بحثاً عن الجانب النقيّ في قلب الإنسان!/ عيسى مخلوف
لا تلتفت إيتل عدنان إلى السنوات التي تتراكم أمام عينيها، وإن شارفت السابعة والتسعين من عمرها. فهي ما زالت، في منزلها المحاذي لحديقة اللوكسمبور، ترسم وتكتب وتحلم، وتتابع بحسرة كبيرة ما يجري في العالم ككلّ، وخصوصاً في بلدها لبنان الذي تتناهشه أنياب الوحوش، وحوش الداخل ووحوش الخارج على السواء.
الأعمال الفنية لإيتل عدنان تُعرض حالياً في كبريات صالات العرض العالميّة، أمّا في باريس فتحضر في غاليري “لُولُون” التي عكفت على نشر، وإعادة نشر، الكثير من كتبها ونصوصها الشعريّة والنثريّة المكتوبة باللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة، وكان آخرها حديثاً كتابين يمكن إدراجهما ضمن أعمالها الشعريّة السياسيّة: “يوم القيامة العربي” و”قطار الجحيم السريع إلى بيروت”.
الكتاب الأول بدأت إيتل عدنان بكتابته مطلع العام 1975، ثمّ اندلعت الحرب الأهليّة واكتوت كلمات القصيدة بنيرانها. وما كان من المفترض أن يكون نصّاً شعرياً مجرّداً اتّخذ على الفور منحى آخر. أصبح شهادة شعريّة عن مأساة شعب، وهي شهادة لا تزال تعبّر عن واقع الحال منذ زهاء نصف قرن. تقول إيتل في هذا الصدد إنّ الحرب لم تحدث بين ليلة وضحاها، بل كانت تتفاعل في الخفاء كبركان يغلي قبل وقت طويل من انفجاره. انتهت الحرب بعد خمس عشرة سنة من اندلاعها، لكنّ الأسباب التي ولّدتها بقيت فاعلة لتجعل من البلد الصغير خرقة ممزّقة وحالة من الانهيار الذي لا يتوقّف.
هربت إيتل من لبنان مع بداية الحرب، ولجأت إلى العاصمة الفرنسيّة حيث تابعت كتابة قصيدتها التي لا تكتفي بالكلمات وحدها، بل أُضيفت إليها إشارات وتخطيطات ورموز للتعبير عمّا يتعذّر التعبير عنه في لحظات العنف الأقصى. شموس سوداء ملتهبة وعيون مُطفأة وأطفال وُلدوا للتّوّ ووجدوا أنفسهم فريسة هذه الوليمة التي يتذابح حولها المدعوّون. في هذه القصيدة، كما في معظم قصائدها التي تنهل من الواقع العربي المتفجّر، تحضر، في جوار لبنان، فلسطين وسوريا والعراق. يحضر الهنود الحُمر ومُضطَهَدو العالم ومعذَّبوه. عن لبنان وحربه الأهليّة أيضاً، كتبت إيتل روايتها الوحيدة “ستّ ماري روز” التي صدرت في طبعتها الأولى في العام 1977.
الكتاب الثاني، “قطار الجحيم السريع إلى بيروت”، يضمّ لأوّل مرّة، بالإضافة إلى المطوّلة الشعريّة التي تحمل اسم الكتاب، قصائد لم تجتمع معاً من قبل، كقصيدة “بيروت 1982″، وقصيدة “كانت بيروت، مرّة أخرى”. في بيروت وُلدت إيتل عدنان، وظلّت هذه المدينة ترافقها في ترحالها الدائم بين سان فرنسيسكو ونيويورك وباريس، بل تحوّلت أحد هواجسها الأساسيّة وأصبحت جرحها السريّ والمُعلَن. فهي تشعر بأنّها اقتُلعَت منها اقتلاعاً، وانقصفت علاقتها بمكانها الأوّل كغصن ضربته صاعقة.
إذا كانت القصيدة، هنا، تنطلق من السياسة، فإنها لا تسقط في الخطاب السياسيّ. تنقذها منه خلفيّتها الفلسفيّة ورؤيتها الشعريّة، فلا تَحيد، إنسانياً وجمالياً، عن إطارها العامّ. تقول في قصيدتها: “قتلتُ ذبابة هذا الصباح/ لو كنتُ دولة/ لدمّرتُ المدينة”. وتختم بأسلوب ملحميّ: “عندما تبلغ الشمس نهاية مسارها الألفيّ/ ستفترس النار الحيوانات، النبات والحجارة/ النارُ ستفترس النارَ والدائرة المكتملة/ عندما تشتعل الدائرة المكتملة لا يأتي الملاك/ ستطفئ الشمسُ الآلهةَ والملائكة والبشر/ وسوف تنطفئ هي أيضاً وسط بناتها/ عندئذ، يحلّ الليل محلّ المادّة – الروح/ ونجد في عُمقِ الليل المعرفةَ والحبَّ والسلام”.
يأتي شعر إيتل عدنان ونثرها من جهة أخرى غير التي تطالعنا في أعمالها التشكيليّة. وبينما يحضر، في الكثير من نصوصها، لبنان الحرب الأهلية، ومعه العالم العربي، وكذلك أحداث التاريخ المعاصر، ويتكشّف بذلك وجه المُبدعة الملتزمة، يغيب هذا المنحى بصورة عامّة عن أعمالها الفنية. عندما ترسم، تنتصر لجانب آخر في نفسها، لوجه آخر من وجوهها، هو الوجه الذي يلتفت إلى الطبيعة وعناصرها، الوجه الذي يُقبل بِحُبّ على العالم. لكنّها توضّح: “قد يأخذ فنّي صورة مختلفة لو كنتُ لا أكتب”.
في لوحاتها الفنّيّة، تنأى إيتل عدنان عن الواقع وأهواله لتعانق الطبيعة وأسرارها. تتمرأى فيها وتتماهى معها كما فعلت مع جبل “تملباييس” المقابل لمنزلها في “ساوساليتو”، وكتبت من وحيه كتاباً بعنوان “رحلة إلى جبل تملباييس”، هو من أجمل ما كتبت، وهو بمثابة نشيد يذهب أبعد من التغنّي بالطبيعة وعناصرها، بحثاً عن الدهشة ومن أجل العثور على الجانب النقيّ في قلب الإنسان.