في عدم حاجة العلويين لبقاء الأسد/ أدهم حنا
يُثار سؤال في عيد الثورة السورية: متى يتحرك العلويون ضد النظام؟ وما موقفهم اليوم منه؟ في هذا يشعر الجميع بالريبة، وتُفرض خيارات أكثر نحو النظام وبقائه بسبب تجمهر العلويين خلفه.
من الأفضل القول: جمهور العلويين؛ وذلك منعاً للّبس في الفلسفة السياسة، في الفارق بين الشعب والجمهور. فالجمهور هو جزء من الشعب، يحمل اختلافاً عن جمهور آخر؛ أي الجمهور زمرة، والشعب مجموع الزّمر أو المجموعات. كان واضحاً أن الجميع ينتظر أن ينتقل العلويون إلى مكانٍ ما يظهرون فيه كشعب، متوحدين في كيانات أكثر اتساعاً وشمولاً في نقد النظام، أو رفضه. ليس مفاجئاً أن تبدو عصبية طائفية وراء نظام متخلف كالنظام السوريّ، يعيش على هامش من العنف الرمزي، الذي من دونه لا يمكن لعنف مادي أن يظهر.
كان تجييش بعض العلويين فادحاً في الحرب، قروسطية رمزية دينية، عممها قادة وعسكريون علويون، ومن ثم مرتزقة في مليشيات واضحة الغاية والهدف، في وجه شعب أعزل في بداية الثورة. لقد كان حمل السلاح في وجه النظام أكثر ما احتاجهُ ليُشكل حالة ارتزاق عامة ومجنونة انطوى تحتها الكثير من العلويين. نستطيع القول إنه منذ نشوء جذور الحرب الأهلية في الثمانينيات وضرب النظام لمدينة حماة؛ حافظ النظام على هامش من الاعتقادات والألقاب الطائفية التي تتبادلها الجماعات السورية: (العلويون شبّيحة)، (السنة إخوانجيّة)، (المسيحيون أقلية غير لازمة). الحداثة السياسية بمفهومها الطبقي مثلاً، أُقصيت من التداول الاعتقادي لدى السوريين، طفت الثقافة الرديئة للجماعات على حساب الوعي الطبقي والمعيار الاجتماعي الاقتصادي. وعاش العلويون على أنهم مظلومون ومهمّشون، وأنهم محاربون دائماً من دون سلاح في أيديهم، ومن دون قائد مرتزقة. هذا لم يخلُ من بعد منشئي عام للريف السوري الذي حكم سوريا؛ فحتى ثورة الأرياف كانت تحمل طابعاً من طوابع السلطة، في العنف والفوضى والقسوة.
عملياً فقد النظام قسماً كبيراً من جمهور العلويين، منذ العام 2015، كما فقد السيطرة العسكرية على أكثر من نصف البلاد.
النظام لم يتنبه إلى أن جعل الحرب السورية طائفيّة بين صفوف الجيش ستكون رهاناً خاسراً. هنا نما مبدأ كمي؛ مقارنة كمية جعلت العلويين يشعرون بأنهم الخاسرون في حرب لا طائل منها. في صراع الأجساد خسر العلويون أجسادهم، في حربٍ تبنوا فيها، جراء توجهات قادة المرتزقة من ضباط وأمراء حرب، شعارات دينية ضمنية، حاولوا إخفاءها وراء قناع الدولة، والفاشية العسكرية. كان كمّ الأجساد الذي خسروه إنذاراً بحجم التضحيات التي لا يمكن دفع كلفتها، ولا يمكن الاستفادة منها.
فكُسِر النظام جرّاء فشله التكنولوجي في قيادة الحرب؛ إنّ عدم تطوره التقني والمعرفي العسكري، جعل دعايته الدينية القديمة خاسرة أصلاً، والتي لم تخلُ من تحفيز ضمني لصراع العقائد. العنفوان الطائفي وعنفه، والآلية التدميرية التي غرسها في العلويين فشلت في سباق الأبدان والأجساد التي وصلت إلى مرحلة فقدان الوجود. لا يمكن للعلويين تحمل حربٍ يموتون فيها كلهم بلا جدوى. والأكثر إيلاماً؛ بلا تحقيق أيّ قيمة.
لم يعد الجسد العلوي متماهياً مع النظام، ولم يعد قادراً أصلاً على مواجهة أكثرية عسكرية وشعبية. الوصول الروسي جعل النظام قزماً، أكثر من التدخل الإيراني الذي حاول بالعقيدة الجهادية التآخي مع العلويين، الذين اتضح لهم أنه كان يُقصيهم، ويقصي تاريخ أفكار عقيدتهم أيضاً. كان النظام من أجل الكُرسي يضحي حتى باعتقادات الطائفة ورواسخها.
لم يكن النظام يتوقع أبداً، أن تبدو خياراته العسكرية للانتصار على الثورة السورية ناقصة من ناحية التكنولوجيا، أو أن فداحة خسارته للسيادة التي كان يتمتع بها سببها فقر التكنولوجيا، التي ساهم الروس في إغناء جزء منها، من خلال الحرب التقنية والجوية المتمايزة مكانياً عن البشر وعن الصلة بهم. وفي الحقيقة، أنقذ الروس العلويين من التجنيد، وحتى من الحاجة إليهم في المليشيات.
وصولاً إلى العام 2015، كان النظام يفقد الهيمنة العسكرية لصالح إيران ومليشياتها. رافق هذا تنبّه العلويين إلى أن النظام يجرهم للموت فقط.
الدفع بالأجساد المُخلصة المقادة إلى الموت، انتهى منذ تنبه “الأمريكان” إلى أنّ الانتصار في الحروب يتمّ بتقنية عالية وبريئة من الأجساد المشاركة فعلياً والموجودة في ساحة القتال. هذا ما أوصل الروس إلى سوريا؛ فالحداثة العالمية للشر والإبادة أنقذت النظام بتقنياتها من أجل مصالح سياسية لا تُشعر العلويين بقيمتهم، بل تجعلهم أقل معنى، حتى بالنسبة إلى بشار الأسد، والذين تماهوا مع سلامة كرسيه لعشرات السنين قبل تيقظهم.
هنا النظام ذاته تخلى عن العلويين، محولاً قادة العلويين العسكريين والمرتزقة المشغّلين لهم، إلى لا شيء بكل ما للكلمة من معنى، ورغم كل العنف الذي أدخلهم فيه، إلّا أنّهم فشلوا في تحقيق الانتصار له، فأزاحهم، أو حتى طوعهم للقتال في بلدان أخرى كمرتزقة للروس. لم يعد العلويون بالطبع من جمهور الأسد. فهو يُشتَم في الطرق، وتُزاح صوره عن واجهات البيوت؛ ذلك كان ردّ فعل العلويين على الأسد بعد اكتشافهم لما وضعهم فيه. وفي الوقت نفسه، ظهر، خلال سنوات التدخل الروسي، أنّ الروس يبقون على بشار، ويحبون العدو الصهيوني ولا يحموننا منه. لم تعد هناك حجّة لنظام الأسد في مواجهة جمهوره الأكثر التصاقاً. بدا ضعيفاً، وبلا أي قدرة على فعل شيء في البلاد، باستثناء جمع الأموال هو وعائلته.
في إفلاس البلاد، وعدم الحاجة إلى الخوف من الجماعات الأخرى، بدا العلويون اليوم أقل خوفاً، بالتالي أكثر استقراراً لتأمل أوضاعهم وخساراتهم، هل سيثورون؟ ولو ثاروا، لا معنى لهم، النظام لم يعد يعتمد عليهم. لقد فقد العلويون المعنى الذي كانوا يتخيلونه، فالوطن بات مستعمرة، وحديقة لآل الأسد، والطائفة في أسوأ أحوالها المعيشية، أسوة ببقية طوائف الشعب، الذي بات متوحداً طبقياً. ظهر النظام في عيونهم متأخراً، بوصفه مليشيا تتبع إقليمياً دولاً ذات مصالح، ومعيار ثورتهم عليه لن يبدو ذكياً أو حاسماً. لقد تخلى عنهم منذ فشلوا كأداة عنف مسخرة لمعتقدات طائفية يعج فيها المجتمع السوري. محاولة دفع العلويين إلى الثورة لن تكون مجدية؛ سيقتلهم النظام بالمليشيات التي تخيف العلويين أنفسهم؛ مليشيات من أمراء حرب لبنانيين وإيرانيين وقوات روسيّة مدربة ذات أجر عالٍ تُرهب السوريين كلهم. حينما أصبح العلويون -من ناحية طبقية- شعباً، باتت ثورتهم مستحيلة، مثل ثورات بقية الفئات السوريّة. لم يعد العلويون يملكون أجساداً أكثر لتُزجّ في ساحات الحرب، ولا في ساحات الثورة، باتوا وحيدين متأملين فقرهم وذل عيشهم بعد كلّ ما خسروه وضحّوا به، من أجل عائلة تتربع على كرسي لن تقوم عنه، ليس لأنها وطنية أو لأنّ الشعب وراءها، بل لأنّها عالم مليشيوي ينصب الكراسي ويزيلها.
المدن