لم يكن الأمر شخصياً/ أحمد يماني
الصرخة المرعبة
لم يسمع سوى الصرخة المرعبة. وبدلاً من أن يقترب من مصدرها القريب على بُعد أمتار، انطلق يعدو في اتجاه بيته القريب. قبلها بدقائق كان يرى الشاب ممسكاً بسلك كهربائي طويل بيد وباليد الأُخرى لمبة كبيرة. كان الشاب يرتدي جلابية بيضاء ولم يكن يحبه ولا يكرهه، ربما لم يتحدّث إليه إطلاقاً. كان يعرف أخاه، كانا من نفس العمر، كذلك كان يعرف أمّه التي تشبه ممثّلة من تلك الحقبة تخصّصت في أدوار المرأة المحبّة غير الجميلة، والتي تظلّ تُحب طوال العمر ولا تحظى في النهاية بشيء من حبيبها الذي يكون عادةً مشغولاً بحب أُخرى، لكنه يستفيد بأشكال كثيرة من حبّها له. كان يعرف كذلك أخته، كانت بالنسبة إليه تجسيداً لمطلق اللحم الأنثوي، كانت طويلة ومليئة وتهتزّ كلّها حين تمشي ولا أحد يعاكسها في الحيّ. لم يسمع سوى الصرخة المرعبة وانطلق في اتجاه البيت.
■ ■ ■
أغنية للأطفال
الأولاد قرّروا قتل أوّل عابر
لم يكن الأمر شخصياً
ليته كان.
على مقعد في الحديقة العامة المظلمة، يلهون،
لم يكن الأمر شخصياً
ليته كان.
كان قادماً من العمل، من سهرة مع الأصدقاء، من السجن، من بيت أقاربه،
من مدينة أُخرى، من بلد آخر، من تعب، من غرفة العشيقة،
كان قادماً وذلك كان كافياً.
صوب أصغرهم، وضعوا السلاح اليدوي في يده،
ضحكوا وقالوا له اضغط يا عبيط
وضغط العبيط.
انفجر البارود في صدر الرجل القادم
وانفجر الأولاد في الضحك وفرّوا هاربين.
سقط سقطة بسيطة ولم يتمكّن من شق قميصه كي يرى الجرح الغائر.
لم يتعذّب،
ليته فعل،
لكان مرّ أحد وأنقذه
لكنه لم يتألّم حتى.
لم يكن الأمر شخصياً
وليته كان.
■ ■ ■
الطريق
رجل يمضي مُطرِقاً حذاء الطريق
تمرّ بجانبه عربة ليست مسرعة.
في العربة سيّدة لا تنظر إلى الرجل،
على يمين الرجل منحدر تغطّيه أعشاب ونباتات
في نهاية المنحدر بيت من دور واحد،
في البيت رجل وسيدة لا ينظران إلى الطريق،
وراء البيت أشجار باسقة تعشّش فيها طيور في الأعلى
وفي الأسفل دود قزّ يصنع بيتاً من الحرير،
أية لمسة تشعل حركة الديدان.
الرجل المطرق يسقط فجأة على جانب الطريق،
العربة الوحيدة كانت قد تجاوزته بمسافة.
بوقوعه يسقط في المنحدر
حتى يصل إلى بيت الرجل والسيدة.
الرجل والسيدة لا ينظران إلى الطريق
المطر يسقط بغزارة
يتدحرج الرجل إلى خلف البيت
الريح تُسقط فرعاً من الأشجار
في فرع الأشجار بيت الحرير
الديدان تغطّي الرجل الممدَّد.
أغربة تنعق وحشرات تئز
ديدان أخرى تخرج من الرجل.
تعبر سيارة بسرعة بطيئة
في السيارة رجل مطرق.
على حذاء الطريق تمر سيدة
تنظر فقط أمامها
لا بيوت على يمينها
ولا فروع أشجار ولا دود قز
على يمينها منحدر شاسع
وأمطار ورياح وليل طويل.
■ ■ ■
نجم قاهر
في تلك الليلة كنت أحبّك أنتِ
كان نجم قاهر يعبر سماء بيتي
ويسقط رماداً في غرفتي.
كنت أودّ أن أفكّر في حبيبتي الحقيقية
التي أفكّر فيها دائماً
لكنكِ أتيتِ هذه الليلة هادئةً كما كنت دوماً
ومهذّبة وأنيقة خصوصاً
وقبعت هنا في بيتي
وأنا أحبّك بلا ألم
بلا ذكريات
أحبّك من جديد
كما لو كان لأوّل مرّة.
الليلة فقط عرفت أنني أحبّك
دون أن تكوني حبيبتي الحقيقية
الليلة أحبّك ولكن بألم كبير لم أعتده منك
لا أعرف ما الذي سيذوب أوّلاً
حبّي أم ألمي
لكن في النهاية سيذوب شيء
وسيسقط وحده في سماء غرفتي
نجماً كان أم رماداً
لكنه في النهاية سيسقط
في هذه الغرفة الباردة دوماً
كقدر رسمته آلهة بعيدة
وذهبت لتنام.
■ ■ ■
الصوت
يأتيني الصوت من مكان لا أميّزه
حتى نبرة الصوت تبدو قادمة من طبقات من العدم
لكن الصوت يصل بطريقته ويهمس لي:
ليس الأمر شخصياً
لا تحزن
كان ممكناً أن ينالك ألم آخر أقسى
لكن ما الفرق؟
أن تتكوّر وتظل تتخبّط في جدران وهمية
وأن يكتب عليك أن تظل رافضاً لصورة فرضوها عليك وقد حاكوا المؤامرة بحنكة لا تفهمها.
ما الفرق؟
بل لا بد أن تفرح، فعلى الأقل لديك ما تدافع عنه.
ليس الأمر شخصياً
يقول الصوت
ومع ذلك اغفر لي.
■ ■ ■
حلم
كنتُ واقفاً أمام باب البيت، كما يقف الناس دون هدف محدَّد، حينما رأيتك تتقدّمين إلى البيت المجاور، مرتديةً شورتاً يُظهر منبت فخذيك، كنت تمضين سريعاً ولم تريني. فهمت من ملابسك أنك ذاهبة لعمل المساج لدى المركز المجاور. عندما رأيتك انفجر صدري. ظللت لأيام أُخرى أترقب رؤيتك وأنا في الشرفة حتى رأيتك من جديد وكدت أسقط كاملاً في الشارع. في حفل غريب ضمّ أعراق البشرية وعدداً من أصدقائي وصديقاتي وزميلات وزملاء العمل، وكان الحفل في منطقة صحراوية لا يُعرف أين هي تحديداً، لكن يمكن العودة منها كلٌّ إلى بيته عن طريق مواصلات عامة. كنت قد خرجت من الحفل في طريقي إلى البيت، عندما وجدتك فجأة أمامي، بجانب شجرة. لم نتحدّث، فقط تعانقنا بقوّة شديدة وبكينا ووسط الدموع قلت لك إن حياتي لم يعد لها معنى منذ افتراقنا وأنت قلت إنه لم يمر عليك يوم واحد سعيد بعدها، وأضفت أنك عندما رأيتني في الحيّ وأنت ذاهبة إلى مركز المساج عاد كل شيء إلى وضعه رغم أنك لم تكلميني مرّة واحدة، وأنا تعجّبت أنك رأيتني أصلاً. خرجنا من عند الشجرة وسرنا متعانقين وكانت السعادة قد وصلت إلى الذروة ممّا يؤذن بانقطاع الحلم والعودة من جديد إلى النهار الطالع والذي بدا لي أجمل صباح مر عليّ منذ سنوات، وكما يحدث دائماً في مثل هذه المواقف، فإن كلّ ذلك تحوّل مرّة واحدةً إلى طعم مرير وأطبقت عليّ الكآبة من جديد وعادت الحياة كما كانت قبل ساعات قليلة.
* شاعر من مصر، والقصائد من مجموعته الجديدة، “الوداع في مثلّث صغير” الصادرة حديثاً عن “دار ميريت” و”منشورات المتوسط”
العربي الجديد