في قوة اللاعنف/ مايا البوطي
مراجعة لكتاب Judith Butler. The Force of Nonviolence. Verso. 2020
في صفحات موجزة لكن إشكالية، تبحث جوديث بتلر في مفهوم اللاعنف كحل لتعقيدات عصرنا الراهنة، والتي ترتبط بالهوية ومفهوم الأمة والحدود والبحث عن آليات المقاومة اللاعنفية ضمنها. جوديث بتلر فيلسوفة أميركية، لها إسهامات رائدة في مجالات الفلسفة النسوية، ونظرية النوع والمثلية، والفلسفة السياسية، والأخلاق. وهي أستاذ الأدب المقارن والبلاغة في جامعة كاليفورنيا-بيركلي. تقدم بتلر في كتابها قوة اللاعنف مساءلة لواقع راهن يضع الأفراد في مواجهة مع منظومة عنيفة، وقد صدر كتابها عام 2020 بالإنكليزية عن دار فيرسو، المختصة بكتب اليسار الجديد.
يعتمد الكتاب بشكل كبير على علم النفس كمرجعية لتحليل الظواهر، وهو يسعى لتقديم معالجة فلسفية لقضايا أخلاقية تمس وجودنا. تنطلق بتلر في قوة اللاعنف من السؤال الذي يبحث في تبرير اليسار للعنف في حالات معينة، مثل الدفاع عن النفس أو العمل لتحقيق التغيير الاجتماعي. يجادل البعض بأن دائرة العنف التي نعيش ضمنها تضعنا رغماً عنا في مواجهة معه. لذا تعمل بتلر على التمييز بين مفهوم العنف واللاعنف، وتتساءل في حال وجودنا ضمن دوامة العنف الدائرة «إن كان الآخرون يمارسون العنف ضدنا، فهل يتوجب علينا أن نرد بالمثل؟». وبحسب بتلر فإن تبرير العنف في العادة ينطلق من فكرة أن «هناك من أرغب في إيذائهم أو قتلهم باسم من أشاركهم هوية اجتماعية».
من هذه النقطة تقدم بتلر نقداً عميقاً لمفهوم الفردانية، فترى أن الذات جزء من المجموع، والطرح الذي يدعي استقلال الذات أسطورة يتم الترويج لها ضمن النظام الرأسمالي. «فالاعتماد المتبادل هو حقيقة عالمنا الاجتماعي»، وهو شرط الاستمرار. تجادل بتلر أنه لا حدود للجسد تفصل الذات عن الآخر، وأن ادعاء عتبة الحدود الجسدية يتيح لنا رفض معاناة الآخرين، أو افتراض أن بعض الانتهاكات ضرورية شريطة أن تحدث في مكان آخر. في الواقع، تسأل بتلر: «ما الذي تفعله الديموغرافيا وسط هذا النقاش الأخلاقي حول استثناءات تحريم العنف؟». يتمثل الافتراض المركزي للكتاب في أن «العنف الذي يتعرض له الآخر هو في الحال عنف ضد الذات، ولكن فقط إذا كانت العلاقة الاجتماعية بينهما تربطهما بشكل أساسي» (9). يبدو أن بتلر تعتقد أن العلاقات الاجتماعية «تحدد» الموضوعات، وجودياً ومعيارياً، في وقت واحد.
تناقش بتلر أهمية مفهوم الاعتمادية (dependance) أي احتياج الفرد إلى الأخر واعتماده على المنظومة ككل لكي يحيى، وبذلك تدحض الرؤية الرأسمالية التي تدعي استقلال الأفراد بشكل يُلغي حاجتهم للآخر. تستعرض بتلر رؤية توماس هوبز لـ«حالة الطبيعة»، وهي مفهوم يُستخدم في فلسفة الأخلاق والسياسة، ونظريات العقد الاجتماعي، والقانون الدولي، للدلالة على الظروف الافتراضية لما كانت عليه حياة الناس قبل أن تنشأ المجتمعات. يفترض هوبز أنه، في البداية، ظهر الأفراد بشكل مستقل، ومن ثم تنازعوا على المصادر الطبيعية. هذه الحتمية تعكس مفهوم الصراع كشرط للعلاقات الإنسانية، وتفترض أن الحالة الطبيعية هي حرب يشنّها أفراد ذوو سيادة ضد بعضهم. تُبيِّن بتلر أن هذا الطرح المتخيَّل يضاعف من عنف المؤسسات الحاكمة، التي تعمل لردع عنف الأفراد المعرَّف كشرط اجتماعي. تفنّد بتلر عناصر أسطورة الحالة الطبيعية التي تقول بوجود فرد راشد، لم يمرّ بحالة الطفولة، «وبهذا يتم التعامل مع ’الاعتمادية‘ بوصفها خارج الصورة» (37). كما تشير إلى النوع الجندري المفترض في هذا الادعاء، وهو الذكر، فـ«هذا الفرد لم يحتج إلى الرعاية، بل انبثق كرجل مستقل بحسب الفكر الليبرالي، محمَّلاً بالرغبة والغضب» (38). من هنا تستعرض بتلر الرؤية النسوية والماركسية وطروحات فرويد النفسية لدحض قراءة هوبز للحالة الطبيعية. لكن ومع تأكيدها أن هذه الرؤية تعبّر عن مخيال ليبرالي أبوي، لا تنفي بتلر أن الصراع أحد أوجه العلاقات الإنسانية والاجتماعية، بل تؤكد أنه في الحالات التي يصبح فيها العنف حتمياً، تتجلى أكثر أهمية اللاعنف، أي هو يصبح ضرورة عند وجود العنف وليس عند غيابه (39).
تقدم بتلر أمثلة ترتبط بواقعنا الحالي وبتجاربنا الحية، وهذا ما يجعل من كتابها مرجعاً للقراءة الأخلاقية والفكرية المعاصرة. وهي تقول بهذا الصدد: «فقط عند الاعتراف بمبدأ ’الاعتمادية‘ يمكن الوصول إلى صياغة التزام عالمي، يتضمن الالتزام نحو المهاجرين، أولئك الذين يعيشون ظروفاً قاهرة، أو الذين يعيشون تحت الاحتلال وفي الحروب، أولئك الخاضعين لعنصرية مبرمجة ومؤسساتية، السكان الأصليين الذين يتم تجاهل اختفائهم وقتلهم وحذف ذلك من المراجع، النساء اللواتي يتعرضن لعنف عائلي أو عنف عام، وتحرش في مكان العمل، والأفراد غير المطابقين للمعايير الجندرية التقليدية من المثليين والمثليات والمعرَّضين والمعرَّضات للأذى الجسدي الذي قد يصل لدرجة القتل» (44). تبين بتلر أن سؤال العدالة والمساواة قيمة مستحقة للجميع لكنها تشير إلى أنه يرتبط أيضاً بنوع العلاقات والروابط الاجتماعية، وبنوع الاعتمادية الناتجة عنها. فهي ترى أن الانكشاف (vulnerability) «ليست حالة ذاتية، بل هي سمة من سمات حياتنا المشتركة أو المترابطة» (45)، فهو «انكشاف تجاه حالة، شخص، أو بنية اجتماعية، شيء نعتمد عليه، أو علاقة نتعرض لها. عند فشل منظومة يعتمد عليها الفرد، يصبح أكثر انكشافاً، أي إن العلاقة الناشئة عن فشل المنظومة كمثال هي التي تخلق الانكشاف، وليس الأمر حتمية ترتبط بذات الفرد» (46). بهذا ترى بتلر أن «الهدف ليس تجنب الاعتمادية لتحقيق الاكتفاء، بل قبول الاعتمادية كشرط لتحقيق العدالة» (47).
تتابع بتلر قراءة مفهوم ما يؤسى عليه أو وجوب الأسى (grievability) وتُبيِّن، على عكس النظرية التي تفترض تساوي الأفراد، وجود حياة تستوجب الأسى أكثر من غيرها في حال خسارتها. تستشهد بتلر بجاك دريدا، الذي يتساءل إن كان بالإمكان قياس مقدار الأسى والبحث في ظاهرة احتياج فرد أو جماعة لكم من الأسى أكثر من غيرهم من جماعات وشعوب أخرى. يشرح دريدا أنه «ضمن إطار معين، يحظى البعض بحماية حقيقية وتحصين منيع ضد الموت والأذى أكثر من غيرهم. بهذا تصبح قيمة حياتهم لا تقدَّر بثمن، ويُعترَف بها ضمن هذا الإطار، كما أنه وعلى ذات الخلفية، بينما تعتبر حياة بعض الأفراد لا تقدر بثمن، تعتبر حياة بعضهم الآخر خلاف ذلك» (107). من هنا تقرأ بتلر مفهوم أحقية الحياة من خلال اعتماد مفهوم «البيوسلطة» لميشيل فوكو، ومفهوم العرق ضمن أبحاث فرانز فانون. يعرِّف فوكو «البيوسلطة» كسلطة تنظيمية «تسمح بحق الحياة» و«تفرض الموت»، حيث يعيش السكان ككائنات حية تمتلك هي حق إدارة حياتهم، فتسمح بعيشهم أو تحتّم موتهم. ترى بتلر أن السلطة هي من تقرر حق الحياة، أو تفرض الموت على من تصفهم بالرعية، لذلك ضمن سيادة ما، يقوم حق الحياة على افتراض موت الآخرين كي نحيا نحن. رغم أن فوكو لا يربط بين مفهوم البيوسلطة ومنطق الحرب، إلا أنه يبين أن الأخيرة منظومة ترتبط بفكرة الأنا والآخر. تتساءل بتلر كيف نستطيع أن نبحث في مفهوم العرق ضمن «البيوسلطة»، وكيف يتم افتراض عدم أحقية الآخر بما للذات من حماية وحصانة؟
على ضوء كتاب بشرة سوداء أقنعة بيضاء لفرانز فانون، تعتمد بتلر مفهوم حيّز حركة الجسد (corporeal schema) لتبحث في مفهوم العرق وعلاقته بالأسى. يستفيد فانون من نظريات موريس ميرلو بونتي، والذي خَلُص من خلال الظواهرية (phenomenology) إلى التركيز على أهمية الجسد لمعرفة العالم، منتقلاً من الوعي كظاهرة رئيسية في الدراسات إلى التأكيد أن الجسد وما يستقبله لا يمكن فصلهما عن بعض. يتحرك الجسد في الفضاء من خلال تمثيل الشخص لجسده، وهو ما يشير إليه ميرلو بونتي على أنه حيز الحركة. يصرّ ميرلو بونتي على أن لدى جميع البشر حيّز حركة جسدياً، وأنه يحدد قدرتهم على اتخاذ المواقف والتصرف وفقاً للعالم والأشياء الموجودة بداخله، مما يسمح للجسد بالتحرك بحرية. بالتحرك ينشئ الجسم مساحته الخاصة في العالم، وهذه ليس مساحة ثابتة ومشغولة، وهكذا لا يكون الشخص قادراً فقط على التكيُّف مع محيطه، ولكن أيضاً تغيير حركته. لذا يعطي فانون الفضل لميرلو بونتي لمحاولاته تضمين «التجربة الحية» في نظريته، على عكس كثير من علماء النفس والإناسة الذين عجزوا في بعض الحالات عن فهم الجنس البشري، أي فشلوا في الاعتراف بالتجربة الحية للإنسان. لكن فانون يجادل بأن ميرلو بونتي فشل في رؤية معسكرين: أبيض وأسود. يتحدى فانون وضع الرجل الأبيض كنموذج أساسي أحادي لفهم الإنسان، ويُبيِّن أنه يجب فهم تجربة الرجل الأسود في عالم الإنسان الأبيض، فالأول تتأثر حركته واستجابته بحركة الأخير. «وهكذا فإن الرجل الأسود ’المحبوس في سواده‘ ليس حراً في التكيف أو تغيير وضعه. بل هو يُجبَر على اتخاذ موقف ثابت في عالم لا ينتمي إليه. وهذا الوضع موجود هناك – عند قَدَم كل رجل أبيض». هنا تقدم بتلر مثال قضية وفاة إيريك غارنر على يد الشرطة الأمريكية عام 2014: «هل شعر الشرطي، الذي أحكم قبضته على الضحية حتى الموت، أنه في خطر التعرض لهجوم من قبل الأخير؟ أم هل اعتبر أنه يمكن قتل هذه الحياة خنقاً لأنه لم يعتبرها حياة في المبدأ، ’لم تكن أبداً حياة‘، هي حياة أدنى بحسب التراتبية العرقية، ليست حياة تستحق الأسى، ليست حياة تستحق الحماية؟» (117).
في الختام، تصوغ بتلر هذه المفاهيم الإشكالية في سؤال: «ماهي أشكال التمثيل المتوافرة والتي تسمح بفهم هذا العنف؟ قد يقول البعض إن على السلطات العالمية والإقليمية تحديد الفئات المستضعفة وتقديم الحماية لهم. ورغم كوني لست ضد التنميط الذي يستخدم ’ورقة الفئات المستضعفة‘ بما يسمح بمرور المزيد المهاجرين عبر الحدود، لكن خطاب الفئات المستضعفة ينتج ُنظام وصاية أبوي وسلطوي… هل نبدي الاحترام لصراع أفراد أو جماعات إن قمنا باختزالهم كأشخاص ’مكشوفين‘؟» (187). هنا تعمل بتلر على تقديم أمثلة تشمل الفئات الموصوفة بـ«الانكشاف»، ومنها المهاجرون وضحايا الحروب، وما شهده العالم مؤخراً بعد فضح حالات قتل النساء وتعنيفهن.
في مقالها «إعادة التفكير في الانكشاف والمقاومة» والوارد ضمن كتاب الانكشاف في المقاومة، تبحث بتلر وزملاؤها في السؤال الذي يفترض التعاكس بين المفهومين. فتفنّد الفرضية التي تدعي أن المشيئة (agency) مرتبطة بالأبوية،1 وأن الانكشاف مرتبط بدور الضحية والعجز واللافعل. تقرأ بتلر الانكشاف والمقاومة من خلال البحث في علاقتهما مع الفضاء العام المحكوم بالسلطة، فتُبيِّن أن انكشاف الفرد يجري ضمن سياق يحرمه من البنية التحتية ومن حقوقه ضمنها، وهنا تصبح الحاجة للمقاومة ضرورة. لكن تجمّع الفئات غير المحصنة في الفضاء العام للاحتجاج يعرّضهم مرة أخرى لعنف الشرطة والسلطة التي تمنع وصولهم لممارسة حقوقهم بالاحتجاج. يبقى غياب شروط التمكين والحماية هو المحرك للمقاومة والدافع نحو العمل والتغيير. ضمن هذه المعادلة، تجادل بتلر ضد ربط فئات معينة كالنساء بالضعف والهشاشة. تساهم أسئلة وطروحات بتلر في تحدي منظومة أبوية تدعي تمكين فئات ترى فيها انكشافاً أصيلاً وعجزاً يقتضي الوصاية.
1. آثرنا كلمة «مشيئة» لترجمة إيجنسي بدل الترجمة الشائعة «وكالة» أو حتى «فاعلية» و«أهلية»، الأولى لأن أصلها المعجمي يُفيد عكس المقصود تقريباً، فالوَكَل هو الضعيف المتّكل على الغير، وجميعها لازدحام المعاني على جذورها الثلاثية واقترابها أكثر من المؤسسة أو التفويض في حالة «وكالة»، والنجاعة أو النشاط في حالة «فاعلية» والجدارة أو المحلية في حالة «أهلية». المحرّر
«لقد شهدنا آليات الحرمان والموت المنظم على الحدود الأوروبية، حيث تُوفي ما يصل إلى 5,400 شخص في السنتين 2017/18 بما بشمل عدداً لا بأس به من الأكراد الباحثين عن الأمان خلف البحار. كما وثقت شبكة حقوق الإنسان السورية في الذكرى التاسعة للحراك السوري في 2019 وفاة 221,161 شخص. يوجد الكثير من الأمثلة، بالإضافة لقضية قتل النساء، والتي تتضمن المعاملة الوحشية للكرد والسوريين على الحدود التركية، والإسلاموفوبيا في أوروبا والولايات المتحدة، والتلاقي مع المعارضين للهجرة، والعنصريين ضد السود، والتي تبين كيف يقع طيف كبير من الناس في قبضة الموت أو يصبحون موتى بشكل مسبق. لكن في ذات الوقت، استطاع هؤلاء الذين فقدوا الدعم تكوين شبكات جديدة، وفهم القوانين الدولية البحرية لعبور الحدود للوصول إلى مجتمعات تستطيع تقديم العون لهم … استطاع هؤلاء في وسط أصعب الظروف ارتجال أشكال اجتماعية باستخدام جوالاتهم، برسم خرائط، بممارسة لغات حاولوا تعلمها، رغم عدم توافر الإمكانيات في معظم الحالات. حتى عند الوصول لدرب مسدود، قاموا بمقاومة السد، بطلب أوراق للمرور ولحرية التنقل. في هذه الحالات هم لم يتجاوزوا ’انكشافهم‘ بل قاموا بإظهارها، وعند إظهارها لا يحصل لهم تحول بطولي إلى قوة، بل ينطقون بمطالبهم التي تُبيِّن أن الحياة المدعومة يمكن أن تستمر كحياة» (92-194).
في رحلة اللجوء السوري، طالعنا الإعلام بروايات تجرد السوريين من أصواتهم، وتقوم بالنيابة عنهم بالبحث عن حلول لقضية اللجوء، الذي ربطته بهويتهم بشكل يجعل من غير الممكن تخيُّل السوري إلا لاجئاً وعاجزاً عن الفعل. تُجرِّد هذه الرواية الإنسان من كرامته، وتضعه في خانة العجز والعطالة. ومما يجب العمل عليه ضمن التغريبة السورية، البحث عن سُبُل التمكين الحقيقية، وتعزيز أشكال المقاومة وتسليط الضوء عليها، والتذكير دائماً بإرادة الإنسان ورغبته بالاستمرار.
موقع الجمهورية