قصص حسن بلاسم في «إيميلات مترجم إيميل سيوران»: خلطات غرائبية لعوالم ومسارات نفسية من الماضي والحاضر/ هاشم شفيق
للقصة العربية مذاقها وخصوصيتها وعالمها الرحب، وإذا ما كتبت بيد مبدعة وخيال خلاق ستجترح عوالمها الشاسعة، الغريبة والمتنوّعة، ذلك أن القصة العربية هي وليدة واقع ومجتمع لأكثر من عشرين بلداً عربياً، وهي ستحفر في سياق التخليق، داخل مسارات نفسية وشخصية وبحثية، لأكثر من ثلاثمئة مليون عربي، وكل واحد من هؤلاء، لديه قصّته وحكايته ومكابداته مع الحياة والعالم.
وعطفاً على هذا الكلام، بين يديّ الآن مجموعتان قصصيّتان لقصّاصَين عربيَّين، الأول عراقي هو القاص حسن بلاسم، والثاني مصري هو أحمد الشريف، وكلاهما يقيمان في بلد أوروبي، الأول يعيش في فنلندا، والثاني في النرويج. إنهما كاتبان يعكسان أجواء حالتيهما في المنافي، أو في البلدين البديلين، ولكنهما يستذكران ويستعيدان أجواء عربية، وحالات من مناخات عالميهما السابقين في بلد المنشأ، ويحاولان تقديم خلطة غرائبية من كلا العالمين، من خلال تجاربهما وحياتهما السابقة والحالية، يستعيدان الماضي ويستدرجانه ليكون في الحاضر، فحسن بلاسم يستعيد العراق وأجواءه المأسوية والغرائبية، كونه يتحدّر من عائلة فقيرة، ومن مكان أفقر، ترتع فيه التقوى المؤذية، والفساد المُبرمج، والمُخطط له، والمُتبّل بالاحتيال، والقتل والسرقة والخطف والتصفيات والسجن، كالعوالم السابقة للديكتاتور، وللسدنة الجدد الذين جاء بهم الأمريكان، وكذلك هي أحوال ومقامات القاص أحمد الشريف، وسفره في عالم متشابك، مما كان يراه ويلمسه في كل المنافي التي عبر بها، أو زارها، أو اجترح فيها لنفسه موقعاً، لإدامة مهنة الحياة، والعمل، والتواصل مع الكتابة، بعيداً عن مصر بلد المنشأ، والأجواء التي كان يعيشها هناك، وملابسات الحياة فيها .
اعتاد القاص حسن بلاسم، في سرد مروياته القصصية على قول كل ما يخطر في باله، وقوله من دون رقابة، وتابو، وخطوط حمر، تحاول لجم ما يتدفّق به خياله، من واقعيات سحرية، وفنطازية، فلغة البورنو وعالمه الإيروتيكي موجودان في سردياته القصيرة، وكذلك العامية إن استوجب مقامها، فالمحظور لو أتى فهو غير مرحّب به في بال القاص بلاسم، الذي لا يتورّع عن الإتيان بالمقزّز والمقرف والمثير في اللغة، وملء صفحاته به، كونه يكتب مثلما يعيش، فهو حين يدخن ويشرب ويأكل، سيّان بالنسبة له مع الحالات والأفعال الإنسانية الأخرى، كمضاجعة امرأة، وسرد كل ما يمر به بلغة الجنس، فاللغة هنا هي ذاتها، دون مداورة ولعب واحتيال لتجنّب عدم جرح شعور القارئ، أو جرح مشاعر العامة، فهو حين يذهب إلى التواليت يشرح العملية هناك بتفاصيلها الإنسانية، الطبيعية، بدون زيادة أو نقصان، أو التفاف على اللغة، من أجل لي عنقها، وتحويرها عن مسارها الحقيقي، ينضاف إلى ذلك تابو الدين، فحسن بلاسم متحرر تماماً من ذلك، فهو لا يهمّه أن جدّف وشتم ومسّ بالذات الإلهية، أو النُظم الدينية والمذهبية، فهو متحرّر من هذا العبء، الذي يكبّل الكثير من الكتاب والأدباء العرب.
في الظن أن حرية الكاتب تأتي من المكان الذي هو فيه، والذي يحيا ويعيش فيه يومياته الطويلة، فالكتاب الأوروبيون عموما، تخلّصوا من الإرث الثقيل الذي كبّلهم طويلاً، والكاتب في أوروبا ليست لديه تابوات ومحرّمات ومنغصّات كتابية، الكاتب فيها حرّ فيما يقول، ويفكر ويحكم ويدين ويشجب ويستنكر، نحن لدينا في العراق الآن على سبيل المثال مليون رقيب ورقيب، الرقيب التابع للنظام، الرقيب التابع لمذهب معين وطائفة معيّنة، وما أكثرها في العراق الأسود الظالم، المُحصّن بدستور فاسد أقرّه الغزاة، وقضاء مُحرّف للقوانين، ومتلاعب بها حسب ما ترتئيه مصالحهم، وشؤونهم، وما يرتئيه سادتهم الأجانب، كل شيء في عالمنا العربي في تراجع، فالستينيات بالنسبة للعراقيين والعرب جميعاً، كانت أكثر تقدماً من الزمن الحالي، وأكثر تحدياً ووعياً، وحرية وإحساساً بمسألة الحرية، والتقدّم والتمثلات الديمقراطية. العشيرة في العراق هي التي تحكم وتقود البلاد الآن، والميليشيا هي التي تصدر الأحكام وتقرّ الأعراف والمناسك، وليست الدولة، وكذلك حال الدولة في العراق ولبنان واليمن وسوريا فهي مهمّشة، ومعزولة، ومركونة جانباً، والذي يحكم وينطق ويقول ويُصدر القوانين والأحكام هي رصاصة الميليشيات العابرة للقانون، والحريات، وأنظمة الحكم الصورية، تلك المحكومة من الخارج، بقوة النبرة الطائفية، وسلاحها النازي القاتل، للشعوب المقهورة والمظلومة والمغلوبة على أمرها.
ولكي لا يأخذنا حسن بلاسم بعيداً، نعود لنخوض في قصصه المكتوبة على هيئة إيميلات إلكترونية تأتيه من صديقه المترجم لنصوص الكاتب والفيلسوف الروماني ـ الفرنسي إيميل سيوران، يطلعه فيها على آخر التطورات في ترجمته لهذا الفيلسوف، وكونه الشخصية الأساسية في الكتاب، يحكي له ويُخبره عن يومياته، وتفاصيله في ذلك اليوم، حتى يسهو ويسرد له محطاته، تلك التي مرت بحياته الماضية والحالية، مستذكراً ماضيه، وطفولته التعيسة وعراقه الأتعس، وفقره وشؤونه اليومية، وغربته في الأمكنة التي حط فيها وعاش حياته، بدءا من كردستان وإيران وعمّان، وبعض الدول القريبة من فنلندا، كالدنمارك وهولندا، والسويد والنرويج، وحكايات أصدقائه العرب والأوروبيين الذين التقاهم وصادفهم في منافيه، ومحطاته الحياتية الكثيرة هنا وهناك، والذين لا يزال يعيش بين ظهرانيهم، وهي على نحو عام، قصص ممتعة، غير مملّة، بل عامل التشويق والإثارة والتغريب من أساسياتها، مثل قصة «ذباب ويوتيوب» وهي تستدعي عالم رجل غريب الأطوار يبيع الذباب، إنه رجل اليوتيوب، هذا الذي التقاه البطل المعتقل في السجن بسبب رشوة تلقاها، حين كان يعمل في وزارة التجارة، يقول رجل اليوتيوب: «الأمريكان الغزاة تسببوا في انقسام حاد في المجتمع العراقي وجاؤوا بالحرب الأهلية».
القصص التي سردها «مترجم إيميلات سيوران» كثيرة وبديعة، كقصص «صانع الأقنعة « و»السيد بالومار» و»حياة عراقية عادية» و «مديرة مدرسة القطط « و»علي ترانسستور» و»آكل الجراد» و»برج الفأر» و»بعد الدم رقصت مع سلمى حايك» و»99 سويديا» وغيرها من القصص اللافتة في الكتاب.
أما الكاتب المصري أحمد شريف، فهو قاص وروائي، يعيش غربته في بلد اسكندنافي. في مجموعته الجديدة «متاهة اللذة» يروي متاعبه الرؤيوية، عبر محطات سفره وتنقله، بين هذا البلد وذاك، باحثاً عن نفسه، ومصيره، وروحه، مُزوّداً رؤاه بالتجارب العينية، والملموسة التي عاشها عن كثب، وهو يراقب الحياة العلنية للبشر والكائنات، في أمكنة عدة، من خلال أسفاره، في بحث دائب عن المكنون والجوهر داخل الحياة الإنسانية، متابعاً مشاغلها، همومها، لواعجها، مشاعرها، وهي تخوض بحر المصاعب اليومية، مواصلة العيش بمشقّة وبألف حيلة وحيلة، منها ما يحلو للإنسان عمله فيها، ومنها ما تجبره عليها الظروف القاهرة والعصيبة التي تمرّ به، وتضطره للقيام بأعمال خارج إرادته كعمل بائعات الهوى وظروفهنّ، والصعاب التي يواجهنها في حياتهنّ، وهنّ يعشن هذا المصير الشائك، والمحفوف بالمخاطر، والأمراض والروح العدوانية، لمن يترصّدهن ويحاول الإيقاع بهنّ، حيثما عشن، ووجدن، في هذه المعمورة أو تلك من المدن العربية والأوروبية.
تمثل القصة الأولى نموذجاً ممتازاً لهذه الشريحة من المجتمع، فأحداثها تدور في المغرب، دون ذكر المكان، لكن التفاصيل والتسميات، ومفردات الحياة اليومية ستشي لنا بوضوح بطابع المكان، فالقصة هذه تحكي عن رجل يعمل في خدمة الجهاز الأمني للدولة، يحاول رئيسه بعثه في إرسالية أخيرة، وبعدها سيصار لإحالته إلى التقاعد كما يطلب الرجل المتعاون، شريطة أن ينفذ مهمته الأخيرة بمتابعة أحد المطلوبين للأمن، وهذا الأخير يتردد على بيوت الدعارة في إحدى القرى، هناك سيلتقي بإحداهن، وهي نعيمة، تعمل وتتعاون مع الأمن، ستساعده في حال وصوله، مُسهّلة مهمته في الوصول إليه، من خلال فتاة صغيرة يرغب هو بها. ثمة في القرية مسجد، ومقهى وساحة وحانوت، وهي تمثل الدلالات المكانية، إذ سيتردد عليها الساعي، حتى إنجاز مهمته، بجمع معلومات عن المعني وكتابتها في تقرير، ثم تسليمه لصاحب حانوت في ساحة القرية، يعمل مع رجال الشرطة أيضا، ويُرفق التقرير بطلبه المعهود بخصوص التقاعد عن العمل في الشرطة السرية.
القصة الثانية وهي تحمل عنوان «فندق اللذة» أيضاً هي الأخرى تُخبر عن مصير شخص يملك ثروة، ورثها عبر بيع حصّته في شركة ما، حيث يقيم في جنوب سويسرا، وهذ الشخص ينوي الهروب من عالمه هناك، حيث بعض الأهل والأقارب ينوون الاستيلاء على ثروته، فيقنعه صديق له، وهو آخر من تبقى له، بالسفر إلى مرسيليا معاً، كونه يعرفها، وهي مكان جميل وبعيد وحيث من الممكن فتح مشروع هناك يضمن مستقبله وحياته في تلك الأرض البعيدة.
يسافر الصديقان ويصلان باريس ومن هناك إلى مرسيليا، وحين لم يقتنع بوردين في الإقامة في هذه البلدة، التي تعج بتجار المخدّرات والإرهابيين، يقنعه موسيقي أمريكي في مدينة طنجة، عبر مداولات ومشاورات، بأن يسافر بوردين صاحب المال وريتو صديقه، مع الأمريكي الموسيقي إلى طنجة بالباخرة، تلك التي ستمر ببرشلونة وغيرها من الأماكن، حتى يصلا إلى طنجة، وهي أجمل مكان في العالم، حسب قول أحدهم، فهي مدينة تتمتع بالتنوع العرقي، واللغوي، والانفتاح على العالم، هناك في طنجة سيشتري نُزلاً سيعتني به، ويصمّمه كما يشاء، لأنه يريده أن يكون مكاناً للذة، والشراب والسهر في آن واحد، محققاً حلمه في ذلك.
حسن بلاسم: «إيميلات مترجم إيميل سيوران»
منشورات المتوسط، ميلانو 2018
295 صفحة
أحمد الشريف: «متاهة اللذة»
دار خطوط وظلال، عمّان 2021
107 صفحة.
القدس العربي
كتاب الله 99 – إيميلات مترجم إيميل سيوران pdf
نحن هنا أمام كاتب استثنائي، بالمقام الأول. وهذا كتابه الرابع بعد كتابيه المسيح العراقي ومجنون ساحة الحرية واللَّذَيْن جمعهما كتاب “معرض الجثث”، والذي حاز جائزة الإنديبندنت العالمية 2014، ليكون بذلك أول كاتب عربي يحصل على هذه الجائزة. ثم كتابه “طفل الشيعة المسموم” الذي أثار الكثير من الجدل حوله. لكن حسن ينبه إلى أن هذا هو كتابه الأول الذي يصدر أولاً باللغة العربية قبل صدوره في لغات أخرى.
في المقام الثاني هذه هي الرواية الأولى لحسن بلاسم، وقراءتها تشبه إلى حد بعيد ركوب قطار الموت ولكن دون سماع أي صوت. مشهد صامت لحركة سريعة ومليئة بالتوتر. المستمتعون بالسرعة المرعبة، والمذعورون، والذين ندموا بعد ركوبهم القطار، جميعهم يصرخون إما متعة أو ذعراً، أو ندماً، أو من يحاول أن يستعيض بالصراخ عن البكاء، أو يصرخ ضاحكاً ليخفي خوفه كممارسة ذكورية لا أكثر. كل هذه الصرخات وهذه السرعة يقدمها لنا حسن بلاسم هنا دون أدنى ضجيج. بل على العكس تماماً يقدمها لنا مموسقة.
مترجم، وفي أثناء ترجمته لـ “إيميل سيوران”، يراسل صديقه الكاتب وطبيب الأبقار المهووس بـ “السيد بالومار” لـ “إيتالو كالفينو”. الصحفي كان قد حصل على منحة مالية لإنشاء مدونة، والتي أراد فيها جمع قصص شخصيات حقيقية أثرت به في طفولته وشبابه. وبالفعل يبدأ رحلته في البحث عنهم وعن سيرهم ولكن ماذا نتوقع من شخصيات تعيش في “ بلاد يرتفع منسوب العنف الوحشي فيها إلى مستويات مفزعة وفنتازيّة كلّ عقد من الزمن.”
بين رسائل المترجم وقصة الصحفي نفسه ومدونته، وقصص شخصياته الغرائبية (اسمحوا لي هنا أن أضيف الباهرة) وكيف تتشابك هذه القصص جميعها وتتعقد، فتنعقد معها الألسنة، تتنقل صفحات هذه الرواية. أما كيف ذلك دون أدنى ضجيج؟ فهذا سر حسن بلاسم الذي يصحبنا في روايته هذه، في جولة في قطار الموت. فتفضلوا بالصعود، وتأكدوا جيداً من ربط الأحزمة.
لتحميل كتاب حسن بلاسم
الله 99 – إيميلات مترجم إيميل سيوران
الله 99 – إيميلات مترجم إيميل سيوران
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية