أفيرنو/ لويز غليك
1
تموتين عندما تموت روحك.
وإلّا فإنك تعيشين.
قد لا تنجحين في العيش، ولكنك تستمرّين –
شيءٌ لا خيار لك فيه.
عندما أقول هذا لأبنائي
لا يعيرونني الانتباه.
المسنّون يُفكّرون –
ذلك ما يفعلونه على الدوام:
يتحدّثون عن أشياء لا يستطيع أحد أن يراها
للتمويه عن كل خلايا الدماغ التي يفقدونها.
يغمزون لبعضهم البعض؛
اسمعوا المُسنّ يتحدّث عن الروح
لأنه لم يعد بإمكانه أن يتذكّر كلمةَ كرسيّ.
من المريع أن تكوني وحيدةً.
لا أقصد أن تعيشي وحيدةً –
بل أن تكوني وحيدةً، حيث لا يسمعكِ أحد.
أذكرُ كلمة كرسيّ.
أريد أن أقول – أنا لم أعد مهتمّة.
أستيقظ وأنا أفكّر
“عليكِ أن تُعِدّي”.
سوف تستسلم الروح عمّا قريب –
لن تساعدك كل كراسي العالم.
أعرف ما يقولون عندما أكون خارج الغرفة.
هل يجب أن أرى معالجاً، هل يجب أن آخذ
إحدى أدوية الاكتئاب الجديدة
بإمكاني أن أسمعهم يُخطّطون، همساً، كيف سيقسمون التكلفة.
وأريد أن أصرخ،
“أنتم كلّكُم تعيشون في حلم”.
كم من السيّئ أصلاً – يُفَكِّرون – أن يشاهدوا انهياري.
كم من السيّئ أصلاً، حتى من دون المحاضرات التي تُفرض عليهم هذه الأيام
وكأنّ لي الحق في امتلاك هذه المعلومات الجديدة.
هم لديهم نفس الحق بأي حال.
هم يعيشون في حلم، وأنا أُعِدُّ
لكي أصير شبحاً. أريد أن أصيح
“قد انجلى الضباب” –
إنه مثل حياة جديدة:
ليس لك نصيب في النتيجة؛
أنتِ تعرفين النتيجة.
فكّري بالأمر: ستّون عاماً من الجلوس على الكراسي. والآن تسعى الروح الفانية
بكل صراحة، وبكل جرأة –
إلى رفع الحجاب.
إلى رؤية ما تقومين بتوديعه.
2
لم أرجع لفترة طويلة.
عندما رأيتُ الحقل مرّةً أُخرى، كان الخريف قد انقضى.
هنا، يكاد ينتهي الخريف قبل أن يبدأ –
المُسنّون لا يملكون ثياباً صيفية حتى.
كان الحقل مغطّىً بالثلج، نقياً.
لم يكن هناك أثر لما حدث هنا.
لم تكوني لتعرفي ما إذا قام الفلّاح
بإعادة الزرعِ أم لم يفعل.
ربما استسلم وذهب بعيداً.
لم تُلقِ الشرطة القبض على الفتاة.
بعد حينٍ قالوا إنها انتقلت إلى بلدة أُخرى،
بلدة ليس فيها حقول.
كارثة كهذه
لا تترك أثراً على الأرض.
وناسٌ مثل هؤلاء – يظنّون أنها تمنحهم
بداية جديدة.
وقفتُ طويلاً، أحدّق في اللاشيء.
بعد قليل، لاحظتُ شدة الظلام، وشدّة البرد.
لوقت طويل – ليست لديّ فكرة عن طوله.
حالما تُقرّر الأرض ألّا تعود لديها ذاكرة
يصبح الوقت، بطريقة ما، خالياً من المعنى.
ولكن ليسَ لأبنائي. هُم يلحقون بي
لكي أكتب وصية؛ هم قلقون من أن تأخذ الحكومة
كلّ شيء.
يجب أن يأتوا معي في بعض الأحيان
لكي يروا هذا الحقل تحت غطاء من الثلج.
الأمر برُمّته مكتوبٌ في الخارج هناك.
لا شيء: ليس لديّ شيءٌ لأعطيهم إياه.
ذلكَ أوّلاً.
أمّا ثانياً: لا أريد أن يتمّ حرقي.
3
على جهةٍ، تجولُ الروح.
على الأُخرى، يعيش البشرُ في خوف.
وفيما بينهما، هوّة الاختفاء.
تسألني بعضُ البنات
عما إذا سيكُنّ بمأمن بالقرب من أفيرنو* –
فهن يشعرن بالبرد، وهن يرغبن بالذهاب إلى الجنوب لبعض الوقت.
وتقول إحداهنّ، وكأنها تمزحُ، ولكن ليس إلى أقصى الجنوب –
أقولُ، إنها آمنة مثل أي مكان،
ويسعدهن ذلك.
ما يعنيه ذلك هو، لا شيء آمن.
تركبين قطاراً، تختفين.
تكتبين اسمك على النافذة، تختفين.
هناك أماكن مثل هذه في كل مكان،
أماكن تدخلينها كبنتٍ يافعة
ولا ترجعين منها قطّ.
مثل الحقل، الحقل الذي احترق.
بعدها، اختفت فتاة.
ربما لم تكن موجودة أصلاً،
ليس لدينا دليل في كلتا الحالتين.
كل ما نعرفه هو:
أن الحقل احترق.
ولكننا رأينا ذلك.
لذلك علينا أن نؤمن بالفتاة،
وبما فعلت. وإلّا
لكانت قوىً لا نفهمها هي
التي تحكم الأرض فحسب.
البناتُ سعيدات، يفكّرن بإجازتهن.
لا تأخذوا القطار، أقولُ.
تكتب البنات أسماءهن في الضباب على نافذة القطار.
أريد أن أقول، إنكن بنات طيّبات،
تحاولن تركَ أسمائكن خلفكُن.
4
قضينا اليومَ بأكمله
نبحر عرض الأرخبيل،
الجزيرة الصغيرة التي كانت
جزءاً من شبه الجزيرة
إلى أن تفكّكت
فصارت الشظايا التي ترونها الآن
تطفو في مياه بحر الشمال.
بدَت الجزيرة آمنة بالنسبة لي،
لأنه لا يمكن لأحد أن يعيش فيها على ما أظنّ.
لاحقاً، جلسنا في المطبخ
وشاهدنا المساء يحل ومن ثمّ الثلوج.
الواحدة أولاً، ثم الأُخرى.
ران علينا الصمتُ، نوَّمَنا الثلج
وكأنما كان ضربٌ من الاضطراب
كان مخفياً من قبل
قد صار مرئياً الآن،
وكأنّ شيئاً داخل الليل
قد انكشفَ الآن –
في صمتنا، قمنا بطرح
تلك الأسئلة التي يطرحها الأصدقاء الذين يتبادلون الثقة
من شدّة التعب،
وكلٌّ منهم يأمل بأن يعرف الآخر المزيد
وعندما لا يحدث ذلك، فإنهم يأملون
بأن ترقى انطباعاتهم المشتركة إلى مستوى البصيرة.
“هل هناك أي فائدة من إجبار الذات
على إدراك حتمية الموت؟
هل من الممكن أن يضيّع المرء فرصة حياته؟”
أسئلة كهذه.
كان الثلج ثقيلاً. وتحوّل الليل الأسود
إلى هواء مكتظّ أبيض اللون.
وانكشف شيءٌ لم نره.
ولكن معناه هو الذي لم ينكشف.
5
بعد الشتاء الأوّل، بدأ الحقل ينمو من جديد.
ولكن لم تعد توجد فيه أخاديد مرصوفة.
بقيت رائحة القمح، مثل عبيرٍ عشوائي
اختلط بالعديد من الأعشاب التي
لم يُبتكر لها أي استخدام بشري حتى الآن.
كان الأمر محيّراً – لم يعرف أحد
أين اختفى الفلاح.
البعضُ ظنّ أنه قد مات.
البعضُ قال إن لديه ابنة في نيوزيلندا،
وإنه ذهب هناك لكي يعتني
بأحفاده بدلاً من القمح.
الطبيعةُ، على ما يبدو، ليست مثلنا؛
فهي لا تملك مخزناً للذاكرة.
الحقل لا يصبح خائفاً من أعواد الثقاب،
ولا من البنات الصغيرات. لا يذكر الحقلُ
الأخاديد أيضاً. يُقتل الحقل، ويُحرق،
وبعد عام يعيش من جديد
وكأن شيئاً غير عادي لم يحدث له.
يحدّقُ الفلّاح من النافذة.
ربما في نيوزيلندا، ربما في مكان آخر.
ويفكّر: حياتي انتهَت.
فقد عبّرت حياته عن نفسها في ذلك الحقل؛
لم يعد يؤمن بجدوى خلقِ أي شيء
من الأرض. الأرضُ – يُفكّر –
قهرتني.
يتذكّر اليوم الذي احترق الحقل فيه،
ليس – يُفكّر – بالغلط.
ويقول شيءٌ ما، عميقاً بداخله: “بإمكاني أن أتعايش مع الأمر،
بإمكاني أن أصارعه بعد حين”.
حلّت اللحظةُ المريعة في الربيع الذي تلا انمحاق عمله،
عندما فهم أن الأرض
لم تعرف كيف تنعى، وأنها تتغيّر عوضاً عن ذلك.
وأنها ستستمر في الوجود من دونه.
* أفيرنو: اسم قديم. أفيرنوس: بحيرةٌ بركانية صغيرة تقع على بعد عشرة أميال غرب نابولي، إيطاليا؛ اعتبرها الرومان القدماء بوابة إلى العالم السفلي (المترجم)
** Louise Glück شاعرة أميركية من مواليد 1943، حازت جائزة نوبل للآداب عام 2020. ترجمة: أنس الحوراني
العربي الجديد