سياسة

الأسد: مزارع شبعا سورية، مهما ادّعى حزب الله

الأسد أكد سورية مزارع شبعا وأسقط “مزاعم” حزب الله

في لقاء بين الديبلوماسي الأميركي، فريدريك هوف، ورئيس النظام السوري بشار الأسد في قصر تشرين في 28 شباط 2011، أكد الأخير أنّ “مزارع شبعا وتلال كفرشوبا سورية”. ففي مقال نشره في مجلة “Newline Magazine”، أمس الأربعاء، كشف هوف عن لقاء وكلام لا يُنتسى أسرّ به الأسد في ذلك اللقاء: لم يفاجئني قول الأسد إنّ ادّعاء حزب الله لبنانية مزارع شبعا زائف. لكن صدمتني صراحته وعدم تردّده في إخبار ديبلوماسي أميركي بهذا الأمر. موقف الأسد حينها أتى للدفع في اتجاه وساطة للسلام كانت بدأت بالتلاشي، وقد كان واضحاً أنه مقابل السلام واستعادة سوريا جميع الأراضي التي خسرتها في حرب حزيران 1967، فهو سيعمل على حلّ العلاقة العسكرية بين سوريا وإيران ويلزم لبنان بالتوصّل إلى سلام مع إسرائيل، وبالتالي إنهاء مقاومة حزب الله بشكل كامل.

نتنياهو والمعلّم

كان المفاوض السوري حينها، وزير الخارجي وليد المعلّم الذي توفّى عام 2020. هو مفاوض بارع ولامع ومؤمن حقيقي بالسلام مع إسرائيل لاستعادة أراضي 1967، وكان ينال ثقة كاملة من رئيسه بشار الأسد. لكن بالنسبة للطرف الإسرائيلي، لم يكن المعلّم في موقع يعتدّ به لتقديم الالتزامات. وأراد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التأكد من أن الأسد نفسه ملتزم بالسلام وإعادة ‏رسم توجهات سوريا الإقليمية. وكان نتنياهو يعرف ثمن السلام الذي تريده سوريا وهو استرداد كامل أراضيها. وقد أثار احتمال قطع سوريا علاقتها بإيران وحزب الله وحركة حماس اهتمامه الشديد، إلا أنه كان قلقاً من أي تجاوب يبديه المعلّم يتراجع عنه الأسد في وقت لاحق. لذا، كان موقف نتنياهو يشير إلى أنه على الأسد أن يلتزم شخصياً بقطع هذه العلاقات التي تهدّد أمن إسرائيل. فكان هوف أن اقترح على نتنياهو، في اجتماع عقد في القدس مطلع 2011، أن يقابل الأسد شخصياً لتقييم موقعه وموقفه من هذا الملف، فوافق نتنياهو على الاقتراح.

لقاء دمشق

يقول هوف: جاء اللقاء المنفرد بيني وبين الأسد ثمرة هذا الاقتراح، وتم في 28 شباط 2011، حيث كان الأسد صريحاً بشكل مبالغ به وغير طبيعي تجاه المقايضة. فاجأني عدم ترّدده في موقفه ولم أتوقع أن يكون حازماً. وبينما كنت أحاول استيعاب ما كان يقوله، تساءلت عمّا إذا كان قد حسب بدقة ردّ فعل إيران وحزب الله تجاه تخلّي دمشق عن الجمهورية الإسلامية ووكيلها اللبناني لتتمكّن سوريا من استعادة أراضيها والسير في السلام مع “العدو الصهيوني”. تركت دمشق متوجهاً إلى القدس في الأول من آذار 2011، متسائلاً عما إذا كان الأسد تساءل كيف سيتصرّف حلفاؤه لما قد يعتبرونه خيانة جبانة. وكنت ارتحت لو قال شيئاً على غرار أنّ الخطوة “لن تعجبهم لكني على استعداد لمقاتلتهم إذا لزم الأمر من أجل المصالح السورية”. إلا أنه توقع أن يلحق توقيع سلام بين سوريا إسرائيل، معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل وأنّ حزب الله وإيران سينصاعان للأمر. كنت مندهشاً وغير مقتنع في آن. ومع ذلك، بعد أيام على إطلاعه على الأجواء، أعلن أنّ الوساطة في مرحلة جدية وفوّض فريقه اتخاذ الخطوات اللازمة لاستمرار المفاوضات.

القرى السبع

ويكتب هوف: بعد عام 2000، أكد حزب الله على ضرورة تنفيذ انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي اللبنانية. فلو لم يستمرّ الاحتلال فضد من كان ليقاوم حزب الله؟ ومن دون مقاومة كيف كان لإيران أن تحافظ على ميليشيا مسلّحة في لبنان مستقلّة عن القوات المسلحة اللبنانية؟ فلجأ حزب الله أولاً إلى بالون اختباري أوّل اسمه “القرى السبع”، وهي سبع قرى شيعية شمالي فلسطين تم فصلها عن لبنان خلال الترسيم الفرنسي البريطاني للحدود عام 1924. وعام 1948 تمّ طرد سكان هذه القرى من الأراضي الفلسطينية إلى لبنان خلال هجوم عسكري إسرائيلي. واعتبر حزب الله أن الانسحاب الإسرائيلي لا يمكن أن يكون كاملاً دون إعادة ضمّ هذه القرى إلى لبنان، مدركاً أنه لا يمكن لإسرائيل القبول بإعادة هذه الأراضي، وامتناعها عن ذلك سيبرّر وجود المقاومة المسلحة. وسبق أن وجّهت سؤالاً لرئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سليم الحص عام 2000، حول القرى السبع، فبدى حائراً ومحرجاً.

تلال ومراعي

إثارة حزب الله لملف القرى السبع قوّض الموقف الرسمي اللبناني المؤيد للحدود التي رسمتها سلطات الانتداب، وهي الحدود التي تحوّلت خط الهدنة الذي فصل بين لبنان وإسرائيل عام 1949. شئنا ام أبينا، اعتبر لبنان ‏دائماً أن القرى المعنية خارجة عن ولايته، كما أنّ في لبنان قلق من قيام إسرائيل ‏بتحويل خط الانتداب/الهدنة لصالحها. إذ إنّ المطالبة بالقرى السبع يعني المخاطرة بوضع كل ‏شيء على الطاولة من جديد. ومع ذلك، عندما قامت الأمم المتحدة بترسيم الخط الأزرق بعد الانسحاب الإسرائيلي، أتيحت فرصة لمطالبة حزب الله بأجزاء من المرتفعات في شبعا فيها مزارع ومراعي. فعاشت المقاومة.

أرادت سوريا استمرار “المقاومة” للضغط على إسرائيل، فسارعت وجارت ادعاء حزب الله. وجاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حينها كوفي عنان أنه “في اتصال ‏هاتفي أجريته مع وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع، في 16 مايو 2000، قال إن سوريا تدعم موقف لبنان”. والتزمت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بهذه المطالبة، إذ ألزمتها إيران ممثلة بحزب الله بذلك.

نصرالله وتصفية المقاومة

أكد لي الأسد خلال اللقاء يوم 28 شباط 2011، من بين أمور أخرى، أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، سيقوم بتصفية منظمته المقاومة ويتماشى مع أحكام معاهدة السلام اللبنانية الإٍسرائيلية التي ستبصر النور تلقائياً بعد توقيع الاتفاق السوري الإٍسرائيلي. سألت ‏الأسد عما إذا كان تخلي نصر الله عن “المقاومة” سيتطلب أولاً أن تقوم سوريا بنقل مزارع شبعا ‏والأراضي المرتبطة بها رسمياً إلى لبنان‎.‎ وجاء جوابه دون أي لبس: “لا، لا. الخرائط تظهر بوضوح أن المنطقة المعنية ‏سورية. بمجرد استعادة سوريا لأراضيها من إسرائيل، ستكون هناك محادثات مع لبنان حول ‏التعديلات المحتملة على الحدود هنا وهناك، وحول صكوك ملكية الأراضي ومن أصدرها”. وقال ‏الأسد إن الأرض سورية. نقطة انتهى‎.

تابعت وتعمّقت وكتبت حول الجدل على مزارع شبعا منذ ابتداعها كمشكلة، ففوجئت (وسعدت) ليس فقط برفض الأسد المطالبة اللبنانية بالمنطقة إنما اعتراف حكومته بها أيضاً. أما ‏بالنسبة للمحادثات المحتملة مع لبنان حول التعديلات الحدودية، فقد جرت ‏بالفعل مفاوضات ثنائية رسمية قبل خسارة مرتفعات الجولان. لم تتنازل سوريا عن أي شيء ‏لجارتها اللبنانية‎. ومع ذلك لم يصدر عن الدولة اللبنانية شيء حيال احتلال أي من أراضيه عام 1967، إلا أنّ خرج الادعاء بذلك بعد 33 عاماً. كانت المنطقة التي يطلق عليها اسم “مزارع شبعا” و”تلال كفرشوبا” تحت الإدارة السورية حتى حزيران 1967 عندما احتلّها إسرائيل.

على أي حال، قرار الأسد، في ربيع 2011، بقتل المتظاهرين السلميين بدلاً من السعي لتحقيق السلام مع إٍسرائيل يؤكد على الأرجح استمرار خسارة هذه الأراضي. ومع ذلك، يبقى أنّ الأسد أسقط ادعاء حزب الله بمقاومة إسرائيل لتحرير الأراضي اللبنانية، مسجّلاً للتاريخ. نظرة الأسد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل كانت واضحة: إنها سورية.

—————————-

الأسد يريد مزارع شبعا/ مهند الحاج علي

اللافت في ما كتبه السفير الأميركي السابق فريديريك هوف في مجلة “نيوز لاين ماغازين”، عن تصريح للرئيس السوري بشار الأسد عن “سورية” مزارع شبعا، وأيضاً الاستعداد المبدئي للتخلي عن العلاقة مع ايران و”حزب الله”، أن الكلام يخرج من مسؤول أميركي سابق لعب دوراً في وساطات إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. وبالتالي، يُعبّر هوف لا عن مزاجية الإدارة السابقة بقيادة دونالد ترامب، بل عن الدبلوماسية التقليدية الأميركية ورؤيتها لمسار الحل. والكلام يتطابق أيضاً مع تاريخ العلاقة بين “حزب الله” وإيران من جهة، وبين النظام السوري، من جهة ثانية. هي علاقة مبنية على اهتزاز الثقة، رغم مظاهر التحالف والتآلف.

هوف، وهو دبلوماسي أميركي ووسيط سابق في ملف ترسيم الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، كان شاهداً بنفسه في 28 شباط (فبراير) عام 2011 على كلام الرئيس السوري بأن المزارع “سورية” وليست لبنانية (كما جاء على لسان قادة “حزب الله” ومسؤولين في الدولة). كان هوف حاضراً في هذه الجلسة، وربط بمقاله بينها وبين مسار المفاوضات والمطلب الإسرائيلي فيها (كلام الأسد نقدي ضد سردية حزب الله ويُخفي انسجاماً مع الجانب الإسرائيلي).

على سبيل المثال، وصف هوف وزير الخارجية السوري الراحل وليد المعلم بأنه “مؤمن حقيقي بالسلام مع إسرائيل”، ويحظى بثقة كاملة لدى رئيسه بشار الأسد.  المعلم دوماً أكثر تحفظاً وأقل اندفاعاً من رئيسه في الجلسات، إذ يُبادر بالكلام في قضايا حساسة مثل مزارع شبعا. ذاك أن سردية المحادثات الإسرائيلية-السورية تشمل دوماً تلميحاً أو حديثاً مباشراً عن استعداد النظام السوري، للتخلي عن العلاقة مع إيران و”حزب الله”. والعراقيل التي حالت دون مثل هذا الاتفاق، جاءت نتيجة الطلب بالتنازل المسبق أو التزام واضح ودائم (كما جاء في كلام هوف نقلاً عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) أو نظراً لغياب صفقة إقليمية أوسع تشمل الدور السوري في لبنان.

خلال موسم مفاوضات أوسلو، كان المشهد مماثلاً، إذ شعر الجانب الإيراني بقلق وبعث بوفد الى دمشق ليعود خالي الوفاض، وسط شعور إيراني بأن طهران في طريقها الى عزلة تامة نتيجة موقفها من السلام مع إسرائيل، ودعمها لحركة “حماس” حينها.  هذا التوتر وصفه أنتوني لايك مستشار الامن القومي السابق في إدارة كلينتون، بالقول إن إيران والحزب “شعروا بتوتر شديد… وقادة حزب الله تساجلوا في ما بينهم عن كيفية انتهاج أجندة متطرفة في زمن سلام لبناني-إسرائيلي”. حينها، كان الحديث السوري-الإسرائيلي أن أي اتفاق سلام سيشمل لبنان بطبيعة الحال نتيجة الهيمنة السورية في هذا البلد.

وهذا الكلام انسحب أيضاً على المفاوضات السورية-الإسرائيلية في عهد بشار الأسد، وتحديداً قبل حرب تموز (يوليو) عام 2006. رغم أن حلفاء الأسد في لبنان كانوا يخوضون معركة سياسية للدفاع عنه، لم يجد مانعاً من الانخراط في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، شمل بنداً عن المساعدة في “حل سلمي للمشكلات مع الفلسطينيين وفي لبنان وايران”، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة إسرائيلية وترجمته الغارديان البريطانية. بحسب المصدر ذاته، نشرت “هآرتس” بأن مسؤولين سوريين طلبوا عقد اجتماعات سرية مباشرة بين الجانبين لكن إسرائيل رفضت ذلك.

عملياً، لا يُمانع النظام في التفاوض حول مصائر حلفائه، حتى لو كانوا يخوضون معارك دفاعاً عنه، كما الحال في المفاوضات غير المباشرة عام 2005  و2006، أو في المحادثات التي كشف عنها هوف، وانتهت قبل أسابيع قليلة من انطلاق الثورة السورية عام 2011، وقبل شهور من بدء تدخل “حزب الله” دفاعاً عنه.

وفي موازاة ذلك، اعتبار الأسد مزارع شبعا سورية عام 2011، والتنقيب عن الغاز في منطقة بحرية متنازع عليها بين البلدين عام 2021، هما حدثان يتشاركان في المعنى. لهذا السبب، تحتاج الحدود مع سوريا، ترسيماً طارئاً يتقدم على المفاوضات مع الجانب الاسرائيلي. ذاك أن أي تعافٍ للنظام ضمن صفقة إقليمية، ستكون له تبعات على احتمالات حل النزاع الحدودي، ليصير على حساب الجانب اللبناني دون أي مفاوضات أو ندية بين الطرفين. صمت النظام ليس علامة رضى، بل تأجيل لظروف تُناسبه أكثر.

المدن

——————————

الأسد: مزارع شبعا سورية، مهما ادّعى حزب الله

فريدريك هوف/ ترجمة أحمد عيشة

نقض الدكتاتور السوري الأساس الكامل لحزب الله أنه “مقاومة لبنانية”، في مفاوضات فاشلة منذ أكثر من عقد من الزمان. أعرف ذلك، لأنني كنت هناك.

أحد أكثر الأشياء تذكرًا التي شهدتها، في أثناء محاولتي التوسط للسلام بين سورية وإسرائيل، قبل عقد من الزمان، كان الاستماعَ إلى بشار الأسد، رئيس سورية، وهو يشرح لي سبب تبرير حزب الله بعد أيار/ مايو 2000 للاحتفاظ بأسلحته، وقد كانت مزاعمُه أن إسرائيل ما زالت تحتل الأراضي اللبنانية في “مزارع شبعا” و “تلال كفر شوبا” كاذبة. وكان تفسير الأسد واضحًا ومباشرًا: “الأرض المعنيّة هي أرض سورية”.

شارك الأسد هذا البوح المروع، خلال اجتماع منفرد على حدة في قصر تشرين، في 28 شباط/ فبراير 2011. فمن ناحية، نجد أن الاستماع إلى هذه المطالبة الإقليمية منذ فترة طويلة (من قبل حكومة لبنان التي تعترف بها سورية شفويًا) قد فاجأني على أقلّ تقدير. وهذا ما سبق أن عرفته منذ اختراعه/ تلفيقه في عام 2000. ولكن ما صدمني وأنا أستمع إلى الأسد هو صراحته وعدم تردده في إخبار دبلوماسي أميركي بأن الأرض المعنيّة -الأساس الكامل لموقف حزب الله باعتباره “المقاومة اللبنانية”- ليست لبنانية؛ بل سورية.

والواقع أن توضيح الأسد لمن يملك حقًا “مزارع شبعا وتلال كفار شوبا” كان جزءًا صغيرًا من محادثة بدت في ذلك الوقت وكأنها تحفيز تحتاج إليه وساطة السلام التي بدأت في الانتشار/ التلاشي. كما أوضح أنه في مقابل معاهدة سلام، تلتزم باستعادة سورية كل الأراضي التي خسرتها أثناء حرب حزيران/ يونيو مع إسرائيل 1967، سوف يفكك علاقة سورية العسكرية مع إيران، ويجبر لبنان على إحلال السلام مع إسرائيل، وبالتالي يخلّص حزب الله من أعمال (بزنس) “المقاومة” بالكامل.

وسترد القصة الكاملة لهذا الاجتماع الحاسم، ووساطة السلام التي كان جزءًا منها، في كتابٍ قيد الإصدار. ولكن في الوقت الذي يكافح فيه لبنان من أجل الإصلاح وإعادة تشكيل نظام سياسي لم يجلب سوى الفشل والبؤس، ربما يكون الوقت مناسبًا لإلقاء الضوء على المزاعم الكاذبة من قِبَل دافع/ راعٍ رئيس في سقوط البلاد العاجل: حزب الله.

وقد كان الاجتماع مع الأسد قد عُقِد منذ وقت طويل. وكان محاوري السوري الرئيس لمناقشات السلام التي بدأت في عام 2009 هو وليد المعلم، وزير الخارجية، الذي توفي عام 2020. كان مفاوضًا لطيفًا، لكنه قاسيًا -المؤمن الحقيقي بالسلام مع إسرائيل شريطة استعادة سورية لكل الأراضي المفقودة في حرب حزيران/ يونيو 1967- وحظي بثقة كاملة من رئيسه الأسد. ولكن بالنسبة إلى الطرف الآخر في الوساطة الأميركية -إسرائيل- لم يكن المعلّم كافيًا ببساطة ليتصرف بتقديم الالتزامات السورية.

وكان بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، يريد أن يتأكد من التزام الأسد نفسه بالسلام وإعادة التوجه الاستراتيجي الإقليمي في سورية. لقد كان يعرف ثمن السلام مع سورية: استرداد الأراضي بالكامل. ولكن احتمالات قطع سورية لعلاقاتها العسكرية مع إيران، وحزب الله، وحماس، كانت مهمة له إلى حد كبير، وكان نتنياهو قلقًا من أن أي “نعم” من قبل المعلم قد يرفضها الأسد في وقت لاحق. وإذا كانت إسرائيل ستوافق على تعديل إقليمي كبير، فيتعين على الأسد نفسه أن يلتزم بقطع وتفكيك العلاقات التي تعرض الأمن الإسرائيلي للخطر. كان هذا هو موقف نتنياهو الثابت.

في أيار/ مايو 2010، عقد اجتماع مهم في دمشق، بين الأسد وجون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ آنذاك. لقد كانت مناقشة مطولة بدت وكأنها تبدد أي فجوة جوهرية بين موقفي الأسد والمعلّم. والواقع أن تقرير كيري أشار إلى أن المعلم كان أكثر حذرًا من رئيسه، من ناحية تقديم الالتزامات مكتوبة. وعلى أي حال، كانت مناقشة دفعت وساطة السلام الأميركية إلى مرحلة جديدة ومثمرة.

ومع ذلك، فإن التشكك الذي أبداه رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن نيات الأسد كان ملموسًا وراسخًا. على الرغم من تأكيدات الوسطاء الأميركيين المتكررة (استنادًا إلى المنتج المكتوب الذي انبثق عن اللقاء بين كيري والأسد)، لم يبد قطّ أنه قادر على زعزعة شكوكه الشخصية حول رواية كيري عن استعداد الأسد للسلام (وإدراك الأسد للثمن الذي ستدفعه سورية) كانت تتشكل بتفاؤل من قبل صانع سلام محتمل، شخص يعده نتنياهو حريصًا ومتحمسًا أكثر من اللازم، لإقناع إسرائيل بالتضحية بالأراضي التي قد تكون محفوفة بالمخاطر.

وفي اجتماع عقد في القدس في أوائل عام 2011، كان نتنياهو شديدًا بشكل خاص في تشكيكه المستمر في نية الأسد ونيّات المعلم. لقد اقترحتُ حلًا: ماذا لو تمكنتُ من مقابلة رئيس سورية بشكل منفرد؟ ماذا لو سألته بأوضح لغة ممكنة عن أصعب الأسئلة المتعلقة باستعداد سورية (في سياق معاهدة سلام تلبي احتياجات دمشق) لقطع الروابط العسكرية الإقليمية التي تشكل تهديدات أمنية لإسرائيل؟ ماذا لو قمت بتقويم مستقل للالتزام الشخصي للأسد بالسلام، ومن ثم نقلته إلى رئيس الوزراء وفريقه؟ كان رد نتنياهو على الفور: نعم. افعلها.

كان هذا هو أصل نشأة لقائي المنفرد مع رئيس سورية، في 28 شباط/ فبراير 2011. وكان الأسد مرتاحًا بشكل غير عادي في استعداده المعلن للتخلّي عن علاقة سورية العسكرية مع إيران، ويوقف استمرارية ما يسمى المقاومة اللبنانية. بطبيعة الحال، كان كل شيء متوقفًا على شروط تعاهدية تنصّ على إعادة جميع الأراضي التي خسرتها سورية في حزيران/ يونيو 1967.

فاجأني عدم تردد الأسد المطلق في إعلان نفسه راغبًا في تبادل علاقات طويلة الأمد، مقابل استرداد الأراضي. لم أكن أتوقع أن يكون حاسمًا جدًا ومتجاوبًا. وعندما استوعبتُ ما قاله لي، تساءلت: هل حسب بدقة كيف يمكن لإيران وحزب الله أن يستجيبا لطلب سورية، بأن سورية تخلت عن الجمهورية الإسلامية ووكيلها اللبناني، حتى تتمكن سورية من استعادة أراضيها وإحلال السلام مع “العدو الصهيوني”!

غادرت دمشق إلى القدس، في الأول من آذار/ مارس 2011، وتساءلت هل يعتقد الأسدُ حقًا أن شركاءه سوف يتجاوبون مع الحل الرصين الجدي، متخليًا عما قد يعدونه خيانة مهينة. والواقع أنني كنت سأشعر بتحسن، لو أنه قال شيئًا على غرار “لن يعجبهم ذلك. ولكنني مستعد لمحاربتهم، إذا لزم الأمر، من أجل المصالح السورية”.

ولكن لا. فقد تنبأ بأن معاهدة سلام بين سورية وإسرائيل سوف تتبعها معاهدة بين لبنان وإسرائيل، وأن الخاسرين -إيران وحزب الله- سوف يتبعونه بسهولة. كنت في ذلك الوقت مذهولًا وغير مقتنع. ومع ذلك، فإن نتنياهو سوف يعلن، بعد أيام عندما اطلع على الاجتماع، أن الوساطة في مرحلة خطيرة، ويفوض فريقه باتخاذ الخطوات التالية.

ولكن كلمات الأسد المتعلقة بلبنان، في ذلك اليوم الأخير من شباط/ فبراير، أثارت اهتمامي في ذلك الوقت، وظلت عالقة بذهني منذ ذلك الحين. وتتركز المسألة المعنية على “مزارع شبعا” وامتدادها في الشمال الشرقي، وهي ما يسمى بتلال كفر شوبا.

في حزيران/ يونيو 1967، استولت إسرائيل على هذا الشريط الصغير من الأراضي المرتفعة (ولا تزال) كجزء من مرتفعات الجولان السورية، تعامله قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان وفي مرتفعات الجولان كجزء من سورية التي تحتلها إسرائيل. ولم يزعم لبنان أو سورية، في 1967 أو لأكثر من 30 عامًا بعد ذلك، أن الأرض المعنية ليست سوى الجزء الشمالي من مرتفعات الجولان؛ ولم يتم التشكيك قط في الوضع السياسي لهذه المساحة المتاخمة للبنان. وليس هناك سبب موضوعي للقيام بذلك.

ولقد تغير كلّ هذا في أوائل عام 2000، حيث واجه حزب الله -“المقاومة اللبنانية” التي تحارب الاحتلال الإسرائيلي طوال عقدين من الزمان تقريبًا- بقلق العواقب المترتبة على الانتصار الكارثي المحتمل: الانسحاب الإسرائيلي الكامل الأحادي الجانب من لبنان. وإذا كان للاحتلال أن ينتهي، فما الذي عليه أن “يقاومه”؟ من دون أي شيء يمكن مقاومته، كيف يمكن لوكيل إيران اللبناني أن يبرر الإبقاء على ميليشيا مستقلة عن القوات المسلحة اللبنانية؟

الواقع أنه مع اشتداد الحديث الإسرائيلي عن مغادرة لبنان، في عهد رئاسة إيهود باراك، رئيس الوزراء في عام 1999، قام حزب الله بإطلاق أول بالون “المقاومة لم تنته”، في شكل المطالبة بـ “القرى السبع”. وقد تم فصل سبع قرى شيعية في شمال فلسطين، عن المجتمعات المحلية ذات الصلة في لبنان، عن طريق ترسيم الحدود الأنجلو-فرنسية لفلسطين ولبنان الكبير، الذي اكتمل في عام 1924. في عام 1948، أجبرت إسرائيل القرويين على الفرار من فلسطين إلى لبنان عبر هجوم عسكري إسرائيلي.

حزب الله، إذ يتوقع انسحاب إسرائيل من لبنان، روّج لفكرة مفادها أنه يتعين “إعادة” تلك القرى إلى لبنان، لكي يعدّ الاحتلال [هكذا في النص، والأصح الانسحاب] الإسرائيلي كاملًا. وهو يدرك أن إسرائيل لن تمتثل أبدًا لهذا الطلب غير المشروع. ومن المفترض أن يؤدي عدم امتثال إسرائيل إلى تبرير استمرار “المقاومة” المسلحة.

ولكن مع الأسف (بالنسبة إلى حزب الله) فإن القرى لم تكن قط في لبنان، في المقام الأول. وكانت المطالبة فظة وغير متقنة، وغير مستدامة. سألت سليم الحص، رئيس وزراء لبنان، في أوائل عام 2000، عن موقف حكومته من مسألة القرى السبع. كان إما غامضًا، أو محرَجًا، أو كليهما. وتحول إلى شخص مساعد ثانٍ، لا يستطيع أن يفعل أكثر من قراءة القصة الواردة في الفقرات السابقة من هذا المقال وسماعها.

والمشكلة التي أثارها حزب الله بالمطالبة بأرض في إسرائيل ذاتها هي أنه يقوض الموقف اللبناني الرسمي الذي يدعم قدسية “الحدود الدولية” لفترة الانتداب، وهي حدود تحولت إلى “خط الهدنة لترسيم الحدود” الذي يقسم بين لبنان وإسرائيل في عام 1949. وقد اعتبرت بيروت دائمًا القرى المعنية، خارج نطاق سلطتها واختصاصها. ولبنان قلق باستمرار من قيام إسرائيل بتحويل خط الانتداب/ الهدنة إلى مصلحتها الخاصة. المطالبة بالقرى السبع سيكون يعني أن تخاطر بوضع كل شيء موضع ربح أو خسارة.

ولكن عندما قامت الأمم المتحدة -سعيًا منها للتحقق من اكتمال انسحاب إسرائيل من لبنان في أيار/ مايو 2000- بتوسيع خط الانسحاب الإسرائيلي (ما يسمى الخط الأزرق) من خط الحدود الدولي القديم/ خط الهدنة الشمالي الشرقي، لتأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية من تلك الأجزاء من لبنان المتاخمة لمرتفعات الجولان المحتلة، وهي فرصة لمطالبة إقليمية جديدة، لا تشمل إسرائيل نفسها. وقد استولى حزب الله على قطعة من الجغرافية السياسية للادّعاء بأن شريطاً من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل يحتوي على بضعة مزارع ومراعٍ، وهي قطع أرض يُزعم أن سكان قرية شبعا اللبنانية يملكونها، هي في الواقع أراض لبنانية. تحيا المقاومة!

وسورية (التي أرادت أن تستمر “المقاومة” كنقطة ضغط على إسرائيل) سارعت إلى التماشي مع زعم حزب الله. وسيعلن كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، “في محادثة هاتفية معي في 16 أيار/ مايو 2000، أن السيد فاروق الشرع، وزير الخارجية السوري، صرّح بأن الجمهورية العربية السورية تؤيد مطالبة لبنان”.

وعلى الرغم من ادعاءات المواطنين اللبنانيين بملكية الأراضي الخاصة، وسوء أداء فرنسا في ترسيم حدود واضحة بين لبنان وسورية خلال عهد الانتداب، فإن الأمم المتحدة نفسها سرعان ما رفضت التأكيد الكاذب باستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية والهجوم الذي لا مبرر له على جهودها الحسنة النية للتحقق من انسحاب إسرائيل الكامل.

ويلاحظ عنان نفسه أن لبنان “على مدى 22 عامًا في سياق منطقة عمليات قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” سبق أن وافق تمامًا على ما قد يظهره الخط الأزرق في نهاية المطاف، في ما يتصل بفصل لبنان عن مرتفعات الجولان. ويشير الأمين العام أيضًا إلى أن سورية أيدت خط الجولان – لبنان المقبول عمومًا في اتفاق فض الاشتباك المبرم مع إسرائيل في عام 1974. والواقع أن كل الخرائط تقريبًا -ومن ضمنها خريطة مصورة على العملة اللبنانية- أظهرت أن مزارع شبعا ومنحدرات جبل الشيخ (حرمون) خارج نطاق الولاية اللبنانية.

وعلى الرغم من الطابع الاحتيالي للمطالبة، فقد أجبرت إيران من خلال حزب الله الحكومات اللبنانية المتعاقبة، على قبول المطالب بأنها حقيقية. تم تناول الموضوع خلال الاجتماع مع الأسد، في 28 شباط/ فبراير 2011.

ومن بين أمور أخرى، أكد الأسد لي أن حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، سيقوم بتصفية “مقاومة” منظمته، ويتماشى مع أحكام معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل، وهو اتفاق، من وجهة نظر الأسد، سيتبع تلقائيًا توقيع معاهدة بين سورية وإسرائيل. وسألت الأسد عن تخلّي نصر الله عن “المقاومة” هل يتطلب أولًا أن تنقل سورية رسميًا ملكية مزارع شبعا والأراضي المرتبطة بها إلى لبنان، أم لا؟

كان جوابه واضحًا لا لبس فيه: لا، لن يكون كذلك. فقد أظهرت الخرائط بوضوح، وفقاً للأسد، أن الأراضي المعنية سورية. وبمجرد أن تسترد سورية أراضيها من إسرائيل، ستجري محادثات مع لبنان بشأن التعديلات المحتملة على الحدود هنا وهناك، وبخصوص صكوك ملكية الأراضي ومن أصدرها. ولكن الأرض سورية، كما قال الأسد، نقطة. “المقاومة” تنتهي!

وبعد أن درستُ وكتبتُ عن الخلاف الدائر في مزارع شبعا منذ اختراعه، فوجئت (وسررت) برفض الأسد المباشر ليس فقط للمطالبة اللبنانية، بل أيضًا (ضمنًا) باعتراف حكومته به. أما في ما يتعلق بإمكانية إجراء محادثات مع لبنان بشأن تعديلات الحدود والأفعال الخاصة، فقد جرت بالفعل مناقشات ثنائية رسمية قبل أن تفقد مرتفعات الجولان. ولم تقدم سورية بعد ذلك أي شيء لجارتها اللبنانية. ولقد زعم أحد الباحثين على الأقل أن لبنان لديه بالفعل مطالبة صحيحة (وإن لم تكن قاطعة) بالأرض المعنية؛ وهذه الادعاء متجذر في فشل فرنسا في تحديد الحدود بين سورية ولبنان على وجه التحديد.

ومع ذلك، لم يؤكد لبنان قط في عام 1967 أن إسرائيل احتلت قسمًا/ شريطًا من أراضيه المحاذية لمرتفعات الجولان. ولم يقدم أي مطالبة من هذا القبيل إلا بعد 33 عامًا. كانت سورية تدير الأراضي التي سميت في وقت لاحق “مزارع شبعا” و “تلال كفر شوبا”، إلى أن خسرتها في حرب حزيران/ يونيو 1967 لصالح إسرائيل. وربما كان قرار الأسد في ربيع عام 2011 بقتل المحتجين المسالمين، بدلًا من السعي نحو السلام مع إسرائيل سببًا في تأكيد استمرار هذه الخسارة.

ومع ذلك، في 28 شباط/ فبراير 2011، فإن رفض الأسد للمطالبة الإقليمية اللبنانية الكامنة وراء ادعاء حزب الله المستمر “بمقاومة” “الاحتلال الإسرائيلي” المستمر، هو أمرٌ جدير بالملاحظة للسجل التاريخي، إن لم يكن هناك شيء آخر. كانت نظرة الأسد إلى الأرض التي تحتلها إسرائيل واضحة: إنها أرضٌ سورية.

اسم المقال الأصلي         Assad: The Shebaa Farms Are Syrian, Whatever Hezbollah Claims

الكاتب   فريدريك هوف، Frederic Hof

مكان النشر وتاريخه         نيولاينز، NEWLINES، 7 نيسان/ أبريل 2021

رابط المقال         https://bit.ly/3agdNgK

عدد الكلمات       2113

ترجمة   وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى