الفلسطينيون والسوريون.. الأخلاق والسياسة/ رشيد الحاج صالح
ما يميّز مواقف السوريين الأخيرة، ممّا يحصل في فلسطين، أنهم تجاوزوا الخلط المقصود الذي بقي النظام الأسدي يتلاعب به عقودًا، بين الموقف الأخلاقي من قضية فلسطين والتوظيف السياسي للقضية، وذلك بقصد تسويق صورة عن النظام بأنه ممانع ويدافع عن فلسطين، ولذلك فهو أخلاقي ويجب أن يطاع.
هذا التجاوز سبقه تجاوزٌ آخر، عندما اتضح لغالبية السوريين أن الفصائل الفلسطينية التي شاركت في مقتلتهم، على مدى سنوات، هي بالأصل فصائل تابعة للمخابرات السورية، وتنفذ أوامر بشار الأسد بكل بساطة. أي إنها فاقدة حتى لفلسطينيتها. هذه المخابرات خصصت بدورها فرعًا أمنيًا مشهورًا في دمشق، أطلق عليه السوريون والفلسطينيون (فرع فلسطين)، لكثرة الفلسطينيين الذين سُجنوا وعُذّبوا في ذلك المكان.
هذا الفصل بين الموقف الأخلاقي من فلسطين، بوصفها قضية شعب تعرّض، ويتعرض، لعملية تهجير وقتل طوال نحو قرن من الزمان، وبين مزاودات أنظمة المنطقة على هذه القضية، والاستثمار فيها لكي تنشئ لنفسها شعبية مزيفة، أقول هذا الفصل يمكن تحويله إلى طريقة في التفكير السياسي، تحتاج إليها شعوب المنطقة بأسرها، لا السوريون والفلسطينيون فقط. التمييز بين السوريين وحقوق هذه الشعب، وما يعانيه من ظلم وقهر وقتل، وبين نظام ظالم يحكم بالنار والسجون، أمرٌ ليس بالسهل لمن يعيش خارج سورية. فوجئنا كثيرًا بإعجاب العرب، في باقي الدول العربية، عندما نلتقي بهم، بنظام الأسد “الصامد”، ولكنا كنّا نقول في قلوبنا: “اللي يعرف يعرف واللي ما يعرف يقول كفّ عدس”. العراقيون أيضًا كثيرًا ما تفاجئوا بإعجاب عرب كثر بشخصية صدام حسين.
حتى السوريون في السبعينيات والثمانينيات كان يخالجهم شعور بالذنب، حين يقفون ضد نظامهم الأسدي الذي “يعتبر” قضية فلسطين قضيته الكبرى. الأمر الذي جعلهم يقبلون، عن طيب خاطر، بسردية الأسد الممجوجة التي كانت تؤجل الحقوق والحريات لحين تحرير الأرض العربية وتحقيق الوحدة. لدرجة أن الفكرة الميكيافلية التي تقول بأن الناس يجب أن يقفوا مع حكّامهم إذا كانوا يدافعون عن الوطن في وجه الطامعين، مهما بلغ هؤلاء الحكام من سوء، تحوّلت إلى عقدة العقد ليس لدى السوريين فقط بل عند كل العرب.
يساعد المنظور الأخلاقي، كلًا من السوريين والفلسطينيين، في حلّ كثير من تناقضات وأحاجي السياسة الأسدية. ويساعدهم في فهم لماذا كان النظام الأسدي يُعدّ من أكبر “المدافعين” عن فلسطين، وهو في الوقت نفسه أكبر نظام أجرم بحق الفلسطينيين. هو أكبر نظام يطالب بالوحدة العربية، وفي الوقت نفسه أكبر نظام عمل على تفريق الفلسطينيين لنحو خمسين سنة، ولم يمنحهم الجنسية العربية السورية، على الرغم من أن أحد أصدقائي الفلسطينيين عاش في سورية أكثر من سبعين عامًا، متناسيًا ألف باء أيديولوجيته التي تريد جمع جميع العرب في جنسية واحدة.
ويساعدهم أيضًا في فهم كيف أن المطبّعين مع إسرائيل اليوم هم أكثر من يعمل على تسويق نظام الأسد، دوليًا وإقليميًا. وكيف أن النظام الأسدي يريد تحرير فلسطين، وهو لا يردّ على قصف إسرائيل المستمر لعاصمة الأمويين منذ سنوات. كيف أنه يريد تحرير فلسطين، على الرغم من أن حقد الأسد الأب على ياسر عرفات لا يُعرف له حدّ، لأن الأخير حاول توحيد الكلمة الفلسطينية، حتى يخال المرء أن الأسد الأب مات وهو يوصي ابنه بأحقاده عليهم.
الطريف هنا أن نظام الأسد استخدم الطائرات الحربية ضد الفلسطينيين منذ السبعينيات والثمانينيات، أي قبل استخدامه للطائرات ضد السوريين بفترة طويلة. للسوريين ميزة على الفلسطينيين أنهم أجبروا الأسد على استخدام السلاح الكيمياوي ضدهم، وهو السلاح الذي لم يستخدمه ضد إسرائيل.
ليس من الواضح مصير الأمور في حيّ الشيخ جراح المقدسي، بعد الهدنة. ولكنّا نعرف أنها لن تكون أسوأ من تدمير النظام لمخيم اليرموك وباقي المخيمات الفلسطينية في لبنان. نعرف أن إسرائيل تتآمر مع المستوطنين ضد سكان الحي العرب الأصليين، ولكننا نعرف أن سكان الحي لن يموتوا في السجون قهرًا وتعذيبًا، كما حصل لفلسطينيين كثيرين في فروع المخابرات السورية. إسرائيل تقصف غزة وتدمّر البيوت فوق رؤوس سكانها، لأنها تعرف أن النظام السوري وسيّده الإيراني وأيضًا المطبّعين لن يفعلوا أي شيء لفلسطين. فلسطين بالنسبة إلى النظام ليست موضوع مزاودة، بل هي أيضًا موضوع تتعلم منه كيف ستتعامل إسرائيل معه في المستقبل. حتى القصف الإسرائيلي المتكرر لمواقع إيرانية في سورية، والذي يفهم منه أنه ضد أي دعم إيراني مستقبلي لفلسطين، حتى هذا القصف يتجاهله النظام الأسدي بشكل تام، لأنه قصف موجه ضد فلسطين، وليس ضده كنظام. هذا إذا سلّمنا بأننا ننظر بسذاجة إلى الوجود الإيراني في سورية.
لم نسمع يومًا أن إيران أو سورية، وهما أهم حليفين لروسيا في المنطقة، طلبتا من روسيا أن تتدخل لدى إسرائيل من أجل وقف القصف الإسرائيلي، كأن تمرّر روسيا -مثلًا- رسالة لإسرائيل، بأنها ستمنح تلك الدوليتين أسلحة متطورة، كانت إسرائيل قد وضعت “فيتو” عليها قبل سنوات، في حال لم يتوقف القصف أو يتم التوصل إلى هدنة تراعي المطالب الفلسطينية. حتى روسيا لا يمكن أن تتوقع مثل هذا الطلب أصلًا، لأنها تعرف أن هذه الأنظمة لا تفكّر إلا في مصالح حكامها.
مشكلة النظام الأسدي مع الفلسطينيين بعد عام 2011 هي شعوره بالغدر من قبلهم، لأن غالبيتهم انحاز إلى جانب الثورة السورية، وعدّها ثورته، على اعتبار أن الظالم واحد وأن لا فرق بين المظلومين. القلة التي اعتبرت أن الفلسطينيين السوريين وقفوا مع النظام هم، في الحقيقة، يريدون الوقوف مع النظام، سواء وقف معه الفلسطينيون أم لا، رسّخ النظام في ذهنهم أن الفلسطينيين موجودون في الذهن البشري كموضوع “للمزاودة”، أي من أجل غيره. أما وجودهم لذاتهم وبذاتهم فليس له أي قيمة. القلة الفلسطينية التي وقفت مع النظام كانت ستقف مع أي حاكم أو تاجر يُقدّم لها بعض المكاسب. المعنى أن موقف المؤيدين للنظام لا أخلاقي بالدرجة الأولى.
موقف السوريين من النظام الأسدي، والفلسطينيين من إسرائيل، موقفٌ أخلاقي، من حيث القيم الأخلاقية الحديثة التي تقوم على احترام الإنسان وحقوقه وحرياته. من القواعد الأساسية التي أسس لها النظام للحفاظ على نفسه أطول فترة ممكنة، تدميرُ الأخلاق العامة في المجتمع السوري. وهذا يعني أن هناك “استحالة أخلاقية” بأن يقف النظام السوري مع الفلسطينيين، أو حتى يتعاطف معهم، مثلما هناك استحالة بألا يقف كلّ سوري مؤيد للثورة السورية مع الفلسطينيين في مواجهتهم القتل والتهجير.
موقف النظام الأسدي من فلسطين غيرُ أخلاقي، ولم يكن يومًا أخلاقيًا، لأن النظام الأسدي يعتبر “لا أخلاقيته” إحدى مصادر قوته التي يستخدمها ضد السوريين والفلسطينيين واللبنانيين. وشعاره غير المعلن في التعامل مع هؤلاء “إللي ما يخاف من الله خاف منو”. معاركه مع إسرائيل، بعد عام 1973، إذا صحت تسميتها معارك، يقوم بها عن طريق وكلاء، لهم أهداف طائفية يتم التمويه عليها بالقدس، حتى بات طريق القدس يمرّ من جميع المدن السورية، وربما في المستقبل من جميع المدن اللبنانية.
أما معاركه مع الفلسطينيين فيقوم بها بنفسه، وبدون وكالة. وهدفه من المعارك التي خاضها ضد الفلسطينيين أو من أجلهم واحد، وهذه أيضًا إحدى المفارقات التي فهم السوريون والفلسطينيون خلفياتها، وهو السيطرة على الورقة الفلسطينية لعرضها في سوق السياسة.
مركز حرمون