فريدريك هوف: إبقاء حزب الله معلَّقًا
مايكل يونغ
فريدريك هوف دبلوماسي مقيم في كلية بارد كولدج في نيويورك. كان مبعوثًا أميركيًا في سورية، وسفيرًا ومستشارًا خاصًا لشؤون المرحلة الانتقالية في دمشق في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وهو صاحب مسيرة متميّزة في الجيش الأميركي ووزارة الخارجية. كان هوف أيضًا مديرًا لمركز رفيق الحريري للشرق الأوسط في المجلس الأطلنطي. نُشِر له مؤخرًا مقال في مجلة “نيولاينز” أثار اهتمامًا كبيرًا في الأوساط اللبنانية، وتحدّث فيه عن اجتماعه بالرئيس السوري بشار الأسد في شباط/فبراير 2011 للتباحث في إمكانية التوصل إلى تسوية سورية-إسرائيلية. ويصدر له قريبًا كتاب عن جهود الوساطة التي قام بها. وقد أجرت “ديوان” مقابلة معه للحديث عمّا جرى قبل عقد من الزمن.
مايكل يونغ: هلّا تخبرنا عن السياق الذي أحاط باجتماعكَ بالرئيس السوري بشار الأسد في شباط/فبراير 2011؟
فريدريك هوف: في ذلك الوقت، كنتُ أقوم بوساطة من أجل السلام بين سورية وإسرائيل، وواجهتُ تحدّيات كثيرة في هذا الإطار، أبرزها الشكوك الشديدة التي ساورت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن استعداد الرئيس السوري بشار الأسد لتوقيع سلام مع إسرائيل تحت أي ظرف من الظروف. وكلما نقلتُ إلى نتنياهو وفريقه أخبارًا عن تحقيق بعض التقدّم في دمشق خلال المباحثات مع وزير الخارجية آنذاك وليد المعلّم، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يُشكك في الأمر أو يستخفّ به مشيرًا إلى أن كل ما يقوله المعلّم أو يتعهد به سيتحفّظ عنه الأسد لاحقًا أو يقول كلامًا منافيًا له. وذلك على الرغم من أن الأسد نفسه قال، في اجتماع أساسي في دمشق في أيار/مايو 2010، للسناتور جون كيري آنذاك إنه ملتزم شخصيًا بتحقيق سلام كامل مع إسرائيل يضمن، من جملة بنوده الأخرى، استرجاع بلاده لجميع الأراضي السورية التي احتلتها إسرائيل خلال حرب حزيران/يونيو 1967.
بغض النظر عن الأسباب، رفض نتنياهو القبول بشهادة كيري التي تضمنت وثيقة غير موقَّعة وافق عليها الجانب السوري ونصّت على شروط السلام وعناصره. وبغض النظر عن الأسباب أيضًا، كان نتنياهو والسوريون يمحضون بعض الثقة لدور الوساطة الذي كنت أقوم به، لذا عندما أخبرتُ رئيس الوزراء الإسرائيلي أن بإمكاني أن أطلب اجتماعًا مع الأسد على انفراد لمحاولة استيضاحه والوقوف أكثر على مسألة التزامه الشخصي بتلبية شروط السلام الإسرائيلية، وافق على الفور. وقد رتّبتُ، بمساعدة وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون، اجتماعًا خاصًا مع الرئيس السوري في اليوم الأخير من شباط/فبراير 2011. وعُقِد الاجتماع في الموعد المحدد.
يونغ: كتبتَ في المقال أنك فوجئتَ بموقف الأسد من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا على طول الحدود اللبنانية-السورية. هلّا تشرح لنا ما الذي تمثّله هذه المنطقة، ولماذا فوجئتَ بكلام الأسد في هذا الخصوص؟
هوف: تُعتبر مطالبة لبنان بالسيادة على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، أي الشريط الواقع في الطرف الشمالي لمرتفعات الجولان والذي تحتله إسرائيل منذ حزيران/يونيو 1967، ركيزة اعتبار حزب الله أن إسرائيل لا تزال تحتل أرضًا لبنانية. فمن خلال التأكيد على استمرار الاحتلال، يُبرّر حزب الله إبقاءه على سلاحه “لمقاومة” هذا الاحتلال، مبديًا بذلك أنه ليس من بين الميليشيات غير الشرعية التي تخضع لأحكام نزع السلاح.
قبل الحرب العربية-الإسرائيلية في حزيران/يونيو 1967، كان الجانبان اللبناني والسوري يجريان مباحثات دورية بشأن الأراضي المذكورة، نظرًا إلى أن الحدود بين الدولتَين، والتي أنشأتها فرنسا خلال مرحلة الانتداب، كانت ملتبسة في بعض الأماكن. وقد أقرّ الجانب اللبناني (حسبما تُبيّنه الخرائط اللبنانية) بالسيادة السورية على تلك الأراضي، ولكنه طلب تعديلات حدودية على طول مرتفعات الجولان تراعي ملكية مواطنين لبنانيين لأراضٍ واقعة ضمن المنطقة الخاضعة لسلطة الدولة السورية. ولكن تلك المحادثات لم تُفضِ إلى اتفاق، وخلال حرب حزيران/يونيو 1967، احتلت إسرائيل المنطقة المذكورة، إضافةً إلى جميع الأراضي الأخرى تقريبًا في مرتفعات الجولان. وعلى مدى حوالى 33 عامًا بعد الحرب، اعتبر الجانبان اللبناني والسوري مزارع شبعا وتلال كفرشوبا أراضٍ سورية وجزءًا من الجولان المحتل.
بيد أن ذلك تبدّل فجأةً في العام 2000، حين واجه حزب الله التهديد المتمثّل بالانسحاب الإسرائيلي الأحادي من لبنان. أسمّيه “تهديدًا” لأن انتهاء الاحتلال الإسرائيلي كان ليعني انتهاء مقاومة حزب الله، ما كان ليدفع منطقيًا باتجاه المطالبة بنزع سلاح الحزب. وهكذا ادّعى حزب الله، ثم الحكومة اللبنانية، أن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي أراضٍ لبنانية، ما سارعت الأمم المتحدة إلى نفيه. ولكن سورية الراغبة في أن يمارس حزب الله وسلاحه ضغوطًا على إسرائيل، أيّدت شفهيًا المطلب اللبناني.
عندما قال لي الأسد إن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي أراضٍ سورية، لم يكن عنصر المفاجأة نابعًا من تبيانه الحقيقة بل من استعداده لدحض السردية التي يستند إليها سلاح حزب الله ونقض الموقف المعلَن لحكومته.
يونغ: كشفتَ أيضًا أن الأسد أعرب عن استعداده للتوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل بشروط معيّنة. ماذا كانت هذه الشروط، وهل تعامل الإسرائيليون بجدّية مع هذا الالتزام؟
هوف: حرص الأسد، خلال اجتماعي معه، على ربط استعداده لقطع العلاقات العسكرية مع إيران وحزب الله شرط أن يُفضي السلام إلى استعادة سورية جميع الأراضي التي انتزعتها منها إسرائيل في حزيران/يونيو 1967. لم يتبدّل الموقف السوري منذ التسعينيات، ويتمثّل بضرورة أن تستعيد سورية، عند تطبيق معاهدة سلام مع إسرائيل، جميع الأراضي الواقعة ضمن خط 4 حزيران/يونيو 1967، أي “الخط” غير المحدَّد في القسم الأكبر منه والذي كان يفصل بين القوات السورية والإسرائيلية في غور الأردن قبل اندلاع الحرب.
بعد اجتماعي بالأسد، ناقشت باستفاضة مع نتنياهو وفريقه الالتزامات والشروط كما عبّر عنها الأسد أمامي. وعلى الرغم من أن نتنياهو ظلّ غير مرتاح للثمن الذي تطلبه سورية مقابل السلام، أي مطالبتها باستعادة الأراضي (علمًا بأنه يعرف هذا الثمن منذ وقت طويل)، اعتبر الوساطة جدّية وأجاز لفريقه المضي قدمًا بهذا المسعى. ربما لم تتبدّد شكوكه كليًا بشأن نوايا الأسد، ولكن بدا أنها هدأت إلى حد كبير.
على المستوى الأميركي، وضعنا تصوّرًا لترتيب لقاءات بين الوفدَين السوري والإسرائيلي في أوروبا الشرقية، ربما في نيسان/أبريل 2011. وكان الهدف أن يعملا معًا من أجل إبرام معاهدة سلام وردتْ خطوطها العريضة في مسوّدة أميركية خضعت للنقاش خلال الزيارات التي قمت بها بين دمشق والقدس على مدى أشهر عدة. ولكن الوساطة التي بدت واعدة، بما في ذلك إحراز تقدّم مهم في المسائل المتعلقة بالأراضي إضافةً إلى الالتزامات الأمنية التي قدّمها الأسد، انتهت للأسف بعد أسابيع من انعقاد الاجتماعات الأساسية في دمشق والقدس، حين اعتمد الأسد سياسة القوة الفتّاكة ضد المتظاهرين السوريين العزّل.
يونغ: في ضوء النزاع السوري الذي اندلع في العام 2011، هل تعتقد أن للكلام الذي سمعته من الأسد مفاعيل مهمة للمستقبل، ولا سيما أن الولايات المتحدة اعترفت بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان؟
هوف: لا أعلم إذا كان اعتراف الرئيس السابق دونالد ترامب بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان لا يزال سياسة أميركية قائمة في عهد الرئيس جو بايدن. ولكنني أعتقد أن قرار الأسد شنّ حرب على مواطنيه بدلًا من متابعة وساطة واعدة لتحقيق السلام كان عمليًا بمثابة تسليم مرتفعات الجولان إلى إسرائيل بصورة دائمة.
قال لي الأسد في شباط/فبراير 2011 إن توقيع اتفاقية سلام بين الجانبين السوري والإسرائيلي سيُستتبَع تلقائيًا باتفاقية سلام بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، وإن التهديدات للأمن الإسرائيلي من جانب أيٍّ من البلدَين لا تتوافق مع السلام. وأكّد لي أن إيران وحزب الله سوف يلتزمان بالتعهّدات الواردة في معاهدتَي السلام السورية واللبنانية وأن حزب الله سيصبح حزبًا سياسيًا لبنانيًا. شككتُ في مدى صحة هذه التأكيدات. ربما كان صادقًا في كلامه، لكنني لم أستطع تخيّل أن إيران ووكيلها في لبنان سيوافقان ببساطة على التخلّي عن سردية “المقاومة”.
هل من مفاعيل لكل ذلك على الوضع الراهن؟ إذا كان الأسد صائبًا في قوله إن أمين عام حزب الله حسن نصرالله هو فريق سياسي لبناني بحت وليس ممثِّلًا لإيران، لا شيء يمنعه الآن من حضّ الحكومة اللبنانية على اقتراح إجراء مباحثات سلام مع إسرائيل. وفي هذا الإطار، يمكن أن تتضمن الأجندة التفاوضية اللبنانية مختلف المسائل المطروحة، أي مسألة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وتعديلات الخط الأزرق، والاتفاق بشأن المنطقة الاقتصادية الخالصة البحرية، وحتى وضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بغض النظر عن حديث الأسد عن السيادة السورية عليها.
إن السؤال عمّا إذا كان موقف الأسد من السيادة على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لا يزال مهمًا، لناحية الاحتلال الإسرائيلي المتواصل أو لناحية الذريعة التي يستخدمها حزب الله للاحتفاظ بسلاحه، مرتبط الآن على الأرجح بالجانب اللبناني أكثر منه بالجانب السوري. ولكنني لست في صدد اقتراح مبادرات سياسية على أيٍّ كان. فبعد مرور عشر سنوات على الواقعة، ما يهمّني هو أن أسدّ ثغرةً في تاريخ الجهود الأميركية الرامية إلى إحلال السلام بين العرب وإسرائيل. وهذا ما أتوخّاه تحديدًا من كتابي الذي سيصدر قريبًا.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.