صفحات الثقافة

جودي دين: الشجاعة في قول «نحن» بدلاً من «أنا»/ محمد سامي الكيال

يواجه ما يسمى «اليسار الجديد» عموماً، واليسار الأمريكي على وجه الخصوص، مشاكل أساسية على مستويي الأيديولوجيا والتنظيم: كيف يمكن تحقيق التمايز بين الخطاب الليبرالي، المعني بمكافحة العنصرية والتمييز، وتمكين التنوّع، واليسار الذي يضع بدوره هذه المسائل على رأس اهتماماته؟ ما نوع الائتلافات الاجتماعية التي يجب أن يبنيها اليسار لتحقيق غاياته؟ هل من الصحيح إبقاء التحالف بين فئات الهوية «المهمشة» من جهة، والفئة الوسطى المدينية من جهة أخرى؟ أم الانتباه أكثر لمشاكل «الطبقة العاملة البيضاء»؟

هذه الأسئلة، التي تكررت كثيراً منذ مطلع القرن الحالي، تجد إجابتها لدى طيف واسع من اليسار، من خلال مفهومين أساسيين: الدولة والذوات الفردية، فعلى الدولة العودة للسياسات الاجتماعية الكينزية، التي كانت تتبناها في عصر ما قبل النيوليبرالية، من خلال تطوير الإنفاق العام على البنى التحتية، والتدخّل في الأسواق، وتمتين شبكات الرعاية الاجتماعية؛ من جهة أخرى يجب الحفاظ على حالة «قوس قزح» في الائتلافات الاجتماعية الساعية لتحقيق هذا الهدف، عبر مزيدٍ من الاعتراف بتعدد الفئات والمطالب فيها، ومراعاة الخصوصيات والحساسيات الهوياتية، وبالتالي يجب أن يكون الائتلاف مساعداً على بروز الفرد، وتمتين هويته، وليس تذويبه في تنظيمات ذات خطاب أحادي وشمولي.

المفكرة الأمريكية جودي دين، التي خاضت تجربة سياسية مهمة مع حركة «احتلوا وول ستريت»، وعاصرت تفككها وانحسارها، بدون تحقيق أي من مطالبها، قدمت طرحاً آخر، بناء على تعديلات مهمة في أسئلة اليسار المعاصر: ليس الانطلاق من الذوات الفردية والهويات المتعددة، وإمكانية قيام ائتلافات بينها، ودور الدولة الديمقراطية – الاجتماعية في تمكينها، الطرح الأمثل، بل الأجدى البحث في البنية التي تنتج هذه الذوات والهويات وتعدديتها. قادها هذا لنقد عدد من أهم مفكري اليسار، مثل الفرنسي لويس ألتوسير، والإيطالي أنطونيو نيغري، والبلجيكية شانتال موف، لتصل إلى نتيجة لا تبدو مُحرَجة منها، ومما تستجره عليها من اتهامات، مثل الشمولية، أو حتى «الستالينية»: الحل ليس الدولة أو تحرير الذوات الفردية، الحل في الحزب الثوري، وتراص الرفاق بدلاً من ائتلافات الحلفاء، وفي «نحن» بدلاً من «أنا»!

ليست دين مجرد مناضلة شيوعية متحمّسة، تسعى لإحياء صيغة الحزب اللينيني، بل هي أستاذة علوم سياسية مرموقة، لديها إسهامات مهمة في مجالات النظرية السياسية، والقانون، والنسوية، ونقد الطرح الكلاسيكي لنظرية الحيز العام، فما الذي يدفعها لمناصرة فكرة عتيقة، تخالف «روح العصر»، مثل الحزب الثوري؟ وما الأبعاد السياسية والفلسفية لنقدها للهوية والفردانية؟

فردانية الرأسمالية التواصلية

«الأيديولوجيا تنادي الأفراد بوصفهم ذواتاً»، هذه العبارة الشهيرة للويس ألتوسير، في نصه المعروف «الأيديولوجيا والأجهزة الأيديولوجية للدولة»، لاقت نقداً شديداً في أعمال دين، فالمفكر الفرنسي انتبه إلى دور الأيديولوجيا في صياغة الذوات الفردية، عبر تقنية «المناداة»: توجد أجهزة أيديولوجية، تنادي على الأفراد، وتمنحهم أسماءهم وصفاتهم وتصوراتهم الأساسية عن أنفسهم وعن العالم، عن طريق ربطهم بكيانات رمزية، مثل الإله، الأمة، التقليد، القانون، الثورة، الخ، لتحدد لهم موقعهم ضمن التراتبية الاجتماعية، وعلاقات الإنتاج السائدة، إلا أن ألتوسير، بحسب دين، ظنّ أن الذات مقيّدة بالشكل الفردي، ولذلك اعتبر أن الأيديولوجيا تنادي الأفراد، وكأنهم موجودون سلفاً قبلها. تسعى دين لقلب الصيغة الألتوسيرية لتصبح: «الأيديولوجيا تنادي الذوات بوصفها أفراداً».

لا يعني هذا أن الذات سابقة على الأيديولوجيا، بل يشير إلى أن الفعل الأيديولوجي الأساسي، في كل العصور والمجتمعات، هو صياغة الذات، وبالتالي فمن البديهي أن تنادي الأيديولوجيا ذواتاً، ولكن غير البديهي أن تنادي أفراداً، ظن ألتوسير أن البروز التاريخي للفردانية حدثٌ كوني حتمي، جاء مع صعود البورجوازية، وصياغتها للذات القانونية الفردية، بوصفها أساساً لمنظومات البنية الفوقية للرأسمالية، إلا أنه لم يعالج بالشكل الكافي عمل الأيديولوجيا البورجوازية على فردنة الذات، فمبدأ الفردانية نفسه صيغ لكي يقمع الذاتية السياسية الجماعية، التي قد تهدد علاقات الملكية الخاصة نفسها. «كما أن السلعة شكل من أشكال القيمة، فكذلك الفردانية شكل من أشكال الذاتية» تقول دين، ولا تقصد بهذا مجرد التشبيه بين السلعة والفرد، بل تقصد الربط المباشر بينهما: اغتراب المنتجين عن منتجاتهم، وفصلهم عنها يؤدي لبروز «فتشية السلعة»، بحسب ماركس، وكذلك فإن فصلهم عن بعضهم بعضا يؤدي لـ»فتشية الفرد»، بوصفه ذاتاً معزولة ومسؤولة. أي كلما ظهرت القيمة بوصفها سمة سحرية للسلعة، بمعزل عن العمل الاجتماعي الذي أنتجها، يظهر الأفراد، وكأنهم ذرات اجتماعية سحرية، مفصولة عن العلاقات الاجتماعية التي توجد في سياقها.

من جديد: الأيديولوجيا لا تنادي الأفراد، بل تصنعهم. ربما بالغت دين في تأويل عبارة ألتوسير، فالأخير لم يكن بالتأكيد من دعاة الفردانية، ولم يعتبر أنها معطىً طبيعي أو بديهي سابقٌ للأيديولوجيا، ولكن استرسالها في شرح عملية الفردنة شديد الأهمية، لتوضيح نظريتها حول «الرأسمالية التواصلية» المعاصرة، ففي عصر شبكات التواصل الاجتماعي الضخمة والشمولية، التي تنتج القيمة، من خلال معرفة تفضيلات البشر وميولهم، وتحويلها إلى سلعة رقمية قابلة للبيع، يتم إخبارنا مراراً وتكراراً أننا فريدون ومميزون، وأن مشاعرنا وحساسياتنا وهوياتنا شديدة الأهمية، فتصبح السياسة نفسها ميداناً لعواطف وانطباعات الذات الفردية، المنعزلة عن سياقاتها الاجتماعية، ونرى حملات عرض المعاناة الذاتية، والتظلّم والارتياع الأخلاقي، وكأن كل ما يجري في العالم ليس إلا تهديداً للذات الفردية الحساسة، أي خطراً على السلعة الأساسية، التي نملكها في الشرط الرأسمالي التواصلي.

تأكيد الهوية الفردية، وتحديد التمايزات الدقيقة عن الآخر، هما تعليمات أيديولوجية زجرية في عصرنا، وقد صارا عاملاً سياسياً أساسياً في الانتخابات الأمريكية، فتم اعتبار الفروق الديمغرافية بين السكان محدداً جوهرياً لخياراتهم السياسية: انتخب هيلاري كلينتون وجو بايدن، وإلا سيلتهم العنصريون ما تبقى من ذاتك الفردية الهشة. هكذا تعمل سياسات الهوية، بحسب دين.

سياسة الحشد

الهويات السياسية تُبنى، وليست موجودة بشكل طبيعي، بناء على الفروق الفردية المتعلقة بالعرق والثقافة والجنس، وهذا يقود دين إلى نقد مفهوم «الجمهور المتعدد» Multitudeلأنطونيو نيغري، فعلى الرغم من أنه ليس من أنصار الجوهرانية في فهم الهوية السياسية، إلا أنه اعتبر مقاومة «الإمبراطورية» امتداداً للسياسات الحيوية الرأسمالية نفسها: في عصر العمل غير المادي، المعتمد بشدة على التواصل والعواطف والهوية، لم تعد مشكلة المًنتج فقدانه للتحكّم في موقعه في عملية الإنتاج، فهو متحكّم به سلفاً، باعتباره يبتكر دوماً صيغه الإنتاجية الفريدة والخاصة، المسألة الأساسية، بحسب نيغري، هي قدرة «الجمهور» على إنشاء سلطة مضادة وتخريبية للسلطة القائمة، وشكل الذاتية التي سيبتكرها في مواجهتها، والتي ستكون شبيهة بالتأكيد بذاتيات الإنتاج غير المادي: متعددة، فردانية، تحتفي بالهوية، غير ملتزمة بتنظيم صلب، وتفضّل الترابط عبر شبكات غير هرمية، والنضالات المشتتة في مواقع محليّة متفرقة.

ترفض دين مفهوم الجمهور هذا، وتصرّ على استخدام تعبير «الحشد» Crowde، مؤكدة على أن النضال المعاصر ضد الرأسمالية لا يمكن أن يتم إلا من خلال القطيعة مع سياساتها الحيوية، فبدلاً من الغرق في فردنة ذواتنا، لتتماشى مع آليات اشتغال النظام الاقتصادي المعاصر، لا بد من ابتكار ذات جماعية جديدة، تتجاوز الهوياتية والخصوصية والفرادة، نحو تكوين إرادة سياسية صلبة، تحوّل خبرات الحشد المتفرقة في مقاومة الرأسمالية إلى قوة جماعية ضاربة.

الرغبة الشيوعية

تأسيس الإرادة الجماعية، التي تميّز العدو السياسي من الصديق، يجعل أفكار شانتال موف في مرمى انتقادات دين، فقد دعت الأولى إلى تشكيل ائتلافات شعبية، قائمة على تحالف بين فئات متنوّعة، ذات مطالب متعددة، لتحقيق الهيمنة السياسية والأيديولوجية، في مواجهة الأوليغارشية المهيمنة في المنظومة الحالية. ترفض دين مبدأ التحالف، لأنه يشدد على ضرورة الاعتراف بالتمايزات الفردية والهوياتية، ويركّز على المواقع السياسية المستقلة للحلفاء، وتفضّل عليه مبدأ الرفاقية. الرفاق ليسوا مجرّد حلفاء، بل هم مجموعة سياسية موحّدة ومتراصة، تحتفي بتشابهها وتماثلها، والتزامها الجماعي بتحقيق غاياتها. وتعتمد مبدأ «الأنا المثالية» Ego-ideal الفرويدي، أي التصوّر المثالي، الذي يملكه الإنسان لما يريد أن يكون عليه، وليس على تعظيم الأنا، التي تفرضها عليه الرأسمالية التواصلية، ولذلك يسعى الرفاق إلى تجاوز ذواتهم الفردية، وتوحيدها في حالة جماعية أكبر، ما يخلق نوعاً من «الرغبة الشيوعية»: تسجن الفردانية رغباتنا وميولنا وتطلعاتنا في جسدنا الفردي المعزول والمحدود، في ما تطلقها الرغبة الجمعية ضمن حشد عارم، قادر على الوصول إلى سيادة شعبية غير محدودة.

كيف نطلق «الرغبة الشيوعية»؟ عن طريق الحزب الثوري، تؤكد دين بحماسة، وهي حماسة تستحق كثيراً من الجدية في التعاطي، أياً كانت الانتقادات التي يمكن توجيهها للمفكرة الأمريكية، وطريقة قراءتها للمفكرين الذين تنتقدهم.

باحث سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى