارات مفرغة من أي محتوى حسي أو روحي.

تلفزيون سوريا

———————————

وزارة العدل السورية تثير الجدل: من شادي الويسي إلى مظهر الويس/ أحمد زكريّا

8 أبريل 2025

ما إن أعلن الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع عن تشكيلته الوزارية الجديدة، حتى فُتح الباب أمام نقاش حاد وجدل واسع في الأوساط السياسية والحقوقية.

التشكيلة التي تضمنت وزيرة امرأة واحدة، وحرصت على توزيع الحقائب الوزارية على ممثلي الطوائف والأقليات من دروز وأكراد ومسيحيين وعلويين، جاءت بلا منصب رئيس وزراء، مع استحداث وزارات جديدة. لكن الضوء الأكبر سلط على منصب وزير العدل، الذي انتقل من شادي الويسي إلى مظهر الويس، في خطوة أثارت تباينًا كبيرًا في الآراء، وأعادت إلى الواجهة تساؤلات حول مستقبل العدالة في سوريا، وحول قدرة الحكومة على بناء قضاء مستقل يلبي متطلبات مرحلة ما بعد الصراع.

تتزامن هذه التشكيلة مع زيارات متلاحقة لموفدين دوليين إلى العاصمة السورية دمشق، يحملون رسائل واضحة تؤكد ضرورة أن تكون العملية السياسية في سوريا شاملة، وتضمن احترام الحقوق المدنية والحريات الأساسية.

ورغم أن الشرع حاول تقديم صورة للتوازن عبر توزيع الحقائب، إلا أن تعيين مظهر الويس، الشرعي البارز في “هيئة تحرير الشام”، خلفًا لشادي الويسي، أثار موجة من الانتقادات. ففي وقت تحتاج فيه سوريا إلى مؤسسات قوية تحظى بثقة المجتمع المحلي والدولي، يرى مراقبون أن هذه الخطوة قد تعكس استمرارًا لسيطرة الفصائل على المشهد، بدلًا من الانتقال نحو عدالة حقيقية.

مظهر الويس: من الطب إلى القضاء الشرعي

مظهر الويس، الذي يمتلك خلفية أكاديمية في الطب البشري من جامعة دمشق، تحول لاحقًا إلى دراسة الفقه المقارن في معهد الفتح الإسلامي، ليبدأ مسيرة مختلفة تمامًا عن تخصصه الأصلي.

وفي عام 2008، اعتقلته الأجهزة الأمنية السورية، فرع فلسطين 235، ليقضي سنوات في سجن صيدنايا، حيث شارك في ثلاث استعصاءات نفذها سجناء إسلاميون، في تجربة عززت من صورته كشخصية مقاومة.

أُطلق سراحه في نيسان/أبريل 2013، ليتولى بعدها رئاسة الهيئة الشرعية في المنطقة الشرقية، حيث عمل على تنشيط مكاتبها عقب انفصال “جبهة النصرة” عن “داعش” في حزيران/يونيو 2013، ولاحقًا، انضم إلى مجلس شورى أهل العلم في الشام كعضو مؤسس، وبرز كأحد الشرعيين الرئيسيين في “هيئة تحرير الشام” منذ تأسيسها في كانون الثاني/يناير 2017.

وظهر الويس في مقاطع مصورة إلى جانب شخصيات بارزة مثل مصلح العلياني وعبد الله المحيسني، كما تولى مناصب عليا في وزارة العدل بحكومة “الإنقاذ” المدعومة من الهيئة، أبرزها رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، مما جعله شخصية مؤثرة في الأوساط الشرعية، لكن غير قانونية بالمعنى التقليدي.

شادي الويسي: من التعليم إلى الإعدامات المثيرة للجدل

في المقابل، يتمتع شادي الويسي، المولود في حلب عام 1985، بخلفية أكاديمية شرعية، حيث حصل على إجازة في الشريعة الإسلامية ودبلوم تأهيل تربوي، ويعكف حاليًا على إعداد رسالة ماجستير في الدراسات القضائية.

بدأ مسيرته مدرسًا للتربية الإسلامية وإمامًا في حلب لسبع سنوات، قبل أن يتحول إلى القضاء الشرعي مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وشارك في تأسيس الهيئة الشرعية في حي ضهرة عواد بحلب، وتدرج في مناصب مثل قاضي جزاء عسكري، ثم قاضي استئناف، وصولًا إلى النائب العام في الهيئة الشرعية الرباعية التي أُسست في تشرين الثاني/نوفمبر 2012.

ترأس محاكم شرعية عدة، مثل “سلقين” و”حريتان”، وفي حكومة “الإنقاذ” بإدلب، شغل مناصب بارزة، منها رئيس محكمة الاستئناف وعضو المجلس الأعلى للقضاء، قبل أن يتولى وزارة العدل في دورتها السادسة عام 2023.

وفي كانون الأول/ديسمبر 2024، كُلف بحقيبة العدل في حكومة تصريف الأعمال، لكنه سرعان ما واجه عاصفة من الانتقادات بعد انتشار فيديوهات تظهره أثناء إشرافه على إعدام سيدتين عام 2015، ما أدى إلى مطالبات بإقالته في كانون الثاني/يناير 2025.

ردود الفعل الحقوقية: مخاوف من تراجع العدالة

وأثارت هذه التعيينات موجة من ردود الفعل الحقوقية، حيث يرى المحامون والناشطون أن اختيار شخصيات مثل الويس والويسي قد يعكس استمرارًا للنهج الفصائلي، بدلًا من الانتقال نحو قضاء مستقل يحقق المصالحة الوطنية، إذ لم يقتصر الجدل على خلفيات الوزراء الأكاديمية، بل امتد إلى تاريخهما السياسي والقضائي، ومدى تأثيره على ثقة السوريين في المؤسسات الجديدة.

المحامي المعتصم الكيلاني، المحامي المتخصص في القانون الدولي، قال في تصريحات لـ”الترا سوريا”، إن “إثارة الجدل حول وزارة العدل ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة عوامل متراكمة: أولًا، الخلفيات المهنية للوزراء، مثل شادي الويسي ومظهر الويس، تفتقر إلى التخصص القانوني الذي يؤهلهما لإدارة منظومة عدلية تواجه تحديات معقدة كالمحاسبة على جرائم الحرب، إذ إن الويس، كطبيب تحول إلى شرعي، لا يملك الخبرة القانونية الرسمية، بينما الويسي، رغم دراسته الشرعية، ارتبط بممارسات مثيرة للجدل كالإعدامات”.

وأضاف: “ثانيًا، ارتباطهما السابق بفصائل مثل هيئة تحرير الشام يثير مخاوف من تحويل الوزارة إلى أداة لتصفية الحسابات، بدلًا من بناء جسور المصالحة. وثالثًا، التأثير السياسي والهيمنة الفصائلية على التعيينات يوحي بأن القرار جاء نتيجة توازنات القوى، وليس استنادًا إلى الكفاءة، وهو ما يضرب مصداقية الوزارة في وقت تحتاج فيه سوريا إلى ثقة واسعة لإعادة بناء مؤسساتها”.

من جهته، يقدم المستشار القانوني المحامي علي رشيد الحسن، رؤية مقارنة قائلًا في تصريحات لـ”الترا سوريا”: “في دول مثل ألمانيا أو فرنسا، قد يُعين وزراء عدل بلا خلفية قانونية، لكن هذا ينجح بفضل قوة المؤسسات واستقلالية القضاء. في سوريا، حيث يعاني القضاء من ضعف هيكلي وتاريخ من الهيمنة التنفيذية، يصبح تعيين شخصيات مثل مظهر الويس، ذات الخلفية الشرعية والفصائلية، مخاطرة كبيرة، والمشكلة ليست فقط في غياب التخصص القانوني، بل في السؤال الأعمق: هل يلتزم هؤلاء الوزراء بمبادئ العدالة وسيادة القانون؟ إذا كان الوزير محسوبًا على فصيل معين، فكيف يمكن أن يضمن حيادية القضاء في بلد مزقته الطائفية والصراعات؟”.

تحديات العدالة الانتقالية: هل تلبي التعيينات المتطلبات؟

في ظل الحاجة إلى عدالة انتقالية تضمن المحاسبة والمصالحة، يرى الحقوقيون أن تعيين مظهر الويس قد يكون خطوة إلى الوراء. وفي هذا الجانب، يوضح الكيلاني: “المرحلة الانتقالية تتطلب استقلالية قضائية ومهنية عالية لضمان حقوق الإنسان، وهو ما قد لا يتحقق مع الويس كونه طبيبًا وليس قانونيًا، يفتقر إلى الخلفية التي تمكنه من التعامل مع ملفات معقدة كجرائم الحرب، وعلاقاته السابقة بفصائل مسلحة تضع علامات استفهام حوله، وقد يُنظر إليه كممثل لأجندة فصائلية بدلًا من صوت لجميع السوريين، خاصة وأن العدالة الانتقالية تحتاج إلى شخصية تمتلك رؤية قانونية شاملة، بعيدة عن التحيزات، وهو ما يبدو غائبًا في هذا التعيين”.

من جهته، يرى الحسن أن: “سوريا تحتاج إلى وزير عدل يفهم القانون الدولي والدستوري، لا مجرد معرفة شرعية جزئية، إذ إن مظهر الويس، بغياب الخبرة القانونية وارتباطه بهيئة تحرير الشام، قد يعزز الانطباع بأن الوزارة ستظل أداة سياسية. العدالة الانتقالية عملية دقيقة تتطلب بناء ثقة المواطنين والمجتمع الدولي، وهذا يحتاج إلى شخصية ذات تاريخ نظيف من التحيزات الفصائلية، قادرة على وضع أسس لمصالحة وطنية حقيقية”.

التاريخ القضائي والسياسي: عائق أمام الثقة

يشكل تاريخ الوزيرين محورًا رئيسيًا في الجدل، وفي هذه النقطة يحذر الكيلاني قائلا: “شادي الويسي أثار جدلًا بسبب دوره في إعدامات 2015، وهي حادثة تكشف عن نهج قد يتعارض مع معايير العدالة الحديثة، وخلفيته الشرعية لا تعوض غياب التخصص القانوني، وتعيينه كان خطوة تراجعت عنها الحكومة تحت ضغط الرأي العام، أما مظهر الويس، فكونه طبيبًا ومرتبطًا بجماعات شرعية، يفاقم أزمة الثقة في القضاء، وبالتالي هذان الشخصان قد يعيقان بناء مؤسسة عدلية قوية، ويزيدان من المخاوف الحقوقية حول مستقبل المساءلة، خاصة في ظل الحاجة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات”.

ويتفق الحسن مع هذا التحليل، ويضيف: “تاريخ شادي الويسي في القضاء الشرعي وحادثة الإعدامات يثير تساؤلات عن التزامه بحقوق الإنسان، بينما مظهر الويس، بغياب الخلفية القانونية وارتباطه بفصائل، يعكس استمرارًا لنهج يهدد استقلال القضاء. هذا التاريخ قد يضعف المؤسساتية، ويؤخر إصلاح القضاء، ويثير قلق المجتمع الدولي من عودة دوامة الانتقام بدلًا من تحقيق العدالة الحقيقية”.

وبعد انتشار فيديوهات إعدامات 2015 التي تظهر شادي الويسي، دعت منظمات حقوقية إلى تحقيق عاجل، فيما أكد مسؤول رفيع في الإدارة السورية الجديدة لمنصة “تأكد” أن تلك الإجراءات كانت قانونية في سياقها الزمني، لكنها “تعكس مرحلة تجاوزتها سوريا”، حيث أعلنت الإدارة التزامها بمراجعة الأحكام السابقة لضمان توافقها مع معايير العدالة، مؤكدة سعيها لبناء دولة حديثة تحقق تطلعات السوريين.

رهان العدالة في زمن الانتقال

ومع تصاعد الجدل حول وزارة العدل، يبقى المستقبل غامضًا، فبينما يحذر حقوقيون من أن تعيين شخصيات مثل الويس والويسي قد يعيق بناء قضاء مستقل، يرى آخرون أن الفرصة لا تزال قائمة إذا صححت الحكومة مسارها باختيار كفاءات قانونية بعيدة عن التحيزات.

وفي بلد يسعى للخروج من أتون الصراع، تبقى العدالة الرهان الأكبر، والخطوات القادمة ستحدد ما إذا كانت هذه التعيينات بداية لإصلاح حقيقي أم استمرار للصراعات القديمة بثوب جديد.

—————————–

السيد وزير الثقافة السورية… تحية طيبة وبعد/ أحمد جاسم الحسين

2025.04.07

أوجّه إليكم هذه الرسالة، لأن معظم السوريين يعدّون الثقافة مجالهم الذي من حقهم أن يبدوا رأيهم فيه، وكذلك ينتظرون منها كثيراً. ليست الثقافة نظرية اقتصادية أو أمراً تقنياً، حتى يقولوا لا أعرف! على صعوبة أن يقول سوريّ: لا أعرف!

أمي كذلك تعدّ نفسها معنية بالثقافة السورية، وهي في المئة من عمرها حفظها الله، تنتظر وزير ثقافة سوري، ابن بلد، يشكل لجاناً لجمع التراث السوري اللامادي، قبل أن ترحل فترحل حكاياتها الشعبية معها. وما تلك الحكايات الشعبية إلا ذاكرتنا وألمنا وفرحنا منذ ولدت سوريا إلى يومنا هذا، ولها الحق في مثل هذا الأمل فقد أكلتْنا ثقافة الصمود والتصدي التي أصابها الصدأ، عبر أكثر من نصف قرن، لأنها كانت في معظمها كذباً وادعاء، وتزجية وقت للنظام الاستبدادي.

تبدأ حكايات أمي منذ أن دقوا لها الوشم (الدگ) على وجهها بسبع إبر مختلفة القياسات، من دون تخدير، حيث مُزج الحليب بالكحل لتشكيل اللون الأزرق، حين كانت طفلة، لتغدو برأي مجتمعها أجمل. مع أنني أقول لها دائماً، كذلك فعلت في زيارتي الأخيرة قبل أيام: أنت أجمل امرأة في الكون يا يُمّه! كما تعلم، يا سيادة الوزير، الأمهات أجمل النساء في عيون أبنائهن، ولسن بحاجة للفلير والبوتوكس والشفط والنحت، يكفي أنها أمٌّ فما بالك إن كانت أمّ وجدّة سورية عظيمة!

لا تنتهي حكايات أمي بنزوحها القسري غير مرة، بعد أن فقدت بيتها، بل تقول: هذه هي الحياة!

 ليتنا بحكمة الأمهات لاستطعنا تقبل الواقع أكثر وخففنا من المظلوميات وثقافة الثأر على الصعيد الشخصي والعام!

الأمهات في المخيمات السورية وبلدان اللجوء لكل منهن حكاية، أمهات المعتقلين والمغيبين، يا سيادة الوزير، باتت كل منهن تعلل وقتها بالحكاية، وتبدأ نهارها بها، إذ كما تعلم، لا يحلو الصباح في سوريا من دون حكايات، لدى كل سوري اليوم حكاية، بل حكايات تختلف عن حكايات الآخرين بقدر ما تتشابه، صار السوريون كتاباً اسمه: ألف ليلة وليلة لا تنتهي!

من حسن حظك، وليس من سوئه، أنَّ كل سوري يتقاطع مع وزارة الثقافة، وها هو الأمل ينعقد عليك في إحداث التغيير المطلوب ضمن قطاعاتك: من المسرح إلى الموسيقا إلى التراث إلى الكِتاب إلى السينما إلى الطفل إلى الفن التشكيلي إلى الأمسيات والمحاضرات والترجمة، إلى صورة الثقافة السورية في الخارج من خلال المراكز الثقافية خارج سوريا، وصولاً إلى اتحاد الكتاب العرب بكل خيباته وخرابه وفساده وما فعله بالمثقفين السوريين، هذا الاتحاد كتبتُ عنه قبل عشر سنوات مقالاً بعنوان: “من اتحاد الكتاب العرب إلى اتحاد مداحي البوط العسكري” فصلوني بعدها أو قبلها لا أعرف!

الأميون السوريون، وما أكثرهم، نتيجة ما حدث في سوريا العريقة،  يعدون وزارة الثقافة هي الوزارة الوحيدة المعنية بتعليمهم، فوزارة التربية غالباً تنهي علاقتها بالسوريين بعد بلوغ الثامنة عشرة. وكم من بالغ سوري وبالغة سورية لا يعرفون القراءة والكتابة اليوم، عشرات الآلاف!

وكما تعلم يا سيادة الوزير فإن ما حدث في سوريا في السنوات الأخيرة هو مسألة ثقافية في أحد جوانبه، لذلك يأمل كثيرون أن تكون الثقافة هي أحد أبرز مداخل الحلول!

شخصياً، أنا أحد المثقفين السوريين المتفائلين بالمرحلة الجديدة في سوريا، تفاؤل لمَّا تسمح لي الشهور القليلة من عهد الإدارة الجديدة أن أبني عليه، بقدر ما هو قائم على الرجاء والأمل الذي أدخل من خلاله الحياة كل صباح سوري.

تفاؤلي بالشخص والمرحلة هو الذي يجعلني أتوجه إلى المسؤول الرئيس عن مؤسسات الثقافة في بلدي العريق في المرحلة القادمة، ومردُّ تفاؤلي يعود إلى عدة أمور أقرب ما تكون إلى مسار حياتي.

حسن الظن؛ فالدول والمؤسسات والعوائل لا تبنى إلّا بأبنائها وتاريخهم، وقيادة هذا البلد هم جزء من ناسه، فلا يمكن أن أقابل عملكم بالتشاؤم أو أبحث عن مثلبة هنا أو هناك، أو أنبش في جانب شخصي، لأبني عليه. لسبب بسيط جداً: ذلك لا يمكن أن يكون مدخلاً للعمل، أو قناة للتواصل لمن يهمه البناء.

ومثلما نعتُّ نفسي بالمثقف كوني قد أصدرت كتباً إضافة إلى كوني أستاذاً جامعياً، فإنه من السهل أن ينبش أيّ سوري في عثرة هنا أو هناك لسوري آخر، فينتقل إلى جانب الشك الهدام، وبالتالي ينقطع الحوار بين المواطن المثقف والأمي والوزير المثقف المكلف!

وليس البناء على الجانب الشخصي أو كلمة هنا أو هناك، أو بيت شعري، لمن يقوم بمهمة وزير مدخلاً ملائماً، إلا لمن يريد أن يتصيد العثرات، أو يغلب علبه التشاؤم.

فمتابعة الورزاء من الشعب تقوم على قراءة الخطط التي يقدمونها أمام الهيئات السورية المعنية أو أمام رئيس الجمهورية أو الإعلام؛ حيث يقدمون تصوراتهم عما يمكن أن يقوموا به خلال فترة زمنية ما، بعد أن يأخذو وقتهم في التعرف إلى واقع وزاراتهم وأنظمتها الداخلية ومهامها وكوادرها.

مع الوزير الجديد، أي وزير، لا نستطيع إلا أن ننظر إلى المستقبل، فما بالك إن كان الوزير جزءاً من سلطة جديدة لم نعرفها من قبل، وكذلك وزير شاعر وإعلامي له اسمه!

هناك فهم ملتبس لدى كثير من السوريين لمهمة الوزير ناجمٌ عن النظام الشمولي، الذي ولدوا هم وأولادهم، الذين صاروا شباباً في ظله، كحالتي أنا.

لا ينتبهون إلى فكرة أن الوزير هو الذي يشرف على السياسات العامة للوزارة ويوجهها وينفذ السياسات الحكومية، ويحيط نفسه بفريق من الخبراء، ويشارك في صياغة السياسات العامة في مجاله، فالوزير قائدٌ في مجاله يكفيه الإشراف على الاستراتيجات وإدارتها.

تعلمتُ في تجربة هنا في هولندا عبر عقد من الزمان ونيف، أن العجلة لا يمكن أن تترافق مع الإتقان، صحيحٌ أن تجربة بلد مستقر ليست كتجربة بلد يبنى على شرعية ثورية، ووضعه مختلف كلياً، إلا أننا نحن السوريين نحب بلدنا كثيراً لذلك نقارنها على الفور بأكثر البلدان استقراراً!

وزارة الثقافة في سوريا وزارة مركبة المهام، وهي من أعقد الوزارات، فهي من جهة ليست وزارة خدمية يلمس أثرها السوريين في حاجاتهم اليومية كما يلامسون الماء والكهرباء والخدمات البلدية.

 إلا أنها من جهة أخرى، من أكثر الوزارات استراتيجية، حيث يعول عليه في بناء الإنسان السوري الجديد، ابن ماضيه العريق الثقافي والمعرفي والديني من جهة وكذلك السوري الذي يتواصل مع جمهوره وناسه وأهله وحاضره ومستقبله والعالم المحيط به بعد أن تعلم من تجارب الهجرة واللجوء!

يرى مراقبون كثيرون أن من حسن حظ وزير الثقافة في سوريا الجديدة أنه يدير وزارة باردة كما يسمى في أحد المصطلحات السياسية، أي أن الناس لا تنتظر منها حالة خدمية مستعجلة، وربما كثيرون لا يتلفتون إليها كونها لاتمس حاجاتهم اليومية، مما يتيح لفريق العمل فيها الاشتغال بتأن حول الاستراتيجيات، التي ينتظر أثرها في المستقبل وليس في الحاضر المستعجل.

بالتأكيد لا يمكن أن نحاجج جائعاً: هل الكتاب أهم أم الخبز؟ لكن تلك مقارنة لا تفيد ولا تجوز فالحاجات تقوم على التوازي وليس على المقارنة والتنافر.

سبق أن حدثنا مثقفون عرب بفخر عن إصدارات وزارة الثقافة في سوريا، عن ترجماتها، مجلاتها، عن نشرها المعرفة، بل إن مثقفين عديدين يرون أن إصداراتها هي من أفضل وزارات الثقافة العربية.

تمَّ تغييب السوريين عن المشهد الثقافي العربي في السنوات الأخيرة، نتيجة لغباء النظام المخلوع وخياراته السلبية، اليوم نأمل أن يستعيد المثقف السوري دوره العربي والعالمي. لدينا اليوم عدد من الدور الثقافية السورية في دمشق وغيرها، لم لا نجعلها بيتاً للمثقفين العالميين والعرب، نستضيفهم بها فترة من الزمن يكتبون عن بلدنا وناسه وأهله وحضارته؟ سوريا اليوم مادة للكتابة من الصعب أن يوجد مثلها، وهي مادة مغرية لكثير من كتاب العالم، لنخلد ذكرها من خلالهم!

سعدتُ، كما سعد كثير من السوريين، بما قلته في أثناء أداءك القسم أمام السيد رئيس الجمهورية، حول أن من أهداف وزارتك تفتيت ثقافة الاستبداد والإجرام التي تبناها النظام السابق، وبدلاً منها تعميم ثقافة الإخاء، والإخاء يعني حقوق الإنسان والعدالة والحرية والمساواة.

المتابعون لقصص التنمية البشرية وقصص النجاح يعدون تكليف مقدم برامج متميز في قناة الجزيرة، متابع لشؤون التراث العربي قصة نجاح، مللنا من الناجحين بسير ذاتية متخمة، ليس الأمر دعوة للشعبوية، بل ترحيب بقصة نجاح شخصية، لمن هم في عمرك أو أكثر أو أقل!

وقصة النجاح هذه يرتفع معها منسوب “العَشَم” من باب الحبّ وحسن الظن! وباب حسن الظن في موروثنا باب كبير، مما ورد فيه أن طلحة بن عبدالرحمن بن عوف، وهو من التابعين وأحد رواة الحديث النبوي، كان أجودَ قريش في زمانه، قالت له امرأته يوماً: ما رأيت قوماً أشدّ لؤماً من إخوانك!

قال : ولِمَ؟

قالت: أراهم إذا اغتنيتَ لزِموك، وإذا افتقرتَ تركوك!

قال: هذا والله من كرم أخلاقهم؛ يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال العجز عن ذلك!

اليوم، ينظر المثقفون والمبدعون والفنانون السوريون إليك بصفتك صاحب قرار وقدرة على إكرامهم في شؤونهم الثقافية، لذلك ينتظرون أن تستمع إليهم وإلى شجونهم وشؤونهم، وكلهم أمل، من باب حسن الظن، أن تُنسيهم جماليات المرحلة الحالية والقادمة في عهد الثورة والانتصار والأمل، بؤس المرحلة السابقة وعثراتها ولؤمها وقبحها!

تلفزيون سوريا

—————————-

========================

======================

تحديث 08 نيسان 2025

—————————-

———————————-

الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 08 نيسان 2025

قراءة نسوية في الإعلان الدستوري السوري الجديد/ ميّة الرحبي

ممكنات وواجبات أمام المدافعات السوريات عن حقوق النساء

07-04-2025

        يختلف الإعلان الدستوري عن الدستور الدائم بكونه يضم مبادئ دستورية مختصرة تحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية التي يتم خلالها، كما يفترض، وبناء على تجارب الدول، تشكيل لجنة دستورية ممثلة لكافة أطياف الشعب، وهي التي ستكتب الدستور الدائم للبلاد، بحيث تنتهي المرحلة الانتقالية عادة بعد عرض الدستور الدائم للاستفتاء الشعبي. وهذا الدستور الدائم هو الذي يفترض أن يكون مصدر السلطات، وهو الذي سيختار شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وذلك عبر انتخابات حرة نزيهة.

        ومن خلال قراءة لتجارب الشعوب، يتضح أن الدول تتشكل غالباً بعد الحروب التي يحسم نتيجتها المنتصر، أو بعد انقلابات عسكرية، وفي كلا الحالتين يُكتَب الإعلان الدستوري بما ينسجم مع العملية التاريخية التي أنتجته.

        تتضمن المبادئ الدستورية للإعلانات الدستورية مواداً خاصة بالمرحلة الانتقالية، كمدتها ومن الذي سيحكمها؛ وبتشكيل لجنة صياغة الدستور الدائم للبلاد، وبآليات العدالة الانتقالية.

        وإذا ألقينا نظرة على الدساتير في المنطقة العربية يمكننا أن نلتمس التناقض بين موادها الدستورية، والناجم عن حالة الفصام بين الرغبة في الحفاظ على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، والرغبة في وضع دستور دولة تنسجم مع متطلبات العصر ومع بنية الدولة الحديثة.

        تخلق هاتان الرغبتان المتناقضتان مواداً دستورية متناقضة، حيث تقرّ بما ورد في مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان المواكِبة لتركيبة الدولة الحديثة، وتحافظ في الوقت نفسه على المواد المستمدة من العقلية الراغبة في العودة إلى تركيبة الدولة السلطانية التاريخية، والتي تتميز بالاستبداد السياسي الذكوري الديني. ويتجلى ذلك واضحاً في المواد المتعلقة بالمرأة، والتي تقسم المرأة إلى شخصيّتين منفصلتين: الإنسانة كاملة الأهلية المواطنة المتمتعة بحقوقها وواجباتها كأي مواطن ذكر في الحياة العامة، والمرأة ناقصة الأهلية التابعة للرجل ومنقوصة الحقوق في الحياة الأسرية؛ كما يظهرُ في تصريحات الحكام، وانعكاسها على الأنظمة التنفيذية وسير عمل المؤسسات، والقيود القانونية على النساء والتمييز ضدّهن في الحياة الأسرية، بما ينعكس سلباً على حرية حركتهنّ ومشاركتهن في الحياة العامة.

        ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ أيّ دستور أو إعلان دستوري لا يمكن أن يكون ضامناً لحقوق النساء إن لم يكن علمانياً، فالدستور العلماني يضمن حيادية الدولة تجاه جميع الأديان، ويضمن حقوق أي فرد في معتقده وفي ممارسة شعائره الدينية، وهذه هي الصفة التي خلا منها الإعلان الدستوري الجديد، وجميع دساتير سوريا المتعاقبة منذ نشوء الدولة السورية الحديثة عام 1920.

        وبالعودة إلى الإعلان الدستوري السوري الجديد نجد أنه لا يختلف عن التوصيف السابق، فهنالك قوة عسكرية ذكورية تغلّبت على حكم استبدادي ذكوري أمعن في قتل وإذلال شعبه لعقود، ومن السذاجة الاعتقاد أنه سيأتي بنظام حكم مختلف عن طبيعته ومنشئه، وعلينا أن نضع ذلك بعين الاعتبار عند تحليلنا للإعلان الدستوري السوري الجديد من وجهة نظر نسوية.

        تضمّن الإعلان الدستوري السوري الجديد تفاصيل فائضة، تُدرَج عادة في الدستور الدائم، ما جعله أقرب إلى دستور مختصر أكثر منه إعلاناً دستورياً، والذي عادة ما يتضمن مبادئ عامة تحكم المرحلة الانتقالية إلى حين إتمام صياغة دستور دائم للبلاد يتم عرضه للاستفتاء الشعبي في نهاية المرحلة الانتقالية؛ في حين أغفل بعض المبادئ الضرورية لسير المرحلة الانتقالية.

        1- احتفظت المادة الأولى من الإعلان الدستوري بصفة العربية في جملة «الجمهورية العربية السورية»، متجاوزة صفة المجموعات الإثنية غير العربية الموجودة في النسيج السوري، كما لم تتضمن حق الدولة في استرجاع أراضيها المحتلة. ولم يُذكر في المادة أي إشارة إلى نظام الحكم، الذي لا يمكن أن يحفظ حقوق الرجال والنساء إلا إذا كان نظاماً ديمقراطياً يتيح لكل فئات الشعب اختيار من يحكمها ويدير شؤونها، فالتعددية السياسية هي ضمان لتمثيل كافة أطياف الشعب، كما أن اللامركزية الإدارية هي النظام الأمثل الذي يتيح لكل منطقة إدارية إدارة شؤونها محلياً، بما يتناسب مع مصلحة وخصوصية المنطقة، ما ينعكس إيجابياً على مصالح النساء فيها. ولم يأت الإعلان الدستوري على ذكر الانتخابات، على أساس أنها ستتم في نهاية المرحلة الانتقالية، ولكن كان لا بد من ذكر أن أي انتخابات يجب أن تكون حرة نزيهة تكفل تمثيلاً متكافئاً لكل أفراد الشعب.

        2- أقرت المادة الثانية من الإعلان الدستوري بفصل السلطات، بما يتناقض مع المادة 24 التي توكل لرئيس الجمهورية تشكيل لجنة عليا لاختيار ثلثي أعضاء مجلس الشعب، وتعيين الثلث الباقي، أي أن مجلس الشعب يُعيّن بمجمله بما يرتئيه رئيس الجمهورية، بمعنى أنّ السلطة التنفيذية هي التي تعيّن السلطة التشريعية، ولكن في الحقيقة لا توجد عادة في المرحلة الانتقالية في تجارب الشعوب السابقة آلية محددة واضحة لانتخاب أعضاء السلطة التشريعية بداية المرحلة الانتقالية، خاصة في غياب أحزاب معارضة، وعدم الاعتراف بالمجتمع المدني ومنظماته برمتها.

        وصحيح أن مجلس الشعب هو من يتولى اقتراح القوانين وتعديلها والمصادقة على المعاهدات وغير ذلك من الصلاحيات التي يمتلكها عادة، ولكن السؤال يبقى معلقاً، هل يمثل هذا المجلس بطريقة تعيينه إرادة جميع أطياف الشعب السوري، ونصفه من النساء؟ وهل سيعترض على القوانين التي يملك الرئيس حق اقتراحها كما ورد في المادة 39، أو هل سيرفضُ اعتراض رئيس الجمهورية على أحد القوانين، وهو الذي عيّن ذلك المجلس بشكل مباشر وغير مباشر؟

        وفي حين تقر المادة 43 استقلال السلطة القضائية، فهي لا توضح مَن الذي يعين مجلس القضاء الأعلى، لكن المادة 47 توضح أن رئيس الجمهورية سيُسمي أعضاء المحكمة الدستورية العليا، دون إيضاح آلية عمل هذه المحكمة ومن الذي يمكنه اللجوء إليها.

        إن مبدأ فصل السلطات، ووضع ضوابط تكفل علاقة متوازنة فيما بينها، هو ضمانة لحقوق النساء وجميع أفراد الشعب، وحماية لهم من تغول السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية، كما أن تمثيل جميع أطياف الشعب في المجلس التشريعي هو ما يضمن وصول أصوات النساء ومطالبهن، خاصة عند إقرار مبدأ الكوتا النسائية. ولا بد من التأكيد على المساواة أمام وفي القانون لجميع المواطنين رجالاً ونساء، واستقلالية ونزاهة القضاء وإمكانية وصول أيّ مواطن إليه، بكل هيئاته، بما فيها المحكمة الدستورية العليا.

         3- احتفظت المادة الثالثة في الإعلان الدستوري بصيغتها العامة الموجودة في جميع الدساتير السورية السابقة، والتي تؤسس للتمييّز ضد النساء، وضد مجموعات أخرى من الشعب السوري. فهي تحصر رئاسة الجمهورية بمن يَدين بالإسلام، وبذلك تحرم جميع المواطنين ممن يدينون بغير الإسلام من هذا المنصب، ولكن إذا اعتبرنا أن الإعلان الدستوري يخص المرحلة الانتقالية التي سيحكمها شخص بعينه عُيّن مسبقاً، وسيبقى رئيساً للجمهورية طيلة المرحلة الانتقالية، وهو رجل ومسلم، فيمكن اعتبار هذه المادة متطابقة مع الواقع المفروض من الجهة التي تحكم البلاد حالياً.

        ويُحسب للإعلان الدستوري الجديد تضمين عبارة «تكفل الدولة التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، والحقوق الثقافية واللغوية لجميع السوريين» في مادته السابعة، وهي عبارة ترد لأول مرة، متقدمة بذلك على الدساتير السورية السابقة.

         4- تتضمن المادة الثالثة أيضاً عبارة «الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع» وبذا يتم إقرار دستور ذي مرجعية دينية، وهذه الجملة مستقاة من دستور 1950، وهي تقر بأن المصدر الرئيسي للتشريع هو آراء فقهاء الدين الإسلامي، وجاءت بصيغة أكثر تشدداً من تلك التي وردت في دستور 2012، الذي صيغت فيه الجملة على شكل «الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع»، فحذفُ ال التعريف يتيح للمشرع أن يستقي مصادر أخرى للتشريع.

        من ناحية أخرى، تُفرّغ فقراتُ المادة الثالثة المادة 12 من مضمونها، والتي تنص على اعتبار جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري. ولنا في ذلك سابقة عندما ألغت سوريا تحفظها على المادة 2 من اتفاقية السيداو بالمرسوم /230/ لعام 2017 والذي نصّ على ما يلي: «يُلغى تحفظ الجمهورية العربية السورية على المادة الثانية من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ‘سيداو‘، والمُصادق على الانضمام إليها بموجب المرسوم رقم /330/ تاريخ 25/9/2002 بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية»، إذ وقفت جملة بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية عائقاً أمام إلغاء التحفظ.

        وكما في جميع دساتير سوريا السابقة تبقى عبارة «الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية» فاتحة المجال أمام رجال الدين، وهم عادة من الذكور، لصوغ قوانين أحوال شخصية متعددة، بناء على فقه ذكوري يميّز ضد النساء، وبين النساء، ضمن الوطن الواحد.

        وتتناقض هذه المادة مع المادة 10 التي تقر بأن «المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب». وقد أضيف لها مفردة الجنس أسوة بالمادة 33 من دستور 2012، والذي كان متقدماً في ذلك عن دستور 1950، الذي خلا من ذلك.

        تؤكد المادة 21 على التناقض الذي ذكرناه سابقاً، حيث يقع التناقض بين التأكيد على دور المرأة داخل الأسرة الذي تحكمه القوانين الخاصة بالطوائف والمميّزة ضد المرأة من جهة، وكفالة حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى، إذ كيف يمكن لامرأة يحكمها ذكور العائلة ممارسةَ حريتها وحقوقها ومشاركتها في الحياة العامة؟ إلا أنه يحسب لهذه المادة ذكر حماية النساء من جميع أشكال القهر والظلم والعنف، وذلك لأول مرة في تاريخ النصوص الدستورية السورية، ولكن دون إيضاح كيفية الحماية في ظل منظومة قانونية متناقضة كما بينا سابقاً.

         5- إن عبارة «حرية الاعتقاد مصونة، وتحترم الدولة جميع الأديان السماوية، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يُخلّ ذلك بالنظام العام» توحي بأن حرية الاعتقاد محدودة لمعتنقي الديانات السماوية تحديداً، وليست مطلقة.

        6- تشكل التفسيرات المطاطة التي يمكن أن تفسر بها المادة 23 عوائق محتملة على الحريات العامة، خاصة في جملة «حماية الآداب العامة» الواردة في نهاية المادة 23، والتي تنص على ما يلي: «تصون الدولة الحقوق والحريات الواردة في هذا الباب، وتمارس وفقاً للقانون، ويجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة».

        7- حددت المادتان 48 و49 آليات تطبيق العدالة الانتقالية القضائية وغير القضائية، إلا أنها لم تذكر آليات الحماية الخاصة لضحايا العنف الجنسي والإيذاء الجسدي والاستغلال الجنسي؛ وتعويضهم ضمن منظومة العدالة الانتقالية.

        8- أغفل الإعلان الدستوري حق المرأة في منح جنسيتها لعائلتها، والذي كان يجب التأكيد عليه دستورياً بما يتوافق مع المادة العاشرة، وهذا ما سيمكّن من حل إشكالات كبيرة عالقة تتعلق بفقدان الكثير من الأطفال السوريين جنسيتهم بسبب غياب الأب أو فقدانه.

         9- لابد أن ننوه هنا أن اللغة المستخدمة في الإعلان الدستوري هي لغة مذكرة لم تعد تستخدم في الدساتير الحديثة، ولا بد من استخدام صيغ المذكر والمؤنث، خاصة في مجال الحديث عن الحقوق والحريات ومراكز صنع القرار. ولا يمكن تبرير ذلك بطبيعة اللغة العربية التي تعبر فيها صيغة المذكر عن المذكر والمؤنث معاً، وإلا لما وردت بعض الآيات الكريمة بصيغة «المؤمنون والمؤمنات» و«المسلمون والمسلمات»، ما يدل على أن اللغة تستخدم الصيغتين عند الرغبة في التأكيد على التساوي في الحالة أو الحكم القائم.

         10- أخيراً قد تعيق التفسيرات الفضفاضة لعبارة «الاستقواء بالخارج» الموجودة في المادة السابعة إمكانية التعاون بين المنظمات النسوية السورية، والمنظمات النسوية العالمية التي تشترك معها بالأهداف والطموحات في حماية حقوق النساء في كل العالم، ونضالهن ضد الظلم والتمييز والعنف المطبق عليهن.

        إذاً، ما الذي نستطيعه ويتوجب علينا فعله كمواطنات سوريات ومدافعات عن حقوق النساء؟

        نحن كنسويات لا نؤمن بالعنف ولا بأي مبرر لاستخدامه، نحن ضد السلاح وضد النزاعات المسلحة، فما الذي يمكننا فعله في هذا الظرف الذي تمر به البلاد، وفي هذه المرحلة الحساسة التي يفترض بها أن تكون مرحلة انتقالية نحو سوريا جديدة.

        1- أولويتنا حالياً هي وقف العنف، وتجنب إراقة المزيد من دماء الشعب السوري، عن طريق نشر الأفكار التي تدعو إلى السلم الأهلي وإعادة اللحمة المجتمعية التي فككها النظام البائد بتعميقه الشروخ العمودية بين أفراد الشعب، فعندما يُفقد حس المواطنة تعود الجموع إلى انتماءات ما قبل الدولة، سواء كانت انتماءات عرقية أم دينية أم قبلية أم مناطقية.

         2- دعم قيام دولة سورية موحدة على أساس المواطنة المتساوية، دون تمييز بين مواطن وآخر على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو المنطقة، أو على أي أساس آخر، وذلك عن طريق محاولات التهدئة، والوقوف في وجه التجييش، من قبل أي طرف تجاه أي طرف آخر، ونشر فكرة المواطنة المتساوية بين أفراد الشعب، وذلك بالعمل على القاعدة الشعبية عن طريق الحوارات المجتمعية البناءة التي تجمع أطياف الشعب كلها.

         3- تحسين الأوضاع المعيشية لجميع أفراد الشعب، بحشد جهود المناصرة من أجل رفع العقوبات عن الشعب السوري.

         4- حشد جميع طاقات الشعب من أجل إعادة الإعمار وذلك بتمكين النساء والشباب.

         5- الضغط من أجل إشراك النساء في بناء السلام ومشاركتهنّ السياسية في جميع مراكز صنع القرار.

         6- الضغط من أجل إشراك النساء في لجنة صياغة الدستور الدائم للبلاد بنسبة لا تقل عن 30%، كي يكتب بلغة تضمن المساواة وفصل السلطات، وضمان الحقوق والحريات، وأن تكون تلك المواد جامدة دستورياً، إلا بما يضمن تحسينها، وأن تكون المواد الدستورية واضحة بشأن حقوق النساء في الحياة العامة والأسرية، والحرص على ضمان تنفيذها عن طريق القوانين والهيئات التنفيذية، وتغيير أو تعديل القوانين بما يتناسب مع الدستور، وضمان سيادته.

         7- العمل على نشر أفكار الدستور الضامن لحقوق النساء بين أوساط القاعدة الشعبية، عن طريق الحوارات وورشات العمل، وتغيير الأفكار السائدة مجتمعياً والتي تبدي تسامحاً أمام التمييز والعنف ضد النساء وتهميشهنّ، وتكرّس الصورة النمطية للمرأة، بالإضافة إلى  تقسيم العمل بين النساء والرجال، ومحاولة الوصول إلى جميع فئات الشعب، بما يضمن الموافقة على ذلك الدستور عند الاستفتاء عليه.

         8- الضغط من أجل مشاركة النساء في جميع لجان العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا، بحيث تدرج حوادث العنف ضد النساء ضمن مسارها، وتشجيع الضحايا على الوصول إلى تلك اللجان وتقديم الشكاوى.

         9- التركيز على التعليم ودمج جميع الأطفال السوريين في العملية التعليمية، وخاصة من حُرموا منها في السنوات الأخيرة، والتركيز على برامج محو الأمية، ونشر المعرفة والوعي بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة في جميع مراحل التعليم ووسائل الإعلام.

         10- السعي لتوفير السجلات المدنية لجميع أفراد الشعب، وخاصة الوقوعات المدنية للنساء والأطفال، وتعديل قانون الجنسية بما يسمح للمرأة السورية بمنح جنسيتها لأطفالها، والمطالبة بتوفير سجلات مدنية خاصة ومستقلة للنساء، كجزء من إضفاء الطابع المؤسسي على المواطنة الكاملة للمرأة، بما يشكل حلاً واقعياً وعادلاً لمشاكل فوضى وضياع السجلات المدنية.

        *****

        * اعتمدتُ في ورقتي هذه على كتيب الدليل إلى دستور متوافق مع النوع الاجتماعي (الجندر) الذي أصدرته منظمة EFI-IFE، والذي شاركت في اجتماعاته التحضيرية التي استمرت لمدة سنتين عضوتان من الـGAG، مية الرحبي وصباح الحلاق، وكتبه د. إبراهيم دراجي وسيلفيا سوتي، وحررت طبعتيه العربية والإنكليزية عضوة GAG مية الرحبي والمديرة التنفيذية لـEFI-IFE بوريانا جونسون.

        وكذلك على نتائج مؤتمر باريس 2016 الذي عقده «تجمع سوريات من أجل الديمقراطية»، حول «عملية شاملة لبناء دستور متوافق مع النوع الاجتماعي (الجندر): نحو تحول ديمقراطي في سوريا»، بالشراكة مع المبادرة النسوية الأورومتوسطية IFE-EFI، في إطار برنامج «دعم تحول نحو الديمقراطية في سوريا بالتحضير لعملية بناء دستور متوافق مع النوع الاجتماعي (الجندر)»، المموّل من الاتحاد الأوروبي والسويد.

        وقد ضمّ المؤتمر مجموعة مميزة من السياسيين السوريين المؤثرين، الذين يمثلون جميع أطياف المعارضة المعنية بتغيير الدستور، مع خبيرات في الجندر من بينهن عضوات في ال GAG. حيث خرج المؤتمر برؤية للمبادئ الدستورية التي يمكن أن يتضمنها الإعلان الدستوري الذي سيحكم المرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة بما يتوافق مع حقوق النساء.

موقع الجمهورية

——————————-

========================

واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا  تحديث 07-08 نيسان 2025

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع

—————————-

اتفاق دمشق – «قسد» يتباطأ: إصرار كردي على «حفظ المكاسب»

يبدو أن تطبيق الاتفاق الموقّع بين الحكومة السورية الانتقالية و»قسد»، والهادف إلى دمج الأخيرة ومؤسساتها في بنية الدولة، لا يسير على أحسن ما يرام. ولعلّ هذا هو ما توحي به التباينات التي برزت بين الطرفين بعد بدء «الوحدات» الكردية إخلاء حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، على رغم تأكيد «قسد» أن ما حصل في الحييْن سيكون نموذجاً يُطبّق على كل المناطق التي تديرها «الإدارة الذاتية» في شمال شرق سوريا.

وسُجّل تباطؤ في تنفيذ الاتفاق الذي بدأ بإخراج دفعة من عناصر «الوحدات» الكردية في اتجاه مدينة الطبقة في محافظة الرقة، والإفراج عن نحو 250 أسيراً من الجانبين. وأتى ذلك بعد تأكيد وزارة الداخلية السورية أن جهاز الأمن العام التابع لها سينتشر في الحييْن للقيام بمهام حمايتهما، مقابل نشر قوى الأمن الداخلي التابعة لـ»الإدارة الذاتية» (الأسايش) مقاطع مصوّرة لتعزيزات لها وصلت إلى حلب للقيام بمهام ضبط الأمن في الحيين.

ويعكس هذا التباين إصرار كلّ طرف على عدم تقديم تنازلات كبرى، خاصّة في ملف حماية المناطق التي يتم الاتفاق بخصوصها، على الرغم من أن الاتفاق نصّ فقط على إشراف وزارة الداخلية على مهام تأمين الحيين، مع الحفاظ على الإدارة المدنية و»الأسايش» للقيام بمهام إدارتهما وحمايتهما، في ما اعتُبر تمهيداً لتطبيق نظام لا مركزي في الحكم.

وفي هذا السياق، رحّبت الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في «الإدارة الذاتية»، إلهام أحمد، بالاتفاق بشأن الحييْن، ووصفته، بـ»الإيجابي»، معتبرة أنه «يشكّل بداية لتفاهمات مقبلة قد تحصل بين الإدارة الذاتية والإدارة السورية الجديدة، في إطار سوريا جديدة لا مركزية تعدّدية». وقالت أحمد إن «الوصول إلى تفاهمات كهذه يُعد تجربة جديدة في الواقع السوري لإنهاء الصراع على المستوى السوري والإقليمي»، مضيفة أن «توسيع هذه الاتفاقات على كامل الجغرافيا السورية أمر مهم جداً، بحيث يضمن عدم الانخراط في صراعات جديدة، وتحييد المدنيين عن أيّ اشتباكات قد تحصل». وتابعت أن «الانخراط والتعمق في مثل هذه التفاهمات، وضمانها في مواد دستورية، ضرورة لا بُدّ منها».

ويأتي ذلك في وقت تأخّر فيه اللقاء الثاني الذي كان من المقرّر عقده بين اللجنة الحكومية المكلّفة من الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، والقائد العام لـ»قسد»، مظلوم عبدي، لاستكمال النقاشات حول آليات تطبيق الاتفاق بين الطرفين. ويعود هذا التأخير إلى استعجال دمشق تسلّم آبار النفط والغاز من «قسد» عبر إدارات مدنية، تمهيداً للبدء بصيانتها ورفع إنتاجها بما يساعد على إعادة الإعمار والتنمية، وسط شكوك في إمكانية تحقيق ذلك، في ظل استمرار العقوبات الأميركية والغربية.

وفي المقابل، تطرح «قسد» إمكانية توقيع عقود باسمها للالتفاف على العقوبات الأميركية والغربية، والتي استثنت أساساً مناطق سيطرتها، ما سيعود بالفائدة على الطرفين، ويضاعف من عملية إنتاج النفط والغاز، وينعكس على الواقع الاقتصادي والخدمي في البلاد، وفق ما تدافع به. لكنّ محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، أكّد، في تصريح، أن «الحكومة السورية ستشرف بالكامل على الآبار الواقعة في منطقة الجزيرة شرق نهر الفرات»، مبيّناً أن «البلاد ستكسب موارد كبيرة مع سيطرة وزارة النفط على الآبار، التي هي من مقدّرات الشعب السوري بأكمله»، مضيفاً أن «إشراف وزارة النفط على الآبار سيعيد لسوريا أموالاً ضخمة تساهم في بنائها وإعادة إعمارها».

وفي السياق نفسه، تكشف مصادر مطّلعة، لـ»الأخبار»، أن «قسد تضغط على الإدارة السورية الجديدة لإعادة النظر في الإعلان الدستوري، وإشراكها في الحكم، مع إدراج أي اتفاق بين الطرفين في بنية الدستور، ما يعزّز من عوامل الثقة بين الطرفين، ويعطي شرعية لكل الخطوات المُتخذة»، مبيّنة أن «قسد تريد الإقرار بأن الأكراد هم أصحاب القومية الثانية في البلاد، ويجب أن تكون لغتهم معتمدة كلغة رئيسية ثانية بعد اللغة العربية».

وتتابع المصادر أن «الأكراد يريدون إقراراً دستورياً أيضاً باللامركزية الإدارية التي يسعون إلى أن تكون نموذجاً للحكم في البلاد»، لافتة إلى أن «المطالب تتركّز أيضاً على قبول انضمام قسد إلى الجيش السوري ككتلة مع الحفاظ على هيكليتها الإدارية والعسكرية، وتكليفها بمهام حماية مناطق شمال شرق سوريا، بما يحافظ على الوضع القائم من دون أي تغيير». وتعتبر أن «التوافقات الأميركية – التركية في هذا الملف ستكون حاسمة، لجهة القبول بمطالب قسد أو دفعها إلى تقديم تنازلات»، مرجّحة أن تطلب الولايات المتحدة من تركيا مقايضة إخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من مناطق «قسد» بإخراج المقاتلين الأجانب ضمن صفوف «هيئة تحرير الشام».

———————–

أوجلان من إمرالي: أتابع تطورات سوريا من كثب وأتمسك بالأمل

2025.04.07

أكّد النائب عن حزب “DEM”، عمر أوجلان، الذي أجرى زيارة عائلية إلى زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في سجن إمرالي خلال عيد الفطر، أن الأخير “يحتفظ بأمله” في العملية السياسية، ويؤمن بإمكانية تحقيق تقدم رغم الشكوك المتراكمة لدى الشعب الكردي.

في تصريحات لصحيفة “يني أوزغور بوليتيكا

“، قال عمر أوجلان إن الزيارة التي أجراها لعبد الله أوجلان بمناسبة العيد استغرقت نحو ساعة ونصف، موضحاً: “رغم أنها كانت زيارة عائلية، فقد تم التحدث في الكثير من الأمور”.

وأضاف: “من المهم إنتاج الحلول، وبناء السلام، وتطوير العلاقات. ونحن نرى أن هذه الطاولة لا تزال قائمة في إمرالي”.

“أتابع التطورات في سوريا عن كثب”

وأوضح عمر أوجلان أن عبد الله أوجلان أبدى موقفاً مرناً وحريصاً على العملية، قائلاً: “لقد رأينا بأعيننا أنه في موقع من يتخذ موقفه حين يلزم الأمر، ويتصرف بمرونة شديدة حين يلزم الأمر، ويقوم بكل ما في وسعه من أجل الحفاظ على حساسية العملية”.

وأشار إلى أن الزعيم الكردي أجرى تحليلاً واسعاً لواقع الشرق الأوسط، ويولي اهتماماً خاصاً للتطورات الإقليمية، مضيفاً: “وهو يتابع من كثب التطورات في سوريا، والعراق، وإيران. ويتابع كل هذه الأمور بشكل مفصل ودقيق”.

“الناس محقّون… ولكن لدي أمل”

وتطرق عمر أوجلان إلى ما نقله لعبد الله أوجلان بشأن نظرة الشعب الكردي إلى العملية السياسية، قائلاً: “لقد نقلنا له التالي: ثقة الشعب الكردي بك واضحة جداً. لا توجد مشكلة في هذا الأمر، ولكن توجد بعض الشكوك. وهذه الشكوك لا تنبع منك، بل إنها ناتجة عن ما جرى خلال عملية الحل في عام 2015، وعن ما جرى في عام 2009، وعن ما جرى في عام 1993”.

وبحسب عمر أوجلان، فإن ردّ عبد الله أوجلان كان واضحاً، إذ قال: “الشعب محق، هذا صحيح، يفكرون بشكل سليم، الوضع كذلك، ولكن أنا أحتفظ بأملي. وسأفعل كل ما بوسعي لإنجاح هذه العملية”.

——————————

تفادياً للتصادم.. ميدل إيست آي: إسرائيل قد تتقبل الانتشار التركي في حماة وتدمر

2025.04.07

” بأن تركيا وإسرائيل أجرتا محادثات بشأن إنشاء خط لتفادي الاشتباك في سوريا، بهدف منع أي احتكاك أو سوء تفاهم قد يؤدي إلى صدام مباشر بين جيشي البلدين.

وذكرت المصادر أن إسرائيل قد تبدي قبولاً بإنشاء قواعد عسكرية تركية في وسَط سوريا كجزء من ترتيبات منع التصادم. حيث جاء ذلك بعد أيام من استهداف إسرائيل قاعدة “T4” الجوية في محافظة حمص.

وبحسب المصدر، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي الأسبوع الماضي غارات على مواقع عسكرية في سوريا، شملت قاعدة حماة الجوية وقاعدة التياس المعروفة بـ”T4″، وهي القاعدة التي كانت تركيا تخطط لإرسال فريق تقني إليها لإجراء تقييم أولي استعداداً لإعادة تأهيلها.

وقال مسؤولان غربيان إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أبلغ نظراءه بأن إسرائيل أمامها فرصة محدودة لاستهداف القاعدة قبل أن تنشر تركيا معداتها فيها، مؤكداً أن القاعدة ستكون “منطقة محظورة” على الطيران الإسرائيلي بمجرد دخول القوات التركية إليها.

وتتخوف إسرائيل من أن يؤدي استهداف الجيش التركي، حتى لو كان عن طريق الخطأ، إلى إشعال مواجهة كبرى. كما أن نشر أنظمة دفاع جوي في هذه القواعد من شأنه أن يردع الطائرات الإسرائيلية عن تنفيذ عمليات في المنطقة.

“تل أبيب قد تتقبل الوجود التركي في سوريا”

وكان ميدل إيست آي قد كشف أن أنقرة تعمل على تسلم قاعدة “T4” لنشر طائرات استطلاع وهجوم مسيّرة، مع نيتها تركيب أنظمة دفاع جوي من نوع “حصار”. وتشمل الخطط لاحقاً إقامة نظام دفاع جوي متعدد الطبقات حول القاعدة لمواجهة الطائرات والمسيّرات والصواريخ، مع احتمال نشر منظومة “S-400” الروسية مؤقتاً حتى انتهاء أعمال التأهيل.

وأكدت المصادر الغربية أن نتنياهو يعتقد بتحقق تقدم في التفاهم مع تركيا بشأن تفادي الاشتباك، والمحادثات مستمرة.

رغم ذلك، يُصر نتنياهو على ضرورة “نزع السلاح الكامل” من جنوبي سوريا، بما يشمل الوجود التركي. وقال مصدر مطّلع على التوترات التركية الإسرائيلية إن البلدين يتفاوضان منذ الضربات الأخيرة على قاعدة “T4” لإقامة خط اتصال مباشر.

وأضاف المصدر: “اللافت أن مسؤولي البلدين أصدرا تصريحات متطابقة في اليوم نفسه، يؤكدان فيها أنهما لا يسعيان إلى مواجهة في سوريا، ما بدا وكأنه تنسيق مسبق”.

وتابع المصدر أنه على الرغم من التهديدات العلنية، فمن المرجح أن تقبل إسرائيل بوجود قواعد عسكرية تركية في حماة وتدمر كجزء من ترتيبات منع الصراع.

—————————-

ما مصير شرق الفرات بعد اتفاق “قسد” والحكومة السورية/ أحمد مراد

الإثنين 2025/04/07

يلقي الاتفاق الموقع بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) في حلب بظلاله على مناطق شرق الفرات، ليشكل اختباراً لحسن النوايا بين الطرفين، فمن جهة، تستمر حملات الاعتقال التي تطال ناشطين عرب في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، ومن جهة أخري، يستاء أهالي الجزيرة السورية من أن الدولة السورية، بنظرهم، لم تفِ بالتزاماتها تجاههم.

وتطبيقاً للاتفاق الموقع مطلع آذار/ مارس حول المناطق الخاضعة لتلك القوات، بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد القوات الكردية التي تسيطر على شرق الفرات، يأتي اتفاق حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، الموقع من اللجنتين الخماسيتين المركزيتين المكلفتين من قبل الحكومة السورية و”قسد”.

بالون اختبار

تضمن الاتفاق 14 بنداً، أهمها بحسب الباحث سامر الأحمد، البند السادس المتعلق بانسحاب الفصائل العسكرية من الحيين باتجاه مناطق شرق الفرات. ويضيف الأحمد في حديث لـ”المدن”، أنه في حال خضعت المدينة لقوات الحكومة السورية وفق الاتفاق، وتحقق الأمن في الحيين، عندها من الممكن البدء بالتوصل إلى تفاهمات حقيقية في مناطق الجزيرة السورية، أو ما يعرف بمناطق شرق الفرات ذات الأغلبية السكانية العربية، حيث تخضع هذه المناطق لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية، وعماد هذه القوات مقاتلين من الكرد، بالإضافة لمقاتلين عرب وسريان.

الخلاف العربي الكردي

تختلف الخلفيات السياسية والظروف الاجتماعية لسكان مناطق سيطرة “قسد” في الجزيرة السورية عن غيرها من المناطق السورية، وتمتد المنطقة على طول نهر الفرات شرقاً، من الحدود السورية التركية، مروراً بمدينتي الرقة ودير الزور، وصولاً إلى البوكمال على الحدود العراقية، وتتخللها منطقة عملية “نبع السلام” التي أطلقتها فصائل الجيش الوطني أواخر عام 2019، بدعم تركي، وسيطرت على مناطق شمال الطريق الدولي “M4” بين تل أبيض ورأس العين.

وتأسست “قسد” أواخر العام 2015 بدعم أميركي، بعد أيام من إعلان روسيا تدخلها العسكري في سوريا، وسيطرت على ما يزيد عن ثلث الأراضي السورية، وغالبية سكانها من العرب، مع وجود الكرد في من مدن الرقة والحسكة، إلى جانب قوميات أخرى كالسريان والآشوريين. وانحصر وجود “قسد” بعد 3 عمليات عسكرية للجيش الوطني السوري بدعم تركي هي “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”، و”نبع السلام”.

ويعتبر المحلل السياسي محمد الحمادي في حديث لـ”المدن” أن منطقة شرق الفرات أمّ المتناقضات، فالكرد يعتبرون أن العرب محتلين لأراضيهم منذ السبعينيات، تحديداً عند إنشاء سد الفرات وبحيرة السد التي ابتلعت 525 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية والبلدات. وأطلق على أهالي تلك البلدات إسم “عرب الغمر”، وهجّروا إلى أراض تعرف بـ”خط الاستقرار 10” شمال المحافظة، أي إلى المدن والبلدات المحاذية للحدود التركية.

ضحايا الأسد و”قسد”

ويرى الحمادي أن “عرب الغمر” هم ضحايا نظام الأسد و”قسد”، ففي السبعينيات هجّروا من قراهم بسبب سد الفرات، وبعد العام 2016، هجّرتهم القوات الكردية من أملاكهم وأراضيهم التي منحتهم إيّاها الحكومة السورية، بحجة عدم امتلاكهم لبطاقة “وافد” التي تمنحها الإدارة الذاتية الكردية لكل من يقيم في مناطق سيطرتها من خارج محافظته. وعملت تلك القوات على التغيير الديموغرافي للسكان عبر إحلال عناصر تابعين لها في القرى والبلدات وفي المدن الرئيسية بعد تهجير سكانها، خاصة دير الزور التي لا وجود للكرد فيها سابقاً. ويشير الحمادي بأن العرب يعتبرون أن معظم الكرد ليسوا من السكان الأصليين للمنطقة، وغالبيتهم هُجّروا من تركيا منتصف القرن العشرين بسبب الاضطهاد التركي لهم، وتركزوا في الحدود المحاذية لبلدهم الأم. بالإضافة لوجودهم في عفرين غرب حلب كغالبية سكانية. ويشير إحصاء عام 2004، وهو آخر الإحصاءات الرسمية في سوريا، إلى أن نسبتهم تصل إلى 5.3 في المئة من عدد السكان، فيما تشير إحصاءات غير رسمية إلى أن نسبتهم تقارب 8 في المئة حالياً.

قسد باقية شرق الفرات

لم تغيّر حكومة “شمال وشرق سوريا”، التابعة للإدارة الذاتية، نهجها في التعامل مع المناوئين لها والمناصرين للدولة السورية، وفق ما أكده الصحفي حمزة الهويدي، أحد أبناء مدينة الرقة لـ “المدن”. مشيراً إلى أن الفصائل التابعة لحكومة “شمال وشرق سوريا” تشن حملات اعتقال بحق الناشطين المناصرين للدولة السورية الجديدة، مع الاستمرار بحفر الأنفاق داخل المدينة تحت منازل المدنيين والمرافق الحيوية، وألمح إلى أن سياسة حفر الأنفاق في الرقة في ذات المواقع التي حفر فيها “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، بالقرب من المشفى الوطني ومشفى الأطفال، تعد مؤشراً على قرب معركة وشيكة، على غرار المعركة ضد “داعش” عام 2017، وهو ما يفقد المدنيين الأمل في تغير قادم عبر المساعي السياسية. إضافة لنقل مقاتلين أجانب ينتمون لتنظيم “الشبيبة الثورية” أو ما يعرف كردياً بـ”جوانن شورشكر”، التابعة لحزب العمال الكردستاني، و”قوات تحرير عفرين” من مقاطعة “عفرين والشهباء”، وهي إحدى المقاطعات السبع من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية وفق قانون التقسيمات الإدارية الصادر نهاية نيسان/أبريل 2024.

وتساءل الهويدي عن سياسة التهميش والإقصاء التي تتبعها الدولة السورية بحق سكان شرق الفرات، وذلك لقبولها بنقل المقاتلين المتشددين التابعين لحزب العمال الكردستاني إلى شرق الفرات، وعدم وفاء “قسد” بتعهداتها، مع حملات اعتقال طالت الناشطين بسبب رفعهم علم الدولة السورية خلال مظاهرات التحرير في الرقة ودير الزور، وتهميش المكونات العربية وإقصائها من دوائر صنع القرار، كعشيرة “العفادلة”، كبرى العشائر العربية في الرقة، واتباع “قسد” سياسة التهجير القسري لمناطق عربية كاملة في أرياف حلب والحسكة.

اتفاق مؤجل حتى إشعار آخر

تشكلت اللجنة المركزية المشتركة بين الحكومة السورية و”قسد” على خلفية توقيع الاتفاق بين الشرع وعبدي، لضمان تسوية الخلافات شرق الفرات، وهي مكونة من لجنتين خماسيتين، إحداهما عن حكومة دمشق، والأخرى عن الكرد، كان اتفاق حلب أول منجزاتها. لاحقاً، تشكلت مع 4 لجان فرعية من الحكومة السورية و”قسد”، وبحسب الباحث في الشؤون السياسية سامر الأحمد فإن هذه اللجان هي الدفاع والجيش، والمؤسسات الخدمية والمدنية، ولجنة المعابر والاقتصاد والنفط، ولجنة القضاء والسجون والأمن.

ستكون مهمة تلك اللجان دمج إدارات شرق الفرات بالدولة السورية. لكن تطبيق اتفاق الشيخ مقصود والأشرفية يحتاج زمنياً عدة أسابيع، بما في ذلك تحقيق السلم الأهلي، وضبط الأمن، وتفعيل المؤسسات الخدمية والتعليمية، وتبييض السجون، وبالتالي لن يكون بمقدور اللجان الفرعية المشكلة شرق الفرات تحقيق أي تقدم مالم تطبق مخرجات الاتفاق الأول، وسط تخوف من عدم التزام “قوات سوريا الديموقراطية” بمضمون الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بملف المقاتلين، أو عدم قدرة الحكومة على حفظ الأمن وحدوث عمليات انتقام داخل الحيين كتلك التي جرت في الساحل مطلع آذار/مارس الماضي.

الاستقرار أولاً

وتسعى “قسد” لتحقيق الأمن والاستقرار في جميع المناطق السورية، بحسب الناشط الكردي عمر سينو، الذي اعتبر في حديث لـ”المدن” أن الإفراج عن الدفعة الأولى من السجناء ضمن 3 دفعات اتفقت عليها مع الحكومة السورية هي دليل حسن نية، لكنها بالمقابل تحتاج لضمانات جدية، خاصة فيما يتعلق بالمهجرين من عفرين واسترجاع ممتلكاتهم، ووقف الهجمات التركية على مناطق القوات الكردية. وأكد سينو أن عدم تهميش المكون الكردي في الدولة السورية الجديدة هي الضمانة الحقيقية التي تسعى وراءها، ومشاركة الكوادر الإدارية والعسكرية لقوات سوريا الديموقراطية في إدارة مؤسسات الدولة السورية، ليس فقط في شرق الفرات، لكون الإعلان الدستوري لم يميز بين السوريين على أساس القومية أو العرق.

يذكر أن “قوات سوريا الديموقراطية” أعلنت دمج المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة لها مع المؤسسات الأمنية للإدارة الذاتية، تمهيداً للدخول في هيكلية الجيش السوري، وذلك مطلع شباط/فبراير من العام الجاري.

المدن

——————————

العمال الكردستاني” يشترط إيقاف تركيا عملياتها لتنفيذه دعوة أوجلان/ محمد علي

07 ابريل 2025

قال قيادي بارز في حزب العمال الكردستاني التركي المعارض لأنقرة، إن وقف الهجمات التي ينفذها الجيش التركي على معاقل الحزب في العراق وسورية، يعد شرطاً رئيساً لتنفيذ دعوة مؤسس الحزب عبد الله أوجلان، التي طالب فيها من محبسه في السابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي بحلّ الحزب وإلقاء سلاحه.

ومنذ أسابيع تنفذ وحدات تركية برية خاصّة عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية والسورية، إلى جانب هجمات بواسطة الطائرات المُسيّرة والمقاتلات على معاقل حزب العمال في البلدين، تستهدف مخازن السلاح وتجمعات مقاتلي الحزب. واليوم الاثنين، نقلت محطة تلفزيون “ميديا خبر”، الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني عن عضو المجلس التنفيذي بالحزب، مصطفى قره سو، قوله إنّ مؤتمر الحزب الذي دعا إليه عبد الله أوجلان، الذي من المفترض أن يشهد إعلان حلّ الحزب وإلقاء السلاح، “مرهون بإطلاق سراح أوجلان ووقف الهجمات التركية”.

وأضاف قره سو “على تركيا أن توقف هجماتها وتطلق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان، حتّى يتمكّن من إدارة مؤتمر حل التنظيم”، وفقاً لتعبيره، مؤكداً “الالتزام بدعوة أوجلان”، لكنه وضع شرطَين أساسيَين، وهما “إطلاق سراح أوجلان، ووقف العمليات التي ينفذها الجيش التركي”.

ويأتي الموقف الجديد لحزب العمال تماشياً مع تأكيد الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي بالحزب، جميل بايك، الذي قال إنه “يجب تهيئة ظروف خاصة لعقد مؤتمر حزب العمال الكردستاني. عندئذٍ سيجري تنفيذ قرارات عبد الله أوجلان”.

ومنذ دعوة أوجلان في الـ27 من فبراير/شباط الماضي، للحزب بإلقاء السلاح وحلّ نفسه، ومن ثم إعلان الحزب وقف إطلاق النار استجابة للدعوة، لم تتوقف العمليات العسكرية التركية التي تأخذ طابعاً استخبارياً عبر قصف مواقع ومقرات الحزب في مناطق قنديل، وسيدكان وسوران، والزاب وزاخو والعمادية، وكاني ماسي، داخل العراق والقريبة من الحدود مع تركيا، شمال دهوك وشرقي أربيل.

وحول الموضوع، قال الخبير في الشأن الأمني في إقليم كردستان العراق، سلام الجاف لـ”العربي الجديد”، إنّ “الحزب انتهى من الاتفاق على أنه لا حلّ له ولا إلقاء للسلاح، دون تنظيم مؤتمر عام لقادته وأعضاء أمانته العليا، وهذا لا يكون بدون وجود مؤسس الحزب نفسه، عبد الله أوجلان. لذلك؛ هم حالياً يشترطون إطلاق سرحه أولاً، ثم وقف الهجمات حتى يُسمح لهم بتنظيم المؤتمر على نحوٍ آمن ودون خوف من استهدافه”.

ويضيف “من غير الواضح حتى الآن، أين يريدون تنظيم هذا المؤتمر، هل هو داخل العراق أو سورية، في مناطق نفوذ الحزب كرديا، أم في مكان آخر، لكن الكرة حالياً في ملعب الدولة التركية، بالاستجابة لشروط الحزب أو رفضها”، معتبراً أن “تاريخ حزب العمال في نقض العهود والاتفاقيات طويل مع تركيا، وهناك خشية من أن إطلاق سراح أوجلان، ووقف العمليات، لن يكون غير امتداد لهذا التاريخ، وأنه لن يجري حل الحزب أو إلقاء سلاحه والتخلي عن العمليات”.

ووصف الملف بأنه “معقد”، مشيراً إلى أنّ “العراق يحتل نحو 70% من ملف حزب العمال بسبب وجوده الكبير فيها، وقضية سلاحه وأفراده، وهو ما يجعل من العراق طرفاً رئيساً في القضية”. والأسبوع الماضي، نفذت القوات التركية قصفاً مدفعياً على سلسلة جبال متين، الواقعة داخل العراق ضمن مدينة العمادية ضواحي دهوك، استهدف مقرات محصنة لحزب العمال وأدى إلى تدميرها، وفقاً لما أوردته وكالة “شفق نيوز”، الكردية التي تبثّ من أربيل.

ونقلت الوكالة عن مصادر أمنية أن “القصف استهدف وادي ميوين في جبال متين، حيث توجد كهوف ومغارات تُستخدم ملاذاً لعناصر حزب العمال الكردستاني”، وأكدت الوكالة أنه “لم يُعرف حجم الخسائر الناجمة عن القصف”، الذي قالت إن الجيش التركي كثف من ضرباته الجوية والمدفعية على هذه المناطق ذات التضاريس الوعرة، في الفترة الأخيرة.

العربي الجديد

——————————-

محافظ دير الزور: نفط الجزيرة سيكون تحت إشراف حكومي كامل

7/4/2025

قال محافظ دير الزور غسان أحمد إن وزارة النفط (الطاقة) في الحكومة السورية ستتولى الإشراف الكامل على الآبار الواقعة بمنطقة الجزيرة شرق نهر الفرات بشمال شرقي البلاد.

وأوضح المحافظ، في تصريحات لوكالة الأناضول، أنه بموجب الاتفاق المبرم بين الحكومة بدمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) “ستتولى وزارة النفط الإشراف الكامل على الآبار التي هي من مقدرات الشعب السوري وليست لفئة معينة دون أخرى”.

ووفق المحافظ، “لم تخضع الآبار منذ سنوات لتأهيل أو صيانة، فنجم عن ذلك توقف بعضها عن العمل”.

وأفاد بأنه تم التواصل مع كل الكوادر والعمال في المنشآت النفطية بمنطقة الجزيرة من أجل تحضير أنفسهم لسيطرة وزارة النفط على المنشآت في وقت قريب جدا.

ومضى قائلا إن “إشراف وزارة النفط على الآبار سيعيد لسوريا أموالا ضخمة تسهم في بنائها وإعادة إعمارها”.

تكريس الأمن

وفي ما يتعلق بالخطط الأمنية، قال أحمد إنه تم تفعيل مراكز الشرطة وإدارة الأمن العام لتعميم الأمن في المحافظة، مع استمرار دورات الانتساب للأمن العام.

وأضاف “هناك تحسن مستمر في الخدمات الأمنية، بموازاة ملاحقة فلول النظام وشبكات المخدرات والجرائم”.

كما شدد على وجود رقابة على الحدود مع العراق “لا سيما في ظل وجود مخاطر حدودية جراء المليشيات والجماعات الخارجة عن القانون”.

وأكد عدم تسجيل أي حوادث أمنية على الطرق الواصلة بين دير الزور والمناطق الغربية، خلال المدة الأخيرة.

وعلى صعيد النقل والمواصلات، قال أحمد إنه كان هناك انقطاع كامل بين ضفتي دير الزور التي يفصل بينهما نهر الفرات، وذلك إثر تفجير الجسر الترابي سابقا.

وأضاف أنهم استقدموا معدات وقطع تبديل من محافظة حمص لإعادة تأهيل الجزء الحديدي من الجسر الترابي الذي تم تدشينه للخدمة منذ قرابة أسبوعين.

وأكد أنهم يواصلون العمل على إعادة تأهيل جسور أخرى في المحافظة حيث تعمل الفرق المختصة على معالجة الأمر، في حين هناك بعض الجسور التي تحتاج إلى شركات متخصصة وموارد أكبر لإعادة تأهيلها وافتتاحها للخدمة.

الخدمات

وعن واقع الخدمات في المحافظة، أفاد أحمد “بتفعيل مركز الأحوال المدنية الأساسي في مركز المدينة، من خلال استخدام أجهزة حديثة بعد تحطم سابقاتها على يد النظام البائد أو فلوله”.

وأضاف أن السجلات المدنية سليمة وليس هناك ضياع في الوثائق الرسمية التي تخص المواطنين، مشيرا إلى تفعيل العديد من مراكز الأحوال المدنية الأخرى. وقال إن “الخطة العامة هي أن تكون كل مراكز الأحوال المدنية قيد الخدمة خلال شهرين”.

أفاد كذلك بأنهم لم يباشروا بعد استصدار بطاقات الهوية الشخصية، مبينا أن ذلك يتطلب نظاما موحدا على مستوى الجمهورية وأن العمل جار لإنجاز ذلك أيضا.

وحول ملف النظافة، أشار محافظ دير الزور إلى وجود آلة نظافة واحدة فقط قيد الخدمة عند دخولهم المحافظة، وذلك ما دفعهم إلى استقدام آليات مختلفة أخرى مستخدمة للتنظيف.

أما على صعيد المياه، فأكد أحمد أن المحافظة أقل تأثرا في هذا المجال بفضل امتلاكها كميات كبيرة من المياه، مشيرا في الوقت نفسه إلى حاجتهم الماسة لمواد التعقيم وآلياته.

وفي ما يخص خدمات الطاقة الكهربائية، قال إنهم قاموا بإنارة كافة شوارع المحافظة بما فيها الأحياء المدمرة.

وأشار إلى استمرارهم في العمل على تأهيل البنية التحتية للشبكة الكهربائية بما يسمح لها باستقبال حجم أكبر من الطاقة، لا سيما بعد حصول المحافظة على تعهد من وزارة الكهرباء السورية بتزويدها بـ70 ميغاواطا على مراحل.

وشدد محافظ دير الزور أيضا على أن إحدى أكبر المشكلات التي تعاني منها المحافظة هي الاتصالات، مرجعا ذلك إلى الانقطاع المتكرر لكابل الألياف الضوئية الواصل بينها وبين المحافظات الأخرى وذلك بسبب رداءة نوعه المصنّع إيرانيا.

ولفت إلى الحاجة لاستبدال هذا الكابل لمواجهة مشكلة الانقطاع المتكرر والمكثف للاتصالات والذي يؤدي أحيانا إلى انقطاع كامل، بحسب تعبيره.

وبالنسبة لأفران الخبز العاملة في المحافظة، أفاد أحمد برصدهم عند دخول دير الزور رداءة الخبز المنتج، الأمر الذي عالجوه باستقدام كميات كبيرة من الطحين التركي وتوزيعه على الأفران.

وأكد أنه لا توجد حاليا مشاكل متعلقة بتوفر الخبز، وأن الكل بإمكانه الوصول إلى الخبز من دون تشكل طوابير طويلة أمام الأفران.

تجاوب

وأشار محافظ دير الزور إلى أنهم خلال اتصالاتهم وجولاتهم في المنطقة، لمسوا أن “الشعب في الجزيرة تواق للعودة إلى جسم الدولة وحضنها وأن يصبح حرا في التجوال بعموم البلاد”.

وأضاف “الإخوة الأكراد مكون أساسي من مكونات الجمهورية العربية السورية ونملك معهم علاقات أخوية وتاريخية ومصاهرة، وآمالا وآلاما مشتركة”.

ووجه محافظ دير الزور رسالة إلى سكان المحافظة وللسوريين عموما، شدد فيها على أن “البلد عاد لأهله ويجب التعاون في بنائه”.

وأضاف “لا فرق بين السلطة والشعب، يجب أن يعلم الجميع بأن دير الزور الوضع فيها دون الوسط من كل الجوانب”.

وختم المحافظ تصريحاته بالقول “ندعو أهلنا أن يصبروا ويتعاونوا، فالبلد ينهض بالتعاون والتشاركية المجتمعية.. ليس لدينا عصا سحرية، قبِلْنا مهمة البناء كما قبلنا مهمة الثورة وإسقاط النظام”.

المصدر : وكالة الأناضول

—————————-

بموجب تفاهمات تركية – أميركية: قسد تسلم سد تشرين للحكومة السورية

2025.04.07

كشف مصدر خاص لموقع تلفزيون سوريا، الإثنين، عن توصل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والحكومة السورية إلى اتفاق بتسلم إدارة سد تشرين للحكومة المركزية ضمن تفاهمات تركية – أميركية بالتنسيق مع الحكومة السورية لوقف المعارك شمالي البلاد.

وقال مصدر مقرب من “قسد” إن “الخارجية الأميركية رعت خلال الأيام الماضية مفاوضات غير مباشرة بين قسد وتركيا من جهة وقسد الحكومة السورية من جهة ثانية بهدف إيقاف المعارك في منطقة سد تشرين بريف منبج بين فصائل تابعة لوزارة الدفاع السورية وقوات سوريا الديمقراطية”.

وبحسب المصدر “سيتم خلال أيام الإعلان رسميا عن التواصل لاتفاق وقف إطلاق النار وتسليم إدارة سد تشرين للحكومة السورية مع انتشار لقوات من الأمن العام ووزارة الدفاع في جسم سد تشرين والمناطق التي تشهد اشتباكات”.

وستتولى فرق فنية من موظفي الحكومة السورية إدارة السد وتشغيله وإجراء الصيانة لضمان أمن المنشأة واستقرار عملية توليد الكهرباء وتحسينها في القترة المقبلة وفق المصدر.

وأمس السبت أعلنت وكالة سانا الرسمية دخول فرق الصيانة إلى سد تشرين بريف مدينة منبج للبدء بعمليات إصلاح الأعطال تمهيداً لإعادته إلى العمل.

وأشار مصدر من “قسد” أنه تجري الآن ترتيبات لوجستية لإعلان الاتفاق وبدء دخول قوات من الحكومة السورية إلى السد تمهيدا لاستلام إدارته خلال أيام”.

اتفاق على تحييد سد تشرين

وفي وقت سابق، كشفت مصادر خاصة لـ”تلفزيون سوريا” عن التوصل إلى اتفاق مبدئي بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) يقضي بتحييد منطقة سد تشرين بريف حلب الشرقي، وتسليم إدارتها لجهة مدنية خاصة، من دون وجود عسكري لأي طرف على الأرض.

وبحسب المصادر، فإن تنفيذ الاتفاق سيجري بشكل ضمني خلال الفترة المقبلة، ويأتي في سياق مساعٍ لتجنّب أي تصعيد ميداني أو مواجهات عسكرية محتملة في المنطقة.

وأوضحت المصادر أن الاتفاق يهدف إلى “نزع فتيل التوتر” وخلق حالة من الاستقرار في محيط السد.

أهمية سد تشرين

يقع سد تشرين في محافظة حلب، جنوب شرقي منبج على بعد 30 كيلومتراً، ويُعد من المنشآت الحيوية في المنطقة، بسعة تخزينية تبلغ 1.9 مليار متر مكعب، وبارتفاع 25 متراً وطول 900 متر.

ويُستخدم السد لتوليد الطاقة الكهربائية وتنظيم المياه، مما يجعل تعرّضه لأي أضرار خطراً كبيراً على حياة المدنيين واستدامة الموارد.

———————–

اتفاق حلب: بداية نهاية الادارة الذاتية في قلب المدينة؟/ ماهر الحمدان

2025-04-07

في الوقت الذي تتجه فيه بوصلة الأحداث الاقليمية نحو تهدئة محسوبة في شمال شرق سوريا، جاءت مشاهد انسحاب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب لتكشف عن تحوّل صامت، لكنه بالغ الدلالة، في علاقة الادارة الذاتية مع الدولة السورية. الانسحاب لم يكن مجرد حركة عسكرية اعتيادية، بل نتاج سلسلة تفاهمات سياسية وأمنية تمخضت عن سنوات من الاستنزاف الميداني، والضغوط الاقليمية، وتغير المزاج الدولي حيال النموذج الاداري الذي أسسته “قسد” في مناطق سيطرتها.

منذ العام 2015، شكّلت الأحياء الواقعة شمال حلب نقطة تماس بين مشروعين متوازيين: الدولة السورية التي تسعى إلى استعادة سيادتها الكاملة، وقوات “قسد” التي قدّمت نفسها كشريك محلي موثوق في الحرب على الارهاب، لكنها تحولت تدريجياً إلى كيان ذي طموح سياسي مستقل، مدعوم من الولايات المتحدة. اليوم، وفي ظل غياب مظلة أميركية واضحة للمشروع الكردي، وعودة النظام السوري إلى طاولة التفاوض من موقع أقوى، تُطوى صفحة من التحدي العسكري والاداري في قلب واحدة من أكثر المدن تعقيداً.

في مشهد يعكس تغيراً لافتاً في ديناميات السيطرة شمالي سوريا، خرج أول رتل عسكري تابع لـ “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) من حيي الشيخ مقصود والأشرفية شمال مدينة حلب، في خطوة وصفت ب”الاختراق السياسي”، بعد سنوات من التوتر وغياب التنسيق بين دمشق والادارة الذاتية.

الانسحاب، الذي جرى الجمعة 4 نيسان تحت إشراف مباشر من وزارة الدفاع السورية، جاء تطبيقاً لاتفاق أُبرم مطلع الشهر الجاري بين ممثلين عن رئاسة الجمهورية و”المجلس المدني” المشرف على الحيين، وتضمن 14 بنداً أبرزها انسحاب تدريجي لـ”قسد” ودمج مؤسساتها الأمنية والخدمية في هياكل الدولة السورية.

من الانفصال إلى إعادة الاندماج

الرتل الذي ضم نحو 500 مقاتل بسلاحهم، توجّه أولاً إلى دير حافر، ثم إلى مناطق شمال شرقي سوريا، حيث الثقل العسكري والاداري لـ “قسد”. في المقابل، تولت قوات “الأمن العام” السوري مرافقة الرتل لتأمين الطريق، في دلالة على تفاهمات ميدانية تسبق التحولات السياسية.

الخطوة لم تأتِ من فراغ. فالاتفاق الأخير بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، والموقع في 10 آذار، كان بمثابة خريطة طريق لمرحلة جديدة عنوانها: “الدمج التدريجي”. وبموجب هذه التفاهمات، تبدأ عملية تبييض سجون الطرفين، وقد أفرج بالفعل عن أكثر من 200 موقوف في أولى مراحل التنفيذ، على أن يتجاوز العدد الاجمالي 600 موقوف في الأيام المقبلة.

الأشرفية والشيخ مقصود: اختبار أولي للاتفاق؟

حيّا الشيخ مقصود والأشرفية، اللذان تسيطر عليهما “قسد” منذ العام 2015، لطالما شكّلا عقدة أمنية في خاصرة النظام داخل مدينة حلب. وعلى الرغم من دخول “إدارة العمليات العسكرية” الموالية لدمشق نهاية العام الماضي، فإن التوتر بقي مسيطراً، وشهدت المنطقة عمليات قنص متبادلة واشتباكات متفرقة.

محمد نور مدني، وهو ناشط محلي، قال لموقع “لبنان الكبير” إن “من المهم إرساء الأمن في مدينة حلب بصورة كاملة، وكان الوجود العسكري لقسد يشكل تهديداً، لا سيما أن هناك عمليات قنص سبق أن حدثت، وتبعتها عمليات خطف واعتقال لكل من اقترب من الحيين، وهذا في الحقيقة شكّل مصدر قلق ورعب للأهالي”.

لكن اليوم، وللمرة الأولى منذ أكثر من عقد، تتقدم الحكومة السورية لإعادة فرض سيطرتها الكاملة على هذه الأحياء، وفق آلية تقوم على “الاندماج المؤسساتي” بدلاً من المواجهة المباشرة. وبحسب مصدر حكومي تحدث إلى “لبنان الكبير”، فإن الكوادر المدنية العاملة ضمن الادارة الذاتية ستُدمج بوزارة الداخلية، بينما تبقى قوى “الأسايش” (الأمن الداخلي) ضمن الحيين، مع أسلحة خفيفة، تحت مظلة الوزارة نفسها.

رسائل داخلية وخارجية

العملية لا تحمل أبعاداً أمنية وحسب، فهي تُقرأ كذلك كإشارة سياسية مزدوجة: أولاً، إلى الداخل السوري، بأن دمشق لا تزال قادرة على “استعادة الهوامش” التي فُقدت خلال الحرب. وثانياً، إلى الخارج، وتحديداً العواصم المنخرطة في الملف السوري، بأن أي حلول مستقبلية لن تتجاوز الدولة المركزية، حتى في مناطق كانت حتى الأمس القريب تُدار ككيانات مستقلة.

أما بالنسبة الى قوات “قسد”، التي حافظت على نفوذها في الحيين على الرغم من الضغوط المتزايدة منذ سنوات، فإن الانسحاب من حلب لا يعني بالضرورة انكفاءً استراتيجياً، بل قد يمثل محاولة لإعادة التموضع تحسباً للمرحلة المقبلة، بحيث تتكثف الضغوط الدولية والاقليمية لتقليص استقلالية الأدارة الذاتية وربطها تدريجياً بالدولة السورية.

دير الزور في الأفق؟

وفيما تتجه الأنظار إلى حلب كأول ساحة اختبار للاتفاق، يرى مراقبون أن مناطق أخرى، لا سيما دير الزور، قد تكون المحطة التالية. وفي هذا السياق، قال الدكتور فاروق الإبراهيم، رئيس حركة الاصلاح والتغيير، لموقع “لبنان الكبير”: “بعد الانتهاء من مشكلة الحيين في حلب، يجب البدء بحل مشكلة دير الزور. هذه يجب أن تكون الخطوة الأولى بعد إنهاء ملف حلب. المدنيون يتوقون الى ذلك، ونحن نرى أن هناك جهوداً إيجابية، لكن نأمل أن تُحل قريباً”.

مناورات الضرورة أم تقارب دائم؟

السؤال الذي يبقى مطروحاً: هل نحن أمام تحول حقيقي في مسار العلاقة بين “قسد” ودمشق، أم مجرد هدنة ضرورية فرضتها التوازنات الدولية والمحلية؟

ما حدث في حلب قد يكون مجرّد البداية، لا النهاية. ومع اقتراب موعد الاستحقاقات السياسية الكبرى في سوريا، ستكون الأحياء الشمالية من حلب أول ميدان يختبر فيه الطرفان صدقية الاتفاق، وقدرتهما على التعايش ضمن صيغة جديدة.

موقع لبنان الكبير

———————————-

========================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 08 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

—————————-

الاعتداءات الإسرائيلية على سورية: الأهداف والاحتمالات والسيناريوهات/ رشيد حوراني

08 ابريل 2025

سوّغت إسرائيل استهدافها مواقع حيوية في سورية، في عهد النظام المخلوع، بحسابات أمنية، لكون الأسد فتح البلاد أمام إيران ومليشياتها. لكن زيادة شهية الاحتلال في التدمير والتوغل بدت واضحة في أعقاب سقوط النظام وخروج إيران من البلاد، فألغى نيتنياهو العمل باتفاق فض الاشتباك 1974، وشن عملية “سهم الباشان” التي دمّرت ما تبقى من القدرات العسكرية السورية، وكان الأبرز التصعيد من خلال التوغل والقصف في الأيام الماضية، سيما في محافظة درعا وعمق البلاد، بعد وضوح بوادر على اتفاقات بين الحكومة السورية الجديدة وتركيا، لإنشاء أنقرة قواعد عسكرية، والمشاركة في إعادة بناء الجيش السوري.

بدأت إسرائيل توغّلاتها البرّية جنوبي سورية منذ أواخر العام 2022، بشق طريق بطول مائة متر، سُمي “سوفا 53″، حيث توغلت خلال عمليات إنشائه الجرافات ودبابات الميركافا الإسرائيلية داخل الأراضي الزراعية السورية في القرى الحدودية، منها جباتا الخشب وخان أرنبة وعين التينة وحرش أبو شطبا والحرية، وجملة وعابدين وكودنا، التي تتبع لكل من محافظتي درعا والقنيطرة. وبعد الحرب على غزّة، زادت هذه التوغّلات المؤقتة والمتقطعة، والتي يتم خلالها تنفيذ عمليات حفر وتجريف ورفع سواتر ترابية.

بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر (2024)، بات واضحا أن إنشاء إسرائيل سواتر ومرابط للدبابات والمدفعية هدف إلى أنها كانت تجهز نقطة انطلاق لهجوم لاحق، وأنها لن تنسحب من هذه المنطقة لاحقاً. ووصل تدخلها إلى شمالي كودنا، وشقت ما يشبه الألسن في المنطقة المحاذية للخط الأحمر “برافو” من الجانب السوري، طول كل لسان بحدود 400 – 500م، وبعد ذلك توصلها مع بعضها. وبعملية الوصل هذه تضم المنطقة التي دخلتها. مثلا، في جباتا الخشب تقدمت بحدود 800م، وعملت لسان (طريق) جنوب هذا التقدم باتجاه الحميدية قبل مدينة الحرية، ثم وصلت بين هذين اللسانين، فأصبحت المنطقة بين اللسانين تحت سيطرتها.

اتصفت ت التوغلات البرّية أخيراً، وخاصة تقدمها باتجاه كل من كويا في 25 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، ونوى غربي درعا 2 إبريل/ نيسان الجاري، بسعيها إلى استباحة سورية برّياً، بعد أن فسح نظام الأسد البائد لها باستباحتها جويا. كما لجأت إلى اعتماد سياسة جسّ النبض مع السكان المحليين، حيث كانت تتقدّم وتتراجع باتجاه موقع ما عدّة مرات، وإن لم تعترضها محاولاتٌ لصدّها تقوم بالتمركز، كما اعتمدت، في مرحلة تالية، عند محاولات الأهالي التصدّي لها ومنعها من التقدم والسيطرة على الأحياء باستهداف من يحاول ذلك، لترهيب السكان، وبالتالي، فسح المجال لتدخلاتها من دون مقاومة.

في المقابل، اتسمت الغارات الجوية الإسرائيلية قبل سقوط النظام باستهدافها المليشيات الإيرانية، ومصالح حزب الله اللبناني التي تقوم بأعمال الرصد والتنصت ضد إسرائيل، وتنفيذ عمليات ضدها انطلاقاً من الداخل السوري، في حال اندلاع مواجهات بين الطرفين وتجنيد فلسطينيين سوريين لتنفيذ عمليات داخل إسرائيل، فضلاً عن نقل عناصر وتكنولوجيا إنتاج الطائرات المسيّرة التي يجري إنتاجها بعيداً عن لبنان، وتهريب الأسلحة والذخائر إلى مواقع الحزب في لبنان مباشرة من مستودعات التخزين الموجودة في سورية والتابعة للحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى استهدافها المستشارين العسكريين الإيرانيين في سورية من قادة وتقنيين؛ لكنها تستمرّ في استهداف البنى التحتية العسكرية، على الرغم من زوال التهديد الإيراني لأمنها القومي.

الإدارة السورية الجديدة وفلسطين وإسرائيل

تعاملت “حكومة الإنقاذ” (حكومة هيئة تحرير الشام في إدلب ومحيطها) مع الفلسطينيين المقيمين في مناطق إدارتها بشكل عالي المستوى. وعملت قيادة العمليات العسكرية، منذ مرحلة التحضير لمعركة ردع العدوان على توظيف الفلسطينيين السوريين ممن هجّروا من حلب ودمشق وحمص في صفوف قواته، ومع الدخول إلى مدينة حلب أرسلت شخصيات فلسطينية من أبناء مخيم النيرب وحملها رسالة إلى قائد “لواء القدس” محمد السعيد ليطلب منه إعلام عناصره بالالتزام في بيوتهم، أو الخروج من المخيم، كي لا تراق دماء الفلسطينيين السوريين بين بعضهم بعضاً، وهو ما دفع “لواء القدس” إلى الخروج من المخيم بدون قتال.

ومع وصول إدارة العمليات العسكرية لمعركة ردع العدوان إلى دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، اجتمع ممثل عن قائد العمليات العسكرية بممثلين عن الفصائل والقوى الفلسطينية التي ساندت النظام السوري البائد في حربه على السوريين، وكانت إدارة العمليات قد استفادت من الفلسطينيين المنخرطين في صفوفها لتتبع ومعرفة أخبارهم وأماكن تواجدهم سواء في دمشق أو حلب. وفي 10 ديسمبر/ كانون الأول هنأ رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، خالد مشعل، على الإعلام،  الشعب السوري بالإنجاز الذي تحقق بإسقاط النظام، ومذكّراً بدور “سورية العزيزة” في دعم القضية الفلسطينية، وجاء ذلك بعد اتصال له مع قائد العمليات العسكرية، أحمد الشرع، طلب منه ألا ينحدر التعامل مع الفصائل الفلسطينية التي ساندت النظام باتجاه الانتقام والتشفّي.

أوقفت إدارة العمليات العسكرية قرابة 20 شخص من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة”، وترك الأمين العام لها طلال ناجي تحت ما يشبه الإقامة الجبرية. ووضعت يدها على معسكراتها ومكتب سلفه الراحل أحمد جبريل.

وضعت إدارة العمليات العسكرية يدها على معسكر ومقر قيادة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة) في كفرسوسة ومنطقة العباسيين، وتركت المسؤول عن المعسكر محمد قيس تحت ما يشبه الإقامة الجبرية بدمشق. كما وضعت يدها أيضا على مقرّات حركة فتح الانتفاضة، بعد أن تمكن قائدها في دمشق العقيد زياد الصغير من الهروب إلى لبنان.

أما جيش التحرير الفلسطيني الذي يضم ثلاثة ألوية شاركت إلى جانب قوات النظام (حطين – أجنادين – القادسية)، الذي تنطبق عليه ما ينطبق على وحدات النظام البائد من تجنيد إجباري للفلسطينيين ومهام تدريبية، جرى الاتفاق على وقف التجنيد، وإلحاق ثكناته المنتشرة في درعا والسويداء وقطنا بدمشق بالجيش السوري، والاتفاق لاحقا على تفصيلات أخرى باعتبار جيش التحرير تم تشكيله بقرار من جامعة الدول العربية للدفاع عن فلسطين. أما المجموعات والفصائل الفلسطينية التي شكلت بعد العام 2011 مثل “لواء القدس” بقيادة محمد السعيد هناك روايتين حول مصيره الأولى تمكنه من الهروب إلى خارج البلاد بعد دخول قوات “ردع العدوان” إلى مخيم النيرب بحلب، بعد إيصال رسالة لأبناء المخيم – عبر الفلسطينيين من أبناء المخيم نفسه وكانوا مع غرفة عمليات ردع العدوان – بما فيهم عناصر “لواء القدس” أن ادخلوا إلى بيوتكم لتجنب إراقة الدماء، والثانية الإقامة الجبرية بدمشق بأمر من إدارة العمليات. بينما تمكن قائد قوات درع الأقصى سائد عبد العال من الفرار إلى الخارج، لكن تم السيطرة على كامل الأسلحة التي تعود لهم.

يدلّ ما سبق على حضور فعلي للمسألة الفلسطينية بشكل خاص، والاحتلال الإسرائيلي بشكل عام في وعي الإدارة السورية الجديدة التي أعلنت تمسّكها باتفاقية 1974، على الرغم من إعلان إسرائيل سقوط تلك الاتفاقية منذ بدء تقدم إدارة العمليات العسكرية نحو دمشق، وسيطرت قواتها على موقع جبل الشيخ والمنطقة العازلة، وتخوّفها من الإدارة السورية الجديدة على الرغم من تطمينات متكرّرة أصدرتها بعدم نيتها استعداء أحد، والتفاتها إلى مسائل التنمية وتحقيق الاستقرار الداخلي، الأمر الذي لم تأخذه إسرائيل على محمل الجدّ، بسبب الخلفية الإسلامية “الجهادية” المنحدرة منها الإدارة السورية.

دوافع العدوان الإسرائيلي

تقف عدة عوامل وراء العدوان الإسرائيلي على سورية بكل أشكاله، الجوية والبرّية والسياسية، التي تتمثل في التواصل مع الإدارة الأميركية لضبط مخزون الأسلحة الكيماوية، باعتباره الشغل الشاغل لكليهما، لضبط تحرّكات الإدارة الجديدة، وشل قدراتها إن فكرت بتحدّي إسرائيل أو اعتراض مشاريعها التوسعية، موجزها:

بعد سقوط النظام، أعلن وزير الدفاع السوري، اللواء مرهف أبو قصرة، بدء هيكلة الجيش وبناء القوات العسكرية، التي ستعمل على ترميم الفجوة بين القوات المسلحة الوليدة والشعب السوري، بعد أن أوغل جيش النظام المخلوع في دماء السوريين، وأرهقتهم ظواهر الفساد التي تفشت فيه كالتفييش (رواتب شهرية للضباط مقابل تغيب الجنود عن الخدمة) والتعفيش، وصاحب ذلك الإعلان تنفيذ عروض عسكرية بحرية وجوية متواضعة بالسلاح الذي تبقى في الوحدات العسكرية، التي آلت إلى سيطرة الإدارة الجديدة، وهو ما قرأته إسرائيل سعياً من الإدارة السورية إلى بناء قوة عسكرية من مختلف صنوف الأسلحة، واستمرّت في تقويض كل البنى التحتية التي تساعد في ذلك.

كما تتخوّف إسرائيل من التكتيكات العسكرية التي اعتمدتها غرفة عمليات “ردع العدوان”، التي تمكّنت بموجبها من إلغاء الفارق في ميزان القوى بينها وبين النظام البائد وداعميْه، روسيا وإيران. وبالتالي، التحرّك باتجاه إسرائيل انطلاقا من الأراضي السورية بعملية تهدف إلى ردع سرائيل. ولذلك تحاول إسرائيل إبقاء الإدارة السورية في حالة حل المشكلات فقط، إلا أن استمرارها في العدوان قد تنزلق إلى ما تخشاه.

وتلعب روسيا دورا كبير في العدوان الإسرائيلي على سورية، بل يمكن القول أنها شكّلت الأرضية الملائمة له، حيث عملت على إخراج النظام مما سمي محور “وحدة الساحات”، ودفعته إلى ضبط عدم انطلاق العمليات العسكرية انطلاقاً من الأراضي السورية ضد إسرائيل بعد نشوب الحرب العدوانية على غزّة، في سبيل إعادة تأهليه، وأنشأت في سبيل ذلك قرابة 15 نقطة مراقبة عسكرية، تمكّنت إسرائيل بعد سقوط النظام من التقدّم إليها بعد إخلاء القوات الروسية لها، ولإسرائيل مصالح متبادلة من ذلك، فروسيا تسعى إلى استخدام العدوان الإسرائيلي عاملاً ضاغطاً على الإدارة السورية الجديدة، وتقدّم نفسها وسيطاً لتحرّكاته، مقابل منحها نفوذا أوسع في سورية، على حساب الجانب التركي التي لا ترغب إسرائيل بوجوده في سورية.

وتشارك الإدارة السورية الجديدة في الاجتماعات والمشاورات التي تتعلق بأمن المنطقة والعالم، مع دولٍ عديدة، فقد اجتمع في عمّان مطلع شهر مارس/ آذار الفائت وزراء الخارجية والدفاع ومسؤولو الدفاع لكل من الأردن ولبنان والعراق وتركيا بهدف إيجاد آليات لمكافحة الإرهاب وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومن شأن هذا الأمر أن يدفع الإدارة الأميركية إلى سحب قواتها من سورية، وهو ما يضعف الموقف الإسرائيلي. كما عقدت قمة بين رؤساء كل من سورية وفرنسا ولبنان وقبرص واليونان، أكّد فيها المجتمعون على ضرورة تحقيق الاستقرار في المنطقة، وبالتالي، تتخوّف إسرائيل أن تقود هذه الاجتماعات إلى محاصرة سلوكها في المنطقة، وخاصة اعتداءاتها المتكرّرة على جوارها.

نجاح الإدارة السورية في دمج الأطراف المعارضة لها بالتدريج سواء في السويداء، التي عينت فيها محافظا للمدينة، ونسّبت فيها عناصر من أبنائها لصالح جهاز الأمن العام، حيث التحق المنشقّون ومن خضع للتسوية للعمل في مراكزهم، أو مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي أبرمت معها اتفاقاً بخصوص حيي الشيخ المقصود والأشرفية في حلب، تُظهر بنوده علو كعب سلطة الحكومة في دمشق على شروط “قسد”. وبالتالي، سحب هذه الورقة من التلاعب بها من إسرائيل، أي ورقة حماية الأقليات التي لوّح بها نتنياهو والتعامل معها حقلاً للتجريب.

القدرات العسكرية السورية

بعد استشهاد تسعة من أبناء مدينة نوى وبعض القرى المحيطة في ريف درعا الغربي في أثناء تصدّيهم لمحاولة تقدّم قوات الاحتلال الإسرائيلي نحو منطقة سد جبيلة، باتت الأطراف المعنيّة فعلاً بالمسألة وبالصراع المحتمل ومتطلباته ونتائجه وتداعياته مهتمة بملامح وإشارات المقاومة المحتمل اندلاعها، وأول هذه الأطراف هي إسرائيل، حيث ذكرت منصاتها ومنابرها العسكرية والسياسية والإعلامية المقاومة وحدوثها فعلا، كونها استوعبت رسالة الواقع بحتمية نشوء المقاومة، وأن عليها الاستعداد لمحاربة شعب مقاوم، ولقد أكد هذه الرسالة بشكل بليغ توافد وحضور جمهور شعبي غفير وغاضب من مناطق مختلفة ويقدر بالآلاف، إن لم يكن بعشرات الآلاف، لتشييع الشهداء، وجرى إيصال الرسالة إلى إسرائيل وشرحها بشعارات وهتافات تلخّص نسغ ومادة الثورة والمقاومة.

وتعتمد المقاومة في حال اندلاعها أولا على العامل المعنوي، الذي تمثل في الزخم الشعبي الكبير خلال التشييع، كما تعتمد على قدرة أبناء سورية على خوض حرب استنزافٍ ضد إسرائيل تشبه إلى حد كبير أساليب القتال التي اتبعت في مواجهة قوات النظام وداعميه، وبالتالي سيسبب حنقا اجتماعيا داخل المجتمع الإسرائيلي، كما أن المواجهة السورية ضد إسرائيل تدعمها العقيدة السياسية لكل من الإدارة السورية الجديدة، برؤيتها إلى إسرائيل كياناً مصطنعاُ، وليست واحدةً من دول المنطقة. كما إن استمرار إسرائيل في عدوانها قد يدفع الإدارة السورية إلى دعم المقاومة الفلسطينية إلى جانب المقاومة السورية، وهو ما يشكل إرباكاً كبيراً لإسرائيل، خاصة أنها تميل إلى الاستقرار والبناء، ولا يمكن المسير في بناء الدولة، مع استمرار إسرائيل بزعزعة الاستقرار، وبالتالي تصبح الإدارة السورية أسيرة قول الشاعر:

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه.. إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

سيناريوهات محتملة

في ظل استمرار التدخلات الدولية على الساحة السورية، والنظر إليها على أنها ساحة مناسبة للمناكفة فيما بينها، وفي ظل استمرار الأطراف المحلية بمعارضتها لها، التي تذرعت إسرائيل بحمايتها أكثر من مرّة، يتوقع أحد السيناريوهين:

الاستمرار في التصعيد العسكري القائم على جسّ النبض، وتجنب المواجهة العسكرية التي تؤدي إلى سقوط الشهداء من السكان المدنيين، لأن ذلك يصعب عملية تقدمها، ويهيأ لتأسيس مقاومة منظمّة ضدها تقودها إلى الانزلاق في حرب استنزاف طويلة، بعد أن عاينت عن قرب الرفض الشعبي لها، والاستعداد للتضحية ومنع احتلالها للأراضي.

تمكن تركيا من الوصول إلى توقيع اتفاق دفاع مشترك مع القيادة السورية، يكون من شأنه وضع حد للاعتداءات الإسرائيلية، وقطع شوط كبير في التعاون العسكري معها، ويبدو أن الإدارة السورية ماضية في هذه الشأن، سيما أن أنقرة عينت ملحقاً عسكرياً لها في دمشق، ويبقى أن ترتب كل من أنقرة ودمشق تنسيق الأمر مع الأطراف الأخرى في سورية بشكلٍ يضمن مصالحها، كروسيا الولايات المتحدة، التي تقود التحالف الدولي ضد “داعش”.

العربي الجديد

———————————-

الممانعة كذبة أسدية.. ولكن العدوان الصهيوني حقيقة واقعة/ حسن النيفي

2025.04.08

لعل من أهمّ موبقات الإرث الأسدي في سوريا أنه لا يمكن اختزاله بالخراب المادي الذي طال البلاد، ولا كذلك بعمليات القتل التي طالت مئات الآلاف من السوريين وشرّدت أضعافهم، بل ثمّة في هذا الإرث ما هو أشدّ وباءً وفتكاً في النفوس والعقول على حدّ سواء.

ونعني بذلك العديد من المفاهيم وطرائق التفكير والمقولات التي شكّلت – عبر عقود مضت – وعيَ أجيال متتالية من السوريين، وخاصة في ظل استفراد السلطة واحتكارها للسياسة وتحكّمها ومصادرتها لجميع وسائل الإعلام وأي نشاط آخر يُعنى بالشأن العام، وبسْط سطوتها وهيمنتها على جميع مفاصل الحياة الثقافية والاجتماعية، ما أدّى بالتالي إلى فرض ثقافة نمطية لا تنبثق من السياق الاجتماعي والحياتي لسائر الناس، وإنما من نزوع السلطة الهادف إلى توقير مقولاتها في أذهان المواطنين، باعتبار تلك المقولات او المفاهيم حقائق ترقى إلى درجة البدهيات.

لعل من أبرز تلك المقولات التي استمدّت السلطة الأسدية منها مبرّرات جميع أشكال سلوكها حيال الشعب السوري طيلة عقود من الزمن هي سردية (الممانعة والمقاومة) التي جعلت منها (ساطوراً) تُجهز به على رؤوس من تخوّل لهم أنفسهم الاحتجاج أو الانتقاد لأي سلوك سلطوي، وربما استطاع حافظ الأسد التأسيس لهذه السردية – سياسياً – عبر استراتيجيته القائمة على مفهوم (اللاسلم واللاحرب) منذ عام 1974 ، ثم أضحت منهجاً خارجاً عن سياق المواجهة مع إسرائيل، بل ذو صلة بطبيعة العلاقة بين الشعب والسلطة، أي تحوّلت سردية (الممانعة) إلى مفهوم عام يجب ان يحظى بقناعة وإيمان جميع السوريين، وفحواه أن التصدّي لإسرائيل وأطماعها يقتضي – حكماً – إذلال الشعب السوري والإمعان في التغوّل على حقوقه وانتهاك كرامته، وهكذا بات يُنظَر إلى أي استحقاق يطالب به المواطن سواء أكان استحقاقاً سياسياً أو حياتياً عاماً، باعتباره استحقاقاً نافلاً أمام الاستحقاق الأكبر المتمثّل بالمواجهة الكبرى مع الكيان الصهيوني.

بالطبع لم تكن مقولة (الممانعة والمقاومة) بعيدة الصلة عن جذرها الإيديولوجي المتمثل بالفكر القومي – في شطره التقليدي – الذي كان مهجوساً على الدوام بالشعارات والأهداف القومية الكبرى (الوحدة العربية – تحرير فلسطين)، غيرَ عابىءٍ – في الوقت ذاته – لأي شاغلٍ وطني ذي صلة بمسائل التنمية المجتمعية أو الحريات أو حقوق الإنسان، مع التأكيد على أن ارتباط الدولة الأسدية بالإيديولوجيا القومية لا يعدو كونه استثماراً وظيفياً كان يفضي على الدوام إلى نتائج شديدة التناقض بين ما تفعه من شعارات وبين سلوكها على الأرض . كما كانت النبرة المتصاعدة في رجْم النزعة (القطرية) تجسّد حافزاً إضافياً لاستبعاد أي حالة من البناء الوطني أو التأسيس لنمو مجتمعي قائم على العدالة وسلطة القانون والحفاظ على حقوق المواطنين بوصفهم المالك الحقيقي للدولة وليس بوصفهم قطيعاً بشرياً يجب تسخير جميع طاقاته لخدمة شعارات لا تعود بالنفع سوى على الحاكم ذاته.

مع زوال نظام الأسد، وتزامناً مع الساعات الأولى لهروب رأس النظام ( 8 – 12 – 2024 ) بدأ الكيان الصهيوني بعدوان عسكري واسع النطاق استهدف العديد من المواقع والمنشآت العسكرية في عدد من المدن والبلدات السورية، بذريعة أن تلك المواقع كانت تتموضع بها ميليشيات إيران المتمثلة بحزب الله ومشتقاته الطائفية في سوريا، ثم ما لبث هذا العدوان أن تحوّل إلى تغوّل برّي داخل العمق السوري، متجاوزاً الخطوط التي حددت معالمها اتفاقية فك الاشتباك بين إسرائيل ونظام الأسد عام 1974 ، وبات واضحاً أن زوال نظام الأسد أحدث فراغاً أمنياً أوجب على إسرائيل أن تعيد هندسة أمنية لكيانها ولكن وفقاً لاستراتيجية جديدة تتقوّم على أمرين:

يتجسّد الأول بتجريد الدولة السورية من جميع وسائل القوة الرادعة عسكرياً، عبر استهداف وتدمير جميع أنواع الصواريخ والأسلحة المتوسطة والثقيلة والقواعد العسكرية ومراكز البحوث العلمية والتصنيع الحربي. ويتجلى الثاني بتقسيم الجغرافيا السورية إلى كانتونات، من خلال مغازلة الكورد تارةً والدروز تارةً أخرى، في مسعى تحريضي الهدف منه استباق أي خطوة سورية نحو المصالحة الوطنية وتوطيد سلطة الدولة.

إلى ذلك، استمرّ العدوان الإسرائيلي بالتصاعد إلى أن بلغ حدّ الاستيلاء على بعض القرى والبلدات والاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم، بل و طرْدهم من قراهم ومنعهم من الاقتراب من حقولهم وأماكن عملهم، الأمر الذي أحدث ردّة فعل شديدة من جهة المواطنين الذين اضطر البعض منهم للدفاع عن أُسرهم وممتلكاتهم، ما دفع قوات الاحتلال للتنكيل بهم بارتكابها مجزرة أودت بأرواح تسعة مواطنين وإصابة العشرات من أبناء مدينة درعا.

لا شك أن ما تسعى إليه إسرائيل على المدى البعيد لا يمكن رسم ملامحه بدقة، من جهة عدم محدودية التوسع الصهيوني، وبالتالي لا يمكن الركون إلى أن ثمة نقطة سينتهي عندها الكيان الصهيوني الذي يعتقد أن سلامة وجوده قائمة – حكماً – على إبادة مستمرة للآخرين.

وحيال ذلك، فقد بات العدوان الإسرائيلي يجسّد تحدّياً كبيراً إلى جانب التحدّيات التي تواجهها القيادة السورية الجديدة في الوقت الراهن، ولعله من غير المُستغرب أن نجد ردّة فعل شعبية عارمة تعلن تضامنها مع أهالي درعا، سواءٌ من خلال المظاهرات التي عمّت المدن والبلدات السورية أو من خلال المواقف الرافضة والمندّدة بالعدوان، ولكن اللافت في الأمر أن ردّة الفعل الشعبية المتضامنة مع سكان الجنوب السوري والرافضة للعدوان الصهيوني، قد لاقت من جهة أخرى انتقادات عديدة من جهات سياسية وأفراد وجماعات، بحجة أن ردّة الفعل هذه هي استنساخ آخر لسردية (الممانعة) ذات المنتج الأسدي، ثم يجد أصحاب هذا الاحتجاج أن إشغال الرأي السوري العام بالعدوان الصهيوني جاء لتشتيت الرأي عمّا حدث في الساحل السوري من مجازر بحق مواطنين من الطائفة العلوية، فضلاً عن وجود استحقاقات أخرى تواجه السلطة الحاكمة ولا يجوز إغفالها أو التغاضي عنها تحت غطاء العدوان الإسرائيلي.

وهكذا يجد السوريون أنفسهم مرة أخرى في جدال لا يخلو من العقم أمام إحدى موروثات الوباء الأسدي (مقولة الممانعة) ليس بسبب جهلٍ بمضامينها أو تعدّدٍ في دلالاتها أو اختلاف في تأويلها، ولكن رغبةً من كل طرفٍ بتوظيفها وفقاً للوجهة التي تخدم رأيه وقناعاته، وربما ولاءاته أو انتماءاته، وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن من أكثر مظاهر الشناعة الأخلاقية هي تشويه الحقائق عبر اجتزاء او اختزال المشهد السوري الكبير والمتشعب في بقعة صغيرة لا ترى العين سواها، إذ إن مجازر الساحل السوري لا يمكن إنكارها أو تبريرها، فهي حقيقة واقعة وليست رواية تاريخية، تماماً كما أن وجود فلول النظام واستهدافهم لعدد غير قليل من الأرواح سواء أكانوا من الأمن العام أم مدنيين، حقيقة أيضاً وليست رواية كيدية أو مُلفّقة، والمطالبة بمحاسبة الجناة من الطرفين وإحقاق العدالة هو واجب ومسؤولية السلطة الحاكمة، وهذا ما ينبغي الدفع باتجاهه، ذلك أن انتصار العدالة يتجسّد بمحاسبة الجاني وإعادة اعتبار الضحايا وليس من خلال الترويج والتجييش لانتصار سردية مظلومية على أخرى. ولئن كانت الحكومة تواجه استحقاقات لا ينبغي إغفالها أو تجاوزها، فإن العدوان الإسرائيلي هو أيضاً أحد تلك الاستحقاقات التي تجب مواجهتها أيضاً، وأخيراً إذا كانت مقولة (الممانعة) هي عبارة عن (كذبة أسدية) فإن العدوان الصهيوني الراهن هو حقيقة واقعة.

تلفزيون سوريا

———————————-

سورية التي تخيف إسرائيل/ معن البياري

08 ابريل 2025

لا تزيّد في قول من يقول إن خوفها من سورية هو ما يجعلُ إسرائيل تواظب على الاعتداء شبه اليومي على كل ما تبقّى من مقدّراتٍ عسكريةٍ في الأراضي السورية، وعلى ترويع الشعب في التوغّلات البريّة في الجنوب. أمّا سورية التي تُخيف، والمؤشَّر إليها هنا، فلا حاجة إلى تنويهٍ بأنها ليست التي نرى، ليست الحُطام المستضعَف الذي أورثه نظام الأسد الساقط للحكم الراهن، وإنما سورية التي تعرف إسرائيل، كما الجميع، أن شعبَها يتطلّع إلى قيامتها، عندما تُصبح وطناً مُعافى لكل أبنائه، مسلّحاً بإرادتهم أحراراً، وقد اهتدوا إلى النظام السياسي الذي يريدون، والذي ينهضُ على العدل، وعلى الإجماع الوطني بأن قوّة سورية في قوّتهم، أصحاب قرارٍ يشاركون في صوْغه، عندما يتمثّلون في كل مؤسّسات السلطة والحكم والإدارة والتسيير، وعندما يتوطّن في كل سوريٍّ شعورُه، حقّاً، بأنه ينتسبُ إلى بلدٍ له، لا إلى عائلةٍ أو جماعةٍ أو طبقةٍ أو عصابة.

سورية هذه تُخيف إسرائيل، فمواطنوها يعتنقون عداء دولة القتل والاحتلال، وليس من واحدٍ فيهم على استعدادٍ للتفريط بشيءٍ من أرض الجولان المحتلة، ولا لمغادرة ارتباطِه العضوي والعروبي مع فلسطين قضيةً أولى للأمة. سورية الناهضة، وقد استردّها شعبُها من عائلة الاستبداد والفساد التي احتلّتها طويلاً، وزاولت أطناناً من الدجل في القومية والعروبة، هذه سورية التي تتحسّب منها إسرائيل، ولن تكفّ عن اقتراف كل ما قد يؤخّر وصول الشعب السوري إليها، أو يقطع طريقَه إليها، أو يُشعر هذا الشعب باستحالتِها. والذي صار أن أبناء هذا البلد الذي استحقّ وصفه بلد العروبة النابض هزموا ما كان الظنّ أنه من المستحيلات، عندما أنجزوا فجر 8 ديسمبر (2024) استقلالاً ثالثاً لبلدهم، بعد إعلانها دولةً مستقلّة في 1920، ثم مع جلاء الاحتلال الفرنسي عنها في 1946.

ليس من استعارات المجاز أن يُقال إن نهوض سورية دولةً منيعةً، مستقرّةً، حرّةً، من شروط نهوض الأمة العربية كلها. وليس خيالاً تجود به قريحة شاعرٍ أن يُؤكَّدَ أن العرب ينتظرون سورية التي يُحسَب لها مائة حساب، وهي التي يعدّها المعتدون الباغون في دولة الاحتلال، منذ سنواتٍ، ساحةً مستباحةً لسلاح الطيران الإسرائيلي. وإذا كان هذا المشتهى ليس منظوراً بعد، فلا يعني أنه ليس خياراً في مقدّمة أولويات السوريين، وهم يخوضون، في المقطع المعايَن من انعطافتهم الصعبة، في نقاشٍ عسيرٍ، يبحثون فيه عن كل ما يُسعف بلدهم ويأخُذُه من رثاثة ما هو عليه إلى الأفق الذي ما قامت الثورة إلا نشداناً له. وهذا مطمئنٌ، فتعطّل دواليبُ التاريخ في مفصلٍ ما لن يكون قدراً أبديّاً مسلّماً به.

وإذا رأى من يرى في كل هذا القول رغائبيّة ظاهرةً فله هذا، فأولُ عتبةٍ يوقَف عليها لإنجاز أيِّ مرغوبٍ فيه أن يكون مرغوباً فيه حقّاً. وما يجوس في خواطرنا بشأن سورية المنتظرة، غير البعيدة إن شاء الله، غزير، ليس العبور إليه هيّناً، لكن حماية البلد من الذئب الإسرائيلي لا يجوز أن تُغمَض العيون عنه هدفاً لا تؤخّره أولوياتٌ معلومة، تتعلق بعيش السوري وحقوقه في عدالةٍ اجتماعيةٍ وكرامةٍ في مسكنه ورزقه وتعليمه وطبابته. ولا يجوز أن يُعدّ هذا الهدف نافلاً، وأن يُحسَب الحديث فيه انصرافاً عن ضروراتٍ أشدّ إلحاحاً، فلسنا هنا أمام مفاضلاتٍ تُزاحم واحدةٌ أخرى. إنما الأمر أن إسرائيل لن تجعل السوري يطمئن إلى دعةٍ وأمنٍ وأمانٍ في بلده. ولهذا لا عظة ولا مدرسيّة في التذكير بما لا يحتاج أيّ تذكير، وموجزُه أن السوري الذي تقوى بلدُه به هو الرهان الأول في عملية المواجهة المحتومة مع دولة الاحتلال والعدوان. وبداهةً، بوجود قيادةٍ ذات مخيّلةٍ وقدراتٍ خاصةٍ في الابتكار والإبداع، في مسيرة بحثها عن معادلاتٍ توازي بين وجوب هذه المواجهة وتجنيب السوريين أعباءً ليس في مكنتهم احتمالها، سيما في غضون الثقيل الباهظ من الإكراهات الضاغطة عليهم.

هو قدر سورية الذي سيّجتها به مواريث التاريخ والجغرافيا جعلها في الموقع المتقدّم في معركة المصير مع العدو الإسرائيلي الذي يرتعش من سورية القوية المعافاة، ولهذا لا ينفكّ يضرب فيها بارتجاف الخائف، لا بثقة المطمئن إلى دوام ضعفِها الذي ستُغادره، قريباً إن شاء الله، حماها الله وحمى ناسها.

العربي الجديد

————————

إسرائيل تخشى من “بعث سوريا”/ عبد الله مكسور

2025.04.08

منذ الثامن من ديسمبر 2024، تشهد سماء سوريا غارات إسرائيلية لا تهدأ، وتوغّلاً برياً لا يعرف الخجل. عشرات الطائرات الإسرائيلية تعبر الأجواء، لا تعترضها رادارات ولا تُقلقها خطوط حمراء، دبابات وآليات تابعةٌ للاحتلال تعبر خطوط الهدنة، وكأن الأرض مفتوحةٌ على خيانة الجغرافيا، والسماء مؤجرة بموافقة غامضة.

لكن، هل حقاً هذه الضربات هي مجرد ردع تكتيكي تمارسه إسرائيل من خلال اقتناص لحظة سوريا الضعيفة الغارقة بأزماتها؟. أم أن سوريا كانت – وما تزال – جرحاً مفتوحاً في صدر المشروع الصهيوني، وميداناً رمزياً في خريطة الهوس الإسرائيلي بالسيطرة وإعادة تشكيل الشرق؟

سوريا المفيدة لإسرائيل

“لا نريد سوريا ضعيفة فقط، نريدها ميتة بفعل الزمن”

هذه العبارة قد لا نجدها حرفياً في مذكرات غولدا مائير أو كتابات زئيف جابوتنسكي، لكنها تُستنبط من مواقفهما. رئيسة وزاراء إسرائيل السابقة قالت إنَّ الحدود الإسرائيلية لا تُرسم بالحبر، بل بالنار. أما جابوتنسكي، فقد كان أكثر فجاجة حين قال صراحة في مقالته الشهيرة “الجدار الحديدي” عام 1923م بأن العرب لن يقبلوا المشروع الصهيوني، لقد استخدم عبارة: “لا نريدهم أن يقبلوا، بل أن يُجبروا على قبوله تحت وطأة القوة.”

يمكن طرح السؤال بشكل مباشر: لماذا سوريا تحديداً؟ ولماذا الآن؟ سوريا بالنسبة لإسرائيل ليست جاراً، بل حجراً في رقعة الشطرنج الصهيونية، هذا ما على السوريين والسوريات إدراكه بشكل واضح ولا لبس فيه. فتاريخياً، لم تكن سوريا بالنسبة للمشروع الصهيوني مجرد دولة مجاورة، كياناً عابراً يمكن التعايش معه، بل كانت مركزاً معنوياً واستراتيجياً في تصورات الصهيونية منذ ما قبل إعلان دولة إسرائيل. هذا يظهر بشكل جلي في الخطاب الصهيوني المبكر، فقد كانت سوريا تُصوّر بوصفها جزءاً من “إسرائيل الكبرى”، وهي فكرة لم تُمحَ تماماً من الخيال السياسي لأوساط اليمين واليسار الإسرائيليان.

الوثائق الصهيونية

الوثائق الصهيونية في مطلع القرن العشرين، خصوصاً مراسلات حاييم وايزمن مع البريطانيين، تكشف أن سوريا بجغرافيتها الحالية كانت هدفاً بعيداً واستراتيجياً بذات الوقت، حدث هذا في لحظة مفصلية كانت فيها الخرائط تُرسم على طاولات لندن وباريس بالحبر. الوثائق تكشف أيضاً عن رغبة من الطرف العربي حينها في التعاون مع المشروع اليهودي في فلسطين شريطة قيام دولة عربية واسعة تشمل سوريا والعراق والحجاز، هذه الملاحظة كُتِبت باللغة العربية تحت بنود الاتفاق المشار إليه.

بناء على ما سبق يمكن القول إن الصهيونية المبكرة رأت في سوريا مركز الثقل في الشام، ومفتاح التوازن في الهلال الخصيب. فمن يملك دمشق، يملك مفاتيح النفوذ على تخوم فلسطين ولبنان وأبواب العراق. ومن يُخضع دمشق، يُخضع القاهرة عن بُعد، ويراقب أنقرة من علٍ.

 وإن تأخّر هذا المشروع عن الظهور أو التحقق إنما يعود لأسباب كثيرة. مع حضوره بشكل دائم ففي مذكرات موشيه ديان يقول: “من مرتفعات الجولان نسمع صوت دمشق تخفق كقلب”

لم تكن حرب 1967 فقط لحماية “حدود إسرائيل” وفق السردية الإسرائيلية، بل كانت ـ كما دوّن موشيه ديان ـ خطوة استراتيجية لفرض معادلة ردع تُقصي دمشق من معادلة التأثير الإقليمي. وأستحضر هنا ما كتب ديان في مذكراته: “سوريا خطرٌ لأنها لم تتوقف عن الحلم. كانت تدعم الفدائيين، وتبث الدعاية، وتُبقي بندقيتها مشتعلة في الليل. كان لا بد من كسر عنقها من الهضاب.”

واستمر الكسر. فبعد سيطرة إسرائيل على الجولان، تحولت المنطقة إلى قاعدة للمراقبة والتجسس على كامل الجغرافيا السورية. ومنذ عام 2011، ومع اندلاع الثورة السورية، أدركت إسرائيل أن اللحظة التي انتظرتها الصهيونية منذ عقود قد حانت. فالفوضى السورية ليست تهديداً في عين إسرائيل، بل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الواقع السوري والإقليمي ربما، وفق ما يناسب أمن تل أبيب ونفوذها وهيمنتها.

وفي هذا السياق يمكن اعتبار الضربات الإسرائيلية ليست ردعاً عسكرياً فقط بل هندسة استراتيجية، فمنذ ديسمبر 2024 وحتى اليوم، تجاوزت الغارات الإسرائيلية على سوريا الطابع التقليدي. كسرت كل قواعد الاشتباك التي عُمِل بها لزمن طويل، ووفقاً لتقارير استخبارية منشورة في الصحافة الإسرائيلية فإن الضربات لم تقتصر على شحنات سلاح إيرانية، بل شملت أيضاً مراكز تكنولوجية ومقار قيادية سورية قد تُمكّن البلاد من استعادة قدراتها العسكرية. يمكن الإشارة هنا إلى الإنزال المظلي البري في نواحي مصياف بحماة في الثامن من سبتمبر لعام 2024م أي قبل سقوط نظام الأسد بثلاثة أشهر للدلالة على اتجاه إسرائيل لتغيير قواعد الاشتباك مع السوريين.

بعث سوريا

إذاً لم تعد إسرائيل تخشى من الدولة السورية كما كانت عقب النكبة الفلسطينية وحتى السبعينات، لكنها تخشى من فكرة “بعث سوريا” بعد أن تحرر السوريون من عباءة البعث. أي أن تقوم هناك دولة مستقرة، مستقلة، قوية، متماسكة، ذات جيش وطني، وعقيدة واضحة. تلك الفكرة بحد ذاتها تُخيف وترعب المشروع الصهيوني، لأن سوريا تاريخياً، وعلى الرغم من كل تعثراتها، والإجرام الذي مارسه نظامها، ظلت ترفض التطبيع، وتُبقي على المقاومة متقدة، ولو رمزياً. يمكن في هذا المقام الإطلالة على مذكرات نائب الرئيس السوري ووزير الخارجية السابق فاروق الشرع “الرواية المفقودة” الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث يُبرِز الكتاب تعقيدات مسار عملية السلام بين سوريا وإسرائيل، ويوضِّح أن المفاوضات لم تكن مجرد لقاءات دبلوماسية، بل كانت ساحة لصراع الإرادات والمصالح. وهذه المذكرات تظلُّ شهادة حية على مرحلة مهمة من تاريخ سوريا والشرق الأوسط، وتوفر فهماً أعمق للمواقف السورية والإسرائيلية تجاه السلام والحرب وفكرة الاشتباك.

المعادلة الصعبة

 كيف تريد إسرائيل أن تكون سوريا؟ بوضوح ومباشرة إسرائيل لا تريد سوريا صديقة، ولا عدوة. تريدها شبحاً لدولة، أرضاً بلا سيادة، سلطةً مشلولة، ومجتمعاً متخلفاً منقسماً على ذاته. سوريا قوية تُخيفها، وسوريا متماسكة تُهدد مشروعها التوسعي القائم على الاستيلاء والسطو، وسوريا ذات سيادة تُقلِق الركن الأمني فيها، وسوريا قومية تُعيد تذكيرها بخطابات تشحن الجماهير. وسوريا دينية تستحضر كلّ موروث المواجهة الحتمية.

إسرائيل تريد سوريا مفتتة إلى كيانات بانتماءات ضيِّقة، كي تُصبح إسرائيل “بشكل شرعي” من هوية المنطقة والجغرافيا، متماهيةً مع كلِّ زاويةٍ فيها.

ولهذا فإن الاستراتيجية الإسرائيلية الآن هي هندسة “اللامركزية السورية” وإدارة الهشاشة السورية،  أي دعم القوى التي تُبقي على الانقسام، وفي سبيل هذا تضرب نواة الجيش الجديد، وتُجهض أي مشروع نهضوي على كامل التراب السوري. تلوِّح بحماية مكوِّنٍ سوري وتحاول أن تُظهِرَ بخبثٍ تماهيه معها، لذلك يمكن وضع الاعتداءات الإسرائيلية ليس فقط في خانة الغارات الجوية والتوغل البري المجرَّد، بل في سياق إعادة تشكيل لملامح الشرق بالكامل.

هذا التشكيل بدأ منذ وقت مبكر في الذهنية الصهيونية. ففي عام 1949م، وُقّعت اتفاقية الهدنة بين سوريا وإسرائيل في رودوس، والتي حددت خطوط وقف إطلاق النار بين الجانبين. لاحقاً، في 31 مايو 1974م، تم التوصل إلى اتفاقية فض الاشتباك، التي نصت على فصل القوات المتحاربة بوساطة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مع التأكيد على أن هذا الاتفاق الذي أتى عقب حرب تشرين أكتوبر ليس اتفاق سلام، بل خطوة نحو سلام عادل دائم كما تم توصيفه. لاحقاً ومع سقوط نظام الأسد أعلنت إسرائيل انهيار هذه الاتفاقية، وشرعت بشكل مكشوف بتنفيذ استراتيجيتها تجاه سوريا، والتي تمحورت حول إنهاء القدرات العسكرية للدولة الجديدة، ومنعها من تشكيل تهديد مستقبلي. وتجلّى هذا سلوكاً في الغارات الجوية المتكررة التي استهدفت مواقع عسكرية سورية، لم تتدمر في سنوات الثورة، بهدف منع إعادة تأهيلها، أو تعزيز أي نفوذ آخر في المنطقة بما في ذلك النفوذ التركي.

تطرح إسرائيل هنا فلسفة المناطق العازلة بوصفها جزءاً أساسياً من هذه الاستراتيجية، حيث سعت إسرائيل إلى إنشاء منطقة عازلة جنوبي سوريا، ليس فقط لإبعاد القوات السورية، بل أيضاً لتوطيد نفوذها في المنطقة ومنع حضور أي نفوذ آخر. يمكن هنا الإشارة لما نشرته يديعوت أحرونوت في مطلع شهر نيسان أبريل الجاري، عمّا وصفته قلق العقل الأمني في إسرائيل من محاولة أنقرة ملء الفراغ الناتج عن سقوط نظام الأسد، وتقديم نفسها قوة بديلة في سوريا.

هل من أفق للمواجهة؟

الإدارة السورية اليوم تقف بين أنقاض الدولة، وتحت مرمى صواريخ إسرائيلية بدعم أميركي، أسلحة دقيقة لا تُخطئ. تحمِّل الماضي نتائج كل الأخطاء والتراخي، لكنّ هامش الفعل السوري لا يزال موجوداً، ولو ببطء. ليس عن طريق تحالفات هشة مؤقتة تحكمها مصالح ضيقة بالطبع، لأن التاريخ علّمنا أن الشعوب لا تموت، وأن الخرائط التي تُرسم بالنار قد تُمحى بالماء، والحل يكمن في أن تمتلك سوريا مشروعاً جامعاً، لا طائفياً، ولا انتقامياً. والخطوة الأولى تبدأ بإعادة بناء مشروع وطني، لا يعتمد على محور بعينه، بل ينفتح على الإقليم ككل، ويعيد الاعتبار إلى الدولة ككيان جامع. سوريا لا تحتاج إلى حلفاء بالمعنى التقليدي الكلاسيكي، بل إلى مساحة فعل مستقلة، تستثمر في الذاكرة وفي الحاضر معاً، وترفض أن تُعامل كـ”جبهة منسية”.

إسرائيل بوصفها كياناً عنصرياً استعمارياً استيطانياً توسعياً عدوانياً، لم تكن هامشاً في الوعي السوري، وسوريا لم تكن أبداً هامشاً في الوعي الصهيوني. لقد كانت دوماً عقدة، ومركز ثقل، وميدان صراع على الرموز والمعاني. واليوم، في لحظة السقوط المؤقت، تعود إسرائيل لتقول لسوريا: “لقد كسرنا سيفك” و”أعدنا معادلة الردع”، لكن ذاكرة التاريخ تقول عكس ذلك. وذاكرة الأرض لا تخون، فمن يعرف السوريين والسوريات، يدرك أنهم حين ينهضون، ينهضون كالعاصفة. والعاصفة، كما يعرف جابوتنسكي، لا تُردّ بالجدار الحديدي، بل تُسقطه!.

ينهضون وفي الذاكرة  صورة جدهم – ابن الساحل السوري- عز الدين القسام الذي أدرك مبكِّراً جداً خطر المشروع الصهيوني، فقاد ثورة في فلسطين، واستشهد بأحراش يَعبَد في قضاء جنين.

ينهضون وقد أسقطوا عائلة الأسد، ولا يتذكرون جابوتنسكي وجداره الحديدي، بل يحضر في أذهانهم إبراهيم طوقان -الذي توفي بالقدس بعد استشهاد القسام بست سنوات- صارخاً: هو بالباب واقف/ والردى منه خائفُ/ فاهدئي يا عواصفُ/ خجلاً من جراءته/ صامتٌ لو تكلَّما/ لفظ النار والدما/ قل لمن عابَ صمتَهُ/ خُلِقَ الحزم أبكما.

تلفزيون سوريا

——————————

======================

تحديث 07 نيسان 2025

——————————-

حماية الاقليات”…استراتيجية إسرائيلية خطرة في سوريا/ مايكل هوروفيتز

استراتيجية اسرائيل قد تتجاوز مجرد التحوط الأمني

آخر تحديث 06 أبريل 2025

للمرة الأولى منذ عقود، سُمح للدروز السوريين بدخول إسرائيل، فشقت الحافلات طريقها إلى ضريح الشيخ أمين طريف، الزعيم الروحي للطائفة بين عامي 1928 و1993. وكان في استقبالهم أفراد من الطائفة الدرزية في مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل. وأحيطت الزيارة بحماسة ظاهرة، بينما كانت الرايات الدرزية ترفرف على جانبي الطريق، وقد التقت من جديد جماعتان من طائفة واحدة، فرقت بينهما الحدود والعداوة المقيمة بين البلدين. ولكن في حين أن هذه اللحظة تفتح أمام الطائفة فرصا جديدة، فإنها تحمل في طياتها أيضا مخاطر جمّة للطائفة التي تنتشر في ثلاث دول: إسرائيل، وسوريا، ولبنان. وقد اعترف رئيس الوفد الدرزي الزائر في كلمته بذلك، حين وصف هذه اللحظة بأنها “حساسة”.

كان ذلك أحدث دليل على الجهود الإسرائيلية الملحوظة للتأثير على الدروز السوريين. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد، تحاول إسرائيل تنصيب نفسها كمدافع عن الأقليات، سواء كانوا دروزا أو كردا، أو حتى علويين ومسيحيين. ويقع الدروز السوريون في قلب هذه الجهود لأنهم الأقرب إلى إسرائيل جغرافياً من جهة، ولأن بإمكان إسرائيل أن تدعي أنها تقدم الحماية دفاعا عن الطائفة الدرزية في البلاد. وكجزء من هذه الجهود، وزعت إسرائيل مساعدات على المجتمعات الدرزية في جنوب سوريا وتعهدت بمنح الدروز السوريين الحق في العمل في إسرائيل. والأهم من ذلك، تعهد المسؤولون الإسرائيليون بالدفاع عن الدروز: مع اندلاع الاشتباكات بين السكان في مدينة جرمانا التي يقطنها الدروز جنوب دمشق والمقاتلين التابعين للحكومة السورية الجديدة، وأرسلت إسرائيل تحذيرات بأنها لن تسمح للقوات التابعة للحكومة الجديدة بدخول المدينة.

وبالفعل، أمر وزير الدفاع يسرائيل كاتس جيشه بـ”بالاستعداد للدفاع” عن المدينة، مؤكدا أن حكومته “لن تسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز. وإذا ما فعل، فسوف نضربه نحن”. بل إن الطائرات الإسرائيلية حلقت فوق الكثير من المناطق ذات الأغلبية الدرزية، في استعراض للقوة، على الرغم من أن القوات الحكومية السورية دخلت في نهاية المطاف إلى جرمانا دون عنف أو أي إشارة إلى تدخل إسرائيلي.

دروز سوريا والنظام الجديد

واقع الحال أن دروز سوريا يجدون أنفسهم بين خطرين. فمن جهة، يتحدث بعضهم عن مخاوف من السلطة الجديدة في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وتتذكر الطائفة الدرزية أن “جبهة النصرة” التي كان يقودها أحمد الشرع نفسه، نفذت بالفعل هجمات ضد الطائفة الدرزية. ولا تنسى أن إحدى أسوأ الهجمات التي تعرضت لها كانت على يد تنظيم “داعش” الذي نفذ مجزرة في مدينة السويداء واحتجز العشرات كرهائن. ولا يخفف من قلقهم حقيقة أن الشرع و”داعش” خصمان لدودان، وأنهما تقاتلا لسنوات. وقد سعى الشرع إلى طمأنة الطائفة الدرزية، إلا أن دروز سوريا لا يزالون يشعرون بالقلق من تهميشهم أو تعرضهم للعنف على الرغم من تعهدات السلطات السورية الجديدة بحماية الأقليات.

وساعدت أعمال العنف التي وقعت خلال الأسابيع الماضية في شمال غربي سوريا هذه المخاوف. وكانت اشتباكات قد اندلعت على يد خلايا موالية للأسد هاجمت القوات الحكومية. وعلى الرغم من تطمينات دمشق، فقد استهدف المتمردون السوريون السابقون الطائفة العلوية في أعمال عنف أدانها الشرع نفسه في وقت لاحق. وقد سعت الخلايا الموالية للأسد على الأرجح إلى إثارة رد فعل طائفي عنيف، لكن بعض الجهات الفاعلة داخل الثوار وجدتها فرصة للتدخل والرد على ذلك، مما يدل على أن الحكومة المركزية الجديدة لا تسيطر على جميع الثوار السابقين.

في هذا السياق، قد توفر تعهدات إسرائيل بـ”حماية الدروز” بعض الطمأنينة لدروز سوريا، إلا أنها تنطوي أيضا على مخاطر كبيرة. فمن خلال تقديم نفسها كحامية للدروز، وضعت إسرائيل المجتمع الدرزي عن غير قصد في دائرة الاستهداف، إذ أثارت شكوكا بأن بعض أفراد هذا المجتمع قد يفضلون الانحياز إلى إسرائيل على حساب الولاء لسوريا.

وقد دفعت سنوات الحرب الأهلية وانهيار السلطة المركزية بالدروز إلى الاعتماد على أنفسهم، ما أدى فعليا إلى نشوء منطقة شبه مستقلة بحكم الأمر الواقع. وعلى الرغم من أن هذا المجتمع لم يُظهر أي رغبة في الاستقلال، فإن هذا الشكل من الحكم الذاتي أثار مخاوف من احتمال سعيهم إلى إقامة كيان منفصل. وقد دحض زعماء الدروز باستمرار مثل هذه المزاعم، مؤكدين رفضهم القاطع لأي محاولات لتقسيم سوريا، وتمسكهم بوحدتها. وعلى امتداد المنطقة– سواء في إسرائيل، أو لبنان، أو سوريا– ظل الدروز مواطنين مخلصين في أوطانهم. حتى الشيخ طريف، الزعيم الروحي البارز لدروز إسرائيل، شدد على دعمه لوحدة سوريا عند استقباله وفد الدروز السوريين الزائر.

يتصاعد الغضب الشعبي في محافظتي درعا والقنيطرة جنوبي سوريا، بسبب استمرار الوجود الإسرائيلي في القرى القريبة من الحدود. فقد شهدت المنطقة مظاهرات احتجاجية، في مؤشر واضح على تبدّل المزاج العام. ومما لا شك فيه أن إسرائيل فقدت جزءا ملموسا من التعاطف الذي كانت قد راكمته خلال سنوات الحرب، عبر ما عُرف بعملية “الجار الطيب”، والتي نقلت بموجبها جرحى سوريين لتلقي العلاج في مستشفياتها.

وبادعائها حماية الطائفة الدرزية، ربطت إسرائيل الطائفة الدرزية بما يعتبره الكثيرون في سوريا مسعى إسرائيليا مستمرا لضم أجزاء جديدة من البلاد. وفي الأسابيع التي أعقبت سقوط الأسد، توغلت إسرائيل في جنوب سوريا وسيطرت على معظم المنطقة العازلة بين البلدين وتوغلت بضعة كيلومترات خارجها. وتقوم إسرائيل بشكل واضح ببناء خطوط دفاعية جديدة لا تبدو مؤقتة على الإطلاق، وقد أكد المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم شكوك السوريين عندما قالوا إن إسرائيل ستبقى إلى أجل غير مسمى في المناطق التي استولت عليها داخل سوريا.

هدف إسرائيل

لا تبين إسرائيل نواياها بوضوح، ويمكن أن يُفسّر بعض من تحركاتها الرامية إلى تحييد التهديدات المحتملة من خلال الذهنية الأمنية المفرطة التي سادت بعد مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول التي نفذتها حركة “حماس”. فقد أنشأ “حزب الله” منذ فترة طويلة بنية عسكرية على الحدود، أبرزها شبكة خلايا من النخبة تُعرف باسم “ملف الجولان”، وهو ما يشكّل تهديدا حقيقيا، فقد يستغل “الحزب” حالة الفوضى القائمة لتنفيذ هجمات. كما أن المخاوف من وجود عناصر متطرفة ضمن صفوف قوات الرئيس أحمد الشرع تُعطي إسرائيل ذريعة إضافية لتبرير ما تصفه السلطات الإسرائيلية بأنه نهج أمني وقائي.

غير أن استمرار إسرائيل في شن غارات جوية داخل العمق السوري، ورفضها القاطع التعامل مع النظام السوري الجديد– حتى عبر قنوات غير رسمية– وسعيها إلى استقطاب الأقليات السورية، كل ذلك يشير إلى أن استراتيجيتها قد تتجاوز مجرد التحوط الأمني.

وبالفعل، ثمة بين المحللين الإسرائيليين من يرى أن إسرائيل تخشى أن يتحول النظام السوري الجديد إلى تابع فعلي لتركيا، استنادا إلى العلاقات التاريخية التي تربط الشرع بأنقرة. وقد جاءت الضربة الجوية الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قاعدة جوية في ريف حمص، وسط مزاعم تفيد بأن تركيا قد تنشر قريبا منظومات دفاع جوي في القاعدة ذاتها. ووفقا لتقارير إعلامية إسرائيلية، فإن هذه الضربة حملت “رسالة” مباشرة إلى أنقرة، فيما يبدو كمحاولة أولية لكبح التوغل التركي في سوريا، على غرار ما فعلته إسرائيل في مواجهتها للنفوذ الإيراني.

إلا أن هذا التصور القائل إن سوريا ستتحول حتما إلى “تابع” لتركيا، يبدو تبسيطا مفرطا للواقع المعقّد. فهو يتجاهل التوترات التي كانت قائمة بين الطرفين قبل سقوط الأسد، فضلا عن مساعي الشرع الأخيرة لبناء علاقات أوثق مع الدول العربية بهدف موازنة النفوذ التركي.

ومن المفارقات أن تبنّي إسرائيل نهجا عدائيا تجاه دمشق قد يفضي إلى نتيجة معاكسة لما تسعى إليه، إذ قد يدفع بالشرع إلى الارتماء أكثر في أحضان تركيا، بدافع الحاجة، خاصة في ظل سعيه لإعادة بناء القدرات العسكرية السورية. وبدلا من تقويض النفوذ التركي في سوريا، قد تؤدي سياسات إسرائيل إلى زيادة اعتماد القيادة الجديدة في دمشق على أنقرة.

وقد يكون هدف إسرائيل تأمين نفوذ على الحكومة السورية الجديدة، فمن خلال تصوير نفسها كـ”حامية للأقليات”، يبدو أنها تهدف إلى ضمان قدرتها على التأثير في مستقبل سوريا. وفي بداية الحرب الأهلية السورية، اختارت إسرائيل إلى حد كبير التزام الحياد، وترك الصراع يتطور دون تدخل، رغم الدعوات حينها إلى التدخل، لا سيما عبر تحييد سلاح الجو التابع للأسد الذي اتُّهم بارتكاب جرائم حرب واسعة النطاق. إلا أن هذا الموقف سرعان ما أصبح غير قابل للاستمرار، إذ أدركت إسرائيل أن القرب الجغرافي لا يمكن تجاهله، وأن الفراغ في السلطة لا يمكن أن يدوم طويلا. وقد سارعت إيران و”حزب الله” إلى استغلال الفوضى، فتدخلا لدعم الأسد، وأقاما ممرا بريا يمتد من إيران إلى لبنان. ونتيجة لذلك، اضطرت إسرائيل إلى “اللعب في الوقت الضائع”، فشنت مئات الغارات الجوية داخل سوريا، وانتهجت سياسة رد الفعل وفق مبدأ “الضربات المتنقلة”. كما أطلقت برنامج “الجيرة الحسنة”، الذي هدف إلى بناء علاقات مع فصائل المعارضة في الجولان السورية، في محاولة لردع أي هجمات محتملة على أراضيها.

وربما توصلت إسرائيل، ومن خلال هذه التجربة، إلى قناعة بأن عدم الانخراط لم يعد خيارا ممكنا، وكأنها تراهن اليوم على دعم الأقليات لإضعاف سلطة دمشق المركزية، وإقصاء سوريا كتهديد مستقبلي. ويفسر هذا التوجه أيضا توسيع إسرائيل لما تصفه بـ”الضمانة الأمنية” لتشمل الأقلية الكردية. فقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد، تتمتع بموقع فريد يمكّنها من إقامة منطقة حكم ذاتي خاصة بها، ولا سيما أن الأراضي التي تسيطر عليها في شمال شرقي سوريا تعمل بالفعل ككيان شبه مستقل. وقد تطمح “قسد” إلى إقامة “إقليم كردي سوري”، مشابه للإقليم الكردي المستقل في العراق. وتُعد “قسد” بالنسبة إلى إسرائيل ذات أهمية مزدوجة: فهي شريك محتمل في إضعاف دمشق، كما أنها ثِقل موازن للنفوذ التركي في المنطقة.

منطلقات خيارات إسرائيل ومزالقها

يفترض أن تستخلص إسرائيل العِبر من الحرب الأهلية السورية، إلا أنها تتبنى، كما يبدو، الدروس الخاطئة، بما يكشف عن فهم محدود لواقع سوريا. فبعد أكثر من عقد من النزاع الدامي، لم يعد لدى السوريين رغبة في تجدد العنف. ورغم أن الأقليات قلقة بشأن موقعها في سوريا المستقبل، وهي محقة في ذلك، فإنها لا تبدي أي نية لتأسيس كيانات مستقلة. وهي تدرك تماما أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستؤدي، على الأرجح، إلى إشعال فتيل نزاع جديد. فعلى سبيل المثال، تدرك “قسد” أن السعي نحو الاستقلال قد يستجلب تدخلا عسكريا مباشرا من تركيا– وهو ما يؤكد ما قلناه من أن استراتيجية إسرائيل قد تعود بنتائج عكسية، إذ من شأنها أن تعزز النفوذ التركي في سوريا بدلا من الحد منه.

وفي هذا السياق، تُطرح تساؤلات جدية حول مصداقية ما تصفه إسرائيل بـ”الضمانات الأمنية”. فعلى الرغم من تقديمها نفسها كحامية للأقليات، يبقى السؤال: هل هي مستعدة فعلا لتجاوز حدود الخطاب، والانخراط في صراع عسكري للدفاع عن الدروز أو الأكراد أو العلويين أو المسيحيين؟

حتى الآن، تفتقر تعهدات إسرائيل إلى أي خطوات عملية ذات دلالة. وحتى الآن، لم تُترجم هذه “الضمانات” إلى أفعال ملموسة. فإسرائيل ركزت في تحركاتها على استهداف قواعد عسكرية، دون أن تتخذ أي خطوات حقيقية لحماية الأقليات. وعلى الرغم من وجود تعاطف شعبي داخل إسرائيل مع معاناة تلك الفئات، فإن المؤشرات على استعداد الإسرائيليين لتقديم تضحيات فعلية– خاصة بعد أكثر من عام من خوض حروب متعددة الجبهات– لا تزال شبه معدومة. لذا، فإن أي أقلية تعوّل على إسرائيل لضمان بقائها على المدى البعيد، قد تواجه خيبة أمل محتمة.

لقد دفعت عقلية ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحكومة الإسرائيلية إلى تبني استراتيجية أمنية ضيقة الأفق، همّشت فيها أدوات الدبلوماسية، وأغلقت الباب أمام مقاربات أكثر شمولا كان من الممكن أن تتضمّن انفتاحا حذرا على النظام السوري، أو تنسيقا مع دول عربية أخرى للحؤول دون وقوع دمشق في دائرة النفوذ التركي.

ومن المؤكد أن النهج الدبلوماسي الأوسع قد ينطوي بدوره على خيبات، إلا أن التركيز الأحادي على المقاربة الأمنية يجعل من تلك الخيبات مسألة حتمية، بل وأكثر كلفة على المدى البعيد.

المجلة

—————————-

عن حوران في سابقة سورية جديدة/ سميرة المسالمة

الإثنين 2025/04/07

لا أعرف إذا كنت اليوم ألامس من جديد مشاعر التصنيف المناطقي لي، وخصوصاً عند الحديث عن درعا، فعذراً من المنتقدين، إلا أن ما يدفعني من جديد للخوض في الكتابة عنها هو العبرة من المقاومة البطولية لأهلها، دفاعاً عن أرضهم ومنازلهم، ورداً على الانتهاكات المتكررة للجيش الإسرائيلي للمناطق السورية، تلك التي تسجل لهم كسابقة سورية تاريخية جديدة، بعد الأولى في تمردهم وثورتهم ضد نظام الأسد، وهذا ليس مديحاً في غير محله، أو طلباً من السوريين أن يحذو حذوهم، بل هو توصيف لواقعة، لم يجرؤ نظام الأسد يوماً على السماح بها، أو ترك الخيار فيها للشعب، ما يعني حقيقة أن السوريين باتوا يدركون تحررهم كشعب، من جهة، ومن أن رد العدوان مسؤولية كل فرد منا بما أمكن، وهي ما لم تكن تعبر عن قوة عسكرية قادرة على مواجهة الانفلات الإسرائيلي، فهي على الأقل تعبر عن تمسك الناس بانتماءاتهم إلى وطنهم، ورفضهم الهيمنة الإسرائيلية عليه.

نقر جمعياً بالتفوق الحربي الإسرائيلي، لكن هذا التفوق لن يقودها إلى السلام الذي يتطلع إليه شعبها، وهذا حقهم أن يعيشوا وسط بيئة دولية آمنة، والسلام الذي صار مطلباً لكثير من سوريين وعرب وكأنه وجبة “ديلفري” جاهزة، الحصول عليه أيضاً، يتطلب إحلاله في نفوس الشعوب المجاورة لا اقتلاعه منهم، وتشريدهم والاعتداء على ممتلكاتهم، فهو ليس اتفاقات حكومية تنهي مفاعيل الحرب المستعرة، هو تعايش شعبي، علاقات ندية في الإنسانية وحقوق الحياة، وحق الدفاع عنها، ربما تكون هذه هي الرسالة الثمينة من دم شهداء حوران، الذي سال على أرضها دفاعاً عن تلك الحقوق، فليست الأسلحة هي عامل استقواء من حملها ضد أعتى وأحدث أسلحة الدمار، لقد كان الحق، وهو حق، إن فهمنا، وفهمت معه الشعوب العربية رسالته، كما أنه يغلق من جديد تلك الأبواب التي فتحتها فكرة أن إسرائيل هي صاحبة القرار الفصل في المنطقة وعلى الجميع الخنوع لمطالبها والتعامل مع توسعها الاستعماري كأنه شأن داخلي لها.

التضامن الشعبي الذي حظيت به درعا “حوران” يعيدنا إلى الأيام الأولى للثورة، التي انتصرت بعد 14 عاما من تضحياتها، ربما لم تحقق كل أهدافها، لكنها بدأت من أهمها، وهو اسقاط التنظيم الأسدي الذي أنشأه وعمق هيمنته الأسدين (الأب والأبن)، ما يفترض أن تكون هذه المظاهرات والوقفات الاحتجاجية محفزة لاستعادة التضامن على كل المستويات الداخلية، من مواجهة الفوضى المفتعلة إلى توطيد الأمن والسلم الأهلي، فالمواجهة مع إسرائيل صحيح لا ينفع معها البندقية أمام تكنولوجيا السلاح الأكثر تطوراُ وخبرة في القتل والتدمير، لكن توحيد الرأي تجاه القضايا المصيرية كالسلام والحرب والحريات والدستور والعدالة الانتقالية، هو ضمانة القوة الخارجية النابعة من الشعب.

فالانقسام الحاصل مؤخراً، حول فكرة السلام مع اسرائيل، من قبل مجموعات شعبية، ولأسباب مختلفة، منهم من يرى الدمار المرعب الذي خلفته حربها على غزة قابل للتكرار ويريد تجنبه، ومنهم، من يسلم بأن بقاءها حليفة الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى تبعية القرار الغربي لها، يجعل الحرب محسومة لصالحها، فلا يدخلها خاسراً ومهزوماً، يعني بالمختصر التسليم بقدرة إسرائيل على “التشبيح” وفرض هيمنتها على المنطقة بشريعة الغاب والبلطجة، أي ما يمكن اعتباره كأننا نطلق النار على أنفسنا، لكن هذا المنطق الاستسلامي كأنه يحرض العدوان على الاستفراد بسوريا منطقة تلو الأخرى.

وهذا التصدي لها في درعا، ومساندته شعبياً، على بساطته، بنى لها أول الحواجز في طريق استمرارها في خدعة شعبها الإسرائيلي تحت شعارها: أن توسيع عدوانها على سوريا، وقبلها لبنان بعد غزة، يمكنه أن يوفر السلام المطلوب. وهنا لا يفترض أنني أناصر أو مع نشوب حرب بين السوريين والجيش الإسرائيلي، لكن أعول على أن جمع كلمة السوريين على موقف واحد من إسرائيل بات اليوم من ضمن القضايا المحلية، كما هو الحال في الجهة المقابلة، وهذا ليس قضية سياسية- خارجية تتعلق بموقف السلطة القائمة، أياً كان توجهها، بل يدخل في صميم عملية صيانة أمننا الداخلي قبل حمايته من العدو الخارجي.

ولا يقتضي هذا انتفاء أهمية التفكير الجدي والسعي لإحلال سلام حقيقي معها، على المستويين الحكومي والشعبي، على ألا تشوب هذا السلام فكرة تفوقها علينا، ولا خضوعنا لهيمنتها من باب الاستسلام العجزي الآني، بينما مناصرة الرغبة في السلام حالياً بواقع القوي والضعيف الحالي، يعني الاستغناء عن سيادة الدولة مقابل السلام المشروط بإرادة إسرائيل، ونزعاتها لإحاطة نفسها بحزام الأراضي المحروقة من كل جهة، وعلى حساب سيادة كل الدول لا يستثنى منها واحدة مع اختلاف توقيت الرغبة الاسرائيلية. فأهمية مقاومة الاعتداء لا تأتي من حسابات الربح والخسارة في حوران، بل من معنى الاستعداد للتضحية في سبيل حماية الأرض وقد فعلوها!

رحم الله الشهداء، فلا تزال القدرة على العطاء وتقديم الأرواح طلباً للحرية مستمرة، وهو ما يعني أن الوقت لايزال مبكراً على التفكير بتقديم التنازلات من دون مقابل، فإذا كان الأفراد على بساطة الإمكانيات فعلوها، وأحرجوا إسرائيل التي اعتادت على سياحة القتل من دون مقابل، والتدمير من دون إدانة، فكيف الحال حين يقيم العرب قدراتهم، ويعيدوا فتح دفتر حساباتهم واتفاقاتهم؟

المدن

——————————-

لماذا ترفض إسرائيل أي دور عسكري لتركيا في سوريا؟/ فراس فحام

7/4/2025

صعّدت إسرائيل عدوانها العسكري في سوريا في مطلع أبريل/نيسان الجاري، في سياق أوسع من انتهاكاتها المتواصلة في الأراضي السورية برا وجوا، وبررت ذلك برفضها للتعاون العسكري المتزايد بين أنقرة ودمشق في ظل الإدارة السورية الجديدة.

وقام سلاح الجو الإسرائيلي بتنفيذ هجمات واسعة في سوريا، شملت مطار حماة العسكري، ومطار” تي فور” بريف حمص، إضافة إلى قصف ثكنة عسكرية في منطقة الكسوة بريف دمشق.

ولا يقتصر التحرك الإسرائيلي على الهجمات العسكرية، حيث يسعى رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتأثير على الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ما يتعلق بالملف السوري، وهو أحد الدوافع الرئيسية للقاء المرتقب بينهما في 7 أبريل/نيسان الجاري.

سياق التصعيد الأخير

دأبت إسرائيل على التصعيد في سوريا بعد كل خطوة تتخذها الإدارة الجديدة لتعزيز شرعيتها الداخلية والخارجية، حيث أتت الهجمات الأخيرة بعد أيام قليلة من الإعلان عن حكومة جديدة موسعة ضمت مختلف المكونات السورية ولقيت ترحيبا إقليميا ودوليا.

وسبق أن نفذت إسرائيل حملة قصف على مواقع سورية في أعقاب انعقاد مؤتمر الحوار الوطني في أواخر فبراير/شباط الماضي، والذي أكد وحدة الأراضي السورية واحتكار الدولة للسلاح، في وقت يطالب فيه المسؤولون الإسرائيليون بعدم تقديم المجتمع الدولي الدعم للحكومة الجديدة وبتعزيز موقف الأقليات.

ووفقا لمصادر عسكرية سورية، فإن الهجمات التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي مؤخرًا على مطار حماة تركزت على مرابض لطائرات حربية سورية كانت لا تزال صالحة للاستخدام. واللافت أن الهجمات أعقبت عودة الطائرات السورية للتحليق في أجواء البلاد، بالتوازي مع العمل على هيكلة سلاح الجو وتكليف ضباط مختصين بهذا الملف، مما يوحي بأن إسرائيل تسعى لإفشال عملية إعادة هيكلة الجيش السوري.

وأفاد تقرير نشرته وكالة رويترز في 4 أبريل/نيسان الحالي بأن الهجمات الإسرائيلية على قواعد جوية سورية استبقت تحركًا تركيًّا لنشر قوات في هذه القواعد، إذ أشار التقرير إلى أن خبراء أتراكًا تفقدوا 3 قواعد جوية على الأقل قد يتم نشر قوات فيها بموجب اتفاق دفاع مشترك من المتوقع إبرامه بين أنقرة ودمشق.

وتحدثت تقارير تركية عديدة خلال شهر مارس/آذار عن استعداد أنقرة لتقديم التدريب للقوات السورية، وإمكانية دعمها بمنتجات الصناعات الدفاعية التركية.

ويبدو أن تل أبيب لا ترفض تأسيس جيش سوري جديد فحسب، بل لا ترغب أيضًا بأن تضطلع أنقرة بدور محوري في هذا الخصوص.

ويظهر التصعيد الإسرائيلي رفض امتداد الوجود العسكري التركي إلى وسط سوريا، وربما تقبله شمال غربي البلاد، حيث تتجنب أي تهديد للنقاط العسكرية التركية في محافظتي إدلب وحلب.

ما أسباب قلق إسرائيل من الدور التركي؟

تتخوف إسرائيل في ما يبدو من نشر الجيش التركي لمنظومات دفاع جوي مزودة بتقنيات إلكترونية وسط سوريا، وعلى بعد لا يزيد على 230 كيلومترًا عن هضبة الجولان المحتلة، فقد تحدثت تقارير أمنية إسرائيلية عن مخاوف تل أبيب من إمكانية أن تؤدي الخطوة التركية إلى تقييد حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في الأجواء السورية.

وتحدثت تقارير تركية في وقت سابق عن احتمالية أن تنشر أنقرة منظومة “حصار” المخصصة للدفاع الجوي ضمن قواعد وسط سوريا، وهي منظومة محلية الصنع قصيرة ومتوسطة المدى يراوح مداها بين 15 و25 كيلومترًا، وتتيح حمل 6 صواريخ في آن واحد، ويتم توجيهها بالأشعة تحت الحمراء، وتستطيع إسقاط 5 أنواع من الأهداف من ضمنها المقاتلات الحربية، والطائرات المروحيات، والطيران المسير، والصواريخ المجنحة، وصواريخ جو-أرض.

وأفادت تقارير أخرى باحتمال أن تلجأ أنقرة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بعد سحب قواتها من سوريا، إلى نشر منظومة إس 400 الروسية -التي أثار شراؤها من قبل أنقرة استياء واشنطن التي فرضت عقوبات عليها- في سوريا، كجزء من تسوية للخلاف بين الجانبين، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة تركيا إلى برنامج تصنيع طائرات إف 35 والسماح بتمرير صفقات مجمدة لبيعها طائرات إف 16.

من جهة أخرى، تعمل إسرائيل منذ أن تولت الإدارة السورية الجديدة السلطة في البلاد على منع انتشار قوات تتبع لهذه الإدارة في منطقة الجنوب السوري، ولا يخفي الجيش الإسرائيلي هذا الهدف، إلى جانب إبقاء “سماء سوريا نظيفة” حسب وصفه، في إشارة إلى الرغبة بالإبقاء على السيطرة الجوية.

وتشير التسريبات المتكررة التي صدرت عن مصادر تركية وسورية وعربية إلى أن الاتفاقية المرتقبة بين أنقرة ودمشق ستركز على تدريب الجيش السوري الجديد وتسليحه، وهو ما يشكل تحديا مضاعفا لتل أبيب، لعدم ثقتها بالإدارة السورية الجديدة كما تؤكد باستمرار، بالإضافة إلى الخشية من أن تعمل أنقرة على تقوية “جيش سني” موال لها، وتكرار سيناريو هجمات 7 أكتوبر الذي حدث في غلاف غزة، وفقا لما يتم تداوله في الأوساط الأمنية الإسرائيلية.

بالإضافة إلى ذلك، تنظر إسرائيل إلى النشاط التركي في سوريا على أنه قاعدة لدور أوسع في الإقليم، وهو مضمون تقرير أمني نشرته صحيفة إسرائيل هيوم، أشارت فيه أيضًا إلى النفوذ التركي في أذربيجان وليبيا، حيث تعتقد الأوساط الأمنية الإسرائيلية أن أنقرة تعمل على عرقلة مشاريع إسرائيلية خاصة بنقل الغاز في منطقة البحر المتوسط إلى أوروبا.

واتهم وزير الخارجية الإسرائيلي غدعون ساعر خلال مؤتمر صحفي له في باريس أنقرة بأنها تلعب دورًا سلبيا في لبنان وسوريا.

وبينما تصرح إسرائيل بمخاوفها من الدور التركي في سوريا، يعتقد مراقبون أن مخاوفها الحقيقية لا تتعلق في المقام الأول بتركيا بل بسوريا وعودتها مع استكمال المرحلة الانتقالية إلى لعب دور في مواجهة الاحتلال والمطالبة باستعادة الجولان المحتل، لذلك تطلب من واشنطن -كما أفادت تقارير- الإبقاء على سوريا ضعيفة ومفككة.

خيارات تركيا

لا يبدو أن تركيا تسعى للانجرار إلى تصعيد متبادل مع حكومة نتنياهو، فقد سارع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في أعقاب الهجمات الإسرائيلية الأخيرة إلى نفي رغبة أنقرة بالصدام مع إسرائيل في سوريا.

كما أرسل فيدان رسالة طمأنة إلى تل أبيب بأن أنقرة لا تعارض عقد اتفاقية بين الإدارة السورية وإسرائيل، وبالتالي من المحتمل أن تدفع أنقرة باتجاه تفاهمات تسهم في تهدئة المخاوف الإسرائيلية في سوريا بدلا من دعم الصدام، حيث تدعم أنقرة حصول الحكومة السورية الجديدة على شرعية كاملة، على أمل سيطرتها على كامل الأراضي السورية وتجنب سيناريو التقسيم.

بناء على ذلك، من المتوقع أن تدفع تركيا باتجاه الحلول الدبلوماسية لوقف الهجمات الإسرائيلية التي قد تتحول على المدى المتوسط والبعيد إلى تهديد وجودي للإدارة السورية الحالية.

ومن المتوقع أن تلجأ أنقرة إلى تنسيق خطواتها في سوريا مع إدارة ترامب مع التأكيد بأن نشاطها سيكون موجهًا بدرجة أساسية لمنع عودة ظهور تنظيم الدولة، على أمل أن تقوم واشنطن بالضغط على إسرائيل للحد من هجماتها على سوريا، خاصة مع التصريحات الإيجابية التي أدلت بها الخارجية الأميركية في أعقاب تشكيل الحكومة السورية الجديدة.

فقد أكدت واشنطن تأييدها لسيطرة الحكومة السورية على كامل الأراضي السورية، بالإضافة إلى تأكيدات إدارة ترامب رغبتها بالتعاون مع تركيا في سوريا وفقًا لتصريحات وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو التي سبقت الضربات الإسرائيلية الأخيرة.

ومن المحتمل أيضًا أن تسعى أنقرة للاستفادة من الموقف الأوروبي الرافض للتصعيد في سوريا، حيث عبرت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس عن رفض الضربات الإسرائيلية على سوريا واعتبرتها “غير ضرورية”، خاصة في ظل الحديث عن تقارب بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، واحتمالية مشاركة تركيا في خطة دفاعية للاتحاد.

المصدر : الجزيرة

—————————–

اقتراح من إسرائيل لتركيا حول سوريا.. تقرير يكشف

دبي – العربية.نت

07 أبريل ,2025

بينما كثفت إسرائيل غاراتها الجوية على سوريا الأسبوع الماضي، بعدما شعرت برغبة تركية في إقامة قواعد عسكرية على الأراضي السورية، عادت أنقرة وأعلنت أنها لا تسعى إلى الصدام.

تعاون من نوع آخر

فيما خفّت حدة التوتر في العلاقات الإسرائيلية التركية، التي بلغت ذروتها الأسبوع الماضي، قليلاً منذ يوم الجمعة عندما صرّح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في مؤتمر لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل قائلاً: “لا نريد أن نرى أي مواجهة مع إسرائيل في سوريا. السوريون وحدهم هم من يقررون الشؤون الأمنية لبلادهم”.

جاء هذا بعدما حذّر وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، الرئيس السوري الشرع قائلاً: “إذا سمحتَ لقوات معادية لإسرائيل بدخول سوريا وتهديد المصالح الأمنية الإسرائيلية، فستدفع ثمنًا باهظًا”.

ولتوضيح أن الرسالة لم تكن موجهة فقط إلى الرئيس السوري الحالي، أضاف كاتس: “إن أنشطة سلاح الجو أمس في مطار التيفور بحماة ومنطقة دمشق رسالة واضحة وتحذير للمستقبل. لن نسمح بإلحاق الضرر بأمن إسرائيل”.

رغم ذلك، امتنع كاتس عن ذكر تركيا بالاسم، إذ لا تزال إسرائيل تأمل في تجنب المواجهة المباشرة والتوصل إلى تفاهم مع أنقرة، ربما بوساطة الولايات المتحدة، وربما روسيا، بشأن تقاسم النفوذ والترتيبات الأمنية في سوريا. وهو ما أعرب عنه تصريح الوزير التركي أيضاً.

” تعاون خلف الكواليس”

لكن تقريراً إسرائيلياً جديداً كشف عن تعاون خلف الكواليس. إذ اتضح أن الدولتين تناقشان اتفاقيات بوساطة لتقسيم السيطرة حتى تستقر سوريا، وفقا لصحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية.

وأضاف أن إسرائيل تقترح على تركيا تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تحت رعاية الولايات المتحدة في الشرق، وروسيا على طول الساحل الغربي.

أما الشمال فاقترحت تل أبيب تركه لتركيا، ولإسرائيل في الجنوب والشرق.

وعن حكومة دمشق، رأى الاقتراح الإسرائيلي أنها إدارة مؤقتة يترك لها المناطق المتبقية على الأقل حتى يتم إنشاء حكومة مستقرة ومنتخبة، ما قد يستغرق سنوات.

يأتي الاقتراح الإسرائيلي المذكور وسط رغبة تل أبيب بوقف التمدد التركي الذي بدأ منذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في ديسمبر الماضي، خصوصا وأن مجتمع الأمن والاستخبارات الإسرائيلي أصبح يشعر بقلق متزايد إزاء إمكانية استغلال تركيا للفراغ في سوريا لخلق تهديد لإسرائيل، وفق التقرير.

غارات إسرائيلية لمنع التموضع التركي

يشار إلى أن تل أبيب كانت شنّت غاراتٍ قبل أيام على مطار حماة العسكري وقاعدتي T4 وتدمر، ما قد يمنع الجانب التركي من الاستفادة من هذين الموقعين بعدما تضررا كثيراً جرّاء تلك الغارات.

كما رفضت إسرائيل علناً الأسبوع الماضي الرغبة التركية في إنشاء قواعد عسكرية داخل سوريا، حيث كثّفت من غاراتها الجوية على مواقع كانت ترغب أنقرة في إنشاء تلك القواعد فيها.

فقد أكدت أربعة مصادر قبل أيام قليلة أن تركيا تفقدت ثلاث قواعد جوية على الأقل في سوريا قد تنشر قواتها فيها كجزء من اتفاق دفاع مشترك مزمع قبل أن تقصف إسرائيل تلك المواقع بضربات جوية هذا الأسبوع. وجاءت هذه الضربات الإسرائيلية، ومن بينها قصف مكثف مساء الأربعاء الماضي، على 3 مواقع (قاعدة تي4 وقاعدة تدمر الجويتين بمحافظة حمص السورية والمطار الرئيسي في محافظة حماة) على الرغم من جهود أنقرة لطمأنة واشنطن بأن زيادة وجودها العسكري في سوريا لا يستهدف تهديد إسرائيل.

————————-

الشرق الأوسط ساحة لتداعيات الاضطراب الأميركي- الأوروبي/ روبرت فورد

بعد تركيز دول “القارة العجوز” على القوة العسكرية بدلا من “القوة الناعمة”

آخر تحديث 07 أبريل 2025

واشنطن – يُسرّع الاضطراب في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة من وتيرة التغيرات في السياسات العسكرية والاقتصادية الأوروبية، وهي تغيرات من شأنها أن تبدأ بالتأثير على علاقات أوروبا مع جيرانها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتعيد الدول الأوروبية تركيزها على القوة العسكرية بوصفها أداة جيوسياسية تهدف إلى تقليص اعتمادها على الولايات المتحدة، غير أن بناء قاعدة صناعية عسكرية متقدمة، وتصنيع أسلحة عالية الجودة، وتعبئة وتدريب جيوش أكبر حجما، سيحتاج إلى وقت.

وفي مستهل هذه المرحلة من التحول الجيوستراتيجي، تواجه أوروبا صعوبات في تعزيز نفوذها الناعم في الشرق الأوسط، خصوصا في ظل انخفاض ميزانيات المساعدات الاقتصادية. وستحتاج العواصم الأوروبية، أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء شراكات جديدة، لا سيما مع دول الخليج، وإلى تحديد أولوياتها الاستراتيجية بشكل واضح ومحدد.

إيران

تتفق واشنطن والدول الأوروبية الرئيسة على ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وتعتبر العقوبات أداة ضغط أساسية لتحقيق هذا الهدف. إلا أن تحسن العلاقات بين واشنطن وموسكو، واحتمال أن تضطلع موسكو، التي تُعد تهديدا مباشرا للأمن الأوروبي، بدور الوسيط مع طهران، يثير قلقا لدى عدد من المحللين الأوروبيين. فقد زوّدت إيران روسيا بآلاف الطائرات المسيّرة التي استخدمتها في استهداف الأراضي الأوكرانية، وساهمت في تطوير برنامج الطائرات المسيّرة الروسي، ما يُعمّق الريبة الأوروبية، كما في واشنطن، إزاء أي اتفاقات وسطية قد تُبرم عبر موسكو.

الأوروبية إلى التأثير في أي اتفاق قد يُبرم بين واشنطن وموسكو وطهران. ومن المرجّح أن تنسّق الدول الأوروبية عن كثب مع دول الخليج ذات النفوذ، مثل السعودية والإمارات، التي تشاركها الهدف نفسه بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، فإن انخراط أوروبا في أي عمل عسكري أميركي أو إسرائيلي ضد إيران يبدو غير مرجح، إذ لا ترغب العواصم الأوروبية في إثارة مشاكل إضافية مع إدارة ترمب، خاصة في ظل اعتمادها المستمر على دعمه في ملف أوكرانيا. ولهذا، من المرجح أن تكون الانتقادات الأوروبية لأي ضربة أميركية ضد إيران محدودة النبرة والتأثير.

الميزانيات والقوة الناعمة

الأهم من ذلك أن التهديد المتزايد من جانب روسيا يدفع معظم الدول الأوروبية إلى رفع ميزانياتها العسكرية، ما يؤدي في المقابل إلى تقليص ميزانيات المساعدات الاقتصادية الخارجية. وقدرت مؤسسة “بروغل” البحثية الاقتصادية في بروكسل، في فبراير/شباط، أن تحقيق الهدف الذي أعلنته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، برفع الإنفاق العسكري الأوروبي إلى نحو 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، سيتطلب 250 مليار يورو سنويا. (وللمقارنة، من المتوقع أن تبلغ ميزانية الدفاع الفرنسية لعام 2025 نحو 51 مليار يورو، بينما بلغت ميزانية الدفاع الألمانية في عام 2024 ما يقارب 82 مليار يورو، مع خطط لزيادتها بشكل كبير في عام 2025).

وفي موازاة ذلك، شرعت العواصم الأوروبية في تقليص المساعدات التنموية. فقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أمام البرلمان في فبراير/شباط، أن حكومته ستخفض المساعدات الخارجية بأكثر من 13 مليار جنيه إسترليني (نحو 16 مليار يورو)، لتمويل زيادة مماثلة في الإنفاق الدفاعي. كما دعا وزير الدفاع الفرنسي، في مارس/آذار، إلى زيادة قدرها 40 مليار يورو في ميزانية الدفاع خلال السنوات المقبلة، في وقت كانت فيه باريس قد خفّضت بالفعل مساعداتها الخارجية بأكثر من الثلث لتصل إلى 3.8 مليار يورو في عام 2025. أما ألمانيا وهولندا، فقد قلصتا أيضا ميزانيات المساعدات الخارجية بشكل حاد خلال العامين الماضيين. وتأتي هذه التخفيضات الأوروبية إضافة إلى التقليصات الكبيرة التي نفذتها الولايات المتحدة في مجال مساعداتها الخارجية.

وسيحد خفض المساعدات الاقتصادية من قدرة أوروبا على تعزيز قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، في ظل الانسحاب الأميركي المتزايد من المنطقة، إلا أن هناك مسارات بديلة يمكن لأوروبا من خلالها توسيع حضورها. فقد اعتمدت أوروبا، على مدار العقود الماضية، بشكل كبير على قدراتها المالية لكسب النفوذ. ففي فبراير/شباط 2024، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقا مع مصر يشمل نحو 7 مليارات يورو من المساعدات والاستثمارات موزعة على مدى ثلاث سنوات. ووفقا للإحصاءات الرسمية، فقد تلقت الأردن نحو 4 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011، كما اتفق الجانبان على حزمة مساعدات واستثمارات جديدة بقيمة 3 مليارات يورو للفترة الممتدة بين 2025 و2027. وبالمثل، حصل لبنان على نحو 3.5 مليار يورو من المساعدات الأوروبية منذ عام 2011.

ومع تصاعد الضغوط على الميزانيات الأوروبية خلال السنوات المقبلة بسبب الإنفاق العسكري المتزايد لردع روسيا، إلى جانب متطلبات البرامج الاجتماعية الداخلية ذات الحساسية السياسية، سيصبح من الصعب تبرير الإبقاء على مستويات مرتفعة من الدعم لدول مثل مصر والأردن ولبنان. ويزداد هذا التحدي تعقيدا في ظل استمرار الدول الأوروبية في تمويل برامج مساعدات تنموية في كل من أفريقيا وآسيا.

ومع انحسار تدفق المساعدات الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المرجح أن تزداد أهمية الدعم القادم من دول الخليج وتركيا وحتى الصين. ومع ذلك، لا تقتصر القوة الناعمة على الدعم المالي فقط؛ ففي ظل تراجع الإقبال على الدراسة في الولايات المتحدة، يمكن لأوروبا أن تواصل استقطاب الطلاب إلى جامعاتها وبناء جسور مع الجيل القادم. وعلاوة على ذلك، ومع تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، ستجد الدول الأوروبية والإقليمية نفسها أمام حاجة متزايدة للتنسيق فيما بينها وإدارة النزاعات الإقليمية. وسيتاح لها هامش أوسع للتحرك في هذا الإطار دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة، لا سيما في النزاعات التي لا ترتبط بإسرائيل بشكل مباشر.

وبشكل مماثل، تحتاج سوريا في السنوات المقبلة إلى مساعدات اقتصادية ضخمة. حيث قدر البنك الدولي في عام 2022 أن تكلفة إعادة الإعمار لا تقل عن 250 مليار دولار (ما يعادل 230 مليار يورو على الأقل)، ومن المرجح أن تكون التكلفة الفعلية اليوم أعلى بكثير. وفي مؤتمر بروكسل التاسع للمانحين من أجل سوريا، الذي عقد في مارس/آذار 2025، تعهدت الدول الأوروبية بتقديم نحو 5.8 مليار يورو، وهو تقريبا نفس المبلغ الذي جرى التعهد به في مؤتمر مارس/آذار 2024.

ويعكس الحفاظ على هذا المستوى المرتفع من الدعم- رغم التخفيضات العالمية في ميزانيات المساعدات- مدى الأهمية التي توليها أوروبا للملف السوري. وتسعى حكومات أوروبية كبرى، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، إلى تحقيق الاستقرار وإعادة إعمار سوريا، جزئيا لتفادي موجة جديدة من اللاجئين السوريين نحو أراضيها. وفي هذا السياق، قامت وزيرة الخارجية الألمانية بزيارة ثانية إلى دمشق في مارس/آذار، وأعلنت عن حزمة مساعدات جديدة بقيمة 300 مليون يورو لدعم جهود إعادة الإعمار.

وبالتوازي، علق كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في فبراير/شباط العقوبات المفروضة على شركات سورية محددة تعمل في قطاعي الطاقة والنقل، إضافة إلى خمسة مصارف تجارية سورية، وذلك في خطوة تهدف إلى دعم الشركات الحكومية والقطاع الخاص في البلاد.

في المقابل، لا يُبدي الرئيس الأميركي دونالد ترمب اهتماما يُذكر بالملف السوري، إذ غرّد عقب سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي قائلا إن “سوريا ليست مشكلة أميركا”. ويعتقد عدد كبير من المحللين في واشنطن أن إدارة ترمب ستسحب القوات الأميركية من شرق سوريا خلال السنوات القليلة المقبلة، كجزء من استراتيجية أوسع تركز على مواجهة التهديدات في آسيا.

وعلى خلاف الموقف الأوروبي، لم تُخفف إدارة ترمب العقوبات المفروضة على سوريا، باستثناء بعض الخطوات المحدودة التي اتخذتها إدارة بايدن في منتصف يناير/كانون الثاني. كما امتنعت عن تقديم أي تعهدات جديدة بالمساعدات خلال مؤتمر بروكسل للمانحين. وصرحت مسؤولة أميركية بارزة خلال المؤتمر بأن الإدارة لا تزال تشكك في استعداد الحكومة السورية للتخلي عن “التطرف العنيف” و”انتهاك حقوق الإنسان”، مؤكدة أن “أي قدر من المساعدات الخارجية أو تخفيف العقوبات لن يكون كافيا” لجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار.

وفي حين أعادت ألمانيا فتح سفارتها في دمشق بطاقم دبلوماسي محدود، لم تُبدِ إدارة ترمب حتى الآن أي استعداد للجلوس مع الحكومة السورية لبحث مستقبل العلاقات الثنائية.

ومن اللافت أن المبعوث الخاص للرئيس ترمب إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، صرح في فبراير/شباط أمام منظمة يهودية أميركية بأن سوريا ولبنان قد تُقدمان في نهاية المطاف على توقيع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. ووفقا لمصادر مطلعة في واشنطن، قد تربط إدارة ترمب تحسين علاقاتها مع دمشق بموافقة الأخيرة على الانضمام إلى “اتفاقات أبراهام”. ومن المرجح أن تمارس إدارة ترمب ضغوطا على دمشق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل منحها إعفاء كاملا من العقوبات.

أما الدول الأوروبية، فلم تُصدر أي إشارات مماثلة بخصوص تطبيع سوريا مع إسرائيل، وإن كانت لا تعارض هذا المسار في حال قررت دمشق السير فيه.

أوروبا وغزة وإسرائيل

ينصبّ التركيز الأوروبي تجاه إسرائيل حاليا على الحرب في غزة وإعادة إعمار القطاع بعد توقف القتال. وقد رفضت الدول الأوروبية مقترح ترمب الذي يدعو إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة وتسليم إدارتها إلى الولايات المتحدة ومستثمرين من القطاع الخاص. كما أكدت حكومات فرنسا وألمانيا وإيطاليا أن هذه الفكرة تتجاهل القانون الدولي وتُعيق الوصول إلى حل الدولتين.

وفي أعقاب انتقاداتهم لخطة ترمب في فبراير/شباط، أعلن وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة دعمهم للخطة المصرية التي أقرها القادة العرب في مارس/آذار. وإذا ما جرى تنفيذ هذه الخطة، فمن المتوقع أن تساهم الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي في تمويلها، انسجاما مع السياسة الأوروبية الرامية إلى استقرار غزة وإعادتها إلى السلطة الفلسطينية.

وتُظهر السياسات الأوروبية ميلا واضحا نحو دعم إعادة الإعمار في غزة، إلا أن القيود المتزايدة على الميزانيات ستدفع العواصم الأوروبية إلى إعادة ترتيب أولوياتها بين ملفات عدة، منها سوريا، ومصر، والأردن، ولبنان، وغزة. ومن المرجح أن تضع بعض الدول الأوروبية أولويات خاصة بها، فقد تختار دول معينة توجيه مساعداتها إلى بلدان يمكن أن تُسهم فيها هذه المساعدات في تقليل تدفقات الهجرة من الجنوب إلى الشمال. في المقابل، قد تتبع دول أوروبية أخرى خيارات القوى السياسية المحلية، فتُفضل، على سبيل المثال، دعم الفلسطينيين أو سوريا أو لبنان، بحسب توجهات الرأي العام الداخلي وظروف كل دولة.

في المقابل، من غير المرجح أن تُبدي إدارة ترمب أو الحزب الجمهوري، وحتى جزء كبير من قيادة الحزب الديمقراطي، أي استعداد لتمويل إعادة إعمار غزة. كما سيكون من شبه المستحيل تمرير هذا التمويل سياسيا في واشنطن إذا اعترضت عليه إسرائيل قبل انتخابات عام 2028. ونتيجة لذلك، يُتوقع أن تتحمل دول الخليج القسم الأكبر من تمويل خطة إعادة الإعمار العربية، والتي تُقدّر قيمتها بـ53 مليار دولار.

إسرائيل

لن تتغير المواقف الأوروبية تجاه إسرائيل بشكل مباشر نتيجة التوتر القائم في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن مؤشرات توتر مستقبلي بين أوروبا وتل أبيب باتت واضحة. فلكل دولة أوروبية علاقتها الثنائية الخاصة بإسرائيل، والتي تتأثر بعوامل عدة، منها التاريخ والسياسات الداخلية والأولويات الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال، تُعد إسبانيا وأيرلندا، نظرا لبعدهما الجغرافي عن المشرق، من بين أكثر الدول الأوروبية انتقادا لإسرائيل.

ومن اللافت أن كبار القادة السياسيين في الحزبين الأميركيين بدأوا يبتعدون تدريجيا حتى عن المجاهرة بدعم حل الدولتين. وفي هذا السياق السياسي، يُرجَّح أن تعترف واشنطن بضم إسرائيل لأجزاء من غزة والضفة الغربية، في حين لا تزال العواصم الأوروبية، على الأقل في خطابها العلني، متمسكة بحل الدولتين، وستعمد إلى انتقاد أي عملية ضم تنفذها إسرائيل.

ومن السهل تخيل تصاعد الدعوات داخل بعض الأوساط الأوروبية إلى فرض إجراءات اقتصادية ضد إسرائيل. وإلى جانب ذلك، وعلى المدى المتوسط، من المتوقع أن تسعى أوروبا، مع تزايد إنتاجها من الأسلحة والمعدات العسكرية عالية الجودة، إلى تسويق هذه المنتجات في دول الشرق الأوسط لتحقيق وفورات الحجم في خطوط الإنتاج، على غرار ما تفعله واشنطن من خلال بيع طائرات “إف – 35” لعدد من الدول.

ومن المرجح أن تدفع الضغوط المالية المتزايدة، خصوصا في النصف الثاني من هذا العقد، بعض العواصم الأوروبية إلى التجاوب بشكل أقل مع الاعتراضات التي قد تطرحها إسرائيل أو الولايات المتحدة حيال صفقات بيع الأسلحة إلى الدول العربية، ما قد يشكل بؤرة توتر جديدة في العلاقات بين الجانبين.

المجلة

————————————-

الرحلات السياحية الإسرائيلية المرتقبة إلى سوريا.. أهداف خفية وتداعيات خطيرة/ محمود عبد اللطيف

6 أبريل 2025

أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن نيته إقامة رحلات سياحية إلى الداخل السوري لـ”زيارة المناطق الطبيعية”. وفيما تناقلت وسائل الإعلام مجموعة من الأخبار المؤكدة حول هذا الأمر، مع الإشارة إلى أسماء الجهات التي ستُشرف على هذه الرحلات، فإن الحديث عن تنظيم “رحلة سياحية” إلى الأراضي السورية هو الأول من نوعه منذ قيام الكيان.

وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية إن الخطوة غير المسبوقة ستضمن الوصول إلى “مناطق خلابة في الداخل السوري”، ونقلت عن الجيش الإسرائيلي تأكيده بأن الخطوة تأتي بالتنسيق ما بين القيادة الشمالية والفرقة 201 من جيش الاحتلال من جهة، وكل من مركز “كيشت يهوناتان” التعليمي، ومدرسة الجولان الميدانية، والمجلس الإقليمي للجولان، وهيئة الطبيعة والمتنزهات الإسرائيلية؛ من جهة أخرى.

ونشر موقع “كيباه” الإسرائيلي وثيقة تؤكد أن جيش الاحتلال سيفتح السياج الحدودي في الجولان السوري المحتل إلى داخل المنطقة العازلة، حيث ستزور الوفود السياحية وادي الرقاد الذي ينبع من هضبة الجولان، ويعتبر أحد روافد نهر اليرموك.

في حين نقلت صحيفة “معاريف” عن قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي قولها إنها “ستفتح السياج الحدودي في مقطعين لتنفيذ الجولات، مؤكدة أنها ستتم في الأراضي المعرّفة على أنها أراض إسرائيلية، في إشارة إلى الأراضي التي احتلتها في الجولان في 1967 وضمتها بشكل أحادي في ثمانينات القرن الماضي”.

يمتد وادي الرقاد من القطاع الأوسط لريف القنيطرة، مرورًا بأطراف حوض اليرموك في ريف درعا الجنوبي الغربي. وكان الاحتلال قد سيطر على عدد من النقاط في الداخل السوري تمتد من القطاع الشمالي لريف القنيطرة وصولًا إلى ثكنة الجزيرة، التي تقع على نقطة الصفر في مثلث الحدود السورية الفلسطينية – الأردنية، بريف درعا الجنوبي الغربي.

ويقول أحد سكان قرية معريا لـ”الترا سوريا”: “الخطوات الاستيطانية التي تتخذها إسرائيل، مثل تحويل وادي اليرموك في الجزء القريب من قريتي معريا وكويا إلى منطقة محظورة عسكريًا، وإعلان منطقة سد المنطرة في ريف القنيطرة منطقة عسكرية ومنع السكان المحليين من دخولها، تشير إلى أن الاحتلال يتخذ خطوات تصعيدية في الداخل السوري”.

وأضاف: “من شأن هذا التصعيد أن يبرهن على أن قيادات تل أبيب تسعى إلى بقاء مستدام لقواتها في سوريا، ربما تكون الرغبة الإسرائيلية الحقيقية هي الوصول إلى حدود 5 حزيران/يونيو 1967، بما يعني الضم المباشر للأراضي السورية إلى خارطة كيان الاحتلال”.

الجولان السوري، وفقًا لتعريفات الأمم المتحدة، هو أرض سورية محتلة من قبل إسرائيل، ولم تعترف أي جهة دولية بالسيادة الإسرائيلية على الجولان باستثناء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أواخر ولايته السابقة.

ويأتي الإعلان الإسرائيلي عن السماح بدخول رحلات سياحية إلى الداخل السوري بعد أيام قليلة من إيقاف خطة تشغيل السوريين داخل الأراضي المحتلة، وذلك بسبب خلافات حادة بين قيادات الكيان حول عدم القدرة على ضمان عدم دخول “عناصر معادية” لإسرائيل من سورية. ولا يبدو أن قوات الاحتلال تمتلك مخاوف كبيرة في حال دخول المستوطنين للأراضي السورية، إذ من المتوقع أن ترافق الوفود السياحية قوات عسكرية بتعداد كبير.

يقول مصدر من بلدة جباتا الخشب لـ”الترا سوريا” إن الطرق التي من المحتمل أن يستخدمها العدو في مثل هذه الرحلات متعددة. فالكيان يستخدم حاليًا البوابة الحدودية بالقرب من القنيطرة المهدمة، وطريقًا بالقرب من بلدة حضر، إضافة إلى بوابة حدودية كان قد أنشأها في عام 2015 بالقرب من جباتا الخشب.

كما أن الاحتلال عمد مؤخرًا إلى شق طريق عبر المرتفعات الجبلية التي تفصل بين سورية وفلسطين من جهة وادي اليرموك، ليربط “ثكنة الجزيرة” بالأراضي المحتلة. ويعتبر هذا الطريق أحد المسارات التي من المحتمل أن يستخدمها العدو. وبالإضافة إلى ذلك، شق الاحتلال مجموعة من الطرق التي تربط بين النقاط التي ينتشر فيها داخل الأراضي السورية. ومع كثافة تحركات الاحتلال، فمن المتوقع أن ترافق الرحلات قوات مؤلفة من عربات مصفحة وربما مجنزرات.

لا تبدو الرحلات السياحية التي يخطط لها العدو إلى الداخل السوري مجرد فرصة لزيارة مناطق خلابة، وفقًا للإعلان الإسرائيلي، بل يمكن قراءتها في سياق المشهد العام للحراك المعادي في الجنوب السوري على أنها خطوة لترسيخ سلطة الاحتلال على الأراضي التي دخلها، والتي تمتد ما بين محافظتي القنيطرة ودرعا، بعمق يتراوح بين 8 و15 كيلومترًا.

ويشير مصدر من بلدة “تسيل”، خلال حديثه لـ”لترا سوريا”، إلى أن السكان المحليين باتوا يراقبون تحركات العدو في المنطقة الممتدة جنوب مدينة نوى بريف درعا وصولاً إلى تسيل، بما في ذلك منطقة المحمية الوطنية (حرش تسيل)، والسد القريب منها، وذلك لأن نوايا العدو تظهر رغبته بالسيطرة على “تل الجموع”.

وأوضح المصدر أن السيطرة على هذا التل من قِبل قوات الاحتلال ستتيح لها إشرافًا ناريًا على مساحات واسعة من ريف درعا الغربي وريف القنيطرة الجنوبي، مما يعكس أهمية التل في الحسابات العسكرية للمنطقة.

وبناء على ذلك، من المتوقع أن يعود سكان المنطقة للاشتباك مع العدو لمنعه من السيطرة على التل، رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تعرض لها السكان خلال الاشتباك الذي وقع يوم 2 نيسان/أبريل الحالي، والتي أفضت إلى استشهاد 9 مدنيين وإصابة 23 آخرين.

تبقى مسألة الرحلات السياحية الإسرائيلية إلى الداخل السوري ضمن دائرة التوقعات، رغم الإعلان الرسمي عنها في تل أبيب. فقد تعترض الأجهزة الأمنية على الأمر في اللحظات الأخيرة، كما حدث مع خطة تشغيل السوريين التي كان الجيش الإسرائيلي، ممثلًا بوزير الدفاع يسرائيل كاتس، يدعمها وبقوة. وتسبب غياب التنسيق بين القوى الأمنية والجيش الإسرائيلي إلى وقف الخطة التي تأجل تطبيقها عدة مرات، قبل أن تُلغى بشكل نهائي.

الترا سوريا

——————–

========================

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 08 نيسان 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

——————————–

الفضاء العكِر/ يعرب العيسى

08 ابريل 2025

ما أفضل ما تفعله لتصفية الماء العكر؟ امنحه الوقت الكافي ليفعل ذلك بنفسه، بأن تتركه وشأنه. سيساعد على ذلك فهم أن الحكايات كلها متشابهة، لديها قواعد صارمة من الصعود نحو العقدة، ثم الذروة، المكوث قليلاً في الخوف والقلق، ثم الهبوط نحو الحل. تنفس الصعداء، ثم الصعود مجدداً نحو عقدة جديدة.

تفعل الأشياء نفسها في المسلسلات، والروايات، وسير الأجداد، ونمائم السهرات، وفي حياتنا كذلك.

حياتنا وحدها ما تبدو عصية على إدراك القواعد الحكائية فيها، لأنها تحدُث الآن، ولأننا نعيش في داخلها. وحين تنتهي أو تمضي أجزاء وازنة منها، سنبدأ بالتعامل معها كما هي حقاً: حكاية.

سنعيد فهمها، وفهم ما جرى فيها، ولماذا جرى، سنقول لأنفسنا: نعم نعم صحيح، هكذا تفعل الأشياء.

سنغفر لمن نراهم الآن أشرار الحكاية، وسنضمد جراح من ظننا أنهم متمارضون، وسنربت على كتف من نتشفى منه الآن، ففي نهاية الحكايات تستعيد أغلب الشخوص إنسانيتها.

في بلدي الآن تجري حكاية. حكاية كبيرة من تلك التي يسميها النقاد ملحمية، شخوصها تراجيدية، وضحاياها بسطاء. تسيل فيها دماء كثيرة، وأغلبها دماء بريئة، وأسباب نزفها غير مفهومة، ولكنها تسفك.

يوماً ما، ستنتهي هذه الحكاية، أو بشكل أدق، هذا الفصل الدامي منها، وعندها سنراها بطريقة أخرى، وسنندم لكمّ الأخطاء التي ارتكبناها تحت تأثير الغضب أو الخوف أو اضطراب الرؤية.

ألم يقولوا منذ زمن بعيد إن الأهواء تلوث الفهم؟ وأي الأهواء أشد من الخوف والغضب؟

في مسار الحكاية التي يكتبها بلدي لنفسه، هناك الكثير من هذين الملوثين، لذلك تبدو الحدود رجراجة، والعلاقات مضطربة، والمستقبل غامض، ونبدو نحن الناس حمقى. وفوق كل ذلك، أو ربما لأجل كل ذلك، هي واحدة جيدة بين الحكايات.

وللأسف، في الحكايات الجيدة، تعاني الشخصيات كثيراً، تتحمل فوق طاقة البشر بكثير، وهذا ما نحن عليه.

في أجواء هذه الحكاية، من الطبيعي أن يكون الفضاء العام مجنوناً، خصوصاً إذا ما كان تلقيه، والانخراط فيه، يتمّان عبر وسائل غير بريئة بالضرورة، مثل أن تفهم المشهد في بلاد بهذا الاضطراب من وسيلة مثل فيسبوك، فيها مساحة كبيرة لعبث العابثين، وتحريض المحرضين، وفيها من القدرة على جرّ أعقل العقلاء إلى الساحة الخلفية لملعب الغوغاء.

المجازر التي وقعت، وما زالت تقع في الساحل كان لها أن تكون الدرس الأخير الذي نحتاجه لإقفال هذه التراجيديا، لولا أنها تجري في فضاء عكر، ملوث بالحقد وبالخوف، وباضطراب الرؤية. وبصراخ بدائي يستنهض شهوة الدم، ولكن، وبحكم أنه يعلو في وسيلة عصرية مثل فيسبوك، فهو يغلّف نفسه بمغالطات عقلية (وضميرية كذلك) مثل الإنكار، التبرير، الخلط بين ضحايا ومجرمين، توجيه اللوم إلى هوامش الأشياء بدلاً من متنها، مثل أن يقتل طفل بطريقة وحشية في قرية ببانياس، فتعوض عجزك عن محاسبة القاتل، بتفنيد تفاصيل الصورة المنشورة لجثته، أو تقرّع ممثلاً لأنه لم ينشرها، أو تنفي القصة من أساسها، أو تذهب إلى اتهام الاهتمام بها على أنه تعطيل لقضايا كبرى، أو مئات التقنيات الدفاعية الأخرى.

أفهم أن هذه طبيعة الأشياء في الحكايات الكبرى، لكني أفهم أيضاً، أن على واحد من هذه الأحداث، أن تصبح الفصل الأخير من حكايتنا، لنبدأ بحكاية جديدة، تذهب باتجاه ذروة مختلفة، ليست فيها دماء. وريثما يحين ذلك، ليس لنا سوى أن ننتظر صفاء هذا الفضاء.

العربي الجديد

——————————

مَن فوّض هؤلاء السُنّة بالانتقام من العلويين؟/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/04/08

لا يكاد يمرّ يوم بلا خبر عن أعمال تنكيل تحدث في الساحل، تُتهم بها عادة فصائل غير محدّدة، لكنها تابعة لوزارة الدفاع بموجب الاتفاق على حلّها. وهناك حالة على الأقل ظهر فيها مسؤول أمني يعترف بمسؤولية عنصرين عن إحدى المجازر ويتعهد بمحاسبتهما، وهي مجزرة “حرف بنمرة” في ريف بانياس. المجزرة وقعت أول أيام عيد الفطر (السعيد)، واشتُهرت صورة أحد ضحاياها، الطفل إبراهيم شاهين الذي ظهرت ثيابه المدقعة كدليل على فقر عائلته، الفقر الذي ينبئ بأن أصحابه ليسوا من شبيحة الأسد الذين قتلوا ونهبوا واستباحوا.

ما كادت تهدأ قليلاً الضجة التي أثارتها صورة الطفل القتيل حتى انتشر تسجيل لرجل من قرية الرصافة التابعة لمصياف، يتحدث فيه عن عناصر مسلّحة ساقوا ابنه بين شبّان آخرين، ثم اتصلوا به من موبايل الابن ليخبروه بأنهم أرسلوه إلى جوار حافظ الأسد، وبأنهم ألقوا بجثته في مكان معلوم وقد انتزعوا قلبه من صدره. يذهب الأب إلى ذلك المكان، ليرى حقاً جثة الابن وقد انتُزع قلبه.

بين الصورة والتسجيل الأيقونيين، لم يعد بعض الأخبار يثير الانتباه، فصار من المعتاد مرور خبر مقتل شخصين على يد العناصر المسلّحة إياها، في قرية القلوع في ريف بانياس، أو تلك الأخبار عن حالة الذعر المتفشيّة في العديد من البلدات والقرى العلوية. الحديث عن أخبار يومية من هذا القبيل هو بعد مرور شهر على قمع التمرد الذي قام به فلول الأسد، وأسفر بدايةً عن مقتل عدد من قوات الأمن العام في كمائن نُصبت لهم.

في خبر لوكالة الأنباء العربية السورية-سانا، بتاريخ 27 آذار الفائت، أن محافظة طرطوس قدّمت منحة مالية من الحكومة السورية لألفي عائلة متضررة، سواء بحرق الممتلكات أو السرقة أو التخريب أو ذوي الضحايا، في الأحداث التي شهدتها بانياس وريفها، وإحدى قرى القدموس. الأحداث المشار إليها هي تلك التي وقعت خصوصاً لأربعة أيام بدءاً من السابع من آذار، وشهدت فيها مناطق من الساحل والجبال الساحلية أعمال قتل وتنكيل بالمدنيين العلويين، اعترفت بها الحكومة وشكّلت لجنة تحقيق رسمية لم تصدر تقريرها بعد.

رقم الألفي عائلة متضررة ليس بقليل مع ما ينطوي عليه، والمنحة الحكومية هي مئة دولار لا غير، أما الأرقام غير الرسمية فتشير إلى تضرر حوالى 15 ألف بيت ومتجر استبيحت أو أُحرقت خلال تلك الأيام الدامية وحدها. الذين ارتكبوا أعمال القتل والاستباحة تكفّلوا بتوثيق قسم منها يؤكد على استهدافهم الضحايا من منطلق طائفي، حيث وثّقوا خصوصاً التنكيل بالشبان المعتقلين. وشهادات المدنيين بمجملها تؤكد على أن المرتكبين تقصّوا في الأحياء المختلطة عن طائفة الضحايا قبل قتلهم، أو كرروا أقوالاً طائفية وهم يقتلونهم. أمثال هذه التسجيلات لن تكون لصالح الحكم الجديد الذي يسعى إلى فك العقوبات عن سوريا، ولا يُستبعد استخدامها ضده، على الأقل كوسيلة ضغط سياسية جاهزة عند الحاجة.

ورغم صعوبة وقسوة قول هذا: كان يمكن “تفهّم” بعض أعمال الانتقام التي حدثت، لو أنها اقتصرت على فورة الساعات الأولى للتمرد الذي استغرق القضاء عليه بضع ساعات ليس إلا. وكان يمكن “تفهّم” أعمال الانتقام لو أنها صدرت عن متضررين شخصيين، كأن يبادر متضرر من شبيح للأسد إلى الثأر منه. لكن استمرار أعمال القتل والتنكيل، ولو بوتيرة منخفضة، يلغي الأعذار المخفّفة التي تُسوَّق من هنا وهناك.

على صعيد متصل، من المستغرب صدور أقوال عن السلطة على سبيل التهوين مما حدث، وعدّه أدنى من ردود الفعل المتوقَّعة. فأولاً من المفترض بالسلطة أن تكون ناطقة باسم القانون، وألا تبرر أعمال ثأر وانتقام خارجه مهما كانت قليلة. ثانياً، لم ينتهِ الأمر بعد، ولم توضع حصيلة نهائية يُقفل بها هذا الملف للقول إن هذا الرقم أدنى من المتوقع. في كل الأحوال، مثل هذه الخلاصات (إذا أثبتها المستقبل) تُقال بعد سنوات من الاطمئنان إلى استتباب الأمن في الواقع والمصالحة في النفوس.

لعلنا لا نبالغ في القول إن أية مقارنة الآن لمجزرة بمجزرة أكبر منها هي بمثابة ترخيص بمزيد من القتل لتلك الأصابع المتأهبة على الزناد، وفي الأصل يجب أن تكون المقارنة معيبةً بالمطلق بين العهد الذي أحرق البلد وأولئك الذين يقولون إنهم يريدون بناءه وازدهاره. من المشين مقارنة مجزرة بمجزرة، فالمرجعية في الحالتين يجب أن تكون العدالة. ومن المشين أكثر استغلال عدم الشروع في تطبيق العدالة الانتقالية من أجل تجريم طائفة بأكملها.

اليوم يستطيع هذا العنصر (المنفلت حسبما يُقال) رؤية آلاف الحسابات التي تبرر له على السوشيال ميديا، بل ربما يشعر بمزيد من الفخر وتشتد حماسته لارتكاب المزيد وتصويره للزهو به. هناك حشد سُنّي طائفي جاهز لتبرير الجرائم، وجاهز للطعن بأية شهادة أو أي توثيق من أي نوع؛ تماماً على غرار الحشد الفكري الأسدي الذي كان يتذاكى لإنكار الجرائم وهو يشمت بالضحايا في الوقت نفسه. واستخدامنا الصفة الطائفية للحشد الأول وإغفالها للحشد الثاني مردّه أن شبيحة الأول مجرمون بخطاب وممارسات طائفية صريحة، بينما شبيحة الثاني كانوا مجرمين باستثمار طائفي ماكر وممارسات طائفية مستترة.

من المؤسف أننا نتحدث عن عدد كبير بجهوزية عالية لإجراء مقارنات تبدو منطقية، مع أن تفنيدها لا يستغرق سوى برهة تفكير. من ذلك مثلاً الحملة على صورة الطفل القتيل في ريف بانياس، بدعوى وجود آلاف الضحايا الأطفال الذين لم يكترث بهم أحد أيام مجازر الأسد. هذه المزاعم، على سبيل المثال إلا، تتجاهل أن صورة حمزة الخطيب وصلت إلى مختلف أصقاع العالم، ولا تزال إلى اليوم رمزاً لجميع الأطفال الضحايا، وأن جثة الطفل الغريق إيلان صارت أيقونة عالمية لا تمثّل فقط الأطفال الذين غرقوا بل كل الذين قطعوا الدروب المهلكة للوصول إلى بلد آمن. في كل الأحوال، من النبل المطالبة بأن يحظى الضحايا بما يستحقونه من تكريم وإنصاف، لا أن يُجرَّد البعض منهم من الاعتراف أو التكريم بزعم إهمال الآخرين.

القائمة تطول جداً إذا استعرضنا بعض، لا كلّ، ما يتداوله الحشد على السوشيال ميديا. أسوأ وأخطر ما في الأمر أن قسماً من الحشد يسوّق له جهاراً بأنه الحشد السُنّي، بينما يمارس عدد أقل التقية فيبرر تأييده عمليات الانتقام بمقارنة الأرقام، لتبدو المسألة مسألة حسابات رياضية باردة، بينما في الخلفية تُستلهم ثقافة الثأر العشائرية. في ادعاء سُنّية الحشد، وعناصره (المنفلتة) على الأرض، يتم التغافل عن أن بعضاً من المرتكبين سبق له المشاركة في استباحة عفرين على نحو مشابه، والأكراد بغالبيتهم الساحقة من السُنة، والبعض الآخر استباح أجزاء من بيوت حلب الشرقية (العربية السُنية) في ظاهرة سًمّيت التشويل، نسبةً لوضع المسروقات في أكياس وهي ظاهرة مقابلة للتعفيش لدى شبيحة الأسد، أما الذين عفّوا عن البيوت فمنهم من نهب معامل بأكملها في المدينة الصناعية الشرقية…

هذا الحشد السُني المزعوم على ضخامته لا يمثّل الإسلام السُنّي، بمعنى أنه لا يحتكر تمثيله، فالسُنّة بمجموعهم لم يفوّضوا أحداً بالانتقام من العلويين، ولم يُعرض إحقاق العدالة على المتضررين شخصياً منهم، فرفضوا وأبوا مفضّلين الانتقام. وفقط لأن الدين يُزجّ به للاستثمار الطائفي فإن هيئة الإفتاء مطالبة بإصدار فتوى تحرّم قتل سوريين آخرين على سبيل الانتقام، والفتوى مطلوبة لا لحق الدماء الآن فحسب، ولا لأجل العلويين، وإنما كي لا يتغوّل هؤلاء ويستقووا لاحقاً على من يخالفهم من السُنة أنفسهم.

هذا البيان ضروري اليوم، لا لتبرئة السُنة مما يحدث، بل لسحب الدين من أولئك الذين يستخدمونه على هواهم في عمليات قتل وسرقة، ولسحبه من أفواه الذين يظهرون في تسجيلات تتوعد العلويين (المجوس) أو الدروز (الخنازير) بالإبادة. وسيكون من المستغرب حقاً أن تتدخل هيئة الإفتاء، على ما وعد به واحد من أعضائها، في شؤون مختلف الوزارات، بينما تترك الدين لمن يلوّثه باستباحة أرواح وممتلكات المدنيين على هواه!

إن تجريم طائفة بسبب وجود مجرمين فيها يستتبع (بالقياس ذاته) تجريم طائفة المنتقمين مع أن الذين ينفّذون الانتقام هم قلّة، والحل كان ولا يزال في اللجوء إلى العدالة كي تقتص من المجرمين ومن المنتقمين، وهي التي تقرر مَن مِن مجرمي الأمس ومنتقمي اليوم يستفيد من الأعذار المخفِّفة. ليس باسمنا، كسوريين، تُستباح الأرواح والممتلكات والكرامات عشوائياً خلال أكثر من شهر، وليس باسمنا يلتجئ الألوف من الأبرياء إلى البيوت أو البراري فلا يتجرؤون على الخروج. لقد هتف سوريون من مختلف المنابت قبل أربعة شهور: ارفع راسك فوق إنت سوري حرّ. ولن تكون سوريا إن جعلتموها: ارفع راسك فوق إنت سُنّي حر.

المدن

————————-

سؤال أخير إلى عبد اللطيف علي (1954- 7/3/2025)

منذر مصري

8 أبريل 2025

(حرصًا على الباقي من إنسانيتنا، نحن السوريون)

1- عبد اللطيف علي بكلماته:

أذكر قراءتي هذا المنشور في حينه، منذ ما يزيد عن ثلاثة أشهر، بعدها كتب عبد اللطيف علي منشورات عديدة، يصحّ القول إنّه كتب عن كلّ شاردة وواردة، وعن كلّ كبيرة وصغيرة، منها ما يقرب من السيرة الشخصية، كما في منشوره “حكايتي مع الطائفية” 1/3/2025، الذي لم أقرأ يومًا ما يضاهيه رهافة وصدقا في تناول تلك القضية الشائكة، إلّا أنّي أفضّل منشوره هذا رغم حدّيته، التي كانت ربّما سبب تأثري الشديد به وعدم نسياني إيّاه، يجيب فيه عبد اللطيف على العديد من الأسئلة الجوهرية المطروحة، كما يستشرف الاحتمالات الأشد كارثية في الوضع السوري، وبالأخص المنطقة الساحلية حيث يحيا.

22/12/2024:

“لا يمثّلني، ولا تشرّفني قرابته أو صداقته، كلّ من مارس التطبيل للنظام البائد، كلّ من مارس التشبيح باسم النظام البائد، كلّ من تماهى قليلًا أو كثيرًا في الموقف السياسي مع النظام البائد، كلّ من احتمى بمظلّة الفساد التي أمّنها له النظام البائد فسرق أو اختلس أو انتفع أو ارتشى، كلّ من والى النظام البائد تحت أية عناوين، وبالأخصّ تحت العنوان الطائفي، كلّ من يدعو اليوم إلى العفو عن الفاسدين والمجرمين ممّن يزعمون البراءة من النظام البائد ويبرّرون ارتكاباتهم بمنطق الاضطرار والخوف والغلبة على أمرهم، كلّ من يدعو أو يتبنّى أو يؤيّد ضمنًا الانعزال في كيان طائفيّ أو مذهبيّ أو مناطقيّ أو قوميّ.

وللعلم… فأنّا أعلن منذ اليوم طلبي اللجوء إلى أقرب كيان سوريّ غير تقسيميّ في حال تمكّن الطائفيون والمذهبيون والقومجيون من تقسيم سورية: أنا عبد اللطيف شعبان علي، المواطن السوري ذو السبعين عامًا والمقيم في بلدة جبلة الساحلية، بعد أن هاجرت وزوجتي (هجرةً وليس لجوءًا) إلى الولايات المتحدة الأميركية منذ ستّ سنوات، وحصلنا على الإقامة الدائمة ما يسمّى (Green Card)، وعدت إلى سورية لأبقى فيها وأذوق كلّ ما ذقته من الفقر والقهر والذلّ، وعندما انتهت صلاحية جواز سفري لم أقم بتجديده. #سورية_موحّدة_لجميع_السوريين. #لا_لقانون_العفو_العام. #نعم_لمحاسبة_المرتكبين. #المحاسبة_جوهر_العدالة”.

2- قيد نفوس مختصر:

الاسم: عبد اللطيف علي.

الأب: شعبان. هناك كثيرون عبد اللطيف علي، يحدد، ابن شعبان علي، معلم المدرسة. كما يقول في نهاية منشوره “حكايتي مع الطائفية”: “ما لم أطلعكم عليه بَعد هو أنّ المرحومَ والدي كان رجلَ دينٍ علويّ”.

الدين: “لستُ يهوديًّا ولا مسيحيًّا ولا سنّيًّا ولا شيعيًّا ولا درزيًّا ولا إسماعيليًّا ولا علويًّا، ولا عربيًّا ولا كورديًّا ولا تركمانيًّا ولا شركسيًّا ولا آشوريًّا ولا كلدانيًّا ولا سريانيًّا ولا آراميًّا ولا فينيقيًّا ولا إغريقيًّا ولا فارسيًّا ولا روميًّا… أنا كلّهم، أنا سوريّ”.

العمر: 70 سنة. مواليد: 1954. مصياف. حيث عمل أبوه أربع سنوات، قبل أن تعود وتستقر العائلة في جبلة.

الحالة التعليمية: يعرّف بنفسه على صفحته: “حقوقي (حاصل على شهادة جامعية من كلية الحقوق) متقاعد. أكتب في الشعر والأدب والسياسة”.

الحالة العائلية: متزوج ولديه ثلاثة أبناء، حسبما علمت، مجد وبشر وصفاء.

الإقامة الحالية: جبلة – حي الجبيبات. عاد إلى سورية، بعد حصوله مع زوجته على (Green Card) في الولايات المتحدة الأميركية. عاد لأجل ماذا؟ يجيب: [لأذوق الفقر والقهر والذل]! فليتفضّل أحدكم ويشرح لي معنى هذه الإجابة؟ واللّـه أنا الذي لم أغادر إلى أي مكان، واستطعت أن أخترع ألف سبب وسبب لبقائي، وذقت ما ذقت من المرارت، ليس الفقر أبا القهر وأبا المذلات أحدها، أعترف، لا قدرة لي أن أفهم!

3- معارض متطرّف:

عبد اللطيف علي ليس معارضًا لنظام الأسد فحسب، بل، يصحّ القول، معارضًا متطرفًا؟ وإلّا ماذا إذًا توصف هذه المواقف التي يتخذها من القضايا السورية الأشد جذرية:

– رفض قطعي لكل من كانت له علاقة مع النظام البائد، فلا عذر عنده لمن: “تماهى كثيرًا أو قليلًا” مهما كانت ظروفه، ولا يجد داعيًا لمجرد التلميح إلى هذه الظروف.

– ضد قانون العفو العام، الذي قد يجد به الكثيرون، وربّما منهم السلطة الحالية، حلًا ما للحالة البالغة التعقيد في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية في سورية، بعد حكم دام /54/ سنة، كان النظام فيها يقوم على نشر الفساد، إلى أن نخر عظامه هو نفسه!

– إصرار على العدالة، ولا عدالة إلّا في محاسبة المرتكبين: “الفاسدين والمجرمين ممّن يزعمون البراءة من النظام البائد ويبرّرون ارتكاباتهم بمنطق الاضطرار والخوف والغلبة على أمرهم”. حتّى إنّه لا يأتي على ذكر العدالة الانتقالية، ربّما لأنّها تقوم على التسويات! فالمحاسبة بعرفه جوهر العدالة.

– رفض مطلق لفكرة تقسيم سورية إلى كيانات، طائفية أو مذهبية أو مناطقية (يا صديق م. أ. م) أو قومية. معلنًا أنّه: “إذا تمكن الطائفيون والمذهبيون والقومجيون من تقسيم سورية، فإني سأطلب اللجوء، (لا إلى الولايات المتحدة، حيث لديه إقامة دائمة، ولا يحتاج سوى لتجديد جواز سفره، ولا إلى أوروبا، ولا إلى الإمارات، ملجأ السوريين كافة، موالين أو معارضين بل إلى) أقرب كيان سوري، غير تقسيمي” (يشترط)!

4- اليوم الأخير من حياة عبد اللطيف علي:

وكأنّه كان يستشعر الخطر، 6 منشورات، خلال اليوم الذي قتله فيه أولئك الذين كان يعلن انتماءه لهم، ويستميت في دفاعه عنهم. إلّا أنّي آتي على ذكر هذه التفاصيل، ليس لضرورتها فيما أكتبه فحسب، بل لشعوري بأنّه كان وما يزال هناك من يريد أن يعتم عليها! أن يقلل من أهميتها ومن أهمية دلالتها، فهي، إذا فهمتم ما أعني، تشكل عامل إحراج شديد للطرفين معًا، كلّ من زاوية! وأيضًا استجابة لرغبة مني بالحيلولة بينها وبين النسيان والضياع، باعتبارها شهادة لا مثيل لها عن مصائر السوريين الفجائعية، بفعل تراكم الموت وأكوام جثامين السوريين فوقها:

7/3/2025  ليلًا 12.46: “الأصدقاء الكرام الوضع في جبلة يهدأ. الساعة الآن 12.45 ليلًا سوف أحاول النوم تصبحون على خير”.

7/3/2025 صباحًا 10.13: “… يا أهلنا في الساحل وفي عموم سورية أنتم وبلدكم المستهدفون بالفتنة ودمكم ومستقبل أولادكم هو الذي يهدر لكي يأتي الغرباء فيقطفوا ثمار الدم دون أن يتهدم حائط في بلادهم. #عاشت_سوريا_وطنًا_نهائيًّا_لجميع_مكوناته_وأبنائه”.

7/3/2025 صباحًا 10.46: يعيد نشر نصّ كتبه في 7/3/2023! يوم موته منذ سنتين، عن الخوف من الزلزال، الذي بعرفه يماثل الخوف في 7/3/2025:

“خوف! أنا وجميع من حالُهم مثلُ حالي… هل يحقّ لنا أن نخافَ من الزلزال؟ أنا من المواطنين السوريين الذين يرون أنّ الوضع العامّ ليس سيئًا بل كارثيًّا، وأنّ لا أملَ في صلاحه خلال الأجل الذي قد تمتدّ إليه حياتهم مهما طالت، فالناسُ جُرّدوا من كلّ مقوّمات الفعل التي تؤهّلهم لإحداث التغيير ووضع قطار الإصلاح على سكّته، والقيّمون على البلاد يرون في التغيير خطرًا عليهم فيحاربونه ويقطعون عليه السبل… ما الذي قد يُحدِثُه لنا الزلزال؟! الموت؟! وهل الموتُ قياسًا بما نحن فيه وما سنؤول إليه أمرٌ سيئ؟! لا… لا يحقّ لي أن أخاف من الزلزال! لكنني أتحدث في المبدأ… لست خائفًا أبدًا، وهذا لا صلة له بالشجاعة والجبن، بل بالانسجام مع ما أومن به وأعتقد أنّه صحيح”.

7/3/2025 ظهرًا 12.16: يشارك بثًّا بالصوت والصورة لزيدون الزغبي: “ثلاث رسائل: 1- إلى العلوي… إياك والسلاح إياك والاستزلام لحفنة من المجرمين والمطلوبين. 2- إلى السنّي… الدولة هي ولية الأمر الدولة قوية وليست ضعيفة الدولة هي التي تدافع عنك وعن غيرك بحماسك وتحريضك ونزولك إلى الشارع أنت تؤذي الدولة وتحيّدها. 3- إلى الدولة… عليكم التعجيل في تشكيل حكومة جامعة حقيقية. الفوضى تعني ضياع النصر”.

7/3/2025 بعد الظهر 2.23: “صديقي السوري… السوري اليوم وأنت تمرّ بأصعب اختبار تذكر أنّك سوري فهذه الحقيقة هي لو تعلم أغلى من كل ما تكتنزه من جواهر وهي التي تبقيك إنسانًا وتمنعك من الانحطاط إلى درك الوحوش”. واضعًا صورة لمنشور عبد الرحمن طالب أحد نشطاء اللاذقية، مع جملة: “تحاصرنا وخبَّأَنا العلويون في منازلهم”.

“لا أستطيع أن أبطل التفكير، بماذا كان يشعر به عبد اللطيف وهو يواجه قاتليه؟ “أهلًا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة”. لم يشفع له تأهيله بهم، ولا قوله نحن معكم، ربّما ظنّوه يكذب، ربّما هذا لا يهمهم. ربّما سمعوا الجملة ذاتها من ضحايا قبله!”

7/3/2025  بعد الظهر 3.51: آخر الكلمات الأخيرة التي كتبها لنا عبد اللطيف علي، قبل ثلاث ساعات من مقتله: “عزيزي الشاب العلوي المضلل: ليكن معلومًا لديك، أنّ أولئك الذين جندوك وسلحوك ودفعوا بك إلى أتون معركتهم مع السلطة الجديدة، إنما هم يستغلون فقرك وسذاجتك لكي يشعلوا بك وبأمثالك نارًا ودخانًا يمكنهم من الإفلات بأرواحهم وأموالهم التي جنوها على حسابك وحساب أهلك وهم أجبن من أن يخوضوا معركتهم بأنفسهم فيلجؤون إلى التلطّي وراء شعارات طائفية خائبة تقسيمية مدمرة تعمي بصيرتك وتخدر عقلك فتتبعهم إلى مصير أسود ينتظرهم عاجلًا أم آجلًا. فاستيقظ وألق سلاحك قبل فوات الأوان وقبل أن تجرّ بحماقتك أقرب الناس إليك إلى ذات المصير الأسود المحتوم”.

5- المقتلة:

– على لسان ابنته: “أنا بنت عبد اللطيف علي. لا شك في أن فلول النظام اللي عملت كمين للأمن العام في جبلة كانت مساهمة في تفجّر الوضع في المدينة. ولكن من دخل إلى بيتنا وقتل أبي وأخوتي هم من الفصائل التي جاءت من الداخل عندما تمت الدعوة للفزعة والنفير العام. مظهرهم. لهجتهم. كلماتهم. كلها تؤكد ذلك”.

– على لسان زوجة ابنه، باختصار بعض التفاصيل، لكلماتها ولقسوتها: “أنا براءة زوجة بشر عبد اللطيف علي شاهد على مجزرة ضد الإنسانية، مبارح حوالي الساعة سبعة المسا دق علينا الباب ببيت عمي مجموعة مسلحة من الأرتال. دخلوا جبلة لتطهيرها من اللي سموهن فلول نظام، فتح عمي الباب وقلن أهلا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة.

سألوا: شو اسمك

– عبد اللطيف علي وهادا بشر ابني ومجد

– شو بتشتغلو

– أنا متقاعد من وظيفة مدنية وبشر دكتور ومجد موظف مدني

– أنتو من جبلة هون

– إي

– يعني أنتو سنة

– لا علوية

….

قالوا الشباب والعم يلا لبرا وأنتو ضلو جوا… قتلو التلاتة. حبيبي بشر ومجد وعمو عبد صارو جثث. تلت أبرياء ما أذوا نملة. كل الدنيا بتعرف منين قتلوهن الوحوش. يا حبايب قلبي المحروق ما راح خلي قصتكن تموت معكن بدي أاحكي لكل العالم عنكم”.

6- هواجس:

لا أرى أن هناك داعيًا لأستخلص العبر، ولا أن أشير إلى النقاط الهامة من هذه الرواية الدامية، فهي تقول، وعلى نحو كامل البلاغة، كل شيء بنفسها، غير أني لا أستطيع أن أبطل التفكير، بماذا كان يشعر به عبد اللطيف وهو يواجه قاتليه؟ “أهلًا بالشباب نحنا معكم وبدنا يرجع الاستقرار لجبلة”. لم يشفع له تأهيله بهم، ولا قوله نحن معكم، ربّما ظنّوه يكذب، ربّما هذا لا يهمهم. ربّما سمعوا الجملة ذاتها من ضحايا قبله! ويعدونها مجرّد محاولة للهرب من الموت! لا ريب أنّه شعر بالخطر، أولئك الذين كان يناصرهم، هم الآن أمامه بسلاحهم يهددون حياته وحياة أبنائه! لا أظنّهم أمهلوه ليراجع موقفه منهم، أتراهم أتاحوا له لحظة خاطفة للندم؟ أم أنّه كان يفكر بأنّ هذا ما كان يحذّر منه، هذا ما كان يخافه تحديدًا. أتراه شططًا أن أتخيله يقول: “أغفر لكم لأنّكم لا تعلمون ماذا تفعلون؟”. فلقد حدث هذا مرّة، ومن غير المستبعد أن يفكر عبد اللطيف علي هكذا! أليس هو من كتب في 24/2/2025: “أمّا أنا… فأفضّل أن أموت بيد أيّ سوري… على أن أحتمي بغريب غير سوريّ… فكيف إذا كان دعيّ حمايتي إسرائيليًّا؟”. بينما أنا في الحقيقة أخالفه في ذلك كليًّا وأفضّل العكس تمامًا، أن أموت بيد غريب على أن أموت بيد سوري. أذكر أن صديقًا نبهني، بقدر من المزاح، إلى أن ما كتبته عن طوفان الأقصى قد يعرضني للتصفية الجسدية من قبل إسرائيل، فأجبته، بقدر من الجدّية، أني أعدّ هذا شرفًا! ثم يأتيني هذا الهاجس القاتل، ترى هل كان يفكّر بابنيه، هل كان يخاف في تلك اللحظة عليهما؟ فإذا كان موته ثمنًا ما لبقائه، وثمنًا لمواقفه، ويمكنه، وربّما يمكنني، أن أتقبّله شخصيًّا أنا نفسي، ولكن موت ابنيه، قتل ابنيه، لا هو ولا أنا ولا أب في العالم يحقّ له أن يتقبّله! ما أراحني ولو قليلًا، هو أنّي فهمت من شهادة براءة أنّهم قتلوه أوّلًا، وعلى مسافة أبعد، وكأنّها رحمة ربّانية، أنّه لم ير ابنيه يقتلان أمامه! تصوروا أنّ هذا ما أرجوه، وأدعوا اللّـه لأن يكون ما حصل!

7- السؤال الأخير:

لن يكون لدي ما أسأله لعبد اللطيف علي لو أنّه نجا، لو أنّه عبر، مع ابنيه، هذا السيل الجارف من الموت! لأنّي أظنّه سيبقى على ما يعرفه الجميع عنه، وسيعيد، ربّما بنبرة أشد: “ألق سلاحك قبل أن تجرّني وتجرّ ابني إلى المصير الأسود المحتوم”. لا أظنّه سيغيّر ما عاند عليه دهرًا! علمًا بأنّه لم يعف من نقده السلطة الحالية، فمثلًا في 6/3/2025 مساء 7.11 يكتب: “القرارات السيئة إمّا أنّها تتخذ عن غباء وجهل فتأتي بنتائج معاكسة لأهدافها وإمّا عن دهاء ومكر وعندئذ الطامة الكبرى”. ومن نصحها أيضًا: “عليكم التعجيل في تشكيل حكومة جامعة حقيقية. الفوضى تعني ضياع النصر”. إلّا أنّه لدي سؤال واحد لأسأله لعبد اللطيف علي بعد رحيله الفاجع، سؤال أخير:

“ماذا لديك لتقوله لنا الآن؟”.

ضفة ثالثة

———————————

جبال الساحل السوري/ سمر يزبك

8 أبريل 2025

هناك في جبال الساحل السوري المقابلة للبحر، في الأزقة التي تفيض برائحة الموت، حيث لا صراخ يُسمع، وحدها الجدران المتصدعة في البيوت الأفقر تحكي حكايات الذين سقطوا ولم يجدوا الوقت للبكاء.

يطوّر القتلة خطاب الخوف، كي لا يصدأ. بلا خوف، سوف يفكر الناس بالتضامن، وهو أمر يجب تفاديه بأي ثمن. لم يعد العنف عشوائيًا، بل بات أداة تعيد تشكيل الذاكرة. تم تجهيل الفاعلين هذه المرة بطريقة ما بعد حداثية، لم تُسمَّ الأشياء بأسمائها، كي لا تضيع السردية الرسمية، ليس للسلطة هذه المرة، بل للثورة نفسها. شبح النظام القديم حاضر فوق رؤوس المنتصرين، الذين هيّأوا أنفسهم لاحتفال النصر، وليس لديهم ترف الحديث عن مجازر، ولا عن ضحايا، ولا عن ذاكرة من سقطوا. كي لا يفقد القتلة أعذارهم الجاهزة، كان لا بد من إعادة تعريف الضحية. المجزرة، سيسميها خبراء الكلام لاحقًا “ردود أفعال انتقامية”، وسيُختصر الألم في لغة باردة تُحيل المذبحة إلى مجرد ملاحظة هامشية في تقرير طويل عن مسؤولية الأسد المسبقة وفلوله عن المجزرة، وعن السكين التي تحز الجسد لتخرج قلب الشاب أمام أبيه.

لم يكن سقوط النظام إيذانًا بولادة جديدة، لعله لم يسقط تماما، بل كان مجرد تبديل للأقنعة في مسرح لم يتغير ديكوره سوى بلون الدم. يبدو الزمن حاضرًا في المشهد، لكنه في الحقيقة أول الضحايا، يسقط أولًا، ينسحب من الجغرافيا، يصبح بلا معنى. لا فرق بين الليل والنهار حين يكون الموت سيد الإيقاع. الأيام أصبحت متماثلة بالنسبة للضحايا، لا مستقبل في تلك الجبال، حيث كان يشعر وكأن الكون خُلق للتو، وكأنه أول من يطأ الأرض، لم يكن هناك مكان لحسابات الطوائف. لم يكن القتل عنوانًا للهويات، بل للحرب التي لا تعترف إلا بالدم. لكنه الآن بات رقصة مكررة، حفلة وحشية، نظرة الضحية إلى عيني القاتل، لم تكن هذه مجرد نزهة للقاتل في حديقة الضحية، بل عبورًا إلى حيث تُصنع الخرائط بالدم، حيث الحدود القصوى للأشياء، للوحشية البشرية…

في زحام الدم السوري، توقفت الضحية أن تكون فردًا تعرض للظلم، بل تحولت إلى هوية جماعية تُصنّف وفقًا لمنطق ديني. بعض القتلى يُبكى عليهم، تُنشر صورهم، تُحكى حكاياتهم، بينما يُمحى الآخرون، يُعاملون كأرقام في تقارير باردة، كأن الموت نفسه بات امتيازًا مقننًا. لم يكن السؤال من مات، بل كيف منح له الموت؟ وكيف ستُروى حكايته رسميا أهو شهيد أم فلول أم مجرد أضرار جانبية لأخطاء فردية؟

عندما ينهار النظام، ألا يعني ذلك سقوط أدواته، أم يُعاد تدويرها؟ هل علينا تجرع نفس الكأس؟ يُعاد استثمار الخوف، يُعاد تعريف العدو. في هذه الفوضى، كان لا بد من خصم جديد، من كبش فداء يُلقى عليه إرث النظام السابق، يُحوّل إلى رمز يجب تصفيته. هكذا وُضع العلويون في مرمى الخطاب الجديد، لا كأفراد، بل كامتداد لشبح لم يُدفن بعد، كأثر يجب محوه كي تكتمل الحكاية الجديدة. لم يكن الأمر محاسبة عادلة، بل عنفًا يستمر، فقط بوجهة مختلفة.

السلطة تحتاج دائمًا إلى عدو، إلى وقود يبقي آلة الخوف دائرة. لم يكن القتل مجرد موت، بل أداة لإعادة تشكيل السردية، لتبرير المزيد من الدم، ليبقى الصراع مستمرًا حتى بعد أن تغيرت وجوه القتلة. هل كان هذا ما احتفل به السوريون يومًا، ورقصوا في الشوارع من أجله؟ منطق جديد للهيمنة، لكنه يظل وفيًا لمنطقها القديم.

حين خرج السوريون مطالبين بالحرية، خرجوا ضد القتل، أيًا كان القاتل، وأيًا كان القتيل. لم يخرجوا مطالبين بالسلطة بل خرجوا مطالبين بالعدالة. من يذكر: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، من يذكر: “الشعب السوري ما بينذل”، ولكن اليوم، هناك شريحة من الشعب تُقتل ولا تجد تضامنًا كافيًا من بقية مكوناته، وكأنه حقًا ليس شعبًا واحدًا، وكأن الألم أصبح مشروطًا بالهوية. هكذا تتشكل السرديات المتنافرة، فتتمزق الجماعة إلى شعوب متباعدة. حاول نظام الأسد تفتيت النسيج السوري وفشل، لكن اليوم، في لحظة امتلاك الحد الأدنى من حرية قول الحقيقة، يجد العلويون أنفسهم بحاجة إلى تضامن من بقية مكونات الشعب السوري، ليس فقط لحمايتهم، بل لحماية ما تبقى من معنى الثورة.

“من يذكر: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، من يذكر: “الشعب السوري ما بينذل”، ولكن اليوم، هناك شريحة من الشعب تُقتل ولا تجد تضامنًا كافيًا من بقية مكوناته، وكأنه حقًا ليس شعبًا واحدًا، وكأن الألم أصبح مشروطًا بالهوية…”

لقد مروا بالجحيم وكأن النور قد انطفأ في عيونهم، ومع ذلك، يحاولون إيجاد تمييز – ربما أصبح أكثر استحالة- بين قاتليهم وحماتهم الذين فرحوا وهللوا بانتصارهم؛ يهربون رغم بساطتهم من تحليلات تعيد إنتاج نفس الخرائط الدموية. لم تكن هذه مجرد جرائم، ولم يكن هذا الموت عاديًا، بل كان يحمل بُعدًا رمزيًا، حيث لا تُزهق الأرواح فقط، بل يُعاد تشكيل معنى الحياة نفسها.

إذا كان منشأ الخوف هو ذعر الذات من صورتها المتخيلة، فإن الكذب لتنظيف الخوف مما يدل عليه، والبحث عما يبرر القتل، يدلان معًا على هشاشة مموهة بالحقد، وعلى ما ستفرضه هذه المرآة المؤجلة من مجازر جديدة، على مساحة أكبر اتساعًا.

هم هناك، في تلك القرى المتناثرة على سفوح الجبال، لا يطلبون أكثر من أن تُروى حكايتهم كما هي، بلا تهذيب، بلا خوف من كسر السردية. لم يكن ذنبهم أنهم وُلدوا في مكان خاطئ في لحظة خاطئة، ولم يكونوا امتدادًا طبيعيًا للنظام كما أُريد لهم أن يُختزلوا. يتجنبون الكلام، لا لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأن الكلام لم يعد وسيلةً للفهم، بل ذريعة للمحو. لا يغادرون منازلهم بعد الغروب، ينظرون إلى بعضهم، كأنهم يشهدون على اختفاءٍ بطيء، لا لأجسادهم، بل لمستقبلهم ومعناهم، وكأن استمرارهم في الحياة يستدعي إثباتًا دائمًا بأنهم ليسوا القتلة. صار الخوف لباسًا يوميًا، لا من الطائرات، بل من الروايات. لم تعد الحرب حرب مواقع، بل حرب سرديات، كل واحدة تبحث عن ضحية “صحيحة”، وعن قتيل يمكن النوح عليه علنًا.

أولئك الذين سقطوا هناك، لم يكونوا أرقامًا، لكنهم عوملوا كأرقام. لم يُسمح لهم أن يكونوا ضحايا، لأن ذلك يُربك المعادلة، يُشوش على الرواية التي اعتادت الأبيض والأسود. يعيشون في الفراغ بين صورتين: صورة المجرم المفترض، وصورة الضحية غير المعترف بها. وبين الصورتين، تضيع الوجوه، وتُمحى التفاصيل. لكنهم ما زالوا هناك، رغم كل شيء، ليسوا تمثيلات لأحد، ولا أوراقًا في يد أحد، فقط بشر، يسألون عن مكانهم في الحكاية. تلك الحكاية التي تتغاضى عن تحديدها حتى الآن جماهير السلطة القائمة في حين أن هذه السلطة، هي من تتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن المجازر التي وقعت بحق مواطنيها، سواء بالسماح الضمني، أو بالعجز المتعمد، أو ربما….

العلويون ليسوا حالة استثنائية في الألم السوري، لكن استثناءهم كان في الطريقة التي أُجبروا بها على الصمت، وعلى التماهي القسري مع النظام، كأنهم طُلب منهم أن يحملوا إرث الجلاد، وأن يتنكروا لضحاياهم في الوقت ذاته. لم تُمنح لهم المسافة التي تسمح بإعادة التفكير، ولا الزمن اللازم للحزن. كانوا دائمًا في قلب العاصفة، لكن بصمت مدوٍ. لا أحد يريد أن يسمع حكاياتهم لأن سردها قد يعيد تعريف معنى الضحية خارج التصنيفات الجاهزة. في سردية الثورة، كانت هناك لحظة نقاء، لحظة حلم بأن العدالة لا تستثني أحدًا، بأن الحرية لا تُمنح بشروط. لكن هذه اللحظة لم تصمد أمام ثقل الدم، وأمام منطق الثأر المتسلل بهدوء إلى خطاب التحرر. صار من الممكن تبرير كل شيء باسم الثورة، حتى نفي الآخر، حتى إعادة إنتاج منطق النظام، ولكن بلون جديد. كأننا نُعيد تدوير الوحش، لا لنحاربه، بل ليتخذ هيئة أخرى تناسب المرحلة. إن من نجا من موت القصف، لم ينجُ من موت المعنى.

تحتاج هذه الجبال إلى من يُنقذها، إلى من يصغي. تحتاج إلى خطاب جديد، إلى صمت صادق، يعترف أولًا بما فاته أن يعترف به. ففي مرات كثيرة، لم يكن الخذلان فعلًا مقصودًا، بل نتيجة طبيعية لواقع صُمم ليمنع التقاء العيون، وليجعل كل فئة تنظر للأخرى من وراء زجاج الخوف. ومع ذلك، ما زال هناك من يُصرّ على أن يقول: لسنا خصومًا، ولسنا ورثة أحد. نبحث عن أمان لا يُكلفنا أرواحنا، وعن وطن لا يطلب منا أن نكذب كي نعيش. تلك اللحظة التي فيها يعترف الناس ببعضهم، لا كرموز، بل كضحايا متساوين، قد تكون اللحظة الوحيدة التي تستحق أن تُسمى انتصارًا. لأن الثورة، التي بدأت بـ “الشعب السوري واحد”، لا تنتهي إلا حين يعود هذا النداء حقيقة، لا شعارًا. وما لم يحدث ذلك، ستبقى الحرب مستمرة، وإن تبدّلت أدواتها. ستبقى الجبال شاهدة، لا على ما جرى فقط، بل على ما لم يُفعل بعد.

—————————-

الزلزالُ السوريّ الأقسى لعام 2025/ عبير نصر

08 ابريل 2025

لا يخفى على أحدٍ أنّ فنَّ اللعب على التناقضات الطائفية، وما ترتّب عليها من فشل أخلاقي (خاصة إبّان الثورة السورية)، كان من أهم أسباب صمود نظام الأسد، وتفتّق ذلك عن أشدّ أزمات المجتمع السوري خطورة، إنتاج هُويَّاتٍ فرعيةٍ خامدةٍ ستندلع شرارتها متى يتوافر فراغٌ سياسي وأمني ملائم. وواضحٌ أنّ الانفجارَ الطائفي اليوم هو القاعدة وليس الاستثناء لسقوط الأسد، فها هي فيديوهات التحريض تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما أبرزها التي يصرخ فيها شخص ينتمي للأكثرية في وجه آخر “أقلوي” يدعو إلى التسامي على الجراح: “ما الذي يُجبرني على العيش معك وقد باتت القوة في أيدينا؟”. وفي سياق تفصيل ذلك، وقريباً من الإدراك الحيوي والعقلاني للوقائع الراهنة، يبدو هذا كلّه مُتوقَّعاً في بلدٍ لم يحظَ السوريون فيه بفرصةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لبناء هُويَّةٍ وطنيةٍ خالصةٍ بعد الاستقلال. فبدايةً، جاءت نكبة فلسطين لتتسيّد صدارة الأولويات العربية، ثمّ الارتدادات الكارثية التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، ففشل الوحدة السورية المصرية، وبلغ التأزّم مداه إثر انغماس السوريين في كوارث “البعث”، ليفقدوا طهرانيتهم بكلّ ما سيعتري كيانهم الطريّ لاحقاً من اختلالاتٍ وإكراهات… هذه المخاضات العسيرة جعلت من حكم الأسد الولي الأكبر لشعبٍ بلا هُويَّة ناجزة، سيتحوّل تباعاً أقواماً متفرّقةً تفصل بينها جدرانٌ شاهقةٌ من المظلوميات والأحقاد مسجونةً في مزرعةٍ يديرها لصوصٌ رعاعٌ باسم الأيديولوجيا القومية، عبر علاقات مشبوهة من الإكراه على العيش المشترك.

ونظراً إلى التحدّيات واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم بالواقع الحالي نوعاً من الإفلاس الهُويَّاتي البيّن، يفتّح الأذهان على أسئلة مصيرية كُبرى وسط البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين وإبراز قيمتها، وهي ليست مجرّد ترفٍ نظريٍّ أو سجالاتٍ فارغة، إنّما جُهد يُثمَّن لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين، واعتبار الهُويَّة الدينية هُويَّةً صُغرى تشكّل فضاءً معرفياً مضافاً، تجنّباً لتبنّي العنف الطائفي خياراً للتغيير السياسي.

ممّا تقدّم من معطياتٍ مهّدت لصحوةٍ طائفية لا نظير لها في سورية تاريخياً، يتأكّد أنه لا يمكن استيعاب إشكالية “انتقائية التعاطف” من محسوبين على “الأكثرية”، وعدم استجابتهم لمجازر العلويين بعيداً من التحوّلات الأيديولوجية والهُويّاتية المُستظلَّة براية المظلومية “السُّنية”، التي أنتجتها ممارسات حكم الأسد بالمعنى السياسي الاستبدادي، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على دخول السوريين في تيهٍ مظلم يصعب الخروج منه، وسط محاولاتٍ لإعلاء خطاب “الشعب السوري واحد”، ليس حالةً عيانيّةً مجسّدة، بل استجابةً واقعيةً حتميةً، خاصّة أنّ هذا الشعار الأثير تجلّى بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، حين ناضل المسلم والمسيحي والكردي معاً لتحرير سورية من المستعمرّ الفرنسي، بعيداً من أيّ فتنةٍ طائفيةٍ أو نزعةٍ انفصالية، حتى تمكّن حافظ الأسد “العلوي” نفسه من الوصول إلى الحكم. وللمفارقة، تغدو الهُويَّة الوطنية الجامعة أبرز ضحاياه. لذا من الطبيعي أن يتطوّر خلافٌ بسيط بين شخصَين ينتميان إلى طائفتَين مختلفتَين صداماً أهلياً مريراً قد ينتهي بحمّام دمٍ بسبب التحريض الممنهج. خذ مثالاً ما حصل في أشرفية صحنايا بين الدروز وعشائر من دير الزور، ولحسن الحظّ تدخّل العقلاء وجرى احتواء الخلاف.

هذا العبث الممنهج، وقوامه إحياء الهُويَّات الجزئية التي تدغدغ المشاعر الدينية لحشد مزيد من التأييد والمشروعية، يطرح سؤالاً ملحّاً عن إمكانية إحياء الهُويَّة السورية، وقد أتت سياسةُ نظام الأسد الطائفية الخبيثة أُكلها مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها. في السياق، يؤكّد مستشار الأمن القومي الأميركي خلال رئاسة جيمي كارتر، زبيغنيو بريجينسكي، أنّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والشعوب هي تعميق الانقسام المذهبي والعرقي، من خلال تمكين طائفةٍ بعينها ودعمها لقهر بقية المكوّنات. بالتالي، يمكن القول إنّ تركة الأسد الثقيلة بالتوازي مع سطوة الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وتشابك الملفّات الدولية والإقليميّة، تدفع السوريين إلى تبنّي تعريفات خاصّة بهم بهدف حماية أنفسهم. وقد حدث هذا الانسحاب الطائفي أيضاً على ضفة المؤيّدين أيّام حكم الأسد، وهو تقوقعٌ محمولٌ على سياساتٍ تمييزيّة تثير عصبيات فرعية ما قبل وطنية. في المقابل، لا يبدو أنّ النخب السورية بعمومها، وعلى الرغم من فداحة المشهد العام، تقوم بمراجعة إسعافية لاحتواء التحدّيات التي يطرحها الواقع المأزوم الأشد استعصاءً، وفيه يتحوّل منشورٌ “فيسبوكيّ” تافه إلى ساحة احترابٍ همجيٍّ مرفقة بالتخوين والاتهامات، ليُكفَّر شخص وتُنزع من آخر هُويَّته السورية لأتفه الأسباب، فلا شكّ في أنّ سورية تعاني من أنيميا حادّة في الانتماء، وعلى خلفية ذلك، لنستحضر حادثة شهيرة تختصر ما سبق، ففي 2021 شهدت مباراة لكرّة السلة بين منتخبَي سورية وكازاخستان، ضمن تصفيات كأس العالم، حادثةً مثيرة للجدل، وهي عزف النشيد الإيراني بدلاً من السوري، ولم يُبدِ اللاعبون السوريون لحظتها أيّ اعتراض أو استغراب، باستثناء واحد (!).

على أيّ حال، لطالما أُثيرت شرارات طائفية بدت ظواهرَ مارقةً أمكن ضبط تداعياتها، هي نفسها اليوم تغدو أكثر استفزازاً وحضوراً. فمثلاً، تبرُز ظاهرة “التكويع” واحدةً من أبرز مخرجات تشوّه الهُويَّة السورية الجامعة المفقودة حالياً، أو هي، في أقلّ تقدير، بأسوأ حال مع استمرار دعوات التحريض الطائفي الممنهجة ضدّ “الأقلّيات”، بينما يحتاج الخلاص إلى عمل سوريّ موحّد تجنّباً للانجرار وراء أيّ هُويَّة فرعية. لذا قد يبدو مغرياً، وبلغةٍ تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية، النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة، حتى أنّ بعض النُخب العلمانية الأكثر انفتاحاً قبلت الأسلمة ردّاً على نظامٍ رسّخ مصطلح اللوحة الفسيفسائية (المثيرة للسخرية) من دون الخوض في تفاصيلها، نوعاً من الالتفاف السياسي على جوهر المشكلة، ودفعَ باتجاه صراعٍ مكبوتٍ انفجر عندما رُفِع الضغط عنه، استجابة لكثير من المفاهيم السياسية المؤسَّسة على مرجعيات طائفية بحتة.

ضربَ سورية، في 6 فبراير/ شباط 2023، زلزال مدمّر طرحَ أسئلةً وجوديةً شائكة، ولم يملك السوريون آنذاك رفاهية الوقت للبحث عن إجابات ليقينهم المطلق أنهم سيُتركون وحدهم في مهبّ الريح، فسارعوا ينظّمون أنفسهم بعيداً من منطق الاصطفاف الطائفي لاحتواء الكارثة، واعتبر حراكهم محطّةً لاستعادة جاذبية الخيار الوطني، الذي فقدَ كثيراً من قوته وثقله، حينها وصلت شاحنات مساعدات إنسانية إلى مدينة جبلة الساحلية قادمةً من قلب إدلب. واليوم يأخذ سوريون وضعية المزهرية بينما تتعرّض البلاد لزلزالٍ أشدّ قوة وتدميراً، وهو الفوضى العدمية المتمخّضة عن السقوط المفاجئ لنظامٍ قمعي احترف في عملية ضبط المصطلحات الطائفية لمصلحته، محوّلاً البلاد جمهوريةَ رعبٍ منزوعة المواطنة، أفقدت الهُويَّة السورية حمولتها الوطنية كلّها، في استعراضٍ مسرحيّ مبتذل للتخوين والمزايدة والانتقام.

نافل القول، نفذت مليشيات موالية لنظام الأسد عمليات إبادة جماعية بحقّ السنّة خلال الثورة، واليوم تستعيد المجازر حضورها في قرى الساحل العلوية، وما زال السوريون (في الحالتَين) يتخندقون داخل أوكارهم الطائفية، يصمّون آذانهم عن ارتدادات الزلزال الذي يبتلع البلاد. وعليه، لنتفق: إذا لم يجمعهم طفل بانياس الذي ربط سرواله بحزامٍ قماشي لشدّة فقره، والذي قُتل في مجزرة حرف بنمرة، وبغضّ النظر عن دينه، فلا يمكن أن يجمعهم أيّ شيء آخر.

العربي الجديد

————————-

السلم الأهلي الهشّ: جمر الثنائيات السورية تطفئه 6 مبادئ/ زيدون الزعبي

08 ابريل 2025

بدت مطالبات بالسلم الأهلي عديدة غير جديّة، إن لم نقل ساذجة وغير عقلانية، فمن مطالباتٍ بعفوٍ عام إلى حلّ الأمر على قاعدة “تبويس الشوارب”، إلى أخرى دعت إلى تحقيق السلم عبر المحاسبة المباشرة، وبأن أي مطالبةٍ لتطبيق القانون ومسار العدالة الانتقالية ليس إلا مثالية زائفة لا معنى لها، خصوصاً في ظل تأخّر الدولة الناشئة في طرح مسارات عدالة جدّية.

تبدو قضية السلم الأهلي واحدة من أكبر مهدّدات الدولة السورية وهي تولد من جديد، فالاستقطاب الهائل بين الثنائيات السورية الحاضرة بقوة، قبل انتصار الثورة وبعده، يجعل السلم الأهلي، والاطمئنان الذي أشاعه شكل الانتصار، وبالحد الأدنى من الخسائر في الأرواح، في مهبّ الريح. فثنائية أكثرية – أقلية، التي تأخذ أشكالاً مختلفة بين سُنّة وعلويين، وكرد وعرب، وعلماني ومحافظ، ومعارض للنظام السابق ومؤيد له، تُنذر باقتتالٍ لا يبقي ولا يذر.

ومع وجود حوامل إقليمية ومحلية تسعى إلى إشعال الصراع وتسعيره، سواء بالتحريض الطائفي والمذهبي والقومي، أو حتى بالتسليح والتمويل، يصبح السلم الأهلي في غاية الهشاشة، وتكاد حربٌ طائفيةٌ تندلع مهما حاول منعها حماة السلم من دولة ومجتمع مدني وأهلي.

من زاوية أخرى، بدت مطالبات بالسلم الأهلي عديدة غير جديّة، إن لم نقل ساذجة وغير عقلانية، فمن مطالباتٍ بعفوٍ عام إلى حل الأمر على قاعدة “تبويس الشوارب”، إلى أخرى دعت إلى تحقيق السلم عبر المحاسبة المباشرة، وبأن أي مطالبةٍ لتطبيق القانون ومسار العدالة الانتقالية ليس إلا مثالية زائفة لا معنى لها، خصوصاً في ظل تأخّر الدولة الناشئة في طرح مسارات عدالة جدّية. وعليه، يبدو من الواجب اليوم وضع مبادئ أولى للسلم الأهلي، لا لتكون مبادئ نهائية، بل لتكون وثيقةً حيّةً منفتحةً على المقترحات والتطورات المحتملة للقضية السورية.

أولاً: انتصار شعب لا طائفة

يقول نيلسون مانديلا: “كرّست نفسي طوال حياتي لهذا النضال الذي يخوضُه الشعب الأفريقي. لقد ناضلتُ ضدّ هيمنة البيض، وناضلتُ ضد هيمنة السود. لقد اعتززتُ بمبدأ المجتمع الديمقراطي الحر الذي يعيش فيه كل الناس معاً في وئام وتكافؤ الفرص. إنه مبدأ أتمنّى أن أعيش من أجله وأن أحققه. وإذا لزم الأمر، هو مبدأ أستعد للموت من أجله”. من هنا، يمكن القول إن تأسيس قضية العدالة ربما كان كامناً في تحديد ماهية الصراع ونتائجه، فهل مَن انتصر هو فصيل أو فصائل المعارضة على جيش النظام؟ أم هو انتصار طائفةٍ على أخرى أو أخريات؟ أم هو انتصار الشعب المظلوم على نظام جائر ظالم؟ جواب هذا السؤال يكمن في توصيف ما جرى خلال السنوات الأربع عشرة المنصرمة، هل ما كان ثورةً أم حرباً أهلية؟ ربما كان التوصيف العلمي الأكاديمي حرباً أهلية، غير أنه، في ضمير غالبية السوريين، ثورة، ولا تسامح مع أي توصيفٍ له خارج هذا النطاق، فإذا كانت ثورة، فكيف تكون ثورة مكوّنٍ ما ضد مكوّنٍ ما، أو كيف يُلام على قمعها مكوّنٌ؟ وكيف يكون ضحيّتُها مكوّناً؟

تهدف الثورة إلى أن ينتصر الشعب على منظومة حكم سياسية، وعلى مجموعة القيم التي كانت تكرسها، وهذا ما تبنته شرائح واسعة من منتسبي الثورة! إذاً هي ثورة، وفي الثورة ينتصر الشعب، كلّ الشعب، لا جزء منه، ولا طائفة منه على جزء آخر أو طائفة أخرى. زد على ذلك، أن أحد أهداف الثورة السامية اقتلاع جملة ممارسات كانت السلطة البائدة تسعى إلى تكريسها، واحدة منها، وربما أهمها، هي الطائفية. إذ كانت السلطة البائدة تحاول وسم الثورة بأنها إرهاب، في تدليس وتضليل موصوف لربطها بالسُّنة، بمواجهة الأقليات، فيما جهدت الثورة في تثبيت أنها ثورة شعب، كل الشعب، ضد النظام، والنظام فحسب. بالتأكيد، سيقول قائل إن كل من هم في المخيمات، والغالبية الساحقة من المعتقلين، والمدن المدمرة هي مدن سُنّية وهذا صحيح، لكن هذا هو جوهر سردية السلطة التي حاولت تكريس الثورة بوصفها حراكاً لجزء من طائفة ضد طائفة، وبالتالي، يصبح انتصار الثورة، في أحد أهم أوجهه، انتصاراً على الطائفية بوصفها واحدة من أهم أدوات السلطة البائدة، لا تكريساً لها.

ثانياً: المواطنة بمواجهة خطاب الأكثرية – الأقلية

تبدو مصطلحات مثل الأكثرية والأقلية سائدة في خطاب النخب والعامة السورية، وبالتالي يظهر خطاب من قبيل حماية الأقليات في سرديات النخب السورية، بل حتى في خطاب “المجتمع الدولي” ليظهر الأقليات مجموعاتٍ قليلة ذليلة بمقابلة أكثرية دموية ذات أنياب تسعى لافتراس الأقلية، في حين أن قيم الثورة الأساسية تكمن في مفهوم المواطنة المتساوية، الذي يساوي بين المواطنين السوريين، بغضّ النظر عن الجنس والخلفية الإثنية. وما لم يسد خطاب المواطنة بين النخب، أولاً وعاشراً، فإن سردية انتصار جزء من الشعب على جزء آخر ستسود، ليصبح ما جرى حرباً أهلية، لا ثورة.

ثالثاً: منطق الدولة

ليس مفاجئاً القول إن النظام السوري البائد خلّف هيكل دولةٍ، ينخر الفساد والعقوبات مؤسساتها، فالقضاء فاسد ومترهّل ومثقل بقوانين بعضها بالٍ، وآخر ليس إلا سيفاً مسلّطاً على رقاب البلاد والعباد، ثم جاء قرار حلّ الجيش، الذي أصدره النظام البائد، وكرّسته السلطة الحالية، ليكون تكريساً لإنهاك الدولة. تبدو الدولة إذاً اليوم في حالة ضعفٍ شديد، وما لم تُدعَم الدولة فإن حرباً أهليةً وحرب الجميع ضد الجميع تنتظر البلاد، ومن دون أن تنصبّ الجهود اليوم على حماية الدولة ومنطقها، وبناء مؤسّساتها فإن السلم الأهلي في خطر داهم.

أول المعنيين بحماية منطق الدولة هو السلطة الحاكمة اليوم، فالمطلوبُ من السلطة الآن هو التحلّي بالحكمة اللازمة لحماية الدولة ذاتها، وتشميل القوى السياسية والاقتصادية كافة من دون أي إقصاء لأي تيار سياسي أو مكوّن اجتماعي، والإسراع في مسار العدالة الانتقالية، وإيجاد حلول منطقية لتضخم العمالة والبطالة المقنعة خارج إطار التسريح التعسفي، واجتراح حلول اقتصادية للفقر المستشري.

غير أن السلطة اليوم غير قادرة على مواجهة هذا الكم الهائل من التحدّيات، ما لم يتصدّ المجتمع المدني والأهلي لهذه المشكلات. بالتأكيد، سيقول قائل إن مساندة هذه السلطة تعني تمكينها، وربما تهيئة الظروف لاستبدادها في السلطة، وهذا صحيحٌ ومخاطرة لا بد منها، وإلا فإن انهيار هذه السلطة قد يعني انهيار هذه البلاد. عليه، على المجتمع المدني الاستمرار بالضغط لجهة تشميل منطق المواطنة وتعميمه، إلى جانب حماية منطق الدولة.

لا يكفي هذا بالطبع، إذ يبدو وجود السلاح خارج الدولة من أكبر مهدّدات الدولة الوليدة، ومن دون آليةٍ سلمية لضمّ الفصائل قائمة على أساس وحدة السلاح والتشميل في آن واحد، فلن تقوم للدولة قائمة.

رابعاً: حماية الوسط في مواجهة الاستقطاب

بالعودة إلى مانديلا الذي قال: “لا يولد أحد وهو يكره شخصاً آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. يتعلّم الناس الكراهية، وإذا كان يمكنهم تعلّم الكراهية، فيمكنهم أن يتعلّموا الحب أيضاً”. … وعليه، نرى أنه ما إن انطلقت الثورة السورية، حتى ظهرت استقطاباتٌ كانت تختبئ خلف ستار الخوف والقمع، فثنائيات المدن الكبرى مقابل الصغرى، والريف مقابل المدينة، وغرب سورية مقابل شمالها الشرقي، وعربي مقابل كردي، فضلاً عن انتماءاتٍ طائفيةٍ ودينيةٍ عميقة، غير أنه بعد تسلح الثورة بفعل قمعها الجنوني من النظام البائد، لم تتعمّق هذه الاستقطابات فحسب، بل ظهرت استقطاباتٌ جديدة كثنائية داخل – خارج.

في زمن الاستقطاب يذوب الوسط، بكل معانيه، وبدل الحوار تخنق البلاد لغة التخوين والعداء وخطاب الكراهية. يختلف الطرفان المستقطبان في كل شيء إلا عداء الوسط، الذي بحكم وسطيّته يسارع إلى الانكفاء ليترك الساحة للعداء والكراهية.

ما لم يكن الوسط فاعلاً وقوياً ومنخرطاً مع طرفي الاستقطاب، بالحوار معهما، وبالتجسير فيما بينهما، لا بالتعالي عليهما، وبعضلات مفرودة وظاهرة، فإن الاستقطاب سيعني انقسام المجتمع عمودياً، وربما تقسيم البلاد.

خامساً: التشميل

“أريد أن تهبّ ثقافات جميع الأمم حول منزلي بحرية، ولكنني لا أريد أن تقتلعني إحداها من جذوري” قال المهاتما غاندي يوماً. إذاً، ما لم يظهر الفضاء العام تشميلياً، بالمعنى الحقيقي للتشميل، فإن أي خطاب سلمٍ أهليٍّ يصبح عبثاً وصيحة في وادٍ. بالتأكيد، لا يجب أن يأخذ التشميل شكله الاستعماري على أساسٍ إثنيٍّ لما يصبح محاصصةً طائفية، فالعراق ولبنان حاضران في ضمير السوريين مثالَين لتفسيرٍ استعماريٍّ لمعنى التشميل. يكفي أن يكون التشميل سياسياً وجغرافياً وتقنياً، ليضمن تمثيل الجميع من دون الولوج في وحل الطائفية والمحاصصة، ففيما لو كان التمثيل سياسياً بضمان وجود تشكيلاتٍ من الأحزاب، والقوى السياسية، و/أو كان جغرافياً على قاعدة تمثيل المناطق، و/أو على أساسٍ تقنيٍّ كأن تمثل النقابات المنتخبة ديموقراطياً، فإنها، في غالب الأحوال، ستضمن تمثيل جميع المكوّنات بنسب منطقية، تماثل وجودها المجتمعي.

غير أن التشميل يجب أن يكون ذا معنى، لا أن يكون شكلياً، أي أن تكون فئات الشعب حاضرة في عملية اتخاذ القرار، لا في عملية التصديق الشكلية عليه. وكل تشميل محمودٌ، على أن يكون جدياً وفاعلاً.

سادساً: العدالة

يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): “إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه”، ويقول غاندي: “العين بالعين يعني مجتمعاً أعمى”.

لا يمكن لأي سلمٍ أهليٍّ أن يحدُث إلّا على قاعدة العدالة، فلا سلام من دون عدالة، عدالة لا تهدّد استقرار البلاد، ولا تقتصّ من طرفٍ على حساب آخر، فمن أمر ليس كمن نفّذ، ومن نفّذ ليس كمن هاجم بالكلام، ومن هاجم بالكلام ليس كمن صمت عن القتل، ومن صمت عن القتل ليس كمن كظم غيظَه، وسكت عن خوفٍ من الأسدية أو عن رغبة في البقاء في البلاد وعدم تركها لنظام الأسد ينهشها.

ورغم ذلك، لا يمكن لأي دولةٍ أن تحتمل معاقبة كل من أساء أو ارتكب ومن جميع الأطراف، وإلا سنشهد محاكماتٍ تقضّ مضجع البلاد برمتها، فالعدالة الانتقالية ليست إلّا جسراً بين ماضي سورية المثقل بالجراح، والمستقبل الحالم بالسلام والعدل. إنها ليست مجرّد قانون يُسنّ أو محكمة تُقام، بل هي نداءٌ إنسانيٌّ عميقٌ لاستعادة التوازن بين الذاكرة والنسيان، بين العقاب والمغفرة، بين الانتقام والمصالحة. تبدو العدالة الانتقالية اليوم بوابة الأمل الوحيدة، إذ لا يُطلب من الضحايا أن ينسوا، ولا من الجناة أن يختفوا، بل أن يعترفوا، أن يُواجهوا الحقيقة بقلوبٍ جريحة، وأن يجلسوا معاً في ساحة التاريخ ليعيدوا صياغته بعد أن شوهته سنوات القمع والدم.

ليست هذه المبادئ نهائية، ولا تفترض صحّتها النهائية، بل تطرح نفسها على طاولة الحوار بين الجميع ولصالح الجميع. أطرح هذه المبادئ لأقول: تعالوا إلى كلمة سواء، تنقلنا إلى مستقبل آمن.

العربي الجديد

———————————————–

الزلزالُ السوريّ الأقسى لعام 2025/ عبير نصر

08 ابريل 2025

لا يخفى على أحدٍ أنّ فنَّ اللعب على التناقضات الطائفية، وما ترتّب عليها من فشل أخلاقي (خاصة إبّان الثورة السورية)، كان من أهم أسباب صمود نظام الأسد، وتفتّق ذلك عن أشدّ أزمات المجتمع السوري خطورة، إنتاج هُويَّاتٍ فرعيةٍ خامدةٍ ستندلع شرارتها متى يتوافر فراغٌ سياسي وأمني ملائم. وواضحٌ أنّ الانفجارَ الطائفي اليوم هو القاعدة وليس الاستثناء لسقوط الأسد، فها هي فيديوهات التحريض تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما أبرزها التي يصرخ فيها شخص ينتمي للأكثرية في وجه آخر “أقلوي” يدعو إلى التسامي على الجراح: “ما الذي يُجبرني على العيش معك وقد باتت القوة في أيدينا؟”. وفي سياق تفصيل ذلك، وقريباً من الإدراك الحيوي والعقلاني للوقائع الراهنة، يبدو هذا كلّه مُتوقَّعاً في بلدٍ لم يحظَ السوريون فيه بفرصةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لبناء هُويَّةٍ وطنيةٍ خالصةٍ بعد الاستقلال. فبدايةً، جاءت نكبة فلسطين لتتسيّد صدارة الأولويات العربية، ثمّ الارتدادات الكارثية التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، ففشل الوحدة السورية المصرية، وبلغ التأزّم مداه إثر انغماس السوريين في كوارث “البعث”، ليفقدوا طهرانيتهم بكلّ ما سيعتري كيانهم الطريّ لاحقاً من اختلالاتٍ وإكراهات… هذه المخاضات العسيرة جعلت من حكم الأسد الولي الأكبر لشعبٍ بلا هُويَّة ناجزة، سيتحوّل تباعاً أقواماً متفرّقةً تفصل بينها جدرانٌ شاهقةٌ من المظلوميات والأحقاد مسجونةً في مزرعةٍ يديرها لصوصٌ رعاعٌ باسم الأيديولوجيا القومية، عبر علاقات مشبوهة من الإكراه على العيش المشترك.

ونظراً إلى التحدّيات واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم بالواقع الحالي نوعاً من الإفلاس الهُويَّاتي البيّن، يفتّح الأذهان على أسئلة مصيرية كُبرى وسط البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين وإبراز قيمتها، وهي ليست مجرّد ترفٍ نظريٍّ أو سجالاتٍ فارغة، إنّما جُهد يُثمَّن لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين، واعتبار الهُويَّة الدينية هُويَّةً صُغرى تشكّل فضاءً معرفياً مضافاً، تجنّباً لتبنّي العنف الطائفي خياراً للتغيير السياسي.

ممّا تقدّم من معطياتٍ مهّدت لصحوةٍ طائفية لا نظير لها في سورية تاريخياً، يتأكّد أنه لا يمكن استيعاب إشكالية “انتقائية التعاطف” من محسوبين على “الأكثرية”، وعدم استجابتهم لمجازر العلويين بعيداً من التحوّلات الأيديولوجية والهُويّاتية المُستظلَّة براية المظلومية “السُّنية”، التي أنتجتها ممارسات حكم الأسد بالمعنى السياسي الاستبدادي، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على دخول السوريين في تيهٍ مظلم يصعب الخروج منه، وسط محاولاتٍ لإعلاء خطاب “الشعب السوري واحد”، ليس حالةً عيانيّةً مجسّدة، بل استجابةً واقعيةً حتميةً، خاصّة أنّ هذا الشعار الأثير تجلّى بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، حين ناضل المسلم والمسيحي والكردي معاً لتحرير سورية من المستعمرّ الفرنسي، بعيداً من أيّ فتنةٍ طائفيةٍ أو نزعةٍ انفصالية، حتى تمكّن حافظ الأسد “العلوي” نفسه من الوصول إلى الحكم. وللمفارقة، تغدو الهُويَّة الوطنية الجامعة أبرز ضحاياه. لذا من الطبيعي أن يتطوّر خلافٌ بسيط بين شخصَين ينتميان إلى طائفتَين مختلفتَين صداماً أهلياً مريراً قد ينتهي بحمّام دمٍ بسبب التحريض الممنهج. خذ مثالاً ما حصل في أشرفية صحنايا بين الدروز وعشائر من دير الزور، ولحسن الحظّ تدخّل العقلاء وجرى احتواء الخلاف.

هذا العبث الممنهج، وقوامه إحياء الهُويَّات الجزئية التي تدغدغ المشاعر الدينية لحشد مزيد من التأييد والمشروعية، يطرح سؤالاً ملحّاً عن إمكانية إحياء الهُويَّة السورية، وقد أتت سياسةُ نظام الأسد الطائفية الخبيثة أُكلها مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها. في السياق، يؤكّد مستشار الأمن القومي الأميركي خلال رئاسة جيمي كارتر، زبيغنيو بريجينسكي، أنّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والشعوب هي تعميق الانقسام المذهبي والعرقي، من خلال تمكين طائفةٍ بعينها ودعمها لقهر بقية المكوّنات. بالتالي، يمكن القول إنّ تركة الأسد الثقيلة بالتوازي مع سطوة الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وتشابك الملفّات الدولية والإقليميّة، تدفع السوريين إلى تبنّي تعريفات خاصّة بهم بهدف حماية أنفسهم. وقد حدث هذا الانسحاب الطائفي أيضاً على ضفة المؤيّدين أيّام حكم الأسد، وهو تقوقعٌ محمولٌ على سياساتٍ تمييزيّة تثير عصبيات فرعية ما قبل وطنية. في المقابل، لا يبدو أنّ النخب السورية بعمومها، وعلى الرغم من فداحة المشهد العام، تقوم بمراجعة إسعافية لاحتواء التحدّيات التي يطرحها الواقع المأزوم الأشد استعصاءً، وفيه يتحوّل منشورٌ “فيسبوكيّ” تافه إلى ساحة احترابٍ همجيٍّ مرفقة بالتخوين والاتهامات، ليُكفَّر شخص وتُنزع من آخر هُويَّته السورية لأتفه الأسباب، فلا شكّ في أنّ سورية تعاني من أنيميا حادّة في الانتماء، وعلى خلفية ذلك، لنستحضر حادثة شهيرة تختصر ما سبق، ففي 2021 شهدت مباراة لكرّة السلة بين منتخبَي سورية وكازاخستان، ضمن تصفيات كأس العالم، حادثةً مثيرة للجدل، وهي عزف النشيد الإيراني بدلاً من السوري، ولم يُبدِ اللاعبون السوريون لحظتها أيّ اعتراض أو استغراب، باستثناء واحد (!).

على أيّ حال، لطالما أُثيرت شرارات طائفية بدت ظواهرَ مارقةً أمكن ضبط تداعياتها، هي نفسها اليوم تغدو أكثر استفزازاً وحضوراً. فمثلاً، تبرُز ظاهرة “التكويع” واحدةً من أبرز مخرجات تشوّه الهُويَّة السورية الجامعة المفقودة حالياً، أو هي، في أقلّ تقدير، بأسوأ حال مع استمرار دعوات التحريض الطائفي الممنهجة ضدّ “الأقلّيات”، بينما يحتاج الخلاص إلى عمل سوريّ موحّد تجنّباً للانجرار وراء أيّ هُويَّة فرعية. لذا قد يبدو مغرياً، وبلغةٍ تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية، النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة، حتى أنّ بعض النُخب العلمانية الأكثر انفتاحاً قبلت الأسلمة ردّاً على نظامٍ رسّخ مصطلح اللوحة الفسيفسائية (المثيرة للسخرية) من دون الخوض في تفاصيلها، نوعاً من الالتفاف السياسي على جوهر المشكلة، ودفعَ باتجاه صراعٍ مكبوتٍ انفجر عندما رُفِع الضغط عنه، استجابة لكثير من المفاهيم السياسية المؤسَّسة على مرجعيات طائفية بحتة.

ضربَ سورية، في 6 فبراير/ شباط 2023، زلزال مدمّر طرحَ أسئلةً وجوديةً شائكة، ولم يملك السوريون آنذاك رفاهية الوقت للبحث عن إجابات ليقينهم المطلق أنهم سيُتركون وحدهم في مهبّ الريح، فسارعوا ينظّمون أنفسهم بعيداً من منطق الاصطفاف الطائفي لاحتواء الكارثة، واعتبر حراكهم محطّةً لاستعادة جاذبية الخيار الوطني، الذي فقدَ كثيراً من قوته وثقله، حينها وصلت شاحنات مساعدات إنسانية إلى مدينة جبلة الساحلية قادمةً من قلب إدلب. واليوم يأخذ سوريون وضعية المزهرية بينما تتعرّض البلاد لزلزالٍ أشدّ قوة وتدميراً، وهو الفوضى العدمية المتمخّضة عن السقوط المفاجئ لنظامٍ قمعي احترف في عملية ضبط المصطلحات الطائفية لمصلحته، محوّلاً البلاد جمهوريةَ رعبٍ منزوعة المواطنة، أفقدت الهُويَّة السورية حمولتها الوطنية كلّها، في استعراضٍ مسرحيّ مبتذل للتخوين والمزايدة والانتقام.

نافل القول، نفذت مليشيات موالية لنظام الأسد عمليات إبادة جماعية بحقّ السنّة خلال الثورة، واليوم تستعيد المجازر حضورها في قرى الساحل العلوية، وما زال السوريون (في الحالتَين) يتخندقون داخل أوكارهم الطائفية، يصمّون آذانهم عن ارتدادات الزلزال الذي يبتلع البلاد. وعليه، لنتفق: إذا لم يجمعهم طفل بانياس الذي ربط سرواله بحزامٍ قماشي لشدّة فقره، والذي قُتل في مجزرة حرف بنمرة، وبغضّ النظر عن دينه، فلا يمكن أن يجمعهم أيّ شيء آخر.

العربي الجديد

—————————

بين النصوص الغائبة والمحاسبة المطلوبة.. كيف سيتعامل القضاء السوري مع جرائم القتل الطائفي؟/ وائل قيس

5 أبريل 2025

تباينت الآراء بشأن تقرير منظمة العفو الدولية الذي اتهم ميليشيات موالية للحكومة السورية الانتقالية بارتكاب مجازر طائفية في مدينة بانياس الساحلية، خلال يومي 8 و9 آذار/مارس 2025. وبينما رأى خبراء قانونيون تحدثوا لموقع “الترا سوريا” أن النظام الجزائي السوري يفتقر إلى التوصيف الدقيق لجرائم القتل الجماعي ذات الطابع الطائفي، أكد حقوقيون على ضرورة محاسبة جميع مرتكبي جرائم القتل الجماعية دون تمييز، بالإضافة إلى إطلاق حوار مجتمعي يؤسس للسلم الأهلي.

وبحسب العفو الدولية، فإن عمليات القتل الجماعي التي شهدتها مدينة بانياس، أسفرت عن مقتل أكثر من 100 مدني، حيث استُهدف الضحايا بعد التأكد من انتمائهم الطائفي، وتعمّد المسلحون إطلاق النار على رؤوسهم من مسافات قريبة، فيما تُركت جثثهم في الشوارع والساحات. وأشارت المنظمة إلى أن بعض المسلحين حمّلوا الضحايا مسؤولية انتهاكات ارتكبها النظام السابق، ما يكرّس الطابع الانتقامي والممنهج لتلك المجازر.

جرائم بانياس انتهاك جسيم للقانون الدولي

وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنييس كالامار، إن هذه الجرائم تُعد انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني “وترقى إلى مستوى جرائم الحرب”، مشددةً على أن تقاعس السلطات السورية عن التدخل لوقف القتل يضعها أمام مسؤولية مباشرة، داعيةً إلى توفير العدالة والحقيقة للضحايا، ومحذّرةً في الوقت نفسه من أن “غياب المحاسبة يهدد بإعادة البلاد إلى دوامة من الفظائع وسفك الدماء”.

وكان الرئيس السوري، أحمد الشرع، قد تعهد في التاسع من آذار/مارس الماضي بمحاسبة مرتكبي الجرائم، وأعلن عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق في أحداث الساحل الدامية، بالإضافة إلى تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي. وقالت لجنة تقصي الحقائق إنه من غير الممكن أن تستطيع إنجاز مهمتها خلال 30 يومًا، وأنها قد تطلب تمديد المهلة، مرجحةً إنشاء محكمة خاصة لملاحقة المتورطين في الأحداث التي شهدتها المنطقة.

وتعليقًا على تقرير العفو الدولية، قال المتحدث باسم لجنة الحقائق، ياسر الفرحان، في مقابلة مع “التلفزيون العربي”، إن اللجنة تتفق مع المنظمة في ضرورة حماية الشهود، مشيرًا إلى اتخاذ تدابير تضمن سرية الشهادات وأماكن اللقاء. وأضاف “أنه من غير الواضح درجة ارتباط الحكومة السورية بالميليشيات التي قالت المنظمة إنها ارتكبت الانتهاكات”، وتساءل “هل تعني المنظمة أنها متعاونة مع الحكومة أو تابعة لها؟”.

وفيما أكد الفرحان أن اللجنة “تحترم معايير أمنستي العالية”، لكنه أشار إلى أن “تحديد مسؤولية الحكومة يجب أن يأتي بعد تحديد كافة الظروف والسياقات، والتأكد من أن هذه العناصر التي ارتكبت الانتهاكات تخضع فعلًا لسيطرة الدولة السورية، وهل دعمت هذه المجموعات وهل قصرت في اتخاذ الإجراءات لمنع هذه الانتهاكات”.

القانون الجزائي قاصر على معاقبة جرائم القتل الجماعي

تثير جرائم القتل الجماعي ذات البعد الطائفي في سوريا تساؤلات قانونية معقدة حول كيفية تكييفها في إطار القانون الجزائي السوري، وإمكانية مساءلة الجهات المسؤولة عنها، بما في ذلك الميليشيات المرتبطة بالحكومة، ضمن منظومة العدالة على المستوى الوطني في ظل مرحلة الاستقرار الهش الذي تعيشه البلاد.

توضح المحامية ولاء محمد سبتي أنه “في القانون الجزائي السوري لا يوجد هذا التحديد للجريمة”، وتضيف في حديثها لموقع “الترا سوريا” أن “القاضي مضطر لتكييف الجرائم وفق النصوص الموجودة، وبالتالي يحاكم المجرم على جريمة قتل شخصين أو أكثر وفق المادة 534 من قانون العقوبات”، لافتةً إلى أن حكم هذه الجريمة يكون عادة “الأشغال الشاقة المؤبدة”، وبالتالي نجد أننا “حذفنا هنا الإبادة الجماعية على أساس طائفي”.

وتنص المادة 534 من قانون العقوبات السوري، الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 148 بتاريخ 22 حزيران/يونيو 1949، على أن “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة على القتل قصدًا إذا ارتُكب: لسبب سافل، أو تمهيدًا لجنحة أو تسهيلًا أو تنفيذًا لها أو تسهيلًا لفرار المحرضين على تلك الجنحة أو فاعليها أو المتدخلين فيها أو للحيلولة بينهم وبين العقاب”، بالإضافة إلى مرتكبي الجرائم “للحصول على المنفعة الناتجة عن الجنحة”.

كما تشمل المادة مرتكبي الجرائم التي تستهدف “موظف أثناء ممارسته وظيفته أو في معرض ممارسته لها”، أو “حدث دون سن الـ15 عامًا، أو شخصين أو أكثر”، فضلًا عن “حالة إقدام الجرم على أعمال التعذيب أو الشراسة نحو الأشخاص”.

وبحسب سبتي، فإن “القانون الجزائي السوري قاصر على المعاقبة على هذه الأفعال”، مشددةً في حديثها على أن “هذا الذي يدفعنا للمطالبة بقانون عدالة انتقالية، يحدد ويوصف الجريمة بالركن المادي والمعنوي”، لافتةً إلى أنه “من الممكن الاستعانة بالاتفاقات الدولية الموقعة عليها سوريا، من بينها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”.

النظام القضائي لم يرتسم بما يتعلق بالميليشات أو القوات المسلحة

تُطرح اليوم تساؤلات جوهرية حول إمكانية فتح تحقيقات جنائية محلية في جرائم القتل الجماعي، خاصةً تلك المرتكبة من قبل ميليشيات مرتبطة بالحكومة السورية، أو خلال فترة حكومة تصريف الأعمال التي تولت مهامها من التاسع من كانون الأول/سبتمبر 2024 حتى 29 آذار/مارس 2025، إضافةً إلى مدى قانونية اعتماد الأدلة الدولية أمام المحاكم السورية في مسار العدالة.

ووفقًا لمصدر قضائي تحدث لـ”الترا سوريا”، مفضلًا عدم الكشف عن هويته، فإن “كونها ميليشيات يجب أن يفتح بحقها تحقيق خاص بلجان تحقيق خاصة”، وأضاف موضحًا أن سبب اللجوء لهذه الآلية يعود إلى “شكل النظام القضائي في سوريا الذي لم يرتسم بما يتعلق بالميليشات أو القوات المسلحة”، مشيرًا إلى أنه “سابقًا كانت القوات المسلحة تابعة للقضاء العسكري، ولها شرطة عسكرية خاصة بها تتابع هذه الجرائم. أما الآن، وبما أن القضاء العسكري لم يفتح، فإن محاكمتهم أمام القضاء المدني غير واردة”.

وينوه المصدر القضائي إلى أن العناصر المنضوية ضمن هذه الفصائل أو الميليشيات “لم يُرسلوا للقضاء المدني، وليس لديهم قضاء عسكري”، وبالتالي هذا السبب الذي كان وراء تم تشكيل لجنة تقصي الحقائق للتحقيق بجميع مجازر الساحل، مؤكدًا أن من “الطبيعي أن تأخذ هذه اللجنة قرارات سواء بالعسكريين الأفراد أو الميليشيات”.

وفيما يتعلّق بالمعايير القانونية بشأن شروط قبول الأدلة الدولية أمام المحاكم السورية لضمان مشروعيتها في المساءلة الجنائية، يؤكد المصدر القضائي أن “من مهام هذه اللجنة الاستماع لجميع الشهادات”، ولذا يرى أن من “الأولى استماع لجنة تقصي الحقائق إلى شهادات المنظمات الدولية”، لكن يضيف مستدركًا أن “هناك تقاطع حول هذه النقطة، لأن من ذهبت إليهم المنظمات الدولية، هم أنفسهم الأشخاص الذين زارتهم اللجنة، واستمعت إليهم”.

الحصانات لا تسقط في جرائم الإبادة أو الحرب

أظهرت عديد التقارير أن فصائل مسلحة تابعة أو موالية للحكومة، بالإضافة إلى مجموعات مدنية، ومجموعات موالية للنظام السابق، شاركت في جرائم القتل الجماعي التي ارتُكبت في الساحل السوري في آذار/مارس الماضي. حول هذا التفصيل، تشير سبتي إلى أن المتفق عليه في جرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، أن “هذه الجرائم تسقط فيها الحصانات، وأيضًا يسقط التقادم”.

وهنا توضح سبتي أنه “مهما طالت المدة لا تسقط هذه العقوبة أو الجريمة بالتقادم، بالتالي مساءلة الميليشيات المرتبطة بالحكومة قانونيًا أمر وارد”، لكنها تشير في المقابل إلى أننا “نحتاج فقط إلى إرادة سياسية”، وتضيف موضحة أن “بصرف النظر إن هؤلاء الأفراد المتورطين سوريين أو غير سوريين، نظرًا لأن التنازع في القوانين يكون في الحالات المدنية والأحوال الشخصية”.

وأضافت سبتي أنه في حال كانوا الأفراد المتورطين بهذه الجرائم من غير السوريين غير متواجدين على الأراضي السورية، فإنه “من الممكن اعتماد مذكرات تفاهم مع الدول المتواجدين فيها لملاحقتهم، أو من الممكن مطالبة الدول محاسبتهم عن الجرائم التي جرموا بها في سوريا”، وهو ما يعني أن هناك عدة خيارات متاحة لمحاسبة المتورطين السوريين أو غير السوريين خارج الأراضي السورية.

وترى سبتي، التي تُحضر لرسالة دكتوراه في القانون الدولي، أن تقارير منظمة العفو الدولية، وما يشابهها من تقارير لمنظمات دولية، من الممكن أن “تُسرع في مسار العدالة الانتقالية، لكن وفقًا لما سيتم اعتماده في القانون المرتقب”. وأضافت “نحن ننتظر وضع قانون عدالة انتقالية شامل يحدد الجرائم والعقوبات، بما يشمل التطبيق الزماني والمكاني”.

ومن ضمن هذه التحديدات أو التفصيلات التي ينبغي أن يتضمنها قانون العدالة الانتقالية المرتقب، تشير سبتي إلى ضرورة تحديد “ما يحق للقضاة أو أعضاء الهيئات الفنية الاستعانة به، على سبيل المثال، يمكن أن يتضمن قانون العدالة الانتقالية أحقيتهم بالاستعانة بتقارير منظمات”، لافتةً إلى أن “الاستفادة من لجان التحقيق الدولية المستقلة منذ 2011 تُسرّع من مسار العدالة الانتقالية، وتُغني عن بدء التحقيقات من الصفر”.

يجب على الحكومة عدم التمييز بين الضحايا

في ظل توجه السلطات إلى دفن جثث الضحايا دون مراسم أو توثيق للهويات، تبرز الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات تضمن حقوق عائلاتهم في الوصول إلى الحقيقة، وتحقيق العدالة، وجبر الضرر. وتتزايد أهمية هذه الإجراءات في سياق تغيب فيه الشفافية، فضلًا عن ضبابية آليات المساءلة الرسمية.

في تعليقه على هذا السؤال، لفت مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في بداية حديثه لـ”الترا سوريا”، إلى أن تقرير الشبكة يتقاطع مع تقرير منظمة العفو الدولية في بعض النقاط، بما في ذلك مقتل مسلحين بعد نزع سلاحهم، مؤكدًا أن النتائج التي خلصت إليها الشبكة “متشابهة بشكل كبير جدًا” مع نتائج تقرير العفو الدولية.

وقالت الشبكة الحقوقية في تقريرها إن مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق نفذت هجمات منسقة على مواقع أمنية للحكومة الانتقالية في الساحل السوري، أسفرت عن سقوط قتلى في صفوف المدنين وعناصر الأمن العام، ما دفع القوات الحكومية إلى الرد بعملية أمنية موسّعة لملاحقة المهاجمين، شاركت فيها قوات رسمية وفصائل محلية مدنية وتنظيمات أجنبية. سرعان ما تحولت العمليات إلى مواجهات عنيفة اتسمت بالانتقام والطائفية، كان للفصائل الحكومية أو الموالية لها الدور الأبرز في ارتكابها.

لكن عبد الغني يشير إلى أنه يختلف مع توصيف منظمة العفو الدولية لأحداث الساحل الدامية على أنها “ترقى إلى جرائم حرب”، موضحًا أن ما حدث هو “نزاع داخلي بين فلول النظام والحكومة الانتقالية”. ويستدرك قائلاً: “يجب أن نُمعن النظر في طريقة ربط هيكلية فلول نظام الأسد بالأسد نفسه”.

يلخص مدير الشبكة الحقوقية هذه النقطة في جانبين: أولهما أنه لا يرى وجود أي ارتباط فعلي بين تلك الفلول ونظام الأسد، مؤكدًا أن هذه الفلول “عبّرت عن استيائها وكرهها للنظام”، مشيرًا إلى أنها “لا تتبع تنظيميًا لنظام الأسد، وبالتالي فهذا لا يُعد استمرارًا للنزاع”.

ويؤكد عبد الغني في الجانب الثاني أن فلول النظام “لم يسيطروا على منطقة جغرافية لفترة زمنية معتبرة، أو تخرج عن سيطرة الدولة”، موضحًا أنه “لا توجد هيكلية واضحة لمجموعات الفلول حتى يُصنَّف ما جرى كنزاع مسلح داخلي”. وعلى هذا الأساس، يرى أن “الفصائل ارتكبت جرائم قتل خارج نطاق القانون، لكنها لا ترقى إلى جرائم حرب، بل تُعد انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان”.

ولضمان العدالة لجميع الضحايا، يشدد عبد الغني في نهاية حديثه لـ”الترا سوريا” على ضرورة “عدم التمييز بين الضحايا، سواء من قُتلوا على يد فلول النظام أو قوات وفصائل موالية للحكومة”، مؤكدًا “أهمية محاسبة جميع المرتكبين بمحاكمات عادلة وتجريد الرسميين من رتبهم، مع إطلاق حوار مجتمعي يؤسس للسلم الأهلي ويرمم آثار الانتهاكات”.

———————————–

«تقرير أولي» للجنة التحقيق في أحداث الساحل السوري… وطلب تمديد مرجح

الفرحان لـ«الشرق الأوسط»: التقينا عائلات كثيرة في اللاذقية ولم ننه عملنا

 دمشق: موفق محمد

7 أبريل 2025 م

كشف الناطق باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري ياسر الفرحان، أن اللجنة التي ينتهي تكليفها الرئاسي، الأربعاء، ستعد «تقريراً أولياً» وربما تطلب تمديد عملها «بسبب اتساع نطاق المهام».

وشدد على أن اللجنة لن تعلن عن استنتاجاتها وتوصياتها «قبل انتهاء التحقيق والتقصي». ولفت إلى أن المدة التي حددها القرار الرئاسي لعمل اللجنة حين باشرت عملها في 9 مارس (آذار) الماضي، هي شهر واحد ينتهي الأربعاء، «لكنها لم تُنهِ تحقيقاتها».

وأوضح الفرحان في حديث إلى «الشرق الأوسط» أن اللجنة تعمل في طرطوس حالياً «وتتحرك صوب كل الأماكن التي تبلّغت فيها بانتهاكات». وأكد أنها «لن تعلن نتائج إلا إذا توصلت إلى قناعات مدعومة بالحجج والأدلة في ترجيح الحقائق وتوصيف الانتهاكات وتحديد هوية المشتبه بهم، وهذا يحتاج أولاً إلى تحليل كل الشهادات وفحصها، واستنتاج التكييف القانوني للأفعال والوصول إلى نتائج محددة وتوصيات».

وشهدت مناطق الساحل السوري (اللاذقية، وطرطوس، وبانياس) في الأسبوع الأول من الشهر الماضي جرائم دموية طالت مدنيين من الطائفة العلوية وعناصر من الأمن العام.

وحمّلت الحكومة مسلحين موالين للرئيس المخلوع بشار الأسد مسؤولية الهجمات على قواتها، فيما اتُهم عناصر من الجيش والأمن العام ومجموعات رديفة بعمليات القتل بحق المدنيين.

وغداة هذه الجرائم، شكلت الرئاسة السورية «اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل»، من خبراء قانونيين. وأعلنت اللجنة في 25 مارس أنها جمعت عشرات الإفادات، مؤكدةً أن الوقت لا يزال مبكراً لإعلان نتائج التحقيقات.

اللجنة «تمثل الضحايا»

وعما إذا كان في تشكيل أعضاء اللجنة من يمثل الضحايا والأهالي، قال الفرحان لـ«الشرق الأوسط»، إن «القضاة أعضاء اللجنة ليسوا موظفين حكوميين، بل هم حقوقيون مستقلون، ابتداءً ممن هم خارج سوريا وعملوا في دول أوروبا أو مناطق أخرى، أو يعملون في الشأن الحقوقي بتوثيق الانتهاكات، وبعضهم لديهم مذكرات تفاهم وتعاون مع الأمم المتحدة، واثنان منهم موجودان في سوريا وهما من القضاة، والقضاء عادةً يُنظَر إليهم على أنهم سلطة مستقلة».

وشدد على أن «أعضاء اللجنة بالضرورة يمثلون الأهالي ويعملون من أجلهم ومن أجل العدالة، وبالتالي فإن اللجنة ما من أحد من أعضائها يمثل طرفاً دون طرف، فهم محايدون، وعملهم أن يكونوا قريبين من الأهالي، ولذلك تلتقي وجهاء وقيادات مجتمعية في الساحل السوري بكل مكوناته، تستمع إليهم بكل اهتمام وتناقشهم من أجل فهم السياقات التي يطرحونها للوقائع».

اتهامات «العفو الدولية»

وكانت منظمة «العفو الدولية» (أمنستي)، قد أصدرت تقريراً، الخميس الماضي، ذكرت فيه أن المجموعات التي ارتكبت الانتهاكات مرتبطة أو تابعة للحكومة السورية، ووصفتها بأنها «جرائم حرب».

وكشف الفرحان عن أن اللجنة دعت «العفو الدولية» إلى مشاركتها ما لديها من معطيات ومعلومات «لمناقشتها بين أعضائها ولحظ مضمونها في تقريرها النهائي، ولمعرفة كيف بنت استنتاجاتها».

لكنه توقف عند وصف المنظمة ما جرى بين 6 و10 مارس الماضي بأنها «جرائم حرب»، مشدداً على أن «جرائم الحرب تتطلب – إضافةً إلى إثبات الركن المادي – إثباتاً للركن المعنوي في القصد والعلم، وبحث السياقات والظروف المحيطة بالحوادث».

وشدد على أن «المنظمة لديها سياسات ومعايير… في مناصرة الشعوب، والضغط على حكومات العالم بما يشمل دولاً ذات ديمقراطيات عريقة، وتحمّل غالباً الحكومات المسؤولية عن انتهاكات، بوصفها الجهة المعنية بتأمين سلامة مواطنيها… نحن كحقوقيين في اللجنة الوطنية، نميل أيضاً إلى الانحياز إلى الضحايا بوصفهم الطرف الأضعف، مثلما نقيّم بإيجابية إجراءات وبيان الحكومة السورية التي قطعت مع سياسات الماضي في إنكار الانتهاكات».

ووصف بيان الحكومة الذي تضمن رداً على تقرير «العفو الدولية» بأنه «متوازن»، وقال إن «رئاسة الجمهورية استجابت للأحداث بإجراءات واضحة، منها تشكيل اللجنة الوطنية للتحقيق، لتعمل كجهة مستقلة غير حكومية».

وقال: «لست بصدد انتقاد تقرير (العفو الدولية)، ولكن عندي تساؤلات لم يوضحها البيان الصادر عنها… نحتاج إلى تعاون نفهم من خلاله، على سبيل المثال، كيف توصلت إلى أن المجموعات التي ارتكبت الانتهاكات مرتبطة أو تابعة للحكومة السورية؟ وما درجة الارتباط؟ فنحن نبحث في مدى السيطرة الفعلية للحكومة على هذه المجموعات؟ هل هي من بقايا الفصائل التي كانت تقاتل نظام الأسد؟ وهل انضوت في الأطر الوطنية الحكومية العسكرية، فعلياً أم شكلياً؟ وهل تلقى المتورطون تعليمات للقيام بهذه الانتهاكات؟ وبالتالي نبحث في مدى اتخاذ الإجراءات الممكنة التي كان لها أن تمنع وقوع هذه الانتهاكات».

وأشار إلى أن اللجنة «تبحث أيضاً في شهادات مجموعات عشوائية بأن سكان المنطقة المحيطة يمكن أن يكونوا قد تحركوا بدوافع ثأرية لأنهم فقدوا أحباءهم في الفترة الماضية، أو بدوافع عاطفية لفك الحصار عن عناصر الأمن العام، أو باستغلال الفوضى لتشكيل عصابات، ونهب الممتلكات وارتكاب جرائم قتل. كل هذا وغيره قيد بحث اللجنة، وتحتاج لتعرف من (العفو الدولية) كيف بنت استنتاجاتها».

«شهادات شجاعة»

وعن الإجراءات التي تتبعها لجنة التحقيق المستقلة، قال المحامي الفرحان: «في بداية عملها، قامت اللجنة بزيارات ميدانية أجرت خلالها لقاءات عامة مع مجموعات من الأهالي، متجاوزةً بذلك تحديات الخوف المحتمل للشهود بتحريضهم من جهات ما العائلات على عدم التعاون معها. لكن كثيراً من الأهالي أدلوا بشهاداتهم بحرية وشجاعة»، وفق الفرحان الذي أوضح أن «ما وجدناه أن هناك استجابة، وقد توافدت العائلات في أرياف اللاذقية، للحديث مع اللجنة».

وأضاف: «انتقلنا لاحقاً للاستماع إلى الشهادات في مركز اللجنة المؤقت من أصحاب البلاغات التي كانت تتلقاها اللجنة بشكل مباشر من العائلات التـي لم تلتقها من قبل، وكانوا يتحدثون بكل صراحة وبشكل غير مقيد، ويوجهون اتهامات مباشرة إلى من كانوا يعتقدون أنهم متورطون».

وعن إجراءات العمل على الأرض، أوضح الفرحان أنه «عند زيارتنا مواقع ميدانية، نقوم بتوصيف الحالة الراهنة وندرس كل ما تبقى من مسارح الجريمة، ويساعدنا فريق فحص أدلة جنائية، ونوثّق بالصور كل مشاهداتنا، كما كان معنا فريق لا يزال يعمل بفحص الأدلة الرقمية، واستخلص 93 مقطع فيديو حقيقياً من الممكن أن تدلنا على هوية المتورطين».

الهجمات على الأمن العام

وتقصت اللجنة بشكل رئيسي أماكن تعرض عناصر الأمن العام للاعتداءات التي أودت بحياة عدد منهم، في بداية الأحداث في 6 مارس. وزارت اللجنة، وفق الفرحان، هذه المناطق وفحصت آثار إطلاق نار عليها من أماكن وجود المهاجمين.

وذكر الفرحان أن عملية التقصي شملت «أماكن مدنية ومشافي حكومية أُسعف إليها جرحى الأمن العام ولاحقتهم فيها، وفقاً لشهادات الكادر الطبي، مجموعاتٌ مسلحة. كما عثرت اللجنة على مقبرة جماعية دفنت فيها مجموعات المسلحين بعضَ عناصر الأمن العام وهم في حالة تفاوض من خلال وسطاء، وفقاً لأقوال الشهود».

الشرق الأوسط

———————————-

سوريا وإعادة تدوير التشبيح/ يامن المغربي

السبت 5 أبريل 2025

اتهامات بالتخوين ووعيد بسوء الخاتمة وشتائم وكلمات جارحة؛ ما سبق هو فحوى عشرات الرسائل التي تلقّاها حقوقيون وفنانون وناشطون سوريون خلال الأيام الماضية، وأشخاص عاديون عبر حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

ثم ظهرت مؤخراً ما أُطلق عليها “قوائم العار”، التي لم تضمّ سوريين فحسب، بل كلّ من أبدى موقفاً من الهجوم على مدنيين في الساحل السوري، مخالفاً للسلطة المؤقتة الحالية في سوريا.

لم ينجُ من هذه الهجمات أحد؛ حقوقيون عاشوا عمراً في المنفى مدافعين عن قضايا السوريين في الخارج، وفنانون حُرموا من عملهم لسنوات، وشخصيات عاشت في المعتقلات جلّ عمرها، ليأتي شاب في العشرينات ويسأل بسذاجة: “وين كنت خلال الـ14 سنة الماضية؟!” (حسناً عزيزي عندما كنت في العدم، كان هو يذوق الويلات في السجون، لأنه رفض قتل أهلك وقصفهم بالطائرات).

على الطرف المقابل، دافع مئات السوريين عن هذه الشخصيات، كردّ فعل طبيعي على هجوم، على الأقل لا يتوافق مع أحد المبادئ التي انطلقت لأجلها الثورة السورية؛ حرية التعبير والرأي.

تبدو الحالة ممنهجةً، ولا يمكن وضعها في خانة “الأخطاء الفردية”، أو تصنيفها كردّ فعل عاطفي على رأي مخالف في لحظة حادّة خلال نقاش بين شخصين فقد أحدهما أعصابه. هناك حالة إقصاء متعمّد لكل مخالف لصورة يرسمها البعض في مخيّلتهم حول شكل سوريا المقبلة، والتي تتمحور بدورها حول السلطة الحالية فقط، وفي نطاق ضيق يرتبط تحديداً بأسلمة الدولة وشيوخ السلطان وعلمائه، وضمن تجاهل لما ذكره الشرع نفسه مرات عدة حول تنوّع سوريا، برغم أنّ تحركاته على الأرض لا تشير إلى اقتناعه بهذا الأمر.

تبدو هذه التفاصيل عاديةً للغاية ضمن فترة متوقّعة من الفوضى بعد عقود من القمع وغياب أيّ حياة سياسية في البلاد. لكن تحركات السلطة المؤقتة وأحمد الشرع نفسه، لا تساعد على تخفيف حدّة هذه الهجمات المتتالية.

عملياً، يمكن القول إنّ لهذه الهجمات، أو القوائم، ثلاثة تأثيرات مباشرة؛ الأولى تكمن خطورتها في محاولة تكميم الأفواه، بالطريقة نفسها التي اتّبعها الأسد وأبوه طوال 54 عاماً، ما يعني أنّ سوريا لا يمكن لها أن تكون تشاركيةً وتعدديةً ضمن عقد اجتماعي واضح يكفل الحقوق والحريات للجميع بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والقومية والطائفية، أو أفكارهم حول الحياة والمجتمع، أو معتقداتهم السياسية.

الثانية تؤثر في الشرع نفسه، برغم ما يبدو إلى العلن من حالة “التفاف شعبي” حوله، بعد أن “اكتسب شرعيته باعتباره سبباً رئيسياً لسقوط الأسد” (وهذا أمر محل خلاف كبير ويمكن مناقشته في مقال آخر).

هذا التأثير في الشرع، يرتبط بخلفية الرجل نفسه، الذي وإن تفاعلت معه شخصيات سورية اقتصادية وسياسية ودينية كانت على خلاف كبير معه لسنوات، بسبب انتمائه السابق إلى تنظيم “القاعدة”، والأفكار التكفيرية التي يحملها وتحدث عنها في لقاءات إعلامية، إلا أنّ الكثيرين أيضاً لا يثقون بالتغيير الذي يبديه من خلال طروحاته، والمسألة لا تحتاج إلا إلى قليل من الوقت ليعود إلى طريقه السابق، خاصةً مع تحركاته السياسية داخلياً، وحصر الوزارات السيادية في المقرّبين منه (حسن الشيباني للخارجية، مرهف أبو قصرة للدفاع، وأنس أبو خطاب للداخلية بعد أن تولّى الاستخبارات العامة).

وعليه، فإنّ عدم تحرّكه لإنهاء هذه الهجمات، التي تترافق أيضاً مع تحركات على الأرض ترتبط بأمور دعوية (سيارات تمشي في أحياء المسلمين والمسيحيين في دمشق ومحافظات أخرى تدعو إلى الهداية والإسلام، عبر سلفيين، وهجوم على مفتي سوريا الجديدة أسامة الرفاعي باعتباره أشعرياً كما يُتّهم، والهجوم على مسجد في حماة تُمارَس فيه طقوس صوفية). عدم تحرّك الشرع، أو المقربين منه، لضبط هذه التفاصيل، يعني موافقةً ضمنيةً لسبب أو لآخر عليها، أو عجزاً عن منعها، وكلا الأمرين لا يقلّان خطورةً عن بعضهما.

أما النقطة الثالثة، فتحمل التأثير في المجتمع السوري الذي لا يحتاج إلى مزيد من التفسخ بعد سنوات الثورة ثم الحرب والانقسام السياسي والإنساني، والأزمة الاقتصادية التي مسحت الطبقة الوسطى تماماً، ما جعل هناك تبايناً طبقياً واضحاً بين السوريين، ناهيك عن الأفكار الأيديولوجية التي انتشرت في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أو التي سيطرت عليها المعارضة، أو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

تمرّ سوريا اليوم بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية عدة، غير التحركات الإسرائيلية في الجنوب، وهذه الأزمات كلها أزمات تهدد وجود سوريا كلّها ككيان نشأ في بدايات القرن العشرين، بالشكل الذي نعرفه والذي كان نتيجةً لاتفاق “سايس- بيكو”، وهذه الأزمات تستدعي الوحدة لا الفرقة، ما يعني ضرورة قبول الآخر لبناء عقد اجتماعي لكل السوريين بناءً على المواطنة والحقوق والواجبات، لا الخلفيات الطائفية والعرقية.

وإن كانت للشرع، شعبية اكتسبها من “التحرير”، ووجوده في القصر، و”إزالته كابوس الأسد” بعد 54 عاماً، فإن هذا لا يعني أنّ شريحةً واسعةً من السوريين مقتنعة بوجوب وجوده أو مؤيدة له. هناك من يسكت لضرورات المرحلة، وآخرون لأنّ صدمة الأمل بعد التحرير قد زالت، وشريحة ثالثة لا تزال مؤمنةً بوجوب المشاركة لبناء سوريا. جحافل الذباب الإلكتروني وتهديداتها لمئات السوريين لن تجدي نفعاً. الشرع وحكومته في فترة تجربة دولية، ولن تُزال العقوبات إن استمرّ الوضع على ما هو عليه، ولن تنجو سوريا ولا الشرع نفسه إن استمرّ الأمر على المنوال نفسه. لا أتنبأ بـ”ثورة عارمة”، ولا بمظاهرات مضادة، لكنني أحذّر كما غيري من نتائج التفرّد في القرار والتنفير من الحكم الجديد، لأنّ النتيجة المنطقية لهذه التحركات في النهاية لن تكون على هوى الشرع، ولا دائرته المقرّبة ولا مؤيديه.

ما المطلوب من الشرع إذاً؟ التشاركية الحقيقية لا ادّعاؤها، والنظر إلى سوريا بعين الحقيقة المجرّدة لا بعين المقرّبين المحيطين به ممن يشاركونه أفكاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، وتنفيذ الوعود في ما يخص العدالة الانتقالية التي دونها لن يرتاح أحد وسيبقى الثأر “مسمار جحا” الذي سيستخدمه الجميع لإثارة الفتنة والمعارك، ولنا في ما حصل في مناطق الساحل السوري خير مثال على ذلك.

الشفافية الحقيقية هي المطلوبة، لا الخطب الرنّانة والكلام العاطفي. قبل أيام، استقبل الشرع، أطفالاً في “قصر الشعب”، حيث قال لهم إن هذا قصركم وسيصبح لكم. كلام جميل وعميق، لكن هل الشرع نفسه مقتنع به؟ شخصياً لا أعتقد ذلك. من يقوم بالهجمات الإلكترونية ويوزّع الاتهامات والتهديدات، ليس كذلك أيضاً، وكذلك شريحة واسعة من السوريين المتخوفين.

سوريا على مفترق طرق؛ إما أن تكون بشعارات ثورتها الأولى الحالمة، حرية وعدالة وكرامة ومساواة ومشاركة لجميع السوريين على اختلاف خلفياتهم بمن في ذلك الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين وغيرهم من الأطياف السورية المتنوعة، وهذا أمر ممكن جداً في ظل طاقة إيجابية كبيرة لدى الكثير من السوريين الراغبين في مدّ يدهم للبناء، وإما أن تكون سوريا مفككةً بمستقبل حالك السواد، تمتد تأثيراته على الإقليم كله لا الشرق الأوسط فحسب، بل الاتحاد الأوروبي أيضاً، وستدخل في دوامات وأزمات لا تنتهي.

نحن أمام فرصة ذهبية للقيامة، وأرجو ألا تكون نهايتنا على الصليب، وألا تتحقق نبوءة أمل دنقل في قصيدته “كلمات سبارتاكوس الأخيرة”:

“لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كل قيصر يموت… قيصر جديد”!

رصيف 22

————————–

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى