أوهام انشقاق “PKK”/ عبد الله النجار
تُسلّم شريحة واسعة من الكرد السوريين بأنّ دخول العمال الكردستاني على خط الثورة السورية “الأزمة” كان خطأ فادحًا أطاح بطموحاتهم، فالشعب الذي عانى ظلمًا مزدوجًا من نظام الأسد وجَدَ نفسه يساق عنوة للوقوف في صفّ جلاده، ولمعاداة الثورة التي انتمى إليها شكلًا ومضمونًا، وكان من أوائل من شاركوا فيها.
يتباهى الكرديّ ببطولات أجداده في مواجهة الاستعمار الفرنسي، بمقدار تفاخره ببطولات العائلة البرزانية أو غيرها من الأرومات التي قادت بدايات الصحوة القومية الكردية، وما كان ينتظر أن يتباهى به أحفاده رماه PKK على قارعة الطريق.
لم تبدِ الأحزاب الكردية سخطها لخسائر المدنيين، وهي ترى وحدات حماية الشعب YPG، ولاحقًا (قسد) SDF، تحرّر المنطقة تلو الأخرى من تنظيم (داعش)، ولم تُدن استقواء تلك القوات بالطيران الروسي في مواجهة الجيش الحرّ، ولم تنبس ببنت شفة وهي تتابع قطعها لطريق الكاستيلو الذي أسقط حلب نهاية 2016 في يد النظام، ففي سبيل إقامة إقليم أو إدارة كردية، كلّ شيء مباح.
اعتقد الكرد السوريون أن وحدتهم ليست موضع نقاش، وأنها بديهية مسلّم بها، تبذل في سبيلها الأنفس والمناصب، وتهون لأجلها المزايا والمكتسبات، غير أن الواقع أثبت عكس ذلك، وأن المسألة ليست بالأمر السهل.
على الرغم من أن الدماء التي سالت شرقي الفرات منذ تموز/ يوليو 2012 لم تكن “أبوجية[1]” ولا حتى كرديةً صرفة، بل انتمت إلى كل الأيديولوجيات الكردية وغير الكردية الحزبية وغير الحزبية؛ فإن أثمان هذه الدماء ونتائجها، أو ما بات يطلق عليها بالمكتسبات، تمت مصادرتها لصالح أيديولوجية واحدة ارتبطت بحزب العمال الكردستاني PKK.
وفي سبيل التخلص من ربقة هذا الحزب والحفاظ على المكتسبات، وأمام العجز عن اختراق هذا الاحتكار أو كسره من الخارج، يعول الكردي على انشقاق أو انقلاب من داخل PKK يتمناه وتشتهيه نفسه، يخلصه من دوامة الحزب المدرج على قوائم الإرهاب، ويحفظ له مكتسباته، وينقله خطوةً أخرى نحو الأمام، تتمثل في اعتراف الولايات المتحدة بالإدارة الذاتية.
تجارب انشقاق PKK:
تعدّ محاولات الانشقاق الفاشلة التي تمت معاقبة أصحابها بما يستحقون، جزءًا من تاريخ PKK، حيث ولدت معه منذ اللحظة الأولى لتأسيسه، وقد كانت نهاياتها كلها متشابهة، وتمثلت دومًا باستئصال “الخونة”، كما يطلق عليهم الحزب، واستمرار الأصل بقيادته التي يشكل أوجلان واجهتها.
وقع آخر انشقاق في PKK عام 2004، حين فرّ حوالي 100 عضو من أبرز قيادات وكوادر الحزب في قنديل آنذاك والتجؤوا إلى إقليم كردستان العراق، إلا أن معظمهم تعرض للتصفية في العراق ولاحقًا في سورية، ولم ينج منهم إلا القليل الذين تواروا عن الأنظار وطلّقوا العمل السياسي، أو أولئك الذين عادوا للعمل كعملاء عند PKK، لذلك فإن مسألة الانشقاق عن الحزب أو مخالفة أوامره وقراراته، أو الخروج على عقيدته، هي مسألة حياة و موت، لا مسألة خلاف فكري أو تنظيمي تحميه الديمقراطية وحرية الرأي، “فالأبوجية” طبعة غير قابلة للإزالة أو الاستبدال، والعمال الكردستاني تنظيم عسكري قبل أن يكون حزبًا سياسيًا.
الإشاعة للمرة الأولى:
انتشرت أولى إشاعات الانشقاق في نيسان/ أبريل 2020، وذلك بالتزامن مع انطلاق الحوار الكردي-الكردي الذي دعى إليه قائد “قوات سوريا الديمقراطية” في خطوة رأى فيها الكرد السوريون خروجًا على منطق الاستفراد الذي يمتاز به الحزب، وقد تزامن ذلك مع ما أشيع عن وصول “محمود رش”، وهو كادر قديم في حزب العمال الكردستاني إلى الأراضي السورية، وقد ظنّ كثيرون حينها أنه أوفد ليكون بديلًا لمظلوم عبدي[2]؛ الأمر الذي عزز الإشاعة، تلى ذلك بعد أيام خروج مظلوم عبدي وبولات جان، وكلاهما قياديان في PKK، لأول مرة وعلى غير العادة، في لقاء مشترك مع موقع ريفيو الفرنسي، الأمر الذي فسّره البعض حينذاك بتزعزع ثقة الحزب بمظلوم، واستدلّ آخرون من إجابات الرجلين على وجود انشقاق آخر في القيادة، أحدهما يميل إلى الأمريكان والآخر ذو هوًى روسي، ومع أن خروج الرجلين في مقابلة واحدة يضرب تفرّد مظلوم في الصميم، وقد يكون قد أريد منه بالفعل الترويج لمثل هذه الإشاعة، فإن المتفحص في إجابتيهما يدرك أنه لا تناقض فيها، بل كملت بعضها البعض، خاصة أنه خلال الفترة اللاحقة أجرى مظلوم العديد من المقابلات منفردًا، ورعى الحوار الكردي-الكردي، وأجرى الصلح مع عوائل شهداء 27 حزيران/ يونيو 2013 في عامودا .
الإشاعة للمرة الثانية:
تجددت إشاعة الانشقاق في تموز/ يوليو 2020، وارتبطت حينذاك مع ما أشيع عن ترحيل صبري أوك القيادي في PKK إلى قنديل، الأمر الذي عده البعض انتصارًا لمظلوم على PKK، مع أنه لا يوجد أي دليل على صحة ذلك.
الإشاعة للمرة الثالثة:
عادت شائعة الانشقاق للواجهة مرة أخرى، في بداية أيار/ مايو الحالي، بالتزامن مع تصاعد ما قيل إنها حملة لمكافحة الفساد شرقي الفرات، يقودها كوادر أتراك من قنديل شملت كثيرًا من القياديين المدنيين والعسكريين، منهم نسبة واضحة من المقربين من مظلوم أو ينحدرون من منطقة عين العرب التي ينتمي إليها.
حملة مكافحة الفساد تنال أذرع مظلوم:
مع أن حملة مكافحة الفساد نالت سوريين وأتراك، فإنها استهدفت السوريين بقدر أكبر، وبدت كأنها حملة موجهة ضد مظلوم ذاته، لاستهدافها بداية أولئك المقربين منه خاصة أنها أقصت كثيرًا من المحسوبين عليه، في مقدمتهم اثنان من أبرز مساعديه، أحدهما يلقب حركيًا (جهاد) وهو كادر عسكري سابق في حزب العمال الكردستاني كان يشغل منصب وزير المالية في شمال وشرق سورية جرى اعتقاله بداية عام 2020 بتهمة اختلاس ثلاثة ملايين دولار، حسب ما أشيع حينها، ثم أطلق سراحه بعد خمسة أشهر بذريعة أن أخطاءه لم تكن مقصودة، وهي ليست اختلاسات، وبالرغم من ذلك لم يتم الاعتذار منه أو إعادته إلى عمله، بل أجبر على تقديم استقالته، وهو ما دفع كثيرين للقول إن صفته العسكرية ككادر قديم في الحزب هي ما شفع له.
أما الضربة الثانية التي تم توجيهها إلى مظلوم، فكانت اعتقال ذراعه اليمين ويدعى “دليار”، وهو اسم حركي لمهندس اتصالات من عين العرب خريج جامعة حلب، انضم إلى الحزب عام 2011، وتسلّم مناصب عدة في “قوات حماية الشعب” YPG، ولاحقًا في (قسد)، كان أبرزها مسؤولًا عن الاتصالات والإنترنت وطائرات الاستطلاع، ثم استلم مهمة الإشراف على مشروع مدّ الكابل الضوئي، من القامشلي إلى منبج عام 2019، الذي تتجاوز صرفياته 600 ألف دولار شهريًا؛ فأثار ذلك حفيظة منافسيه الأتراك، فتم اعتقاله مع والده منذ أكثر من ثمانية أشهر، في إطار حملة مكافحة الفساد، بحجة افتتاحه مشروع مياه معدنية في أربيل، والاشتباه بأنه كان يتجهز للفرار، وتسلّم منافسوه الأتراك مهمة الإشراف على المشروع.
ولكن هل خرج مظلوم فعلًا على PKK؟
خلال ثماني سنوات من تأسيس “وحدات حماية الشعب”، في 19 تموز/ يوليو 2012، وخمس سنوات من تأسيس “قوات سوريا الديمقراطية” في 11تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، لم يعترف مظلوم ولا رفاقه بوجود أي كادر أجنبي من حزب العمال الكردستاني بين صفوفهم، بل أصرّوا على نفي أي ارتباط أو علاقة لهم بقيادة الحزب المذكور في قنديل، بالرغم من وجود مئات الشهادات التي تؤكد وجودهم ومشاركتهم. غير أن مظلوم عبدي اعترف، لأول مرة، بوجودهم في لقائه مع مجموعة الأزمات الدولية في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، الأمر الذي فسره البعض بأنه خروج على قنديل وشق عصا الطاعة في وجه الحزب، وتعبير عن استعداد لطرد كوادر قنديل من سورية.
غير أن ذلك لم يكن دقيقًا، فما لم ينتبه إليه أولئك هو أن هذا الاعتراف جاء بعد إثارته في لقاءات الحوار الكردي-الكردي، وبعد أسبوع واحد فقط من إقرار قنديل بمشاركة مقاتليها في سورية، على لسان دوران كالكان القيادي في PKK، وذلك في سياق تأكيده أحقية PKK في الوجود في “روجآفا” بذريعة إنجازه لكل ما هو موجود من مكتسبات فيها، ليخلص إلى تحدي الولايات المتحدة إجراء استفتاء بهذا الخصوص هناك، لترى كيف تكون ردة فعل الشعب الكردي، وخلص كالكان من كل ذلك إلى القول إن مسألة إخراج كوادر PKK من سورية تعود للإرادة الوطنية للشعب الكردي، وبمعنى آخر: إنهم لن يغادروا سورية.
ومن أجل تأكيد تلك الغاية، جاء اعتراف مظلوم أيضًا، الذي أعاد اعترافه مرة أخرى، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2020، على فضائية (روناهي) التابعة لـ PKK، مضيفًا أن الآلاف من مقاتلي الحزب قدموا لهم المساعدة، وأن عدد القتلى منهم أربعة آلاف قتيل، ما يؤكد وجهة النظر التي أراد كالكان قولها في أحقية PKK بالبقاء استنادًا إلى شرعية البندقية، لا كما تصور وتمنى الكرد السوريون.
وقع كوباني صفقة النفط في تموز/ يوليو 2020 مع شركة “دلتا آكسنت” الأميركية، بعد أشهر من تصريح سابق “للمونيتور” أكد فيه أنه لا يمكن بيع النفط السوري للدول الأجنبية إلا بموافقة الشعب السوري والحكومة المركزية في دمشق، ومع أن الرجل الأول في PKK جميل بايق أعاد تأكيد تصريح كوباني فإن العقد لم يُلغَ ولم تقم القيامة ضد مظلوم، بالرغم من مضي عشرة أشهر على توقيعه، ما يؤكد أن تصريح بايق لم يكن إلا رفعًا للحرج من تناقض حربه المعلنة على الإمبريالية وأكله معها من صحنٍ واحد.
كذلك استمرت لقاءات مظلوم مع صحف لـ PKK، وأبرزها سياسة الحرية الجديدة، كما استمر موقع حزب الاتحاد الديمقراطي ووكالة “هاوار” وفضائية “روناهي” في استضافته وإجراء اللقاءات معه.
شائعات الانشقاق عززت موقف مظلوم:
تم استخدام إشاعات الانشقاق والإقصاء والمحاصرة في سبيل تلميع مظلوم عبدي في عيون الكرد، وتقديمه يدًا حانيةً ينامون عليها حين تؤلمهم أذرع PKK الأخرى، وتجنيبه مسؤولية تصرفات باقي الأذرع التي تعتدي من حين لآخر على مكاتب المجلس الوطني الكردي والأحزاب الكردية، أو تنفذ عمليات خطف وتجنيد القصّر لصالح PKK دون رضى ذويهم. وكذلك من أجل إبعاده عن تحمل مسؤولية التعاون والتنسيق مع النظام، وجعله ملاذًا آمنًا للعشائر العربية في الرقة ودير الزور المتوجسة من خيانة PKK لها وتسليمها لقمة سائغة للنظام، وتجنيبه مسؤولية التصريحات الإعلامية التي يضطر قادة PKK إلى إطلاقها من حين لآخر ضد الولايات المتحدة التي ما تزال تضعهم على قوائم الإرهاب، وتعلن من حين لآخر عن مكافآت لمن يدلي بمعلومات عنهم.
خلال سنوات طويلة من عمله في سورية، التزم مظلوم بكل مبادئ PKK واتفاقاته حتى تلك المبرمة مع النظام، ولم يخرج على أي منها ولا على عقيدة الحزب، وهو يرى في أكراد سورية مجرد جزء صغير في المعركة الرئيسية مع تركيا.
خلاصة القول أن الحرب التي يتوهم الكرد السوريون أنها موجهة لإقصاء مظلوم عبدي ما هي إلا صراعٌ بين الكوادر الأتراك الأقوى في PKK، والكوادر السوريين الذين يرون أنفسهم أحقّ في تناول كعكة النفط السورية، ويتخذ أحيانًا لبوسًا مناطقيًا، فيثير شكوكًا تعززها أمنياتٌ لا يصدقها الواقع الذي يقول خبراؤه إنه لا يمكن لقائدٍ -مهما علا شأنه- شقّ الحزب، فالمال ومجموعات التصفية والخلايا الاستخباراتية داخل الحزب، والأذرع التنظيمية القادرة على إثارة الشارع وإخراجه في مسيرات مؤيدة لـ PKK، ما تزال في قبضة قنديل، بينما يقتصر دور مظلوم وزملائه في قيادة الساحة السورية على اختيار الشكل المناسب لتنفيذ التوجيهات والتعليمات والخطط المرسومة. ويضيف آخرون أن الفريق الذي يقود الساحة السورية يتقاسم الأدوار بين أعضائه، ففي حين يبدو البعض عدائيًا جدًا، يحاول الآخرون أن يكونوا أكثر ليونة وهدوءًا، وأن هذا أمرٌ متفقٌ عليه بينهم أيضًا.
[1] – الأبوجية: نسبةً إلى أوجلان الذي يطلق عليه أتباعه لقب “آبو” وتعني العم في الكردية.
[2] – مظلوم عبدي هو قائد قوات سوريا الديمقراطية، واسمه الحقيقي مصطفى خليل عبدي، وهو أصلًا من منطقة عين العرب التابعة لمحافظة حلب.