من أجل سياسة مدنية جديدة/ ماهر مسعود
ربما يبدو مصطلح «السياسة المدنية» مصطلحاً فضفاضاً، يُحيل إلى جملة مدلولات دون أن يعني واحداً منها بالضبط، ولذلك سأشرح مباشرةً ما أقصده بالسياسة المدنية.
السياسة المدنية هي السياسة القائمة على «بنية تحتية» عمادها المجتمع المدني ومؤسساته وفاعلياته وأفراده، وهدفها طرد الحرب خارج «المدينة»، أي الدولة، وخارج «المدنية»، أي خارج منظومة العلاقات الناظمة للمجتمع/المجتمعات المحلية.
ليست السياسة المدنية خارج علاقات السلطة والسيطرة المكوِّنة لكل سياسة، ولكنها إعادة تعريف وتقويم للسلطة والسيطرة على أساسٍ مختلف، يرحِّلُ السياسة من «دار الحرب»، أي الصراع الوجودي والتناحر (المبادئي والعقائدي) والإلغاء ذو الطبيعة الأهلية الما قبل دولتية، نحو «دار السلام» أي التنافس الحر والعلني على أسسٍ مدنية مبنية على المواطنة المتساوية للجميع، والحقوق الوضعية القابلة للتفاوض دستورياً على أسسٍ ائتلافية أو توافقية. بما يعني نزع السحر والقداسة عن أي حقٍ جوهري، ديني أو طائفي أو قومي أو عرقي أو امتيازي من أي نوعٍ كان، وجعله قابلاً للتفاوض والضبط الدستوري والقانوني.
إذا أزلنا بعض الفوارق التاريخية المرتبطة بالزمن والظروف الاجتماعية وشروط العصر فيما يخص السياسة المدنية، سنرى أن سوريا لم تشهد في تاريخها الحديث منذ الاستقلال سوى ثلاث مراحل قصيرة جداً للسياسة المدنية، وإن كانت في طورها الأولي المتمثل بحكمٍ مدني ليس إلا. نوردُ تلك المراحل هنا باختصار: المرحلة الأولى استمرت لسنتين ونيّف بعد الاستقلال مباشرة، وقطعها انقلاب حسني الزعيم عام 1949، وكان فارس الخوري (رئيس البرلمان وقتها) قد أخبر الزعيم مباشرة بعد انقلابه ضد الرئيس المدني شكري القوتلي، أنه «فتح باباً من الصعب إغلاقه»، وهذا ما حصلَ بالفعل. والمرحلة الثانية استمرت لمدة أربعة أعوام تقريباً، بدأت بعد أن تم إجبار أديب الشيشكلي على الاستقالة والهرب عام 1954، إثرَ ثورةٍ امتدت من حلب إلى السويداء، والمعروف أن الشيشكلي كان أول من اعتمد طريقة فرض الديمقراطية من خلال الديكتاتورية العسكرية في سوريا، وربما في العالم العربي، وذلك عندما أنشأ «حزب التحرير العربي»، وقام بتصفية خصومه ليفوز في الانتخابات النيابية التي صاغت دستوراً جديداً انتُخب رئيساً للجمهورية بناءً على أحكامه بعد إزاحة الرئيس هاشم الأتاسي. وبعد الشيشكلي بقي الحكم مدنياً تحت رئاسة شكري القوتلي مرةً أخرى حتى عام 1958، عام الوحدة السيئة مع مصر. أما المرحلة الثالثة فكانت تحت رئاسة ناظم القدسي بعد الانفصال عن مصر، واستمرت نحو سنةٍ ونصف السنة، بين عامي 1961 و1963، عام انقلاب البعث المشؤوم.
لكن كيف يمكن الحديث عن سياسةٍ مدنية اليوم بعد أكثر من نصف قرن على غيابها منذ انقلاب البعث الأول، وما دورها في ظل انعدام التعيُّن السوري الحاصل، وهو انعدامُ تعيُّنٍ يشمل الدولة والنظام السياسي معاً؟ للإجابة على ذلك بشكلٍ أولي لا بد لنا من القول: إن انعدام التعيُّن هو «فرصة» مع أنه وبالقدر ذاته «مطبٌّ» ومشكلة، بحيث أن انفتاح الأفق، والاحتمالات المتعددة لإعادة تشكيل الكيان السوري، هو فرصة العمل السياسي لاستعادة الجمهورية، وهذا على اعتبار أن السياسة فنٌّ أكثر من كونها علم، وهي فنُّ اختيار الممكنات وإدارة الاحتمالات. لكن يمكن لانعدام التعيُّن أن يصبح مشكلةً ومطباً أيضاً، قياساً على أن الخيارات السياسية الأسوأ قائمة، وربما مُشجَّعة من دولٍ وأطرافٍ متعددة، أهمّها إسرائيل، ولاسيما إن تم المضيُّ بملاقاة السياسة الواقعية المعتمدة دولياً في سوريا، بسياسة واقعية تشبهها في المنطق وتعاكسها في الاتجاه، أي رفع الواقع الحاصل إلى مطلقٍ واقعي، والاتجاه به إلى التقاسم الكانتوني الضيق، والذي يعني في المحصلة الاعتراف بالميليشيات القائمة بقوة الأمر الواقع، وغير التمثيلية، ورفعهم إلى أبطال المستقبل السوري المُفتّت.
قلنا إن السياسة المدنية تقوم على قاعدة المجتمع المدني، ولكن ربما كانت أهم مميزات المجتمع المدني أنه مجتمع معادٍ للسياسة، أو بمعنىً آخر مجتمعٌ مواجهٌ للمجتمع السياسي، ويحدّ من تغوّل المجتمع السياسي في بنية الدولة المدنية من جهة، وفي بنية المجتمع الأهلي من جهة أخرى. فكيف نطلبُ إذن أن تُبنى السياسة على اعتبارها «بنية فوقية» تقوم على قاعدة المجتمع المدني كـ«بنية تحتية»، وأساسٍ لقيام سياسة مدنية جديدة في سوريا؟
نريدُ أن نقول أولاً إن المجتمع المدني ليس مجتمعاً لا سياسياً محضاً، ولا هو مجتمعٌ منفصلٌ وبعيدٌ عن السياسة بإطلاق؛ كما تجهد جهات مدنية كثيرة لأن تثبته اليوم، بل إن الموقف السياسي العام والرأي السياسي الخاص لا يمكن تجاوزهما في أي عملٍ إنسانيٍ مهما كانت صفته. لكن يبقى أن السياسة في مؤسسات المجتمع المدني لا تتمثل كعملٍ والتزامٍ سياسي، ولا يجب أن تكون كذلك، فالسياسة هنا ليست عملاً نضالياً ولا تمذهباً ولا إيديولوجيا، ومن الخطأ أن تنضوي تحت أي عملٍ حزبيٍ ضيق، أو أن تكون السلطة إحدى أهدافها كما هو الحال في العمل السياسي.
هنا بالضبط يفترق العمل السياسي عن العمل المدني، ليصبح الحقل المدني هو حقل حماية المجتمع ومؤسساته المدنية من التسيّيس الضيق والتمذهب السياسي، وبذلك يحافظ المجتمع المدني على استقلاله، ويحمي نفسه من أن يصبح أداةً بيد السياسيين هدفها السيطرة والسلطة بشكل رئيس ومكوِّن، ولكنه في الوقت ذاته لا يبقى مجتمعاً معزولاً عن السياسة ومفصولاً عنها بإطلاق، بل إنه لا يمكن لأي سياسة وأي مشروع سياسي أن يُمرر على السوريين عندما يكون المجتمع المدني حاضراً وقوياً وفعالاً، ولا خوف على سوريا من التآمر الخارجي، ولا من شكل النظام السياسي القادم، عندما يكون الأساس المدني صلباً ومتنوعاً ومستعداً للمراقبة والمتابعة والمحاسبة. وفي عصر العولمة وانتشار الانترنيت وشبكات التواصل يمكن لفعاليات الأفراد والشبكات المدنية/السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، أن تكون أكثر قدرة على الفضح والتعرية والتأثير وخلق الرأي العام، دون الحاجة للعمل المركزي المرتبط بالمكان الجغرافي الواحد.
لقد ارتبطت السياسة في عهد الأسدين بالمجتمع الأهلي مباشرةً، وذلك عبر جسرٍ موصولٍ فوق المجتمع المدني ألغى عبر الزمن كل فاعلية ممكنة له، وأفرغ المؤسسات المدنية من أي محتوى مدني، لتصبح مؤسسات الدولة المدنية هي مؤسسات سلطوية محشوة بفئاتٍ أهلية خاضعة للسلطة السياسية وتابعة لها، بالإضافة إلى أن الفئات العاملة في المؤسسات المدنية للدولة كانت في معظمها فئات مُفقرة أساساً، وبلا صوتٍ مؤثر في أعمالها بالذات.
ومن الجدير قوله عندما نتحدث عن المجتمع الأهلي أننا نقصد مجمل مكونات الشعب، لكن في حالتها «الطبيعية» غير المؤسسة وغير المنظمة، ويشمل ذلك كل المكونات الدينية والمذهبية الطوائفية والعرقية والقومية في حالتها غير السياسية، حيث يكفي أن تصبح تلك المكونات الأهلية سياسيةً، أو تُرفَعَ إلى حيز السياسة والتنظيم السياسي، كي تتحول الدولة ذاتها إلى دولةٍ طائفيةٍ أهلية، محكومة بالمحاصصة الطائفية المخفية أو المعلنة. كما يكفي لأي نظامٍ سياسيٍ أن يعمل على التمييز والتمايز على إحدى تلك الأسس الأهلية، أو جميعها، كي يتحول إلى نظامٍ طائفيٍ أقلوي، حتى لو كان الحاكم من الأكثرية الثقافية، أي الدينية والاجتماعية. ومن هنا تأتي أهمية المجتمع المدني كمجتمعٍ وسيط، يمنع رفع المجتمع الأهلي إلى حيّز السياسة، ويحدُّ من سيطرة المجتمع السياسي على البنى الأهلية المتنوعة.
من خلال ملاحظة التغيرات في المشهد السوري بعد خمس سنوات على الثورة، نجد أنه بات من الواضح أن الشارع السوري أصبح أنضج سياسياً، وأكثر قدرة على تمييز الغث من الثمين في المعروض السياسي، وأكثر تنبهاً لمصلحته العامة والخاصة. فأن ينزل السوريون بعد خمس سنوات إلى الشوارع، ويخرجون من تحت ركام الحرب في مظاهرات سلمية ترفع علم الاستقلال، وترفض بشكل يبدو إجماعياً وجماعياً الأعلام السوداء والرايات البيضاء وغيرها، فذلك يدل بشكلٍ واضحٍ على أناسٍ أصبحوا على معرفةٍ تامة بما يريدون، ولم تعد تخدعهم الشعارات الكبرى ولا الخطب الرنانة بعد أن صقلتهم التجربة المرة للحرب، والتجربة الأكثر مرارة للتمثيل السياسي والعسكري للثورة، فلم يبقَ نوعٌ من أنواع السياسة واللعب السياسي المحلي والدولي، الإسلامي والعلماني، المتطرف والمعتدل…إلخ، إلا وتمّت تجربته بهم وعلى حسابهم وحساب دمائهم، بحيث كانوا بحق سماداً للتاريخ الذي لا يعرف رحمةً بالعالمين.
منذ ما قبل الثورة كان «قميص السلطة أضيق من جسد المجتمع» كما كان يسميه الدكتور أحمد برقاوي، وبالفعل مزَّق المجتمع السوري ذلك القميص المهترئ من خلال الثورة، لكن أكثر ما يُخشى منه اليوم وفي المستقبل السوري، هو أن يبقى المجتمع أيضاً سابقاً للسياسة وللسلطة ومتطورأ عنهما وليس العكس، وألا تكون السياسة بالتالي تعبيراً عن الكامن في المجتمع، ولا عن حاجاته السياسية والحقوقية والمطلبية، حيث إن الإشكال السياسي الأهم في سوريا كان، وما يزال، هو عدم تمثيل السياسة للناس، وعدم خروجها منهم، وعدم تعبيرها عن مطامحهم، بل بقائها سياسة أقلوية احتكارية متعالية على الناس، و«نخبوية» تجاههم. والأسوأ فيما حصل، أن تمثيل السياسة للناس وللشارع تم فهمه بطريقة ميكانيكية من قبل المعارضة، لاسيما في بداية الثورة، فبدل أن يلتقط السياسيُ الروحَ المطلبية للشارع ويصيغها بطريقة تعبر عن تلك الروح، بدأ التنافس في تملّق الشارع ومحاولة إرضاءه بكل الطرق الممكنة، ما أدى للانقياد الأعمى خلف تناقضات الشارع العفوية، وانعدام تشكيل أي استراتيجية سياسية متماسكة لإسقاط النظام وبناء البديل الديمقراطي.
ربما اعتدنا التفكير في السياسة من موقع المعارضة، وربما كان ذلك أحد الأسباب الكامنة خلف فشل الأطياف المعارضة عندما تنكّبت مواقع سلطوية ومسؤولة أثناء الثورة، حيث إن السياسة العملية من موقع المعارضة تفتقر إلى الاحتكاك العلني والتجريبي بالشارع من جهة، والاحتكاك المديد بأوحال السياسة الدولية بما لها وما عليها من جهة أخرى. لكن ذلك لا يَصدُقُ بإطلاق، بل فقط عندما نتكلم عن معارضة نظام طغموي كالنظام السوري، حيث المجال السياسي كان مغلقاً أمام ولادة معارضةٍ فعلية ذات جمهورٍ فاعل، وضمن اعتبار أن وجود المعارضة لا بد له من الارتباط بوجود حياة سياسية وتبادل سلميٍ للسلطة، ووجود نظامٍ شرعيٍ حاصل على شرعيته بالانتخاب الديمقراطي والمشاركة السياسية، لا بالوراثة، ولا بالانقلاب العسكري، ولا باحتكار السياسة في الحزب القائد للدولة والمجتمع. ولذلك نرى أن الكلام عن معارضةٍ سورية ما زال يفتقرُ إلى التعيُّن السياسي الواضح حتى الآن، وأن المعارضات السياسية والعسكرية الموجودة ليست سوى حركات مقاومة وتحرير مختلفة، تتحرك ضمن بيئة عمل وشروط محددة مرتبطة بمناخ الثورة السورية مباشرةً، وإحدى أهم المهام التي نأملُ أن تكون الثورة قد فتحت أبوابها أمام السوريين، هي خلق البيئة السياسية المناسبة للكلام عن سلطة ومعارضة على أرض الواقع، دون الحاجة للتفكير في الخيانة ولا المؤامرة ولا محاكم أمن الدولة ولا وهن عزيمة الأمة.
السياسة المدنية والعسكر
إذا استثنينا الإخوان المسلمين، ولاسيما الطليعة المقاتلة منهم، فإن المعارضة في سوريا اختارت الطريق السلمي للتغيير منذ السبعينيات، ولم تحاول إنشاء أجنحةٍ عسكرية للتعبير عن المطالب السياسية وحمايتها. وإن كان صحيحاً أن ذلك قد سهّل على السلطة الأسدية تدمير كل أنواع المعارضة بالقتل أو الاعتقال، فإن السؤال المركزي ما زال حاضراً وراهناً بعد خمسة وأربعين عاماً في عالم السلطة الأسدية، وهو: هل تحتاج السياسة في سوريا إلى العسكر لحمايتها؟ الجواب المتماهي مع بنية هذا المقال هو لا قطعية! فسوريا التي نحاولُ الدفاع عنها هنا بحاجةٍ لفصل العسكر عن السياسة أكثر بعد من حاجتها لفصل الدين عن السياسة، وهذا الكلام يصحُّ للسياسة الخاصة بالسلطة والمعارضة معاً، حيث إن ارتباط السياسة بالعسكر لم ولن يؤدي سوى لدمار المجتمع وازدياد تفتته بكل المعاني الممكنة، فالجيشُ لا بد أن يتبع للدولة، لا للنظام السياسي ولا لحزبٍ بعينه، والتماهي بين النظام السياسي والدولة في المملكة الأسدية كان هو البداية التي خُتمت بإنزال العسكر إلى الشارع ضد المجتمع منذ بداية الثورة، بحيث إن الدولة ونظامها المتماهيان والمتداخلان معاً في «سوريا الأسد»، لم يتوقفا يوماً عن الانفصال عن المجتمع والتشكل بوصفهما أعداءً له وخطراً عليه، ولم يحمياه يوماً من أي خطرٍ خارجيٍ خارج أسوار الدولة وحدودها.
ربما كان فصل العسكر عن السياسة يبدو كلاماً مثالياً اليوم وضمن الشروط الراهنة، لكن التفكير في البدائل لابد أن ينبّهنا إلى أن تلازم العسكر والسياسة هو استعادةٌ للنظام الأسدي على شكل أنظمة أسدية جديدة ومتناثرة في سوريا، أي أنظمة عسكرية ميليشيوية غير تمثيلية ومسيطرة بالقوة على المجتمعات المحلية، وهذا ما تمثله بشكلٍ حقيقيٍ اليوم أطياف سياسية عسكرية مثل وحدات الحماية الشعبية لدى الأكراد، أو جيش الإسلام أو أحرار الشام، بالإضافة للأسد وداعش والنصرة بكل تأكيد، ومن هنا لا بد للسياسة المدنية من التركيز على المجتمع المدني كمجتمعٍ ثوريٍ مقاومٍ لكل تلك الأشكال جملةً وتفصيلاً، وليست المظاهرات التي خرجت ضد جبهة النصرة مثلاً سوى إعادة تأكيد على أهمية المجتمع في مقابل السلطة، وهو ما نتوقع أن المجتمع الكردي أو المجتمعات في الغوطة وفي الشمال وفي المناطق الموالية أو القابعة تحت سيطرة النظام أيضاً مثل اللاذقية والسويداء، ستقاومه وتعيد إنتاجه وغربلته إن تم التركيز على السياسة المدنية، ولم تتبنَّ الأطياف السياسية الخيارات «الواقعية» المعروضة، أي استعادة التشكُّل الوطني على أسسٍ طائفية وإثنية، وإخضاع سوريا وضبطها عبر ميليشياتها التي أفرزتها الحرب.
ما يهمنا قوله ضمن هذا السياق هو اعتقادنا بأن السياسة المدنية شرطٌ تأسيسيٌ للسياسة في سوريا، وشرطٌ أيضاً لمقاومة كل أشكال السياسة التقليدية القائمة لدى السلطة والمعارضة في آن، وضرورةٌ لبناء سوريا موحدة، بغض النظر إن كانت وحدتها فيدرالية أو اتحادية أو لا مركزية سياسية أو إدارية…إلخ، حيث إن الدولة الحديثة كما نتصورها هنا هي جهازٌ إداريٌ لخدمة الشعب، وليست جهازاً فوقياً للهيمنة عليه، ولا حتى كياناً عقلانياً متعالياً كما كان يراه هيغل. ومن الجدير قوله إن لا شعورنا السياسي مازال مبنياً على فكرة الدولة الهيغلية المطلقة، وربما أسوأ من ذلك، أي الدولة الخلدونية القائمة على العصبية بشكلٍ أساسي، وهذا ما لا بد من مقاومته إن أردنا لسوريا والشعب السوري التعافي من مرض الدولة المطلقة، والتركيز على الدولة المدنية الديمقراطية النابعة من إرادة الشعب والخاضعة لها، والمُستحصِلة لمفهوم السيادة من سيادة الشعب على ذاته ومصيره، وليس من أي سيادة متعالية أو أبدية جوفاء وفارغة.
السياسة المدنية والدولة
يقول كلاوزفيتز: الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، ويردّ ميشيل فوكو: الأصح أن نقول إن السياسة هي امتداد للحرب. تبقى كلا المقولتان صحيحتان، لكن ضمن معطيات محددة باعتقادنا، أهمها: وجود دولةٍ أمة، وعدوٍ خارجي، وهذا ما لا يصح في حالتنا السورية، فالشرط السوري تغير تماماً مع الثورة، حيث إن الدولة؛ التي لم تكن أصلاً دولة أمة، لم يقبل نظامها السياسي الأسدي بأقل من تدميرها مادياً وتدمير مؤسساتها بنيوياً، عندما ربط على نحوٍ وثيقٍ بين انهياره كنظام وانهيارها كدولة. والعدو الخارجي، الممثل تاريخياً بإسرائيل بشكل أساسي، لم يعد أولوية مطلقة بعد الحرب التي شنها الأسد ضد الشعب، بحيث أصبح العدو الأول داخلياً بشكلٍ أساسي، تمثله عدة تنظيمات تمنع وجود ووحدة الدولة السورية، ويقع على رأس تلك التنظيمات، تنظيم الدولة الأسدية، ثم تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، مع مشاركة دول كثيرةٍ لإسرائيل في موقع العدو الخارجي المباشر.
وبالعودة إلى تاريخنا الحديث فيما يخص الدولة، يمكننا القول إن الدولة السورية تم تشكيلها من فوق، أي أن مجتمعاتنا لم تتطور أو تطوِّر أدواتها وتبني مؤسساتها المدنية وهيكل دولتها وترسم حدودها كحال انتقال طبيعي أو تدريجي أو وظيفي أو حاجوي، من حالتها الأهلية (القبلية والعشائرية والمناطقية…إلخ)، إلى حالة مدنية سياسية متطورة، كما أن البنية السياسية للدولة كذلك جاءت فوقياً وتركيبياً، بمعنى أن شكل المجتمع السياسي والبنية السياسية جاء جاهزاً من الاستعمار الأوروبي، بينما مضمونه العملي جاء من تحت، أي من القبيلة والعشيرة والمجتمع الأهلي. وبعد فترة بسيطة ومتقطّعة من الحكم المدني بعد الاستقلال، ثم استلام العسكر للسلطة، تم نقل منظومة البنى الأهلية المتخلفة، كما هي تقريباً، إلى حيز السياسة، مع فارقٍ بسيط لكن جوهري، هو حلول العسكر وضباط الجيش المنحدرين من الطبقات الدنيا في المجتمع؛ ومعظمهم أبناء ريفٍ حيث التقليد وضعف المجتمع المدني لأبعد الحدود، محل الطبقات العليا في المجتمع التقليدي، بما يشكله هذا الأخير من إقطاع وآغاوات ومُلاّك وأثرياء وأعيان مدن وغيرهم. وقد حلَّ أولئك العسكر كقادة سياسيين للمجتمع السياسي والنظام السياسي، وأصبحوا بُناةً للدولة المشكَّلة حديثاً بعد خروج الاستعمار.
لكن حلول العسكر التقليديين وأبناء الطبقات الدنيا المحافظة، مكان الإقطاع والأعيان؛ التقليديين أيضاً، لم يشمل بدايةً سوى ثوابت الدولة والمجتمع السياسي، بينما بقي أبناء الطبقات العليا في حيز الاقتصاد والثروة والغنى الوراثي دون أن ينخرطوا في العمق؛ بوصفهم طبقة اجتماعية، في السياسة وبناء النظام السياسي، أو حتى في بناء المجتمع المدني بما يعنيه من مؤسسات ومنظمات مدنية. لكن لم يدم الأمر طويلاً حتى بدأ العسكر، المسيطرون على الجيش والسياسة فعلياً، يشكلون طبقة جديدة من الأثرياء محدثي النعمة، والحلول الكبير والطاغي محل الطبقات الثرية الوراثية القديمة، بالمعنيين السياسي والاقتصادي؛ وبشكل تلقائي وتدريجي، بالمعنى الاجتماعي والوجاهة الاجتماعية.
وفي المحصلة نقل العسكر معهم أصولهم الأهلية وعقائدهم وطرائق تفكيرهم القبلية والتقليدية، إلى الدولة المُسيطَر عليها من قبل السلطة السياسية/العسكرية، التي هم قادتها. فأصبحت الدولة نظاماً سياسياً عشائرياً في المضمون، لكنه قائمٌ فوق مؤسسات دولة في الشكل. وبقيت الدولة على هذا النحو حتى عهد بشار الأسد التحديثي، الذي لم يفعل شيئاً سوى تكوين طبقة جديدة من البرجوازيين غير التقليديين من أبناء الضباط القدامى والأقارب الأولَى بالسلطة والمال، مع تهميشٍ كبيرٍ للطبقة البرجوازية القديمة التي حافظَ والده على نوعٍ من التوازن معها في دمشق وحلب على نحوٍ خاص.
ولذلك لم يكن في سوريا في أي مرحلة من تاريخها دولة عامة، جهاز إداري يعمل في خدمة الشعب ولمصلحة تطوره المدني والأخلاقي والسياسي والاقتصادي، بل إن ثوابت الدولة وأعمدتها الأساسية كانت بمجملها مخصخصة وتابعة للنظام السياسي الذي أصبح نظاماً فاشياً مع حافظ الأسد، فالجيش كان عقائدياً تابعاً للنظام، ولم يكن جيشاً وطنياً لحماية حدود الدولة أو سيادتها؛ المخترقة دون كللٍ من اسرائيل، والقضاء كان قضاءً فاسداً ومسيساً لصالح النظام السياسي، إضافةً لكونه معطلاً بحالة الطوارئ المفروضة منذ انقلاب البعث، والحكومة كانت جهازاً بيروقراطياً خاضعاً لأجهزة الأمن والاستخبارات، ويتم تغييرها بجرة قلم رئاسية. والبرلمان، الذي هو السلطة التشريعية، كان محكوماً بأكثرية الحزب الواحد، والباقي تفاصيلٌ بلا معنى ولا تأثير، لا تشريعيٍ ولا سياسي. ومن هنا يبدو أن المرحلة الفاصلة التي ابتدأتها الثورة السورية لن تنتهي دون إعادة تشكيل ورسم الدولة السورية، فإن كانت الدولة المركزية و«العميقة»، المتسلطة والشمولية والأمنية، لم تكن خياراً جيداً، ولم تعد خياراً ممكناً، ولا مقبولاً من السوريين، فإن خيار الدولة اللامركزية الموحّدة ضمن حدود سايكس بيكو ذاتها، مازال خياراً ممكناً ومقبولاً وتقدمياً في آن.
لكن للحديثِ عن الدولة والسياسة في عالم اليوم، لا بدَّ من أخذ سياق العولمة وتأثيراتها الدولية بعين الاعتبار. فلقد تحركت العولمة؛ ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، باتجاهين متناقضين، لكنهما متكاملان ومتزامنان. الحركة الأولى كانت باتجاه توحيد العالم وجعله «قرية صغيرة»، وهذا العالم الواحد هو العالم الذي احتفل فوكوياما بانتصاره في التسعينيات مُنصِّباً على رأسه وفي قمّته النظام الرأسمالي العالمي بوصفه «نهاية التاريخ». والحركة الثانية للعولمة معاكسةٌ للأولى، أي باتجاه تفريد العالم وابراز العدد اللانهائي لثقافاته المحلية الما قبل دولتية والشديدة التنوع، تلك الثقافات التي أتاحت لها ثورة الاتصالات والفضاء المعولم، البروز الذاتي والارتباط العالمي في الوقت ذاته. والعالم المتعدد جداً بالمعنى الثقافي تم اختزاله مع هنتنغتون إلى عدة حضاراتٍ أو ثقافاتٍ مركزيةٍ متصارعة من جهة، وحاكمة للصراعات ولنموذج السياسة الدولية من جهة أخرى. لكن في الحقيقة فإن العالم بقي واحداً وكثيراً في آن، والحركتان الناتجتان عن العولمة كانتا خارج السيطرة بتقديرنا، أو هما «موضوعيتان» إلى حدٍّ كبير، وبتأثيرهما تغير المعنى القديم للدولة بمفهومها الهيغلي، أي الدولة/الأمة، أو حتى الدولة القومية المركزية، التي تتحقق فيها عند هيغل الفكرة المطلقة. لكن علينا أن نفهم دائماً أن تغير الدولة لم يكن أفولاً لها أو إضعافاً لأهميتها على ما ظنَّت أدبياتٌ كثيرةٌ ظهرت منذ نهاية القرن الماضي بالتزامن مع انتشار ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للدول، بل هو تغيّرٌ في بنية كل دولةٍ في العالم، بحيث إن «قانون» أو حركة الاندماج والتذرير، الوحدة والكثرة، التكتل والانفراط، لم يُصِب العالم كله كوحدة كوكبية معولمة فحسب، بل أصاب كل دولة في العالم على حدى تقريباً، وإن اختلف بين دولة وأخرى حسب تقدمها ودخولها في سياق التعولُم، وحسب حوائط الصدّ السياسية والاقتصادية الموجودة فيها، وحسب نظامها السياسي إن كان ديكتاتورياً أو ديمقراطياً بكل تأكيد. الفكرة المراد قولها من هذا العرض، هي أن عناصر تماسك الدولة من الداخل في عصر العولمة لم تعد موجودةً في حجمها وقوتها وحدودها وسيطرتها الداخلية والخارجية وأحقيتها في احتكار العنف كما عرَّفها ماكس فيبر، ولا في إيديولوجيتها التي تصنع هويتها عبر خلق هويات معادية وأيديولوجيات مضادة، على طريقة الدول الشمولية أو الامبراطوريات القديمة والمتجددة، بل إن تماسك الدول أصبح أكثر ارتباطاً بقوة مؤسساتها وغناها وتعددها، ولا مركزية قراراتها وتوزيع السلطة فيها، وانفتاحها على وحدة الهوية البشرية من جهة خارجية، مقابل التعدد اللانهائي للهويات الثقافية والاجتماعية والفردية من جهة داخلية. لذلك نعتقدُ أن هناك ميلاً تاريخياً تحمله العولمة في صلبها، يتجه إلى تفكّك الدول الهوياتية المتصلبة والمغلقة والأحادية، مقابل تكتّل أو ترابط الدول الأكثر انفتاحاً على غناها البشري والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي الداخلي. وإذا أردنا لبلدنا سوريا التماسك أمام التحطم المتعدد الأصعدة الموجود فيها والذي تعرضت له، لا بدَّ من التركيز على مصالح السوريين وأهميتهم كبشر وتنوعهم الفردي والجماعي، قبل أي تمسّكٍ آخر بحجم الدولة وشكلها أو جغرافيتها أو المشاريع الخارجية المرسومة لها، حيث إن البشر هم البوصلة وهم الهدف، وكرامة السوريين وحريتهم وأمنهم هو ما يجب أن يبقى الأولوية المطلقة لأي سياسة أو مشروع سياسي سوري، وليس سوى سياسة مدنية يمكنها أن تحترم تنوع السوريين، وتقاوم مدنياً المشاريع السلطوية العسكرية الميليشيوية لتفتيتهم، وتساهم معهم ومن خلالهم في إعادة بناء الدولة المدنية الديمقراطية على عقدٍ اجتماعيٍ سياسيٍ جديد