عن معضلة بناء الدولة في سورية والمشرق العربي/ برهان غليون
في سعيهم إلى تفسير إخفاق بناء الدولة في المشرق العربي، يركز باحثون عديدون، كما في كل ميادين التأخر في الواقع، على عناصر الإرث القديم من الثقافة السلطانية والدينية التقليدية والتعدّدية الإثنية أو البنية العشائرية الطائفية والقبلية. تسعى هذه المقالة، في المقابل، إلى التركيز على العوامل الجيوسياسية والاستراتيجية التي لعبت الدور الحاسم في المنطقة، من دون تجاهل دور العوامل الأخرى. ولا يعكس الولاء الثابت الذي أظهره أهل المشرق لقضية فلسطين والتفافهم حول الانتفاضة الفلسطينية هذا الشهر (مايو/ أيار 2021) إلا شعورهم العميق بمركزية هذه القضية في رسم مصير المشرق، ومساهمة حروب توطين إسرائيل وتأمينها أيضا في صنع تاريخ هذا الإخفاق. وما من شك أن الوضع قد تجاوز الفشل في ضمان حق شعوبها في تقرير المصير إلى تقويض شروط وجود الدولة ذاتها، بوصفها تجسيدا لإرادةٍ سيّدةٍ عمومية، ومركز سلطة جامعة سياسية وقانونية وأخلاقية، وتقدّم حكم المليشيات وأمراء الحرب على أقطار عديدة. لذلك، على الرغم من مرور أكثر من قرن على ولادتها، لا تزال القضية الفلسطينية تشكل لبّ المسألة الشرقية الجديدة، تماما كما تشكل الكارثة السورية امتدادا دراماتيكيا للنكبة الفلسطينية.
الدولة والسيادة والشرعية
شكلت سورية الطبيعية، بموقعها الجيوسياسي، كنقطة تقاطع وتواصل بين القارّات الثلاث وحضاراتها، مركز جذبٍ دائم للإمبراطوريات الكبرى، منذ تكوين الدولة في منطقة الهلال الخصيب. وباستثناء الحقبة التي أصبحت فيها مركز إمبراطورية مستقلة، على إثر الفتوح الإسلامية، كان المشرق الآسيوي، على مر التاريخ، عرضةً لغزوات واجتياحات متقاطعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب. وقد تضاعفت أهميته الاستراتيجية منذ القرن الثامن عشر مع تشكل الامبراطوريات الاستعمارية الحديثة، والتنازع فيما بينها على السيطرة على الممرّات والمعابر والمرافئ القارّية. لكن السيطرة عليه تحولت إلى هدفٍ مركزيٍّ للدول الكبرى مع شقّ قناة السويس طريقا مائية استراتيجية، ثم اكتشاف النفط بكمياتٍ كبيرةٍ في الجزيرة العربية والعراق، وعودة الاهتمام بالإرث الديني الرمزي الذي أحيا، بشكل أو آخر، أجواء الحروب الصليبية مع تجدّد الصراع على فلسطين، بدعم كلي من الغرب، والذي زاد التهابا بعد الإعلان الأحادي الجانب عن قيام إسرائيل عام 1948، دولةً يهوديةً خالصة، لا دولة مواطنيها، وتبنّيها سياسةً عنصريةً، تهدف إلى إحلال سكان جدد محلّ السكان الأصليين المطلوب اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم بأي وسيلة.
ونظرا إلى حالة التخلف السياسي والاقتصادي الكبير الذي عاشته المجتمعات العربية خلال فترة الاحتضار العثماني الطويل، تحوّل عموم المشرق بسهولة، بعد هزيمة الدولة العثمانية وانهيارها، إلى منطقة تقاسم للنفوذ، حتى تطابقت خريطة تشكيل دوله الحديثة مع خريطة تقاسم السيطرة الدولية على أجزائه المقطّعة الأوصال، وربطها، بموافقة نخبها المحلية الضعيفة أحيانا للأسف، بالأحلاف الأجنبية. وهذا أهم ما عبّرت عنه اتفاقية سايكس بيكو السيئة السمعة، فلم تعكس هذه الخريطة الجيوسياسية الجديدة تطلعات شعوب المنطقة، ولا عبّرت عن إرادة شعوبها، أو عن الديناميكيات الداخلية، أو حتى الإقليمية العميقة، بمقدار ما جاءت استجابةً لمخطّطات استراتيجية، وتجسيدا لتوازنات قوى ومصالح دولية، حتى بدت وكأنها صيغت من أجل تفكيك بلاد الشام أو سورية الطبيعية، بشكل خاص، وتحطيم وحدتها، فكانت أكبر ضحاياها المملكة الفتيّة التي أعلنها الوطنيون العرب على كامل حدود سورية الطبيعية، بعد ان أخلفت بريطانيا وعودها في إنشاء المملكة العربية على كامل الأراضي الناطقة بالعربية في غرب آسيا.
ومنذ ذلك الوقت، سوف تتحكّم هذه الجغرافيا السياسية الجديدة بالتحولات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المقبلة، وتعمل على إعادة تشكيل القوى الاجتماعية وتوزيع الموارد المادية والرمزية، وتكوين النخب السياسية وأيديولوجياتها وعلاقاتها مع شعوبها، وهامش استقلالها، وموقع كل منها في التوازنات الإقليمية والدولية، ومن ثم اتجاهات تطورها في المستقبل. ما يعني أيضا إطلاق ديناميكيات مختلفة كليا عن التي وحّدت النخب المشرقية، وعزّزت دورها في حقبة انحسار الهيمنة العثمانية، وصعود موجة الاستعمار الغربي منذ بداية القرن الماضي.
وقد عكست هذه الخريطة جوهر الصراع الذي لم يحسم حتى اليوم بين الوطنيين السوريين والعرب من جهة والسياسة الغربية التي مثلتها في تلك الحقبة حكومتا بريطانيا وفرنسا، وتمثّلها اليوم بشكل أكبر الولايات المتحدة من جهة أخرى، فلم ينبع هذا الصراع من خلافاتٍ حول الهوية القومية أو الوطنية، ولا على رفض الاعتراف بالتمايزات الدينية والإثنية داخل مشروع المملكة العربية، ثم الدولة السورية الفيصلية، ولا على رفض العرب التحالف مع بريطانيا وفرنسا وبعدهما الولايات المتحدة، ولا على طبيعة نظام الحكم. كان الخلاف على نقطة وحيدة، لكنها حاسمة، لأنها تكمن في جوهر بناء الدولة وأساس تقدّمها، هي مسألة السيادة.
وتعني السيادة، بأبسط العبارات، صفة السلطة التي لا سلطة فوقها في نطاق دائرة ممارستها على أراضي الدولة المعترف بها، بصرف النظر عما إذا كان مصدر هذه السيادة الشعب أم إرادة النخبة الحاكمة ذاتها، فالسلطة السيدة هي التي تضع القاعدة السياسية، وتسنّ القانون وتوزّع السلطات، وتحدّد لكل منها صلاحياتها، وتشكل مرجعيتها، بما في ذلك سلطات المجتمع المدني. وهذه الخاصية المرتبطة بسلطة الدولة، والتي تجعلها مختلفةً عن كل السلطات وفوقها جميعا، هي التي تمكّنها من أن تنظم العلاقة بين جميع السلطات الأخرى، وتبث روح الاتساق والانسجام والتعاون فيما بينها في سبيل تحقيق غايات المجتمع وتطلّعاته.
وفي هذه النقطة يكمن الفرق بين الدولة السورية الأولى التي ولدت بقرارٍ من المؤتمر السوري الذي أعلن استقلال سورية ملكية دستورية، مع فيصل بن الحسين ملكا عليها (8 مارس/ آذار 1920)، وسورية الانتداب الفرنسي، قبل أن تنتزع استقلالها في 17 إبريل/ نيسان 1946، فقد انبثقت الأولى من إرادةٍ ذاتيةٍ مثلتها جمعية وطنية ضمت ممثلين من جميع المقاطعات السورية، ممن لعبوا دورا نشطا في الجمعيات والتنظيمات الحرّة التي خاضت الصراع ضد الاستبداد العثماني، وضد سياسة التتريك التي تبنّتها تركيا الفتاة بعد انقلاب 1908، ودستورا ديمقراطيا تمثيليا كان الأول من نوعه في العالم العربي، ينص على المساواة التامة بين المواطنين، بما في ذلك حق المرأة في الانتخاب، في وقت كانت دول أوروبية عديدة، ومنها فرنسا، لم تعترف بهذا الحق حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. أما الدولة السورية التي انبثقت من إرادة سلطات الانتداب الأجنبية فقد أتت على أسنّة الرماح، وعلى أجساد الشهداء السوريين، وفي مقدمتهم وزير الدفاع، يوسف العظمة، وأعطت لنفسها الحقّ في التصرّف بمصير الشعب والأرض والدولة معا لصالح دولة الاحتلال ومصالحه.
وهذا هو في الحقيقة جوهر الصراع التحرّري الاستقلالي الذي خاضته الشعوب المستعمرة جميعا، فاستعادة السيادة للشعب هي شرط تطوّر الدولة التي تعبر عن إرادته ومصالحه، وقيام نظم سياسية تستمد شرعيتها من التعبير عن هذه الإرادة وتلك الحقوق. وبالعكس، من المستحيل على الدولة التي تفقد سيادتها أو تضحّي بها أن تستجيب لطموحات شعبها وآماله، فهي المادّة التي لا غنى عنها لنشوء سياسة وتكوين حقل سياسي منتج. وفي ظلها يتّحد الأفراد المختلفون والمتعدّدون، وبفضل المشاركة المتساوية في الحقوق التي تؤسّس لها يتحوّلون إلى جماعة متفاعلة ومتضامنة وواعية لذاتها وهويتها السياسية (الوطنية)، فالسيادة هي رأسمال الدولة في علاقاتها مع أعضائها ومجتمعها، ومع الخارج أيضا. وبمقدار ما تفتقر الدولة لرأس المال هذا، تخسر قدرتها على إنتاج المواطنة، بمقدار عجزها عن إنتاج الحقوق والحرّيات والمسؤوليات المرتبطة بتكوينها. والسبب ببساطة أن الدولة التي لا تملك حرية قرارها لا يمكنها أن تضمن حرية قرار أعضائها. وبمقدار ما ترتهن لإرادة القوى الأجنبية للحفاظ على بقائها، تجد نفسها منزوعة الإرادة، وتدخل بسبب ذلك أيضا في تناقضٍ مع شعوبها، ولا تملك وسيلة لفرض سيطرتها سوى بتحييد هذه الشعوب وتقسيمها وشلّ إرادتها.
وبالمثل، لا يمكن للدولة العقيم أن تنتج طبقةً سياسيةً تحظى بالشرعية، أو بناء نظام سياسي يعتمد في استقطابه ولاء الجمهور وطاعته على استلهام القيم والمبادئ وما يبعثه من آمال. وغاية ما تطمح إليه طبقة سياسية عاجزة هو تبرير وجودها في السلطة في مقابل ما تقدّمه من خدمات اجتماعية. لذلك تبقى نظم حكمها غير مستقرة، ومهدّدة دائما بانقلاب الجمهور عليها، حالما يبدو إخفاقها في تقديم هذه الخدمات. والحالات النادرة التي حظيت فيها نخب البلدان التابعة السياسية بالشعبية، وأسّست لشرعية سياسية وإيديولوجية قوية، تجذب إليها الجمهور، وتستطيع أن تثق بولائه، حتى في زمن النكسات، ارتبطت هي بالضبط باللحظات التي قرّرت فيها أن تخوض معركة السيادة، وتقود صراعا حقيقيا ضد التبعية والتدخلات والاعتداءات الخارجية. وهذا هو مسار الزعماء السياسيين الذين حظوا بشعبية كبيرة، وأثاروا حماس الجماهير، ومن أبرزهم العربي جمال عبد الناصر.
ولكن من يذكر المسيح يتذكّر بالضرورة المسيح الدجّال، فقد أعطت تجربة هؤلاء الزعماء، الذين كبرتهم الغيرة على السيادة والاستقلال وتحسين أحوال شعوبهم، درسا مهما لكثيرين من رجال السياسة الوصوليين والدكتاتوريين الجلفاء، مفاده بأن أقصر طريق لكسب عطف الجمهور وتأييده هو خداعه بتبنّي خطاب العداء للاستعمار والتنسيق السرّي معه في الوقت نفسه. وقد نجح كثيرون منهم في إتقان هذه السياسة الازدواجية، والحصول على قسط من الشعبية، بينما كانوا يحيكون المؤامرات على الشعب مع القوى الأجنبية، ويعقدون الاتفاقات على حساب السيادة والمصالح الوطنية. كانت تلك محاولةً في التمديد الكاذب للحظة الكفاح البطولية، من أجل السيادة التي قادها زعماء كبار، بعد نيل الاستقلال، وتجنّبا للانخراط في الحرب الباردة مع طرفي الصراع. ومن هذه المحاولة سوف تولد الوصولية التي أصبحت، في العقود القليلة الماضية، بعد استنفاد بريق الأفكار القومية والاشتراكية، عقيدة قائمة بذاتها ومدرسة في السياسة. وصار الغشّ والعمل في الظلام وإخفاء الحقائق والتلاعب بالمعلومات وحروب الجيوش الإلكترونية لتسميم الرأي العام مادة السياسة اليومية للحاكمين، ودليل عملهم لتحييد المحكومين، وإخراجهم كليا من السياسة. والنموذج الأبرز لهؤلاء حافظ الأسد الذي لم يعادل وهم عدائه الغرب إلا حرمانه شعبه من أي حقٍّ في الأمن أو الحرية أو الكرامة، وإخضاع الدولة لمصالح وسيادة سلطة عائلية. وما كان لهذا الغشّ التاريخي إلا أن يقود إلى تأليب الرأي العام على فكر السيادة والاستقلال وإحياء الحنين لنظام السيطرة الاستعمارية.
الدولة في بيئة إقليمية بركانية
لا تطرح مشكلة السيادة هذه على الأقطار العربية، أو المشرقية، ولكنها مشكلة عالمية تتعلق بنظام العلاقات الدولية والبلدان المستعمرة سابقا. لكنها سوف تتخذ شكلا دراماتيكيا في المشرق العربي بشكل خاص، بعد إعلان إسرائيل عام 1948 دولة يهودية، وتبنّيها سياساتٍ عنصرية تقضي بتهجير السكان الأصليين، وإحلال مهاجرين يهود مكانهم، وبسبب تبنّي الدول المركزية خيار الدعم غير المشروط للطعم الاستيطاني، ومدّه بوسائل التقدم العسكري والتقني وضمان تفوق إسرائيل الاستراتيجي الدائم على جميع الدول العربية، مجتمعةً ومنفردة.
لقد شكل عمل توطين إسرائيل في الشروط التي فرضتها القوى الغربية بمثابة معول جيوسياسي، لتقويض البناء القائم للعلاقات الدولية في المنطقة، وفتحها على الفوضى والخراب، وذلك بزجّ المنطقة بأكملها في قلب الصراعات الجيوستراتيجية الدولية، والقضاء على أي أمل باستعادة السيادة، أو ترميمها في مجموعة الدول المشرقية. ونجم عن ذلك توطين الحرب في المشرق، بطريقةٍ لا أمل في الخروج منها، وتلغيم العلاقات العربية الغربية التي لم تكن الإسلاموفوبيا إلا أثرا حديثا من آثارها. وهي لا حافز لها سوى تكريس التمييز ضد العرب، وتبرير نظم التبعية والديكتاتورية في أقطارهم، وحرمان قضاياهم من تعاطف المجتمع الغربي والدولي أيضا.
وبالمثل، أجهز إصرار إسرائيل على رفض أي نوعٍ من التسوية للقضية الفلسطينية على أي أمل في حفظ ماء وجه الحكومات العربية، وقضى على آخر ما تبقّى من رصيد سياسي ومعنوي وأخلاقي لمشروع التحرّر العربي، وأعاد عقارب الساعة إلى الوراء، حتى بدا وكأن التوسع الاستيطاني ليس سوى عودة مظفرة، في شكل أكثر عنفا وإذلالا، للاستعمار الغليظ، وانتقاما من حلم النهضة العربية. ولكن سياسة الحرب الدائمة التي زجت مشروع الدولة اليهودية المرتبطة عضويا بالغرب، والممدّدة للحقبة الاستعمارية الفظة، لم تعطّل مسيرة التطور السياسي للدولة فقط، ولكنها قوّضت أيضا منظومة العلاقات الإقليمية.
هكذا بعكس ما كان متوقعا، بدل أن تتجه المنطقة المشرقية نحو الاستقرار وتطوير علاقات التعاون فيما بينها، والانكباب على مشكلات التنمية الحضارية، دخلت في مواجهاتٍ وجوديةٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة. وتقهقرت نوعية العلاقات بين دول الإقليم باضطراد، بدل أن تتحسّن، مع تزايد التحدّيات والاختلال في موازين القوى، والفشل في حسم الحروب المتكرّرة. وانقلبت مسيرة الوحدة العربية الموعودة لإرساء قاعدة التنمية والاستقلال السياسي والحدّ من النفوذ والتدخلات الأجنبية إلى حروبٍ وعداواتٍ متبادلة، شقّت النخب والجماهير بين قوميين وقُطريين ومعادين للغرب ومتحالفين معه وأعداء لإسرائيل ومتواطئين معها. ولأول مرّة، تتحوّل وحدة الثقافة والانتماء القومي إلى مصدر للانقسام والشقاق. وبدل أن تكون عامل تحفيز للتفاهم والتعاون بين الشعوب، أصبحت مع الصراع على الزعامة العربية بين القادة والرؤساء المفتقرين للشرعية سببا في تعميق الانقسام والشقاق. حتى صار شعار العروبة موضع سخريةٍ واستهزاء من النخب الاجتماعية ذاتها التي استخدمت شعارها للاستيلاء على السلطة، وتبرير القمع والنظم الفاشية. بينما أظهرت الدولة في الأقطار التي كانت أكثر بعدا عن بؤرة المواجهات المتعلقة بالمسألة الإسرائيلية، وانعكاساتها على علاقاتها مع الدول الغربية، قدرة أكبر على السيطرة على مصيرها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وتطوّر ممارستها السياسية ومؤسساتها.
لقد دلت التجربة على أن النخب السياسية التي تستمدّ قوتها من دعم الدول الأجنبية وحمايتها لا تملك أي مصلحةٍ في إقامة سلطةٍ شرعيةٍ مستمدةٍ من تأييد مواطنيها، واحترام حقوقهم وحرياتهم ومصالحهم الأساسية. كما أن النخب التي لا يهمها مستقبل مجتمعاتها ومصيرها لا تملك أي حافزٍ يحثها على القبول بالتخلي عن بعض صلاحياتها لبناء إطار للتعاون مع أقرانها. إنها تنزع بالعكس إلى الاستثمار في النزاعات الإقليمية والمشاحنات البينية للتغطية على افتقار نظمها للشرعية وتبرير السلطة الأمنية/ القمعية وإلغاء الحياة السياسية. وهذا ما يفسّر سيطرة منطق التناحر وسياسة المحاور والمزايدات والمؤامرات الذي حكم منذ عقود طويلة العلاقات بين الأقطار المشرقية، ومنعها من أي تعاون مثمر بوحدة سياسية أو من دونها. فإلى هذه البيئة الجيوسياسية غير المستقرّة، والمحكومة بالنزاعات والتدخلات المتقاطعة الإقليمية والدولية، يرجع السبب الأول في عقم الدولة المشرقية، وتدهور شروط إنتاجها، سواء في بنيتها المؤسسية أو في نوعية علاقاتها وتفاعلها مع شعوبها. وبالتالي، في إمكانية الارتقاء بشروط حياتهم المادية والقانونية والسياسية والثقافية، فلا وجود لشعبٍ حرٍّ من دون دولة سيدة ولا سيادة لدولةٍ لا تحترم حرية شعبها وإرادته. ولا أمل لدولةٍ في انتزاع حدّ أدنى من هامش السيادة هذه، ما دامت خاضعةً لإرادة أخرى غير إرادة شعبها أو ما دام قرارها مقيدا بشروطٍ خارجية. واستمرار هذه البيئة وتفاقم حالة النزاع والحرب المتعدّدة الاقطاب والمجالات ربما تفسر أكثر بكثير من تقاليد الشعوب وتاريخها البقاء المديد لنظم الحكم الاستثنائية في هذه المنطقة المشتعلة منذ أكثر من قرن. وفيما وراء ذلك إخفاق دولها في التوصل إلى آي آليةٍ لتشكيل جماعةٍ مشرقيةٍ متعاونة ومتضامنة، كما حصل في أوروبا وغيرها، سواء أكان ذلك في إطار الفكرة العربية أو الفكرة الإقليمية المتجاوزة لها، من جهة أخرى.
وهذا ما يبرزه غياب أي اتفاقاتٍ أو معاهداتٍ جماعية إقليمية تضمن لدولها الحد الأدنى من الأمن والاستقرار، وتزيل، ولو جزئيا، الآثار السلبية للاتفاقات الاستعمارية القديمة، والفراغ القانوني الكبير السائد فيها. وكذلك الافتقار إلى اليوم لأي إطار للتشاور والحوار بين دول الإقليم، على الرغم من الإرث الحضاري المشترك، ومواجهتها جميعا تحدّي الضغوط الاستعمارية والهيمنة الأجنبية. وهذا ينطبق على جامعة الدول العربية التي تكاد تفقد سبب وجودها، لفقدانها أي أجندة للعمل بعد أكثر من سبعين عاما على نشوئها، وشللها الدائم نتيجة تحييد الأعضاء بعضهم بعضا فيها.
كما تبرزه حدّة الخلافات والنزاعات التي تعصف بأمن المنطقة واستقرارها، وميل الدول القوية إلى التوسّع على حساب جيرانها، والسعي إلى ضمها أو السيطرة على قرارها. ومن هنا التنافس المحموم على التسلح والتركيز الهوسي على المسائل الأمنية بكل فروعها، حتى صار الشرق الأوسط من أكبر أسواق استيراد السلاح واستثمارا في الجيوش والمليشيات وقوى الأمن وأجهزة المخابرات، وكل ما يمتّ بصلة للمواجهات العسكرية والأمنية على حد سواء. ومع ذلك، وهنا المفارقة، بدل أن تضمن هذه السياسات الأمن والاستقرار المنشودين، تدفع بالعكس إلى تزايد التهديدات والمخاطر، سواء ما تعلق منها بحركات التمرّد والاحتجاج والتطرّف الداخلية أو الحروب الإقليمية. وهي اليوم نزاعاتٌ متداخلة، لا ينفصل فيها النزاع الأهلي عن النزاع الإقليمي أو الدولي الخارجي.
في هذه البيئة، نمت وترعرعت الدولة المجهضة والنخب السياسية المستهترة بمصالح شعوبها. وإليها ترجع أيضا كثير من الخيارات الاستراتيجية السيئة والإخفاقات والمشكلات المعلقة التي لا تملك النظم الراهنة أي إجابات عنها، وفي مقدمها عواقب فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتأخر الكبير في استيعاب التجديدات التقنية والعلمية، والارتفاع الخطير في معدّلات الفقر والبطالة، والنزوح والهجرة، والتدهور الخطير في المناخ الاجتماعي، وفي ثقة الأجيال الشابة بالمستقبل. وإليها يرجع أيضا الانفجار الكبير الذي شهدته المنطقة في العقد الثاني من هذا القرن، والذي لم تخمد نيران بركانه، ولن تخمد إلى زمن طويل، فلم تكن ثورات الربيع العربي الرد الشعبي على تفاقم الضغوط الداخلية والخارجية وتقاطع نتائجها ومفاعيلها بشكل غير مسبوق فحسب، وإنما كانت أكبر هجوم قامت به هذه الشعوب منذ زمن طويل لإسقاط جدار الفصل العنصري الخفي الذي أقامته النخب والأوليغارشيات الحاكمة، لعزل الجمهور وحماية نفسها من ثوراته وانتقامه المنتظر.
لا يعني ذلك أن البيئة الجيوسياسية هي التي تتحكم في تحديد مصير الدولة والسياسة عامة، ففي حالاتٍ كثيرة، قد يكون العامل الحاسم دعوة دينية أو سياسية قوية، تنجح في بناء قوى استراتيجية، تقوم هي نفسها بتغيير الخريطة الجيوسياسية الإقليمية. وأبرز مثال على ذلك الفتوحات الإسلامية التي لا تختلف كثيرا عن الفتوحات الإمبراطورية عموما، ومنها الإمبراطورية السوفييتية البائدة. كما لا يعني أن الدولة ليست مشاركةً في تشكيل هذه البيئة، وليست مسؤولة عنها أو عن جزء كبير من خرابها. ينبغي النظر إلى العلاقة بين الدولة العقيم والبيئة الإقليمية النزاعية وغير المستقرّة، بصرف النظر عن الأسباب، بوصفها علاقةً جدليةً ومتبادلة، ففشل الدولة، في تفاعلها مع شعبها وفي تحمل مسؤولياتها، في رعاية مصالحه وحقوقه، والارتقاء بشروط حياته، يعزّز فرص تدهور البيئة الإقليمية والعلاقات الدولية، بمثل ما يدفع هذا التدهور النخب الحاكمة إلى مصادرة الدولة حسابها، واجتياح المجال السياسي والقطيعة مع شعبها. لكن هذا لا يمنع أنه فيما يتعلق بحالة المشرق، خصوصا، تلعب الجغرافيا السياسية التي احتفظت، إلى حد كبير، ببنية العلاقات الاستعمارية، والتي لا يزال إنجاح مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين يمثل محور السياسة الغربية، من دون أي أفق لتسوية ممكنة، دورا حاسما في تقويض سيادة دول المنطقة وإفراغها من مضمونها، أي من قدرتها على بناء جماعةٍ وطنيةٍ مستقرةٍ ومتضامنة، وعلاقات سلام إيجابية فيما بينها.
لذلك، ما لم تُبذل جهود دولية جدية لتغيير البيئة الإقليمية، ووضع حد للحروب الداخلية والإقليمية المتفجرة التي تدفع، بشكل متزايد، إلى انهيار الدول وتفكيكها إلى إمارات حربٍ تتحكّم بها مليشيات أهلية، وأحيانا تتحوّل فيها السلطة المركزية ذاتها إلى ما يشبه الإمارة الحربية، سيكون من الصعب استعادة الدولة، بما تعنيه من سلطةٍ سيدةٍ ومرجعيةٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ وإحياء السياسة كمشاركة في الحياة العمومية، كما هي مطروحة في معايير العصر وقيمه المدنية والأخلاقية. لكن لن يكون لهذه الجهود نتيجة واضحة، ما لم تدرك النخب الاجتماعية المحلية دورها في وضع هذا المشروع الضخم على مساره الصحيح، ومسؤولياتها في الأخذ بيد الشعوب، والاهتمام بمصيرها ومساعدتها في تنظيم قواها والارتقاء بوعيها، لتتمكّن هي نفسها من استعادة ملكيتها الدولة، وبناء سلطةٍ تستجيب لمطالبها وتطلعاتها. من دون ذلك، ستبقى الدولة غنيمةً تنتظر الأعنف والأشرس والأخبث من بين القوى المتصارعة والمتنافسة في الداخل والخارج على انتزاعها وجعلها ملكيته الخاصة ومزرعته، كما هو الحال اليوم في معظم إمارات المشرق الجديدة والقديمة. عندئذ، لا يبقى للإنسان إلا الخيار بين الموت في العبودية أو الشهادة في ثورات الحرية التي لا تكاد تنتهي، حتى تبدأ من جديد.
العربي الجديد