صفحات الثقافة

بين الـ”كوتا” النسائية والمواطنة/ سوسن جميل حسن

المحاصصة النسائية، أو ما تعرف بـ”الكوتا”، اصطلاح يشير إلى تخصيص نسبة من المقاعد في الهيئات المنتخبة، كالمجالس التشريعية والبلدية وغيرها، للنساء، وذلك في محاولةٍ لإشراك المرأة في صناعة القرار. من حيث المبدأ، يوحي هذا المفهوم بإيجابية ما، وبأنه يدعم المرأة، ويمكّنها في الحياة، لكن الواقع، على مدى سنوات طويلة، وفي جغرافيا واسعة، يقدم دلائل وبراهين على أن المرأة ما زالت مهمشة بدرجاتٍ متفاوتةٍ من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى. وفي الوقت نفسه، لا يعني الوصول القسري إلى تحقيق النسبة المحدّدة في كل دولة أن المرأة قد تسلّمت فعلاً مسؤولية القرار، ومارست دورها الفاعل في هذا الشأن، بما ينسجم ومبدأ المساواة الفعلية، إذ قد يتحقق وصول المرأة إلى شغل مقاعد مخصّصة لها بتوجيه سياسي أو لعبة سياسية، وقد يكون رسالة إعلامية إلى الخارج يُراد منها الإيهام بأن الدولة علمانية وتراعي الحقوق وعدم التمييز، كما في بلداننا، ويكون دورها في الواقع مشلولاً أو تابعاً للسياسة المهيمنة وسلطة الرجال في المراكز، عدا أن دعم هذه المسألة يتطلب ثقافة اجتماعية أولاً، ونشاطاً حزبيّاً أو مدنيّاً ثانياً. وثالثاً، وهو قبل كل شيء، يلزمه تحقق مبادئ الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية وغيرها، إذ لا يكفي التحرّر الاقتصادي من أجل أن تمتلك المرأة مقومات وصولها إلى مختلف الميادين، وخوضها التجارب التي تمنحها الخبرة والمعرفة الضرورية، والأمثلة في بلادنا كثيرة، ليس من الآن أو اللحظة الحالية التي تعاني منها دول المنطقة من الحروب والزلازل المدمرة للدول والمجتمعات، بل قبل هذا العقد الدامي.

أمّا في أوروبا التي خاضت شعوبها تجارب مريرة وقاسية ودفعت أثماناً باهظة، وأعيد رسم خريطتها مرات ومرات، حتى وصلت إلى لحظتها الراهنة، فإن المرأة حققت مستوياتٍ أعلى فيما لو قارنّاها ببلدان كثيرة، خصوصاً بلادنا، ساهم في تمكّنها تحقق مبادئ الديموقراطية والمساواة والحريات. مع هذا، ما زالت المرأة تعاني، ولا تصل إلى ما تصبو إليه إلّا بنضال وجهد لا بأس بهما، حتى لو كان القانون يحمي لها حقوقها، والدستور يضمن لها مواطنتها الكاملة، فهي أحياناً تخسر فرص العمل، لكونها في سنّ الإنجاب، خوفاً من التغيّب الطويل في إجازات الأمومة، كما أن المنافسة بينها وبين الرجل على بعض الوظائف تحسم لمصلحة الرجل من دون أن يكون هناك مواجهة مع القانون، فما أكثر الأبواب المواربة عندما تتوافر الغاية والهدف، وإن وصول نساء عديداتٍ إلى مراكز القيادة أو إلى مناصب هامة على مختلف الأصعدة لا يعني أن وضع المرأة في أفضل حالاتهن وأنها لا تعاني من التمييز غير المعلن، مع إشارة لا بدّ منها إلى أن المجتمع ليس متطابقاً بالكامل، بل هناك اختلافاتٌ ثقافيةٌ يصونها الدستور ويحترمها الأفراد والجماعات، على قاعدة تبنّي ثقافة الاختلاف والحق في التعبير، ما دام ليس هناك من ضرر موجّه ضد أحد.

في ظل جائحة كوفيد 19 التي تهدّد البشرية، خرج أخيراً تقرير للأمم المتحدة يؤكّد أن النساء اللواتي يعملن في خطوط المواجهة مع الوباء هنّ الأكثر تضرّراً وتحمّلاً لتبعاتها، فهنّ يشكّلن ما نسبته 70% من العاملين في مجال الرعاية الصحية على مستوى العالم. ومع هذا، هنّ مستبعداتٌ حتى عن المساهمة في صنع القرارات أو تصور حلول للمشكلة العالمية. واستبعادهن، كما يقول التقرير، ممنهجٌ، بما في ذلك الفرق التي تديرها الحكومات حول العالم. يقلق هذا الأمر المنظمة والهيئات والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق المرأة بشكل خاص، خصوصاً أن الصوت يعلو أيضاً في ظل الجائحة، وما نجم وينجم عنها من فقدان فرص العمل لكثيرين وكثيرات، خصوصاً لدى النساء، وانغلاق الحياة والعمل عن بعد وانحباس الأسرة في شقق وأمكنة ضيقة ومغلقة، وما ينجم عنه من مشكلات واضطرابات وجدانية ونفسية وسلوكية، تظهر الإحصائيات أن المرأة هي المتضرّر الأكبر منه، بما تتحمّل من أعباء إضافية بعودتها إلى البيت، وعودة الرجل أيضاً، لكن النمط الجديد للحياة أربك العلاقة التشاركية في البيت، وخلط الأوراق فعادت المرأة إلى الصف الثاني، وصار مطلوباً منها تحمّلُ أعباء إضافية. زيادة على ذلك تنامي ظاهرة العنف الأسري الذي تدفع ضريبته الأكبر، أو تتحمل الحصّة الأوفر منه، وهذا ما نلمسه بوتيرةٍ تتصاعد أخيراً من تذمّر النساء وشكواهنّ، ما يبدو ترفاً غريباً وبعيد المنال لنساء بلداننا.

هذا بالنسبة إلى الدول المستقرّة إلى حدّ كبير، وذات الاقتصادات القوية التي واجهت الوباء، وتحمّلت مسؤولياتها تجاه شعوبها، من خدماتٍ صحيةٍ وتخفيف بعض الأعباء الحياتية لمن تضرّروا بنسبة أكبر، وسعت وتسعى من أجل إيجاد حلول لكل المشكلات التي تنبثق من هذا الوضع الصعب. وهي ترصد وتتابع كل التغيرات التي يفرضها نظام الوباء على الحياة، وما ينجم عنها من مشكلات اجتماعية وسلوكية وغيرها، ولا شك في أن قضية المرأة حاضرة دائماً في الوعي، إن كان لجهة الرأي العام أو لجهة الحكومات وسياساتها. التغيرات الطارئة والكبيرة كحال هذا الوباء والأزمات التي تنجم عنه من الطبيعي أن تضعضع الاستقرار وترجّ قواعد كثيرة ممّا وصلت إليه البشرية في تنظيم نفسها.

وبالنسبة إلى بلداننا التي تعاني من الاضطرابات المزلزلة في أكثر من دولة، ومنها سورية نموذج عن انهيار كل شيء، دولة ومجتمعات واقتصاداً وقيماً، فإن وضع المرأة كارثي بكل معنى الكلمة، فهي كانت مسبقاً قد أجهِضت مسيرتُها التحررية، مثلما أجهض كل مشروع نهضوي ابتدأت به شعوبنا سابقاً، وكل ما حصل أن ضرورات الحياة أخرجتها من بين جدران البيت إلى سوق العمل، من أجل المساهمة في أعباء الأسرة، لكن تحقيقها الدخل لم يواكبه تحرّر إرادتها، وتمكنها في باقي مجالات الحياة، بل حتى إن هناك مناطق في سورية لا تستلم المرأة راتبها بنفسها، بل زوجها، أو أي ذكر في البيت إن لم تكن متزوجة يستلمه عنها. والأدهى أن الزوج يضع الراتب في جيبه، ويمنّ عليها بما تسمّى “خرجيّة”، وهي قانعة وراضخة. دخول ميدان العمل والحصول على شهادات تعليمية لم يحرّر المرأة من الموروث الثقافي الجائر بحقّها، ولم يكن الاتحاد النسائي الملحق، كمنظمة شعبية بالحزب القائد للدولة والمجتمع، يقوم بدور فاعل في هذا المجال، بل صار كغيره يعاني من الترهل والعجز والانجراف في دوّامة الفساد، إلى أن حُلّ منذ عدة سنوات. ومع العشرية الأخيرة، عشرية الدماء والدمار والجوع والتشريد والتهجير والوباء، دفعت المرأة أثماناً باهظة، وانحدرت حياتها وكرامتها إلى دركٍ يبدو أن لا قرار له، فالانحدار ما زال مريعاً. كلنا صار يعرف ما تعاني المرأة السورية في الداخل، وفي مخيمات الذل ودول اللجوء، خصوصاً في الجوار، وقد كانت الحرب قد فرضت عليها مسبقاً، من دون استشارتها في ضرورة الحرب، أن تكون أم الشهيد أو أخته أو ابنته أو زوجته، الشهيد الذي تتحارب على الاستئثار بلقبه العداوات المتنازعة. أمّا حاليّاً، فإنها ما زالت الشريحة الأكثر ضعفاً، على الرغم مما تبدي من قوّة وقدرة على تحدّي وحشية الحياة الحالية، لكونها أماً أو أختاً أو زوجة أو ابنة لأيٍّ من هؤلاء الذين قضوا في هذه الحرب العبثية، أو الذين ما زالوا ينتظرون، أو هي البديل الجاهز ليحل محل تلك الأعداد الرهيبة من المصابين الذين ابتلعت الحرب مستقبلهم، واستبدلت أحلامهم بكوابيس تحكم أعمارهم الباقية.

الفارق أن المجتمع عندما يصل إلى حدّ ما من الوعي والتمسّك بقيم تحفظ له استقراره، فإن أي خلل يقع يستنهض مسعى إلى إصلاحه، والحكومات تحسب حساب شعوبها، لأن للرأي العام وزناً، وعملية تداول السلطة لا يمكن فصلها عن الإرادة والمساهمة الشعبية، بما يتعلق بها من انتخاباتٍ يمارسها أفراد الشعب على أنها حق، قبل أن تكون واجباً. ويفهم ما يعني الصوت بالنسبة إليه، لذلك إن ممثلي الشعب من صانعي القرار يضعون أمر الصالح العام نصب أعينهم، ويفهمون ما معنى أن تنشأ احتجاجات على مستوى القاعدة. بينما في بلادنا الحقوق إمّا غائبة كاملاً، أو منتهكة، وهناك جهل عام بمعنى المواطنة، وتضليل لمفهومها في الخطاب الرسمي، وانتهاك لمكانتها في الممارسة. ما لم ينهض الوعي العام، ويدرك أفراد الشعب معنى المواطنة، لتكون لديهم معرفة دقيقة بحقوقهم الإنسانية قبل كل شيء، لن يُرفع الظلم، لا عن المرأة، ولا عن غيرها، فمجتمعٌ مستعبدٌ تشكّله شخصياتٌ امتثالية، مجتمعٌ مأزوم يعاني أفراده مجتمعين من انخفاض سقف الوعي بالحقوق، ومن ثم بالأحلام والطموحات. وهذا أيضاً من الأهداف المستقبلية التي يجب الاشتغال عليها من دون ربطها بمآل الحرب في سورية، بما تشكل من أهمية في بناء الغد، مهما كان عليه شكل هذه الـ”سورية” وتسمياتها المستقبلية، مع الاحتفاظ بحق الحلم والتمنّي بأن تكون جغرافيّاً كما كانت، المواطنة كعتبة أولى من عتبات المستقبل.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى