السّقوط في الزّمن” لسيوران…ليس من صالِح الإنسان أن يتذكَّر
يصدر قريباً عن منشورات الجمل كتاب السّقوط في الزّمن للكاتب الفرنسي الروماني أميل سيوران، ترجمة آدم فتحي. هنا مقطع منه ننشره بالاتفاق مع الناشر.
شجرة الحياة
ليس من صالِح الإنسان أن يتذكَّر في كلِّ لحظةٍ أنّه إنسان. وإذَا كان الانكبابُ على الذات أمرًا سيّئًا فإنّ الانكبابَ على الجنس البشريّ بحماسةِ مهوُوسٍ أمرٌ أسوأ: إنّه يعني أن ننسب إلى متاعب الاستبطان الاعتباطيّة أساسًا موضوعيًّا ومبرّرًا فلسفيًّا. في وسعِ كُلٍّ منّا التعلُّل بالتفكير في أنّه يستسلم لنزوةٍ، مادامَ يجترُّ أناه. لكنْ ما إن تصبح الأنواتُ كافّةً محْوَرَ اجترار لا نهاية له، حتى نقف جميعًا بشكْلٍ غير مُباشرٍ على سلبيّات شرطنا وقد عُمِّمَت، وعلى حادثتنا الخاصّة وقد أُنْزِلَتْ منزلةَ المعيار والحالة العامّة.
نبدأ بإدراك الطابع الشاذّ لوجودنا كواقعٍ خام. بعدئذ نشعر بشذوذ وضعنا النوعيّ: إنّ دهشتنا من أن نكون تسبق دهشتنا من أن نكون بشرًا. إلاّ أنّ من المفترض أن تُمثِّلَ غرابةُ وَضْعِنا المُعطَى الأساسيّ لحيراتنا: أن نكون بشرًا أقلُّ طبيعيّةً من أن نكون فحَسْب. نشعرُ بذلك غريزيًّا. من ثمَّ تلك اللذّةُ التي نحسُّ بها كُلَّما أَعْرَضْنَا عن أنفُسِنا لِنَتَماهَى بِنَوْمِ الأشياء الهانئ. لسنا نحنُ حقًّا إلاّ حين نقفُ وجهًا لوجهٍ مع ذواتنا فلا نتطابقُ مع شيء، ولا حتى مع فرادَتِنا. هذه اللعنة التي أصابتنا أطبقت على سَلَفِنَا الأوّل قَبْلَ وقْتٍ طويلٍ من التفاتِه ناحيةَ شجَرة المعرفة. لم يكن راضيًا على نفسِه، وكان أقلّ رضًى على إلإله الذي ظلَّ مَحلَّ حسدِه دون وعيٍ منه. إلاّ أنّه لم يلبث أن وعَى بذلك بفضل المَساعِي الحميدة للشيطان، الذي كان عاملاً مساعدًا على دماره ولم يكن سببه الأصليّ. قبْلَ ذلك كان يعيشُ في الحدْسِ بالمعرفة. في عِلْمٍ جاهِلٍ بنَفسِه. في براءةٍ كاذبةٍ مناسبةٍ لِتَفَتُّحِ الغيرة، تلك الرذيلة التي يلدها التعامُل مع من هو محظوظ أكثر منّا. بَيْدَ أنّ سَلَفَنا كان يتعامل مع الإله. كان كلّ منهما يتجسّس على الآخر، ولا يمكن أن ينتج عن ذلك أيّ شيء جيّد.
«من جميع شجر الجنّة تأكلُ أكلاً، وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكلُ منها موتًا تموت.»[1] – اتّضح أنّ الإنذار القادم من فوق أقلّ نجاعةً من الإغراءات القادمة من تحت: كانت الحيّة أعلم بالنفس البشريّة لذلك انتصرت. فضْلاً عن أنّ الإنسان لم يكن يطلبُ إلاّ الموت. كان يريد أن يُساوِيَ خالقه في العلم وليس في الخلود، من ثمّ لم يشعر بأيّ رغبة في الاقتراب من شجرة الحياة ولم يُولِهَا أيَّ اهتمام. ذاكَ ما يبدو أنّ يَهْوَه قد انتبه إليه بما أنّه لم يحرّمها على الإنسان: لِمَ الخوف من خُلُودِ جاهلٍ؟ لكنّ كلّ شيء يتغيّر متى تطاوَلَ ذلك الجاهلُ على الشجرتين ونجح في امتلاك الخُلودَ والعِلْمَ معًا. ما إن تذوّق الإنسان الثّمرةَ المُحَرَّمة حتى استولى على الإله الذعر وقد أدرك أخيرًا حقيقةَ مخلوقِه. لقد أفرط في المخاطرة حين وضَعَ شجرة المعرفة وسَطَ الفردوس، واستثار أكثرَ رغبات المخلوق خفاءً حين نوَّهَ بمزايا تلك الشجرة وبمخاطرها تحديدًا. كان من الأفضل أن يُحرِّمَ عليه الشجرةَ الأُخرى. وإذا كان قد امتنع عن ذلك فلِتَيَقُّنِه دون شكٍّ من أنّ الإنسان الطّامعَ سِرًّا في الارتقاء إلى مرتبة الوحش، ما كان لِيَقَعَ في غوايةِ خُلودٍ بمثل تلك السهولة وبمثلِ ذاك الابتذال: أَلَيسَ الخلودُ قانُونَ المكان ونظامَهُ الأساسيّ؟ بينما كان في وسع الموتِ الأكثر طرافة والمحاط بأبّهة الجِدّة أن يُثير، في المُقابل، فُضولَ المغامِر المستعدّ للمخاطرة من أجله بسلامه وأمنه. سلام وأمن نسبيَّان في حقيقة الأمر، لأنّ قصّة السّقوط تسمح لنا بالانتباه إلى أنَّ رائدَ جِنْسِنَا لم يَخْلُ من الشعور ببعض الضيق وسط جنّة عَدْنٍ نفسها، وإلاّ ما كنّا نجد مبرّرًا للسهولة التي استسلم بها للغواية. استسلم لها؟ بل رغب فيها. لقد تجلّى لديه سلَفًا قُصورُه عن السعادة، وذلك العجز عن تحمّلها الذي توارثناه جميعًا. كانت السعادة في متناول يده وكان في وسعه امتلاكها إلى الأبد لكنّه نبَذَها، ونحنُ منذئذٍ نُطاردها دون أن نعثر عليها، ولو حدث أن عثرنا عليها لَما تَلاءَمْنا معها أكثر ممّا فعلْنا. هل يُمكنُ أن نتوقّعَ شيئًا آخر من مسيرةٍ بدأت بمخالفة الحكمة، وبالتنكُّرٍ لنعمة الجهْل التي حبانَا بها الخالق؟ لقد أَلْقَتْ بنا المعرفةُ في الزمن، فوُهِبْنَا قدَرًا في الوقت نفسه. إذ ليسَ مِنْ قدَرٍ إلاّ خارج الفردوس.
لو أُسْقِطْنا من براءةٍ كاملةٍ شاملةٍ وبإيجازٍ حقيقيّة، لتحسّرنا عليها بقَدْرٍ من الحِدَّة لا يقف معه شيءٌ ضدّ رغبتنا في استعادتها. إلاّ أنّ السُّمَّ كان قد تفشّى فينا سلَفًا بشكلٍ غير واضحِ المعالِم في البداية، قبل أن يَتعيَّنَ بعدَ ذلك ويستولِيَ علينا لِيَسِمَنا ويجعل منّا أفرادًا إلى الأبد. ألا تكونُ تلك اللحظات، التي تحكّمت خلالَها سلبِيَّةٌ جوهريّةٌ في أفعالنا وأفكارنا، وبات خلالها المستقبل منتهي الصلاحيّة قبل أن يُولَد، وعمَدَ خلالَها دمٌ تالِفٌ إلى تكبيدنا يَقينًا بِكَوْنٍ جُرِّدَتْ أسرارهُ من كلّ شاعريّة، فإذا هو مجنونٌ بالأنيميا، منهارٌ على نفسِه، يَنْحَلُّ داخِلَهُ كلّ شيء في زفرةٍ شَبَحِيّة هي ردٌّ على آلاف السنين من المِحَنِ التي لا تجدي نفْعًا، ألاَ تكونُ تلك اللحظات امتدادًا وتشديدًا لذلك القلَقِ البدئيّ الذي ما كان التاريخُ ليصبح ممكنًا ولا حتّى قابلاً للتصوُّر لولاه، بما أنّه مصنوعٌ مِثْلَهُ من العجْزِ عن تحمُّلِ أيّ شكلٍ من أشكال الغبطة الثابتة؟ لقد أعاقنا هذا العجزُ بل هذا القرَفُ من التحمّل عن العثور داخلنا على مبرّر لوجودِنا، فإذا نحن مدفوعون إلى القفز خارج هويّتنا كأنّنا نقفز خارج طبيعتنا. بقِيَ علينا بعد أن بتنا منفصلين عن ذواتنا أن نصبح منفصلين عن الإله: مطمحٌ كان قد راوَدَنا خلال براءتنا القديمة، فكيف لا يراودنا الآن بعد أن أصبحنا في حِلٍّ من كلّ التزامٍ تجاهه؟ والحقّ أنّ جهودنا ومعارفنا كلَّها تنزَعُ إلى تَنَقُّصِهِ وجعْلِهِ موضوعَ جدلٍ والتشكيك فيه. كُلَّما سيطرت علينا الرغبةُ في المعرفة، المُشبعةُ بالانحراف والفساد، ازداد عجْزُنا عن الاستقرار داخلَ أيّ حقيقةٍ مهما كانت.
يتصرّفُ المسكون بهذه الرغبة كمُدنِّسٍ وخائنٍ وعاملِ انحلال. هو دائمًا إلى جانب الأشياء أو خارجَها، وإذا قُيِّضَ لهُ أن يندسَّ فيها فعلى طريقة اندساسِ الدودة في الثمرة. لو تمتّع الإنسان بأدنَى مَيْلٍ طبيعيّ إلى الأبديّة لَمَا سعى خلفَ المجهول والجديد والأضرار المنجرّة عن شهوة التحليل، ولاكتفى عوضًا عن ذلك بالإله الذي كان هانئًا في كنفه. لقد تعلّقت هِمّةُ الإنسان بالتحرّر من الإله والانفصال عنه فنجح في ذلك نجاحًا فاق كلّ توقّعاته. هكذا دمّرَ وحدة الفردوس ثمّ كرّس نفسه لتدمير وحدة الأرض عن طريق تطعيمها بمبدأ التجزئة المُخصّص لِتَدْمِيرِ نظامِها وغُفْلِيَّتَها. ليسَ من شكٍّ في أنّه عرف الموتَ قبل ذلك، إلاّ أنّ الموتَ الذي كان تَحَقُّقًا في المُبهم البدائيّ لم يكن يحمل بالنسبة إليه المعنى الذي اكتسبهُ منذئذٍ، كما لم يكن مشحونًا بخاصيّاتِ ما لا يمكن إصلاحُه. ما إن انفصل الإنسان عن الخالق والمخلوق، وما إن أصبح فرْدًا أي كسْرًا وصَدْعًا في الكينونة مُضْطلِعًا بمسؤوليّةِ اسمِهِ حَدَّ الاستفزاز، حتى عرف أنّه كائنٌ فانٍ، فتعاظم لذلك غروره بقدر ما تعاظمَ فزَعُه. هو ذا يموتُ أخيرًا على طريقته. كان فخورًا بذلك لكنّه كان يموتُ تمامًا وتلك إهانةٌ له. فَقَدَ الرغبةَ في خاتِمةٍ تمنّاها بضراوة فانتهى به الأمرُ إلى الالتفات آسفًا ناحيةَ الحيواناتِ رفاقِه بالأمس: إنّها راضيةٌ بمصيرها سعيدةٌ به أو راضخةٌ لهُ من أحْقَرِها إلى أعظمها شأنًا، وليس فيها من اقتدى بمثاله أو حاكى تمرُّدَه.
يغتبط النبات أكثر من الحيوان بكونه مخلوقًا. القرّاصُ نَفْسُه لا يعدمُ مُتَنَفّسًا وراحةً في الإله. وحدَه الإنسان يختنقُ فيه. أليس ذلك الإحساس بالاختناق هو الذي يدفعه إلى التفرُّد في الخليقة والظهور فيها بمظهر المحروم الراضي والمنبوذ الطّوْعِيّ؟ يتحقَّقُ لبقيّة الكائنات الحيّة بعضُ التفوُّقِ على الإنسان بفضْلِ تَماهِيهَا مع شرْطِها تحديدًا، ولا يدرك الإنسان خطورة وضعه إلاّ حين يغار منها وحين يُضنيه التّوْقُ إلى مجدِها اللاّشخصيّ. عبثًا يحاول استدراك الحياة التي هرَبَ منها بسبب فضوله تُجاه الموت. هو دائمًا أدنَى من الحياةِ أو أبعد ولا يكون على صعيدٍ واحدٍ معها إطلاقًا. كلّما أفلتت منه ازداد رغبةً في الإمساك بها والسيطرة عليها، فإذا فشل في ذلك استنفر كلّ قدرات إرادتِه القلقة المُعَذَّبَة التي هي سنده الوحيد: إنّه متمرّدٌ خائر القوى ومع ذلك لا يكلّ. مُنْبَتٌّ لا يكفّ عن الغزو لأنّه بلا جذور تحديدًا. بدويٌّ مُحَطّمٌ وغيرُ مروَّضٍ في آن. يفشلُ في إشباع نهمه إلى معالجة نقائصه فيعصف بكلّ ما حوله، فإذا هو مُخرِّبٌ يراكم الإساءة فوق الأخرى، وقد أسخطه أن يرى الحشرة تحصل بِيُسْرٍ على ما لا يحصل هو عليه مهما بذل من جهد. لقد ضيّع سرّ الحياة وسلك طريقًا جانبيّة طويلةً للعثور عليه والتعلُّمِ من جديد، فإذا هو يزدادُ كلّ يومٍ بُعْدًا عن براءته القديمة، ساقطًا في الأبديّة باستمرار. ربّما كان يحظى بفرصةٍ للخلاص لو أنّه تواضع واكتفى بمنافسة الإله من حيث الفطنة والرّهافة والبصيرة، إلاّ أنّه طمعَ في الدرجة نفسها من القدرة.
ما كان لِغَطْرَسَةٍ كهذه أن تنشأ إلاّ في ذِهْنِ مخلوقٍ مُنْحَطٍّ مُزَوّدٍ بشحنةِ وُجُودٍ محدودة، مضطرٍّ بسبب قُصوراتِه إلى زيادة وسائل عمَله بشكلٍ اصطناعيّ، واستبدال غرائزه الفاسدة بأدوات تتيح له أن يُصبِح مُخيفًا. وإذا كان قد أصبح مُخيفًا حقًّا فلأنّ قُدرَتَهُ على الانحطاط ليس لها حدّ. كان عليه أن يتوقّف عند الصوّان وأن يكتفي بعرَبةِ اليد فيما يخصّ التحسينات التقنيّة، إلاّ أنّه ابتكر واستعمل بمهارة شيطانٍ أدواتٍ تدّعِي ذلك التفوّق الغريب الذي يدّعيه كائنٌ ناقِص، أو عيّنةٌ بشَريّةٌ تمّ تخفيضُ ترتيبها بيولوجيًّا، ولم يخطر بِبالِ أحد أنّها قد تبلغ هذه الدرجة من النُّبوغ في الأذِيّة. كان ينبغي أن يحتلّ الأسدُ أو النّمرُ الموقعَ الذي احتلّه الإنسان من سُلَّمِ المخلوقات.
إلاّ أنّ السلطة ليست بالمَرّة مطمح الأقوياء، بل هي مطمح الضعفاء، الذين يبلغونها باجتماع الحيلة والهذيان. يترفَّعُ السّبعُ عن استخدام الأداة لأنّه لا يشعر بالحاجة إلى إضافةِ أيّ شيء إلى قوّته، الحقيقيّة. أمّا الإنسان فكان دائمًا حيوانًا غير عادِيّ، عاجزًا عن إعالة نفسِه وتأكيد ذاته، عنيفًا بسبب وَهَنِه لا بسبب قوّته، عنيدًا انطلاقًا من موقع ضعف، عدوانيًّا بسبب عدم تكيُّفه تحديدًا، لذلك تحتّمَ عليه أن يبحث عن وسائل نجاحٍ ما كان ليتحقّق له أو حتى ليخطر بباله، لو اضطرّته جبِلّتُهُ إلى مُجابهة مقتضيات الصراع من أجل الوُجود. وإذا كان يُبالغ في كلّ شيء، وإذا كانت المغالاةُ حاجةً حيويّة بالنسبة إليه، فلأنّه في البدء مختلُّ التوازن وجامح، وهو من ثمّ عاجزٌ عن التركيز على ما هو كائن، وعن ملاحظة الواقع أو مُعاناتِه دون أن يرغب في تحويلهِ أو تجاوُزِه. إنّه خلْوٌ من الكياسة، من ذلك العِلْم الفطريّ بالحياة، إضافةً إلى أنّه لا يحذقُ تبيُّنَ المُطلَق في الرّاهن، لذلك هو يبدو في مُجمَل الطبيعة حادثةً عرَضِيّة، خروجًا عن الموضوع، بِدْعة، كائنًا مُعكِّرًا للصّفو غريبَ الأطوار، ضالاًّ عقّد كلّ شيء، حتّى خَوْفَه الذي تفاقم فأصبح لديه خوفًا من نفسِه، وفزَعًا من من مصيره كمنهوكٍ أغواهُ الفظيع حتى بات عُرضَةً لمَحْتومٍ في وسعهِ تخويفُ إله. ولمّا كان التراجيديّ ميزَتهُ فإنّه غير قادر على عدم الإحساس بأنّ لديه مصيرًا أكثر ممّا لدى خالقه. من ثمّ غرورُه ورعبُه، وتلك الحاجة إلى أن يهرب من نفسه، وأن يُنتِجَ كي يُخفِيَ هلَعَهُ وكي يتلافى اللقاء بذاتِه. إنّه يفضّل الاستسلام للأفعال لكنّه بذلك لا يقوم في الحقيقة إلاّ بالامتثال لأوامرِ خوفٍ يُحرّضه ويهيّجه. كان في وسع ذلك الخوف أن يشلُّهُ لو أنّه حاول أن يفكّر فيه وأن يدركه بشكل واضح، إلاّ أنّه ظلّ يطفو إلى سطحه من جديد ويقضي على توازُنِه كُلَّما هدأ روعُهُ وكُلّما بدا أنّه يقترب من الجماد. حتى الإحساس بالضيق الذي انتابه وهو وسط الفردوس، ربّما لم يكن سوى خوف افتراضيّ، وبداية تصميمٍ أوّليّ «للروح». لا وسيلةَ للعيش في البراءة والخوف معًا، خاصّةً حين يكون هذا الأخير ظمأً إلى التّباريح وانفتاحًا على الوَخيم واشتهاءً للمجهول.
نحن معنيّون بالقشعريرة في حدّ ذاتها، نتشوّفُ إلى الضارّ وإلى الخطر المحض، على النقيض من الحيوانات التي لا تحبّ الارتجاف إلاّ أمام خطَرٍ مُحَدّد. عِلْمًا بأنّها اللحظة الوحيدة التي تنزلق خلالها الحيوانات ناحية البشريّ وتتهاوى إليه فإذا هي تشبهنا. وذلك لأنّ الخوف – ذلك الضرب من التيّار النفسيّ الذي يخترق فجأةً المادّةَ لإنعاشها بقدْر ما يخترقها لإفساد انتظامها – يبدو تصوُّرًا مسبقًا للوعي أو إمكانيّةً له، بل لعلّه يلعب دورَ الوعي لدى الكائنات التي تفتقر إليه… لقد بات الخوفُ يُحدّدنا إلى درجة أنّنا لم نعد قادرين على ملاحظة حُضورِه إلاّ حين يخفت أو يتراجع إلى تلك الفسحات الهادئة التي تظلّ مع ذلك مشربة به، والتي تختزل السعادة في حيرةٍ ناعمة مُحَبّبة. ولمّا كان الخوفُ عامِلاً مساعدًا للمستقبَل، فإنّه يحفّزنا عن طريق منْعنا من العيش في توافُقٍ مع أنفُسِنا، ويرغمنا على إثبات شخصيّتنا عن طريق الهرب. ليس في وسْعِ الراغب في الفعل أن يستغني عن الخوف بمواصفاته تلك. وحدَهُ المُنْعَتِقُ يتحرّرُ منه ويحتفل بنصْرٍ مُضاعَف: عليه وعلى نفسِه. وذلك لأنّه يتخلّى عن صفته وعن واجِبه كبشر، ويكفّ عن المساهمة في تلك الديمومة المنفوخة رعبًا، وفي ذلك العَدْوِ عبْرَ القرون الذي اظطرّنا إليه ضربٌ من الفزَع، بتنا في نهاية الأمر موضوعَه وسببَه.
[1] التكوين: الإصحاح الثاني.
المدن