في إبداعك اعلم أن هناك فراغًا ينتظرك لتملأه/ برناردين إيفاريستو
ترجمة: جابر طاحون
شعرت في كثير من الأحيان خلال مسيرتي أني مثل الحلزون الذي تجاوزه العديد من الأرانب. لم أحظ باهتمام إعلامي كامل حتى نشرت كتابي الثالث «طفل الإمبراطور» في عام 2001م. كنت قد بدأت الكتابة بشكل محترف – مسرح في البداية – منذ عام 1982م، ولم أتوقف قط عن الكتابة لأنني وجدتها ثرية ومجزية للغاية. أحببت أن يكون لي صوت في العالم من خلال إبداعي، وكان عليّ أن أعمق وأعزز إيماني بنفسي، لأنه، مثله مثل الموهبة، لابد من رعايته. حضرت دورات تنمية الذات. استمعت إلى أشرطة تحفيزية. في النهاية، أصبحت غير قابلة للإيقاف، وإذا كان الكتّاب يريدون مسيرة طويلة الأمد، فلابد أن يكونوا غير قابلين للإيقاف.
على مدى عقود عديدة من تدريسي لطلاب الكتابة الإبداعية، وجدت أن أولئك الذين لديهم التزام قوي بتطوير مهارتهم هم الأكثر احتمالًا للنجاح، وأعني بذلك أولئك الذين تتحسن كتاباتهم إلى درجة النشر وما يليها. الطالب الهادئ المجتهد الملتزم بالتعلم غالبًا ما يتفوق على الطالب الموهوب ظاهريًّا الذي يبدو أنه ينتج عن الكتابة الجيدة دون مجهود، ويكون في بعض الأحيان مبالغًا فيها، وبالتالي لا يعمل في تطوير مهاراته. الموهبة هي البذور التي تحتاج إلى الري. إذا نمت بسهولة، دون جهد، فقد ينتهي الأمر بالإهمال وربما حتى الذبول تمامًا. نريد جميعًا الثناء، ولكن قد يكون الثناء في بعض الأحيان أسوأ أشكال التشجيع. ككاتبة شابة، شجعني أندادي بشكل رئيسي، أو على الأقل بما يكفي لمعرفة كيف يستقبلون عملي. نحن ككتاب ننمو أكثر من خلال النقد البناء. حتى يومنا هذا أعتمد على محرري في (هاميش هاميلتون-بينجوين) ليبدي رأيه قبل نشره.
وبصفتنا رواة القصص، نحن دائمًا مطلعون على الكتاب الآخرين من خلال القراءة أو تقنيات الكتابة التي نكتشفها. هذه هي الطريقة التي نستوعب ونتعلم بها الأدب ونصبح مبدعين فيه. كتاب الكتب هم قراء أولًا وآخرًا ودائمًا. يتعين على المسرحيين رؤية المسرح أثناء العمل. فنانو الإلقاء: مرحبا؟ كتاب السيناريو: كما قلت مسبقًا. كنت قارئة نهمة منذ أن تمكنت من فهم الجمل. كانت القراءة هي قناة وصلي بالعالم خارج نطاق حياتي الصغيرة في الضواحي، واليوم، ما زلت أعزز ارتباطي بالحياة الداخلية والخارجية للآخرين. الكثير من قراءتي تكون من أجل العمل، والمراجعة، أو التدريس، أو تكوين رأي، وأحيانًا تكون بَلْوَى. عندما أحب كتابًا، أجد القراءة ممتعة بشكل لا يصدق، يرضي روحي ويثريني.
كل الأدب يساعدني في أن أصبح كاتبةً أفضل، إما من خلال تقديم نموذج، أو اطلاعي على الأماكن التي قد تكمن فيها نقاط الضعف في القصّ. الكتب التي أحبها تولي اهتمامًا لثلاثة من العناصر الأساسية الخاصة بي ككاتبة: اللغة والبنية والشخصية. كتبي المفضلة هي التي يهتم فيها الكتاب بتدفق جملهم وبنيتها، ويخلقون هياكل سردية فريدة. شخصياتهم وسلوكها وسيكولوجيتها نظمها فريد. جمل محكمة أو ارتجالية، تشبيهات منحوتة أم كليشيهات وحبكة متوقعة مملة. أنا أيضًا أبحث دائمًا عن طرق جديدة ومبتكرة لرؤية العالم وبعض الجودة السحرية التي لا يمكن تحديدها والتي تجعل الأعمال الأدبية تحلق وتغرد.
من أين أتيت ــ تعليمك، وطفولتك، وبيئتك، وعلاقاتك، وتعليمك، وثقافاتك، ودروبك وهوياتك عبر حياتك ــ هو ما جعلك الكاتب الذي أنت الآن أو ما ستكونه. إنها المكونات السحرية داخل شخصيتك، شخصيتك التي يبرز من خلالها إبداعك. ومهما كان شعورك حيال نفسك، ومهما حدث لك في حياتك، أو القرارات التي اتخذتها أو القرارات التي اتخذت لك، أو خلفيتك، أو عرقك، أو عقيدتك، أو ثقافتك، أو جنسك، أو جنسانيتك، أو حياتك كلها، إنها منبع إبداعك الفريد. لا يمكننا أن نغير الماضي، ولكننا نستطيع أن نتقبله لما كان عليه، وما نعرفه هو أننا نكتب مِنْ جَرّائه.
الكتابة من منظور فريد
لقد نشأت في أسرة إنجليزية نيجيرية مختلطة العرق في منطقة بيضاء آنذاك في لندن، حيث كان يُنظر إلى أسرتي على أنهم دخلاء وتعرضوا للتحقير بسبب ذلك. وكان لهذا دور كبير في تشكيل اختياراتي الإبداعية ككاتبة طوال حياتي، ولن أغيرها من أجل العالم لأنها جعلتني الكاتبة الحالية. املك ماهيتك، واعرف أنك تستخدم خلفيتك، عن قصد أم لا، للكتابة من منظورك الفريد. الخيال والأفكار هي العضلات التي كلما استخدمتها كلما تحسنت. تأمل السباح البطل. تأمل تعلم اللغة. تأمل الطبخ والبستنة. تأمل عالمًا حائزًا على جائزة نوبل. كل شخص لديه خيال، والأفكار تطفو في كل مكان حولنا، يجب استغلالها وصقلها بطريقتنا الخاصة لتغييرها وتطويرها، ولن تنفد الأفكار مني لأني أمضيت حياتي في توليدها. في الواقع، لدي الكثير من الأفكار وأحيانًا أجد صعوبة في الاستقرار على فكرة واحدة فقط. كان هناك كتاب جديد يحوم بداخلي منذ اليوم الذي انتهيت فيه من المسودة النهائية لروايتي الجديدة «فتاة وامرأة وأخريات» في فبراير 2019م. كان عقلي مستنقعًا متزايدًا من الأفكار من وقتها، وكان عليّ أن أدون ملحوظات، مع العلم أنني سوف أعود لاستكشافها بشكل أكبر في نهاية هذا العام. في العام المقبل، حين أبدأ في كتابة الكتاب الجديد، سأختبرها وأرى ما هي الأفكار التي تثيرني أكثر من غيرها. أميل ككاتبة إلى التجريب وخوض المجازفات، لذا فإن أكثر ما يثيرني هو تلك الأفكار وطاقتها التي تُفسح المجال لهيكل البناء. الأفكار التي تشعر أنها أكثر جرأة.
الكتاب حرفيون؛ نبني كتاباتنا ببطء حتى نشعر بأنها اكتملت. قد تمر رواياتي بأربع مسودات كاملة، لكن كل جملة أو تعبير أو فقرة تخضع لمراجعات عديدة قبل الوصول إلى أول مرحلة المسودة الكاملة. ماذا أعني بالعديد؟ 10 و20 و30 مسودة، حتى تصبح التغييرات دقيقة، حتى أعبث بعلامات الترقيم، حتى أشعر أنها سليمة. يرى القراء المنتج النهائي وقد يتصورون أن العمل كان سهل الكتابة، أليس كذلك؟ تبدأ في الصفحة الأولى حتى تنتهي الرواية وهذا هو كل شيء. لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة، بالنسبة لي، على الأقل. أسمع عن كتاب آخرين ينجزون روايات بسرعة تفوق سرعة الصوت. ومع ذلك، فإن الكتاب الطموحين سيتعلمون بسرعة القول المأثور بأن «الكتابة هي إعادة الكتابة».
أنا أحب إعادة الكتابة. في البداية، يكون هناك تدفق إبداعي خلاق، ثم يأتي البحث عن المخبأ والجلوس بإزميل لتشكيل المادة الخام. استغرقت «فتاة، امرأة، أخريات» خمس سنوات للكتابة على طاولة العمل الخاصة بي. أنا أكتب على الشاشة، وأطبع وأسجل ملحوظات فوق الصفحة. معظم طلابي الجامعيين ليس لديهم طابعات ويرفض الكثير منهم استخدام الطابعات المتاحة في مكتبة الجامعة. أنا أطلب منهم أن يفعلوا خلاف ذلك. في بعض الأحيان يكتبون على هواتفهم ويرسلون إليّ رسالة إلكترونية كواجب منزلي دون مراجعة. أستطيع أن أقول، عن جد، شاشات الكمبيوتر من جميع الأحجام خادعة للغاية. يبدو الخط على الشاشة لامعًا، واحترافيًّا، ومع ذلك، بمجرد طباعتها، تصبح عيوبها واضحة.
ما يفوق الخيالات
كن على يقين بأن كتاباتك يمكن أن تتطور إلى ما يفوق خيالاتك إذا قضيت فيها ساعات وتقبلت ردود الأفعال التي تتلقاها، وكنت مستعدًّا للاستمرار في هذا الطريق الطويل. اسمحوا لي أن أعيد صياغة هذا الأمر وإن بدا شيئًا مهيبًا: إذا كنت مستعدًّا لرحلة مثيرة في إبداعك فاعلم أن هناك فراغًا ينتظرك لتملأه.
يحتاج المبدعون إلى احترام موهبتهم أو ستتعفن داخلهم. لقد عرفت الناس الذين تركوا الفنون في عشرينيات عمرهم ليأسفوا كثيرًا لذلك في الأربعينيات. ليس من السابق لأوانه اختيار وإعادة الانخراط في ممارسة فنية، ويمكننا الكتابة في أي عمر أو مرحلة في حياتنا. لم أندم أبدًا على اختيار الفن، على الرغم من أن ذلك كان يعني افلاسًا ماليًّا وحياة مهنية غير مستقرة في الكثير من مسيرتي المهنية. كنت معتادةً على عدم معرفتي في بداية العام ما إذا كنت سأتمكن من دعم نفسي حتى على المستوى الأساسي – السكن أو الطعام أو المواصلات وباقي هذه الأمور. أعلم أن هذا سيخيف معظم الناس، ولكن هكذا عشت حياتي واعتدتها. لم أكن مدعومةً من قِبل شريك أو الاعتماد على سخاء العائلة لأن عائلتي لم يكن لديها مال. في النهاية، تغير هذا الأمر وأصبحت شخصًا يتقاضى راتبًا كأستاذ جامعي للكتابة الإبداعية، لكن الأمر استغرق حوالي ثلاثة عقود.
لقد رأيت كتابًا طموحين مهزومين بسبب رفضهم وهو أمر لا مفر منه بالنسبة لمعظمنا في مراحل ما من مسيرتنا المهنية ككتاب. إما أن تتحطم وتتوقف عن الكتابة، أو تزيد من تصميمك على تحسين مهاراتك وقصصك وتُظهِر عملك. المرونة هي واحدة من أهم الصفات بالنسبة للكاتب لأنها تعني أنك ستطور الموارد الداخلية لتستمر في مواجهة جميع التحديات التي لابد ستطرحها عليك الحياة، والحياة الفنية يمكن أن تكون مترنحة غير ثابتة، على أقل تقدير. النجاح الفوري لا يعد الناس لمواجهة العقبات المقبلة. أنت وحدك تعرف مدى مرونتك عند اختبارها، عندما تُحبط أحلامك وخططك ولا تزال ترفض الاستسلام.
إذا لم تتجسد وتتحقق منشوراتك أو منتجاتك أو عروضك، الفنية، وكان شغفك هو الكتابة، فافعل ذلك. حتى لو كان ذلك لنفسك فقط، لعدد قليل من الأصدقاء، أو مجموعة الكتابة الخاصة بك، أو عرض أو مدونة أو نشر ذاتي. ربما ستصل يومًا ما إلى جمهور أوسع، إذا كان هذا هو ما تريده. ربما ستدرك في مرحلة ما أنك لا تشعر بالحماسة الكافية للكتابة والاستسلام لأنك قد فقدت حبك لها أو وجدت شكلًا فنيًّا آخر تفضله، أو تدرك أنه قد أغواك بريق كونك كاتبًا والواقع لا يتطابق. أطلب من طلابي أن يأخذوا خطوة للخلف، ليس عندما يسقطون، ولكن بمجرد أن يشعروا بأنهم على وشك السقوط. أنا أفعل ذلك طوال الوقت وألجأ إلى موقف إيجابي في عقلي. إنني أتحدث عن كل ما أزعجني في حياتي المهنية: الرفض والتهميش والخداع والفظاظة، وأتذكر ما كنت أقوله لنفسي: يومًا ما. يومًا ما.
المصدر:
– https://www.arvon.org/bernardine-evaristo-the-stories-we-tell/
برناردين إيفاريستو هي أول امرأة سوداء تفوز بجائزة البوكر البريطانية، بعدما تقاسمتها (2019م) مع مارجريت آتوود. روايتها «فتاة، امرأة، أخريات» الثامنة في جدول أعمالها، ترشحت أيضًا للقائمة القصيرة لجائزة جوردن برن البريطانية إلى جانب فوزها بالبوكر. تستكشف إيفاريستو في كتاباتها الشتات الأفريقي: الماضي والحاضر، الحقيقي والمتخيل، وهي معروفة بكتابتها التجريبية. هي أيضًا ناقدة أدبية، وحكّمت في العديد من الجوائز، إلى جانب كونها أستاذة الكتابة الإبداعية بجامعة برونيل في لندن. وفي هذه المادة التي كتبتها بعد فوزها لصالح منصة «arvon» ضمن سلسلة «القصص التي نحكيها» تتحدث إيفاريستو عن حياتها ككاتبة.