حقيبتا «جان جينيه» السرِّيَّتان تكشفان عن نفائسهما
ترجمة: حياة لغليمي
أيّام قليلة قبل وفاته في عام (1986)، عهد «جان جينيه» إلى محاميه وصديقه «رولان دوما» بحقبتَيْن ثمينتَيْن تمتلأان بالمسَوَّدات، من ضمنها سيناريو فيلم، كان «جينيه» قد كُلّف بإنجازه من قِبَل «دافيد بووي». هذا الكنز، الذي تنازل عنه لفائدة «معهد ذاكرات للنشر المعاصر»، يُعرَض، أخيراً، للجمهور، في مقرّ المعهد في «دير أردين»، غير بعيد عن مدينة «كون».
كان الكاتب والشاعر والمسرحي الفرنسي «جان جينيه» دائم الحرص على الاحتفاظ بحقيبتَيْه، وعدم التفريط بهما. أمّا عن محتوى الحقيبتَيْن فكان يتمثَّل في تدوينات نفيسة كتبها، بخطّ اليد، هذا الكاتب المتشِّرد الذي أمضى حياته دون أن يمتلك مكتباً، ودون أن يكون له مقرّ إقامة دائم، بل ظلّ، طيلة حياته، يتنقَّل بين غرف الفنادق هنا وهناك. وبعد مرور أربعة وثلاثين عاماً على تسليمها لمحاميه وصديقه «رولان دوما»، ها هو «معهد الذاكرات للنشر المعاصر» (IMEC) يعرض، أخيراً، هذه الكنوز في «دير أردين»، بالقرب من مدينة «كون». وكان من المقرَّر افتتاح المعرض في 30 أكتوبر (2020)، قبل أن يتمَّ تأجيله بسبب الظروف التي صاحبت انتشار جائحة «كورونا».
ولإدراك الأهمِّيّة الاستثنائية التي تحظى بها محتويات هاتَيْن الحقيبتَيْن، لا بدّ لنا من أن نستحضر أن الكاتب أكَّد، في منتصف الستينيات، أنه تخلّى عن الكتابة نهائيّاً. غير أن هذه المسَوَّدات تبيِّن أنّ الأمر لم يكن كذلك؛ فالكتابة تفيض وتتدفَّق، ولا يملك أن يحتويها، «وجينيه يكتب رغماً عنه ويكتب في كلّ مكان»، وفي كلّ وقت: على أوراق الصحف، وعلى أوراق الرسائل التي توفِّرها الفنادق، و«حتى على أوراق تغليف السكَّر»، كما يقول «ألبير ديشي»، الباحث المتخصِّص في أعمال «جينيه»، وأمين المعرض، وهو يحتفظ بكلّ شيء، مكدَّساً في حقائبه. إن الكشف عن هذه الوثائق غير المنشورة، والتي تتيح لنا النظر إلى نهاية حياة «جينيه» من زاوية مختلفة، لهُوَ حدث كبير.
ما الذي تحويه هاتان الحقيبتان؟
– في المرّة الأولى، التي فتح فيها أمين المعرض «ألبير ديشي» الحقيبتَيْن، كان يحاول تمالك نفسه من شدّة التأثُّر؛ فقد رأى «مغارة علي بابا صغيرة، وفوضى من المسَوَّدات بجميع أنواعها دفاتر من أيّام الدراسة، قصاصات صحافية دُوِّنت على هوامشها بعض الملاحظات، (…) ملصقات، منشورات، صحف خاصّة بحركة «الفهود السود». ثمّ كلّ هذه التدوينات، ما لا نهاية من التدوينات (…) هذه المادّة السير الذاتية التي ينهل منها لكتابة مؤلَّفاته». في هذه الفوضى، يمكن العثور على مقالات عن موسيقى الجاز، أو عن اليابان، ومشاريع كتب عن منظَّمة الفصيل الأحمر المسلَّح، وعن التمرُّد في السجون، وعن حزب الفهود السود، والعديد من المخطوطات التحضيرية لرواية «جان جينيه» التي نُشِرت بعد وفاته، تحت عنوان «أسير عاشق»، ثم تدوينات متناثرة من يوميّاته التي تَمَّ جمعها كاعتراف وحصيلة للحياة التي عاشها.
ولكن حقيبتَيّ الشاعر، الذي عاش على الهامش، ولم يغادر الأحياء الفقيرة، تحتويان، أيضاً، على سيناريوهين سينمائيَّيْن لم يتمّ نشرهما؛ الأوَّل بعنوان «إلهيّة – Divine» والثاني بعنوان «الليل – Nuit»، ومن المرجَّح أن يجد هذان العملان طريقهما للنشر قريباً، إذا وافق على ذلك «جاكي ماغليا» المكلَّف بتنفيذ وصيّة «جينيه». ويُعَدّ سيناريو «إلهيّة» مثيراً للاهتمام، بشكل خاصّ؛ فهو اقتباس سينمائي لرواية «جينيه» الأولى، «نوتردام دي فلور – Notre-Dame des fleurs»، التي صدرت في عام (1947). وقد كُتب هذا الاقتباس في منتصف سبعينيات القرن العشرين بناءً على طلب «دافيد بووي»، الذي كان يحلم بلعب دور البطولة في الفيلم. وقد تَمَّ التخلّي عن المشروع، الذي سمع عنه الكثيرون، دون أن يكون لدىَ أيٍّ منهم دليل على وجوده بالفعل، بسبب نقص في التمويل.
كيف تمكَّن «رولان دوما» من الحصول على هذا الكنز؟
– التقى «رولان دوما» بـ«جان جينيه» في أوائل الستينات، وقد حصل التفاهم سريعاً بين «المحامي الذي يتهافت المثقّفون على الاستفادة من خدماته» وبين «شاعر المعدمين». إذ من المعروف عن الرجلَيْن حبّهما المشترك للفنّ وللعالم العربي، وشغفهما، أيضاً، بتجاوز الحدود التي يقف عندها الآخرون عادةً. وبعد عشرين عاماً (في نيسان/أبريل «1986»)، كان «جان جينيه» منهمكاً، بكلّ طاقته، في العمل على رواية «الأسير العاشق»، مع أنه كان يستشعر، وهو في الخامسة والسبعين من العمر، بأن سرطان الحنجرة، الذي كان يعاني منه، ما كان ليمهله طويلاً، حيث وافته المنيّة في الخامس عشر من (نيسان/أبريل)، في غرفته في فندق بمدينة «باريس».
ذهب، إذاً، إلى منزل «رولان دوما» في جزيرة «سان لوي»، وهناك «وضع على المكتب حقيبتَيْن؛ واحدة مصنوعة من الجلد الطبيعي الأسود، والأخرى من الجلد الصناعي بنِّي اللون»، كانتا محشوَّتَيْن بتدوينات مكتوبة بخطّ اليد، ظلّ «جينيه» حريصاً على الاحتفاظ بهما، ثم توجَّه إلى صديقه قائلاً: «رولان، إليك كلّ أعمالي التي هي في طور الإنجاز، تصرَّف بها كما تريد!». مكثت هاتان الحقيبتان لمدّة (34) عاماً، لا أحد يدري بوجودها في مكتب المحامي الذي كان ينوي نشرها بنفسه في البداية، قبل أن يوافق، أخيراً، على مشاركتها مع آخرين، وفي نوفمبر (2019)، تبرَّع بهما إلى «معهد الذاكرات للنشر المعاصر»، وهناك تَمَّ الكشف، أخيراً، عن كلّ ما تحتويانه من كنوز، أمام الجمهور.
ما الذي كتبه «جينيه» بعد أن توقَّف عن الكتابة؟
– بين آخر إصدار نُشِر له، وهو مسرحية «المَساتِر» التي نشرت عام (1961)، ووفاته التي كانت في سنة (1986)، مرَّت خمس وعشرون سنة، وطوال هذه المدّة كلّها، لم ينشر «جينيه» أيّ شيء. صحيح أنه كان يحرِّر بعض المقالات والبيانات؛ نظراً لأنه كان، دائماً، يدعم نضال الأقلِّيّات والمستضعفين، كحركة «الفهود السود»، والمقاومة الفلسطينية…
اللافت لدى «جينيه» هو أنه في الوقت الذي بدأت فيه مسرحيَّاته تحقِّق له شهرة عالمية واسعة، وبعد انتحار رفيقه «عبد الله بنتاجا»، فنّان السيرك المغربي، بدأ الكاتب ينبذ الأدب، ويؤكِّد، أنه قد تخلَّى عن الكتابة، وأنه لن يلمس قلماً بعد ذلك.
إلامَ يصير كاتب هجَرَ الكتابة إلى غير رجعة؟ ماذا يصبح؟ بمَ يمكن تسميته؟ «ذلك هو السؤال الجوهري الذي تجيب عنه الحقيبتان، بشكل من الأشكال»، بحسب اعتقاد أمين المعرض. إنهما تشهدان على أن قريحة «جينيه» لم تجفّ، ولم ينضب معينها؛ «فرغم أنفه، ورغم ركونه إلى الصمت، غمرته الكتابة كالموج. الكتابة أقوى منه. والحقيبتان تَشِيان بسرّ هذه المعركة الفريدة من نوعها، التي انتهت بانتصار الكتابة على الكاتب». الكتابة انتصرت بالفعل؛ لأن «جينيه» سَلَّم في شهر نوفمبر، سنة (1985)، لدار النشر «غاليمار»، روايته «أسير عاشق»، وهي الرواية التي سجَّلت عودته إلى الأدب، ليحكي فيها عن نضالاته، ويتساءل عن مساره؛ كونه منحرفاً سابقاً، بدأ ممارسة الكتابة داخل أسوار السجون. هذا الكتاب الذي ترك مسَوَّدات تصحيحه على طاولة بجانب سريره، سيعرف، أخيراً، طريقه للنشر في شهر مايو/أيار، سنة (1986)، بعد مرور شهر واحد على وفاة صاحبه.
«هذا الكتاب هو سرد لأسفاره وتنقُّلاته الكثيرة لتتبُّع حركة «الفهود السود» في الولايات المتّحدة ومساندتها، ثمّ في الشرق الأوسط، بشكل خاصّ، حيث حَلَّ في عام (1970) لدعم القضية الفلسطينية»، كما يقول «ديشي». وهو لم يذهب إلى هناك بصفته مؤلِّفاً زائراً، بل بصفته مسافراً وحيداً يعبر الشرق الأدنى (الأردن ودمشق ولبنان والأراضي المحتلّة)، ويقضي فيه حوالي العامَيْن. وقد أقام «جينيه» في المخيَّمات، لأنه أخذ على عاتقه مهمّة تأليف كتاب لدعم النضال الفلسطيني، وهو ما سيتحقَّق من خلال نصّ سمّاه «جينيه» «رحلتي إلى الشرق». هل ينتمي هذا النصّ إلى أدب الاستشراق الذي يتغذّى على الغرائبية والمناظر الطبيعية؟ ألا يكون «جينيه»، في حقيقة الأمر، مجرَّد كاتب فرنسي مفتون بالشرق، الذي سكنه منذ طفولته، خاصّةً أنه كتب في «يوميّات لّص»: «لقد كانت طفولتي تحلم بأشجار النخيل»؟، يتساءل «ديشي» قبل أن يخلص إلى أن رواية «أسير عاشق» تمثِّل رائعة «جينيه» الأهم، لأنها نصّ أدبي «مصنوع من نسيج أحلامه»، بلغة «شكسبير»، وعمل سياسي لصالح الفلسطينيين، كتبه كاتب فرنسي عظيم لا يمكن أن نجادل في قيمته ومكانته، في الوقت نفسه، وهو المؤلِّف الذي يبقى، مع ذلك، على الهامش والذي لم يعثر لنفسه على وطن في أيِّ مكان كان ينتقل إليه، والذي سيقيم، نتيجة لذلك، علاقة خاصّة مع هذا الشعب المرَحّل الذي هو الشعب الفلسطيني».
تجدر الإشارة، في النهاية، إلى أن هذا المعرض قد تُوِّج بإصدار كتاب تحت عنوان «حقيبتا جان جنيه» عن «معهد ذاكرات للنشر المعاصر»، ويضمّ الكتاب مسَوَّدات «جان جينيه»، بعد أن وُضِعت في سياقها من طرف «ألبير ديشي». كما ستنشر بعض النصوص من الحقيبتَيْن في كُتَيِّب عن «دار ليرن» المرموقة والمتخصِّصة في إنجاز مونوغرافيات عن كبار الكُتّاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لور نارنيون
العنوان الأصلي والمصدر:
Les valises de Jean Genet s’apprêtent à révéler leurs trésors