مأساة المهاجرين في سبتة… كيف تجتاحنا الصورة وتعبث بوعينا؟/ فريدة حسين
صدمة كبيرة أحدثتها صور آلاف المهاجرين المغاربة، وهم يقطعون البحر سباحة من أجل بلوغ الضفة الأخرى للمتوسط، بحثا عن العيش الكريم، إنها تشبه الاجتياح في تأثيرها في ملايين من الأشخاص المشاهدين لها عبر شاشات التلفزيونات، ومواقع التواصل الاجتماعي، كانت مثل التسونامي حينما اقتحمت عقول المتابعين لهول ما رأوه، كانت صورا صادمة، اخترقت بسرعة فكرهم ووعيهم، كأنها خطاب صارخ له من القدرة والسلطة ما يكفيه ليعبث بهم ليوجّه إدراكهم بعد أن تحقق من إبهارهم، إنه ببساطة عصر سطوة الصورة وقوتها التعبيرية وهيمنتها في حياتنا.
في قراءة أولية لصور موجات المهاجرين المغاربة القصر إلى مدينة سبتة الإسبانية، وهم يستعينون بقوارير بلاستيكية لقطع البحر سباحة، بحثا عن الجنة الموعودة في الضفة الشمالية للمتوسط، ندرك حجم المأساة التي يعيشها أطفال قصر وشباب في مقتبل العمر، همهم الوحيد كيف يستطيعون مغادرة أوطانهم المتنكرة لحقوقهم بحثا عن أوطان أخرى في منافي دول أوروبية، لا تعي خيباتهم ولا فقدانهم الأمل في الحياة، وهي الأخرى أكثر برودا من أوطانهم الأم، لكن واقعة سبتة غيّرت نظرة العالم إلى الهجرة غير الشرعية، بسبب الصدى الذي أحدثته تلك الصور لدى جماهير المتلقّين، رغم انقسامهم بين التيار اليميني الرافض لاستقبال هذه الأسراب من المهاجرين، ولا تهمهم أبداً الأوضاع التي دفعت بهم إلى هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، وزادت حدة أصواتهم المطالبة حكوماتهم بضرورة التحرّك لوقف الظاهرة التي تهدد أمنهم واستقرارهم، وهذا ما عبّر عنه اليمين الإسباني، الذي فتح النار على حكومة بيدرو سانشيز، مطالبا إياه باتخاذ الإجراءات الضرورية مهما كانت قاسية، من أجل وقف تدفّق المهاجرين من جهة، وإعادة من حالفهم الحظ في بلوغ السواحل الإسبانية من جهة ثانية. وعلى النقيض من هذا التيار «العنصري» نجد المتعاطفين مع هؤلاء «الحراقة» الهاربين من أوضاعهم السيئة، للبحث عن بصيص أمل في الحياة، رغم أنهم يدركون جيدا ما ينتظرهم في أوروبا، لكنهم يعرفون أيضا أن الوضع سيكون في كل الأحوال أحسن بكثير من العودة إلى الديار، وهذا ما يفسر ما قاله المهاجر القاصر الذي استعان بقوارير بلاستيكية في رحلته البحرية، وقد صنعت صورته الحدث، خاصة أنه صرّح وهو يبكي بحرقة بأنه «يفضل الموت على العودة إلى المغرب» خصوصا وأن قصته مؤثرة جدا، إذ نقلت الصحيفة الإسبانية «الباييس» أن اسمه أشرف وعمره 16 عاما، تخلى عنه والداه أثناء الولادة، فتبنته سيدة توفيت منذ 5 سنوات، ما جعل أرملة تأويه في مدينة الدار البيضاء المغربية، لذلك كان يصرخ ويقول «لماذا لا تفهمونني؟». صرخة هذا القاصر وصورته يدفعان إلى التساؤل حول طبيعة العلاقة بين الصورة واللغة، وهل اللغة قادرة فعلا على الإحاطة باللغة؟ أم أن الصورة تتخطى حدود اللغة هذه؟ ويمكن القول إن الكلمات التي قالها هذا الطفل لم تقل كل شيء عن هذه الصورة التي تخطت بكثير حدود الكلمات المنطوقة في محاولة للتعبير عنها، والمعنى المختبئ وراء صورة الطفل أقوى وأبلغ، وهذا ما جعل التجاوب معها من مختلف دول العالم التي تفاعل الناس معها من كل القارات، ولو أنهم لم يسمعوا ما قاله، حتى أنهم لم يفهموه، بينما الصورة تلك يستحيل أن لا يفهمها كل من شاهدها، فالصورة في هذا الموضع أبلغ وأقوى تعبيرا من الكلمات. ويتوافق هذا المنظور مع قول جان لوك غودار: «لسنا في حاجة إلى صورة صادقة، بل نحن في حاجة إلى صورة وفقط». وصورة هذا الطفل المغربي المهاجر إلى سبتة سباحة، تعني الواقع بكل ما يحمله من سلبيات وإيجابيات وتطورات وتناقضات، إنها تنقل الحقيقة كما هي، دون أي إضافات جمالية من أجل المتعة والفرجة، وهي لم تخضع لأي لمسة من شأنها تزوير الحقيقة، بل بالعكس إنها ناقلة للحقيقة المرة، التي يعيشها وهي تعبّر عن قهره وضعفه وخوفه من المجهول الذي هرب إليه، من واقع مرّ لا أفق له، الأمر الذي دفع به لرحلة الموت.
وينظر النقد المعاصر إلى هذه الصورة على أنها آلة أولى لفهم معاناة الشباب المغربي في بلادهم وولعهم بالهجرة للبحث عن مخرج لأزمتهم، وإثبات ذاتهم في بلدان قد تمنحهم الفرص في الحياة، لأنه لا يمكن الاكتفاء بقراءة شكل الصورة، دون الغوص في معناها، بالبحث والتحليل باستعمال الدروس السيميائية، بعد أن يتحقق العنصر الأول وهو جذب ذهن المشاهد والرائي. هذا الذي دفعت إليه هذه الصورة الكثير من المتابعين، حسبما اطلعنا عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، فأعداد هائلة من مستعملي الإنترنت مهما كانت اللغة المستعملة في البحث إلا أنهم حاولوا فهم الواقع والحقيقة اللذين دفعا بهذا الطفل إلى مغادرة وطنه من أجل الارتماء في حضن الأمواج والبحر والاغتراب.
إن الضجة البصرية التي أحدثتها هذه الصور أيقظت مشاعر الإنسانية لدى الجماهير من المتلقين، بحكم أن اللغة البصرية فرضت نفسها على الساحة الثقافية بفضل قدرتها على التأثير والسيطرة، بل تشكيل الوعي في «مجتمع الاستعراض» الذي يعيش «حضارة الصورة» بامتياز، فلا شيء أكثر قوة من الصورة في إثارته والتأثير فيه، ودفعه نحو تشكيل وعي عام جديد، قد لا تكون له جذور ما، في العمق الثقافي والاجتماعي والإنساني للمجتمع. وقد أحدثت صورة حضن الشابة الإسبانية ذات العشرين ربيعا للمهاجر السنغالي عبدو (27 عاما) ضجة كبيرة دفعت بالمتطوعة في الصليب الأحمر إلى حجب حساباتها على مواقع التواصل بعد تلقيها تهديدا بالقتل من طرف متطرفين ومتعصبين ينتمون لتيار اليمين. بينما ذهب آخرون إلى الإشادة بما قامت به لونا رييس، واعتبروه عملا إنسانيا بامتياز، في صورة تعبيرية عن الإنسانية والتضامن والأمل، وقادوا حملة مضادة لليمين الإسباني عبر الإنترنت بهاشتاغات من قبيل «GRASIAS LUNA» «شكرا لونا».
وشكلت هذه الصور مادة سمجة للتحليل السيميولوجي للواقع الراهن للهجرة غير الشرعية، التي باتت ظاهرة تعصف باستقرار ضفتي البحر الأبيض المتوسط، بالنظر إلى سطوة الخطاب البصري، في سرد الوقائع غير اللسانية، باعتماد تحليل المادة البصرية ومكوناتها الظاهرية والباطنية، من منطق أنها لغة التواصل والخطاب الذي تمرره، لاسيما مع التطور الكبير لتكنولوجيات الاتصال الرقمية والافتراضية. ولم تعد الصورة الآن مجرد تصوير للحظة ما، بل أصبحت حاملا ثقافيا ومكونا تاريخيا مؤسسا على مرجعية بصرية من دال ومدلول على ثقافات الشعوب، وهي عبارة عن رواية للأحداث والوقائع، أو ما يعرف بالبعد السوسيوثقافي، كما يمكنها ان توجه الرأي العام وإنشاء فكر يخدم قضية ما سياسية، ثقافية، اجتماعية أو أخلاقية، بالنظر إلى قدرتها على العمل لتطويع الفكر والحس والبعد الزمني لدى المتلقي البصري، الذي يسهل التأثير في وعيه المستقبل للمادة البصرية ذات القوة التعبيرية المؤثرة في القيم الاجتماعية والثقافية والفكرية من خلال تدفقها الرقمي السريع. وهناك من المتخصصين من يعتبر أن الصورة بإمكانها حتى تشكيل عملية توجيه الفكر السياسي، إلى إنشاء رأي ينطلق مما هو جمالي إلى ما هو فكري حسب المكتسبات المعرفية للمتلقي، من خلال الصبغة الاستقرائية في عملية فك الرموز في البعد الجمالي، وإعادة تركيبها في البعد الفكري الذي تمارسه الصورة في المتلقي، في مسار يمكن تسميته بالدور التوجيهي للحقل الدلالي للصورة، الذي يتجاوز المعنى الأولي الظاهر والبسيط إلى المفهوم الماورائي الناتج عن الإدراك المعرفي والثقافي، بما يعطينا الهوية السوسيولوجية والدلالية.
ومن أهم العناصر التي تراهن عليها الصورة من أجل تغيير مقاييس ومعايير الثقافة نجد الإبهار، والعبث بتصورات المتلقين وأذواقهم، فهي تمتلك من الأدوات والآليات التي تسمح لها بالمداهمة والتعدي على مستقبلها، لتغير فيه وعيه وثقافته.
ويمكننا القول أيضا إن الصورة التي وجدت ضالتها في هذا العصر، ليست اعتباطا ولا مصادفة، بل تغذت من ازدهار الثقافة الشعبوية وسيطرتها على المشهد العام أمام التراجع الرهيب للأدب، الذي يعرف أنه بورجوازي من صناعة النخبة من الذين ينتجون الكلمة بأشكالها المختلفة الراقية، بالمقابل لا تحتاج الصورة البصرية إلا إلى الشعبويين، الذين ليس بالضرورة أن تتوفر فيهم مستويات تعليمية مميزة، لذلك تبدلت الأدوار بين الأدب البورجوازي وثقافة الصورة، وبالتالي تراجع النخبوي أمام الشعبوي. وعلى هذا النحو أيضا تشكل ما اصطلح عليه «مجتمع الاستعراض» و»حضارة الصورة» حيث صور المفكر جي ديبور كيف أصبحت الحياة والعلاقات الاجتماعية صورا بلا جوهر، في عالم مقلوب بات فيه ما هو حقيقي وهميا وزائفا، بسبب فقدان الواقعي مكانته أمام هيمنة لحظات وهمية لا تمت بصلة للواقع المعاش.
وقد أكد هذا الطرح كذلك الكاتب الأمريكي كريس هيدجز في كتابه «امبراطورية الوهم» في وصفه للواقع اليومي حينما قال «إننا نعيش اليوم في مجتمعين، مجتمع أقلية مثقف حقيقي قادر على التمييز بين الحقيقة والوهم والخيال، ومجتمع آخر يمثل الأغلبية من الناس يستند إلى اليقين الزائف والوهم» ووصف هذا بموت الثقافة وانتصار الاستعراض. وتحدث الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا في كتابه «ملاحظات عن موت الثقافة» عن تحول تصريحات السياسيين التافهة إلى استعراض الصورة الزائفة التي تحولت إلى ضجيج بصري.
كاتبة جزائرية
القدس العربي