«الأخبار» تهاجم موقف حسن نصر الله!/ جلبير الأشقر
قبل عشر سنوات، في بداية انتفاضة الشعب الليبي ضد حكم معمّر القذافي القراقوشي، كانت الغالبية الساحقة من الرأي العام في المنطقة العربية مؤيدة للثوار مثلما تعاطفت مع انتفاضة شعبي تونس ومصر السابقتين. وكنّا جميعاً نتابع بقلق مصير ثورة تحوّلت بسرعة إلى حرب أهلية بسبب مسعى نظام القذافي الفوري إلى وأدها بقوة السلاح، مستخدماً كافة عناصر الترسانة العسكرية الضخمة التي بذّر موارد البلاد لاقتنائها. وقد تابعنا تطور المعارك في شتى مناطق ليبيا واشتداد الخناق على مدينة بنغازي التي تحولت آنذاك إلى مركز الانتفاضة الرئيسي. فشاهدنا على شاشات التلفزيون الحشد الشعبي الكبير في ساحة بنغازي المركزية، على غرار ميدان التحرير في القاهرة، وقد طالب الثوار المجتمع الدولي بتوفير غطاء جوّي لانتفاضتهم بغية منع القذافي من قصف المدينة تمهيداً لسحقها بقوافل المدرّعات التي تحرّكت نحوها وباتت على مشارفها. وقد أرفقوا مطلبهم برفض صريح لأي تدخل لقوات أجنبية على أرض بلادهم.
بعد بدء الانتفاضة بشهر، يوم 17 مارس/ آذار 2011، تبنّى مجلس الأمن في الأمم المتحدة قراره 1973 الذي نصّ على فرض حظر جوّي فوق ليبيا ودعا إلى «اتخـاذ جميع التدابير اللازمة… لحماية المـدنيين والمناطق الآهلة بالسكان المدنيين المعرّضين لخطر الهجمات في الجماهيرية العربيـة الليبيـة بما فيها بنغازي، مع استبعاد أي قوة احتلال أجنبية أياً كان شكلها وعلى أي جزء من الأراضي الليبيـة». وقد امتنعت روسيا والصين عن نقض القرار، خشية تحمّل مسؤولية حصول مجزرة في بنغازي لو حال نقضهما دون توفير غطاء جوّي للمدينة وسائر مواقع الانتفاضة الليبية.
في 19 مارس/ آذار، بعد يومين من قرار مجلس الأمن، في مقابلة مع موقع «زي نت» اليساري الأمريكي، سُئلت عن الأمر، فأجبت: «ليست هناك في نص القرار ضمانات كافية لتحول دون استخدامه لأغراض إمبريالية… لكن نظراً لإلحاح الحؤول دون المجزرة التي ستنجم بالضرورة عن هجوم قوات القذافي على بنغازي، وفي غياب أي وسيلة أخرى بديلة لتحقيق غاية الحماية، لا يستطيع أحد أن يعارضه بصورة معقولة». وبعد شرح المطامع الإمبريالية المتعلقة بالنفط الليبي، تابعت أقول: «مع ذلك، وبدون معارضة الحظر الجوّي، ينبغي علينا أن نعرب عن ارتيابنا ونطالب بصرامة كاملة في مراقبة ممارسات الدول التي تولّت تنفيذه للتأكد من أنها لا تتعدّى حماية المدنيين كما نصّ عليها القرار».
ما إن صدرت تلك المقابلة حتى قامت قيامة بعض جماعات اليسار الأمريكي والبريطاني التي يقوم منطقها السياسي على معارضة كل ما تشارك به حكومتا بلديها، بشكل تلقائي ومهما كانت الظروف. فتعرّضتُ لحملة على الإنترنت، شوّهت كلامي بتصويره وكأنه تأييد لتدخّل إمبريالي، بينما لم ألفظ كلمة تأييد مرة واحدة، بل أثنيت على موقف الامتناع الذي وقفته خمس دول في مجلس الأمن، وأرفقت ذلك بالتشكيك بالنوايا الغربية. وبعد أيام من بدء العمليات، بعد أن تم فرض الحظر الجوي وتدمير قسم هام من ترسانة القذافي بما أزال الخطر عن بنغازي، بات موقفي المطالبة بوقف القصف وتزويد الثوار الليبيين بالسلاح عوضاً عن تدخّل حلف الناتو المباشر في المعارك محاولاً التحكّم بالثورة الليبية.
مضت عشر سنوات. قبل أيام، صدر بيان حول سوريا قام بإعداده مثقفون يساريون أمريكيون بالتعاون مع موقع «الجمهورية» الذي أسّسه ياسين الحاج صالح، وقد حصل البيان على مئات التواقيع من سوريين وآخرين من عشرات البلدان، بينهم العديد من المشاهير. كنت أحد الموقعين، وساهمت في جمع التواقيع تضامناً مع قضية الشعب السوري ضد حكم آل الأسد السفّاح. بيد أن جماعة مشرفة على موقع أمريكي متخصّص في توفير غطاء «يساري» لحكم فلاديمير بوتين الغارق في الرجعية، شعرت (عن حق) بأنها بين الذين يستهدفهم البيان، فشنّت عليه هجوماً مسعوراً تركّز بصورة بارزة عليّ شخصياً، وقد ردّدت أكاذيب وافتراءات سبق أن نشرَتْها وقد رددتُ عليها.
هذا وقد ساهم في الحملة على البيان وعليّ شخصياً بعض العرب من المتعاطفين مع حكم آل الأسد وحماته. فوصل غيظهم إلى حد أن صحيفة «الأخبار» البيروتية، التي تقوم بدور مشابه لدور الموقع الأمريكي في توفيرها غطاء «يساري» لسياسات «حزب الله» خصّصت صفحتين كاملتين كل يوم على مدى أربعة أيام في الأسبوع المنصرم للهجوم على بيان «الجمهورية».
وللمرة الثانية منذ ديسمبر/ كانون الأول 2019، شرّفتني «الأخبار» يوم الخميس بصفحتين كاملتين مخصّصتين لهجوم تافه آخر عليّ. ثم أرفقتهما بعد يومين بصفحة ثالثة ونصف الصفحة لأحد كتّاب هجومات نهاية عام 2019، وقد تعدّى كل حدود البذاءة والحقارة، جامعاً بين الأسلوبين التكفيري والمخابراتي ليصبح تحريضاً مكشوفاً على القتل، تزيّنه رسمة جثة ملقاة أرضاً يطعنها سهم في وسطها. وسوف أكتفي هنا بتعقيب على مقال الصفحتين، أما المقال الأخير والحملة بمجملها فحسابهما أمام القضاء.
فقد أعاد المقال بعض افتراءات حملة «الأخبار» السابقة، وقد رددتُ عليها في حينها، بل وعلى صفحات الصحيفة ذاتها عملاً بحق الردّ الذي يكفله قانون المطبوعات اللبناني. أما الجديد في الأمر فهو أن الكاتب اختار هذه المرّة أن يضع الموضوع الليبي في صميم هجائه جرياً وراء الجماعة الأمريكية المذكورة أعلاه، متهماً إياي بالتبرير للإمبريالية. وقد تناول مواقفي بالإنكليزية إذ لم يخطر في باله أنني قد أكون عبّرت عنها بالعربية… وفي صحيفة «الأخبار» بالذات، عندما كان خالد صاغية يدير تحريرها، قبل أن يستقيل احتجاجاً على تحوّلها إلى بوق تكفيري للدفاع عن نظام آل الأسد وسياسة إيران الإقليمية (مقال في 29/4/2011 وآخران في 29/8/2011 و30/8/2011).
أما الأكثر طرافة في الأمر، فهو أن «الأخبار» المتخصّصة بموالاة «حزب الله» من موقع يدّعي «اليسار» لم تنتبه إلى أن موقفي مما كان يجري في ليبيا كان مماثلاً تماماً لذلك الذي وقفه أمين عام الحزب، حسن نصر الله. والحال أن اليوم نفسه الذي نُشرت فيه مقابلتي المذكورة أعلاه، أي 19 مارس/ آذار 2011، كان اليوم الذي ألقى فيه الأمين العام خطاباً طويلاً في «الاحتفال التضامني مع الشعوب العربية الذي أقامه حزب الله في مجمع سيد الشهداء (ع) في الضاحية الجنوبية لبيروت» (قبل تطور الانتفاضة السورية، كان «حزب الله» متحمّساً في ترحيبه بالانتفاضات العربية: سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر). وإليكم ما جاء في الخطاب بخصوص ليبيا، وهو كلام ينطبق معظمه بصورة رائعة على ما حصل لاحقاً في سوريا:
«في ليبيا قام الناس كما قاموا في تونس ومصر. مجموعة شباب انطلقوا في بنغازي، تمّت مواجهتهم بالرصاص وبالقتل واندفع الناس ليحتضنوهم وانتقلت الثورة من مدينة إلى مدينة، مظاهرات وعصيان مدني، وتم الردّ على المظاهرات والعصيان المدني بالرصاص والطائرات والدبابات، وفُرض على الثورة الشعبية السلمية والمدنية، فُرض عليها الحرب. ما يجري في ليبيا هو حرب فرضها النظام على شعب كان يطالب بالتغيير دون استخدام السلاح وبالتالي أصبح هذا الشعب أمام خيار الدفاع عن نفسه، وهو ليس تنظيماً، وهو ليس تنظيماً مسلحاً، وكثير منه لا يمتلك أي خبرة عسكرية بل لا يمتلك السلاح الكافي، وبدأت الحرب المفروضة على هذا الشعب الليبي في الغرب وفي الشرق، وشاهدنا وإياكم على شاشات التلفزيون طائرات ودبابات ومدافع وراجمات صواريخ الكاتيوشا المصفوفة بما يذكرنا نحن في لبنان باجتياح 1982 وكل الحروب الإسرائيلية، هذا الذي يشنّه اليوم نظام القذافي على شعب ليبيا هو نفس شكل الحرب التي كانت تشنّها إسرائيل على لبنان وعلى غزة، هذه الجرائم الكبرى المرتكبة من قبل نظام القذافي يجب أن تكون موضع إدانة كل شرفاء العالم من جهة، ومن جهة ثانية يجب على كل من يقدر أن يقدم المساعدة في أي مجال من المجالات لهذا الشعب الثائر أن يقدم له مساعدة لكي يصمدوا ويثبتوا أمام الدمار وأمام المجازر.
إخواننا الثوار في ليبيا، وشعوبنا العربية يجب أن يعرفوا أن أمريكا والغرب أعطيا الوقت الكافي للنظام الليبي ليسحق الثورة، كل هذا الوقت، كثرة الكلام والجلسات، لكن الناس صمدوا وثبتوا وقاتلوا وأحرجوا العالم بصمودهم وبثباتهم، لو أن الشعب في ليبيا ثورته انهارت خلال أيام أو خلال أسبوع أو أسبوعين لعاد العالم ليعترف بنظام القذافي ويرتّب أموره معه وليشتري النفط منه بالأسعار المناسبة والمطلوبة، ولعادت أموال القذافي لتدخل إلى جيوب رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء ونواب في الاتحاد الأوروبي ولغير الاتحاد الأوروبي. صمود هؤلاء الثوار هو الذي غيّر المعادلة اليوم.
في الموضوع الليبي كلمة أخيرة أقولها لكم: ليس أمام هؤلاء الثائرين سوى أن يصمدوا وأن يقاتلوا. نحن لدينا خبرة في الحروب، في القتال، في المواجهات، وفي الحرب النفسية أيضاً، وعندما ننظر إلى الوجوه نستطيع أن نعرف هل هذه وجوه خائبة؟ هل هذه وجوه خائفة؟ هل هذه وجوه يائسة؟
أنا شخصياً من خلال تجربتي، كل الوجوه التي نظرت إليها من المجاهدين الثائرين في ليبيا وجدت فيها العنفوان والمعنوية والاستعداد العالي للشهادة والعزم الكبير على عدم التراجع أو الهزيمة وهذا يدعو إلى الأمل، طبعاً بات الوضع اليوم في ليبيا معقداً جداً نظراً للتدخل الدولي الذي بدأ والذي قد يأخذ ليبيا إلى لعبة الأمم، وهذا ما يحتاج إلى وعي الثوار ووطنيتهم التي نثق بها عالياً».
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي