صفحات الثقافة

ثلاثة متحدات سورية وما لا يحصى من الوحدات المتصارعة/ علي العائد

سورية، الآن، ثلاث سوريات. كانت، أكثر، أو أقل، خلال مراحل من العشرية السوداء السورية الممتدة في العد إلى ما شاءت الأيدي المتدخلة في يباب الجغرافيا السورية.

واحدة في يد النظام المتغولة. الثانية والثالثة في يد فصائل غير محددة الولاء، فلا هي سورية واضحة، ولا هي عميلة بوضوح، ولا هي صاحبة أجندة انفصالية، حتى تعلن هي عن ذلك بأشد ما يكون الوضوح.

النظام يحكم بما يعرفه ويتقنه، من تفكير أمني مافيوي، باعتباره يملك المزرعة، بما عليها، وما تحت أرضها. و”قوات سوريا الديمقراطية” لا تختلف كثيرًا عن النظام، وإن كانت أقل خبرة في البطش والتحكم، لكنَّ مكونها الفكري “الماركسي” يجعلها على مسافة قريبة من النظام من حيث التفكير الشمولي، على الرغم من وهمية تلك الماركسية التي يُنظِّر لها مثقفون، وينفذها أميون. والأصل أن المكون الكردي في هذه القوات هو الطاغي، عددًا وسيطرةً، مع فكر كردي أكثر ميلًا للانفصال في انتظار ترتيبات دولية تساعده على ذلك.

بين هؤلاء وأولئك، هنالك سوريون آخرون ينتظرون أن يُسمعوا كلمتهم عن مستقبل بلادهم لأقرانهم السوريين، حتى في حلف النظام المتهالك، وبغض النظر عن الإرادات الدولية غير المتفاهمة، وعن المسارات السياسية الفاشلة، أو المفشلة، في جنيف، أو أستانة، أو سوتشي، لكن فرصة هؤلاء السوريين لم تأت بعد.

السوريات الثلاث: منها اثنتان في الشمال تحت ظل أميركي تركي روسي، وواحدة في الوسط والغرب، تحت ظل النظام، بل تحت الظل الروسي الإيراني. وهنالك سورية رابعة في الجنوب، لا هي مستقلة، ولا هي تحت سيطرة النظام، بينما نجد أن آثار اليد الأردنية، وقبلها الأميركية، لا تزال موجودة. ومن غير المعلوم إن كان لغرفة “الموك” سطوة باقية في المنطقة، بعد إجراء مصالحات مع النظام، وتسليم السلاح غير الفردي، وحل تلك الغرفة.

من باب التجاوز، يمكن تسمية أماكن السيطرة تلك “متحدات”، وإن كانت تفتقد للصفات الجغرافية لاصطلاح متحد، وخاصة في ما يتعلق بالحدود الجغرافية بين المسيطر هنا وهناك. فالجزيرة السورية، وهي متحد جغرافي واحد ومتمايز، أصبحت متحدين، أو ثلاثة، مقسمة بين “الجيش الوطني” المسيطَر عليه تركيًا، وبين “قوات سوريا الديمقراطية” المعادية لتركيا، والموالية لأميركا، من دون خصام شديد الصراحة مع روسيا، أو إيران، أو نظام دمشق. والثالث أسدي ـ روسي إيراني. النظام، ومتحده الكبير، الذي يشمل حمص وحماة واللاذقية وطرطوس ودمشق والسويداء، وأجزاء من الحسكة، والرقة، ودير الزور، وأجزاء من القنيطرة (الجولان المحتل إسرائيليًا جزء من القنيطرة)، وأجزاء من درعا، فيكاد هذا النظام أن يكون مديرًا تنفيذيًا لدى إيران وروسيا، أو مديرًا إداريًا، كونه لا يمتلك إرادة سياسية من دون إذن روسي، أو إيراني.

في المتحد الثالث الشمالي، الذي يشمل محافظتي حلب وإدلب، وشمالي حماة، يتقاسم الأكراد والأتراك السيطرة، برعاية أميركية روسية جعلت الجبهات بين الطرفين هادئة، أو مجمدة، منذ سنوات، مع خروقات لا تُذكر لهدنة شبه معلنة، مما يجعل المتحد الواحد متحدين، مع سيطرتين متناقضتين متصالحتين من حيث برودة السلاح.

كل من هذه المتحدات الثلاثة، أو الأربعة، هادئة حاليًا، على الرغم من توافر فائض قوة لدى كل الأطراف. يتفوق في هذه القوة الجيش التركي الداعم لما يسمى “الجيش الوطني”، بعد أفول ما كان يسمى “الجيش السوري الحر”، فمن انضوى تحت اللواء التركي أصبح في عداد “الجيش الوطني”، ومن رفض تقاعد مبكرًا.

لا شيء في هذا التوصيف يمنع من التفكير أن سورية أصبحت مقسمة، كأمر واقع. ولا شيء، أيضًا، يمنع من التفكير أن ذلك غير متحقق حاليًا، ما دام أي طرف من أطراف معادلة “الأخوة الأعداء” لم يعلن عن ذلك، أو يعبر أن لديه القوة الذاتية الكافية للاستمرار في اتجاه هدفه. لا نستثني من ذلك النظام السوري ذاته، العاجز واقعياً عن استعادة متحدي الجزيرة، ومتحدي الشمال، إلى سلطته. فأمره ليس في يده، وقوته لا تكفي لمواجهة تركيا، أو أميركا. وروسيا غير متحمسة لدعمه في مواجهة هؤلاء، ولا هي راغبة في مواجهتهم بالأصالة، بعد أن خاضت في المستنقع السوري. قبل هذا وذاك، لا يبدو أن كلًا من روسيا وأميركا وتركيا مستعدة، حاليًا، لتقسيم الكعكة السورية بينها بأي شكل من الأشكال، مما نتخيل، أو لا نتخيل.

لا شك أن ترتيبات لحل المعضلة السورية ستأتي بعد وقت قصير، أو طويل، فما أنفق لتدمير سورية، بمساعدة النظام، سترغب الدول المدمِّرة في استعادته اقتصادًا، وأموالًا مترجمة تحت بند “إعادة الإعمار”، الذي سيستغرق عشرات السنوات، فالبناء الذي دمره برميل متفجر تكلفته ألف دولار، في ثوان معدودة، سيستغرق بناؤه شهورًا، أو سنوات، سيكلف بناؤه عشرات آلاف الدولارات، من دون أن ننسى أن “الأخوة المدمرون” سيرغبون كذلك في أرباح وفوائد تُضاف على ما أنفقوه، ما سيجعل فيلم إعادة الإعمار طويلًا أكثر مما نتخيل، وقد يشبه إعادة إعمار أفغانستان، أو العراق، وغيرهما.

منْ سينفق، ومن سيوزع الإنفاق، وأي المتحدات سيكون لها النصيب الأكبر؟ ذلك ما يمكن توقعه بسهولة. فالمناطق المحرومة تاريخيًا ستظل محرومة، والمناطق المحظوظة سيزداد حظها. هذا على الرغم من أن المدن والمناطق المحرومة هي التي تضررت أكثر من غيرها، ونالها من الدمار، نسبيًا، أكثر بكثير من بقية المدن المحظوظة تاريخيًا.

وعندما تنتهي الحرب، سيبدأ صراع أشد ضراوة، من دون سلاح، فـ”المظلوميات التاريخية” في ما يتعلق بالتنمية غير المتوازنة ستزداد وتكبر. وما سيحصل سيشبه ما يحصل في سورية الآن. فحين خفت صوت السلاح ازداد عدد الأفواه الجائعة، حتى تمنى كثير ممن “صمدوا” في سورية لو أنهم فكروا في الخروج من أماكن صمودهم مبكرًا. وما ينطبق على مراكز دمشق وحلب والساحل من المعاناة قد نجده أقل وطأة من الناحية المعيشية في المتحدات الخارجة عن سيطرة النظام. كأننا هنا أمام معادلة الأخ الغني والأخ الفقير، مع فارق أن الأخ الفقير، على العموم، جرى إفقاره بفعل فاعل، كون الحديث لا يجري عن تجار الأزمة الجدد والقدامى، بل عن مجتمعات الفقر المتفجر في هذه المتحدات. ففي حالة غياب الدولة، في كل المتحدات السورية، تصل المساعدات الدولية والأممية بسهولة أكبر إلى المناطق في شمال حلب وإدلب ومدن الجزيرة، وهي قليلة عدد السكان في الأصل، بينما يتنازع النظام مع الأمم المتحدة على أحقيته في استلام وتوزيع هذه المساعدات عبر مرورها في مناطق سيطرته أولًا.

في كل جزئية مما يجري الآن، أو سيجري بعد الدخول في فرض ترتيبات الدول المتدخلة لإنهاء الحرب بشكل شامل، جزئيات صغيرة، قد يكون أسهلها حلًا هو نزع السلاح، وإعادة فرض قانون ما رادع للخارجين على القانون، أما أكثرها صعوبة فهو معالجة جراح الفقر، ومن ثم إعادة الإعمار. لن نتحدث هنا، إطلاقًا، عن اللاجئين في أوروبا، وتركيا، والغرب عموماً، فهؤلاء سيصبحون بعد وقت قصير مهاجرين، بعد تجاوزهم مرحلة اللجوء، مشكلين ما لا يحصى من متحدات اجتماعية سورية، وفلسطينية ـ سورية، مهاجرة، سيصعب الآن وصف درجة ارتباطها بالوطن السوري الجديد، الذي لا يشبه ما تختزنه الذاكرة عن سورية القديمة.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى