مراجعات الكتب

عندما قال حافظ الأسد لخدام:أنت لا تشتاق لأحد؟/ عمر قدور

خلال الأسبوع الأخير من نيسان والأسبوع الأول من أيار الحاليين نشرت جريدة الشرق الأوسط فصولاً من مذكرات عبدالحليم خدّام، الاسم الذي لا بد أن يثير الفضول لدوره في “الحياة السياسية” السورية، والمدة الطويلة التي قضاها في كواليس حكم البعث ثم الأسد الأب. وكما هو معلوم انتهت مسيرته بالعلاقة السيئة بينه وبين بشار، ومن المرجح أن يكون قد طُلب منه الاستقالة من مناصبه الحزبية والحكومية عام 2005، ليغادر البلاد عبر لبنان بذريعة العلاج في الخارج، وليستقر في فرنسا. ثم خاض تجربة قصيرة من “الانشقاق” عن ماضيه، بدءاً من اتهامه بشار الأسد باغتيال الرئيس الحريري، وصولاً إلى تحالفه مع الإخوان المسلمين ضمن جبهة الخلاص، التحالف الذي كان أقرب إلى إعلان رمزي لم يعقبه أي فعل.

الفصول التي انتهت الجريدة من نشرها لا تستغرق المذكرات كاملة، إلا أنها كافية لإعطاء صورة عنها، حتى لو لم تكن قد خضعت بعدُ للتحرير والتبويب، ولم يُراعَ في نشرها التسلسل الكرونولوجي للأحداث أو سواه من أنواع الروي. من ذلك أن هذه المقتطفات تؤكد على خيبة أمل سابقة ترافق شهادات مماثلة، إذ لا يفاجئنا صاحبها بلغة مغايرة لما اعتدنا عليه من أركان النظام، ليعزز فكرة القطيعة مع الأخير لأسباب لا تتعلق بجوهره، إلا عندما يتفاقم جوهر الاستئثار بالسلطة ليطرد أقرب المقربين.

في أحد الأمثلة، لا يقدّم خدّام مراجعة لتفضيلاته الخاصة أثناء صراع النصف الثاني من الستينات بين رفاقه في الحزب. هو يشير إلى معرفته بحافظ الأسد منذ أيام الدراسة في نهاية الأربعينات، ويشير إلى زمالة دراسة وصداقة جمعته بصلاح جديد، فضلاً عن الصداقة بين عائلتيهما إلى حد أن أم صلاح جديد توسطته عند ابنها ليعين صهرها حسن خلوف في وظيفة ما. يرفض صلاح جديد تعيين صهره في أية وظيفة ليبعد عن نفسه شبهة استغلال موقعه، وهذا أهم ما في المقارنة التي يسوقها خدام بين حافظ الأسد وخصومه في الحزب، فهم “أي الخصوم” غير مشكوك في نزاهتهم الشخصية، من دون أن يقدّم لنا تبريراً مباشراً لانحيازه في ذلك الصراع إلى جانب الأسد، بل مشاركته مع اثنين آخرين في كتابة الكلمة التي سيلقيها الأسد في مؤتمر الحزب منتقداً خصومه، ثم مشاركته في اجتماع عقب انقلابه لتسميته رئيساً للوزراء واختيار رئيس شكلي هو أحمد الخطيب الضعيف الذي كان خارج اللعبة في منصب هامشي هو نقيب المعلمين.

في روايته المختصرة لأحداث تلك الحقبة، يكرر خدام الصورة التي أُشيعت حتى باتت نمطية عن الصراع داخل البعث، وبموجبها هناك تيار يساري متشدد يقوده صلاح جديد، تيار لا يحظى بقبول محلي من شرائح واسعة ترفض التوجه اليساري، مع وجود شرائح لا يريحها العداء الذي يعلنه هذا التيار تجاه المحيط العربي. بينما على العكس كان لدى حافظ الأسد وحلفائه رؤية مغايرة تنص على الانفتاح على الداخل السوري وكذلك على المحيط العربي، ربطاً بمتطلبات المعركة “القومية” مع إسرائيل، رغم أن هذا الانفتاح لا يلحظ على نحو خاص أو ودي المقاومة الفلسطينية الصاعدة آنذاك لتمثّل الفلسطينيين “أصحاب القضية” قبل اعتراف جامعة الدول العربية بذلك. بدءاً من الثمانينات كان بعض الكتّاب المدفوعين من الأسد الأب قد تولوا ترويج صورة انفتاحه لاختراع سبب وجيه لانقلابه، وفي هذه السردية استُغل الترحيب الذي ناله من بعض الشرائح الناقمة على الوضع، وغايتها المبطنة أن الأسد “رغم سوئه وفساده” كان خياراً أفضل من بقاء صلاح جديد، مع التلميح إلى دور الأخير كمؤسس لطائفية النظام.

في الحلقة الأخيرة، حسب ترتيب النشر، ينتقد خدام حقبة الأسد الأب الذي بتعبيره “حوّل الجمهورية الديموقراطية التي نصّ عليها الدستور إلى دولة ديكتاتورية”، ناسياً أنه قبل قليل أورد فقرات من الدستور ذاته تمنح “الرئيس” تفويضاً لا مثيل له في أي دستور آخر لدولة ديموقراطية أو شمولية! وكمشارك رئيسي في المستوى السياسي للسلطة، لا يذكر ما جعله مستمراً في مناصبه على الرغم من انتقاداته هذه. بل إننا لا نجده يقوم بأدنى مراجعة لأدائه المفتقر للدبلوماسية، كما هو الحال في اجتماع مكتب التنسيق لحركة عدم الانحياز، إذ يذكر كيف خاطب عرفات “على خلفية اندلاع الحرب اللبنانية آنذاك” قائلاً: كذبتَ يا ياسر، كعادتك، وأسأت إلى سوريا وإلى القضية الفلسطينية. لينهي كلامه مهدِّداً: ستدفع ثمناً غالياً لقاء تآمرك على لبنان وفلسطين وسوريا.

هكذا كان خدام، حتى لحظة كتابة مذكراته، لا يجد ضرورة لمراجعة قناعته بأنه يعرف مصلحة الفلسطينيين أكثر من عرفات “المتآمر” على فلسطين! بمعنى أن “تنمّره” على عرفات نابع عن قناعة بأحقية نظامه بتمثيل القضية الفلسطينية، يُضاف إلى ذلك ما يبدو أصيلاً في تعاطي نظام الأسدين مع قوى الخارج، فهو يحتقر الضعفاء “من فلسطينيين ولبنانيين” ويمارس سطوته عليهم كلما أتيح ذلك، بينما تحضر الدماثة الدبلوماسية بأبهى حالاتها في المفاوضات مع الإيرانيين في عهد الأب والابن. وحتى في تلك الفترة من تدخل الأسد في لبنان، نحظى في كتاب “السلام المفقود” لكريم بقرادوني بشرح أوفى لتعاطي الثنائي خدام-الأسد مع الزعامات اللبنانية. ومن ناحية الإيجاز المعبِّر ربما كان مصطفى طلاس سبّاقاً، إذ شرح في أكثر من اجتماع محلي واسع سياسةَ الأسد في لبنان آنذاك بأنها ضربُ كل من يرفع رأسه، مع استخدامه ألفاظاً ذكورية بذيئة تجاه الجميع ومنهم عرفات.

بالمقارنة، كانت في مذكرات طلاس مادة أكثر تشويقاً وشعبية، من قبيل بطولة حافظ الأسد في النطح أثناء وجوده في الكلية الحربية، وتلك الفضائح عن غراميات المسؤولين أو مصاحباتهم لنساء ضمن دائرة السلطة نفسها، ومن ضمنها قصص الخيانات الزوجية للجنسين. سُحب الجزآن من التداول إثر نشرهما في عهد حافظ الأسد، وخسر السوريون فرصة نشر الأجزاء اللاحقة ومعرفة المزيد من القصص، ولو على سبيل الثرثرة وعلى غرار ما تقدمه صحف التابلويد.   

بالطبع لا تخلو مذكرات خدام من معلومات غير متداولة، مثل دعوة ماهر الأسد الرئيس رفيق الحريري إلى زيارته عندما يذهب إلى دمشق، كرسالة ودية خبيثة لطمأنته كي لا يغادر لبنان بينما يجري الإعداد لاغتياله. ثمة إشارة أيضاً إلى انحياز حافظ الأسد “المبكر” إلى حزب الله، بينما كان ضباطه في لبنان يفضّلون حركة أمل. وهو، على غير ما هو شائع عن حافظ الأسد، يصفه بأنه كان سريع التأثر بأفراد عائلته. لكن، إجمالاً، كان من المفيد لو لم يكتب خدام مذكراته بعقل النظام، لو أنه كتبها بعقل المنشق عنه، فحينها لن يستفيض في تلك الشروحات النظرية البعثية المنشأ، وسيجد متسعاً ليشرح لنا “على سبيل المثال” علاقته بحافظ التي يصفها بالجيدة أحياناً والمتوترة أحياناً أخرى، وليصارح القارئ بأسباب ذلك التوتر، وما إذا كان ينتهي كل مرة باتصال من حافظ الأسد قائلاً له: أنت لا تشتاق لأحد؟

المدن

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button