حكاية الركبان -نصوص لمريم الفيصل وفاطمة الأسعد وعماد غالي ومحمد عمر
حكاية الركبان
-1-
هذا النص هو الأول في سلسلة من أربعة تقارير معمقة عن مخيم الركبان، أعدها كل من مريم الفيصل وفاطمة الأسعد وعماد غالي ومحمد عمر من المخيم، بإشراف وتحرير مصطفى أبو شمس.
تولد وتكبُر الحكايات كأنها كائن حي، ثم تموت وتُنسى، أو يُكتب لها الخلود. وحكاية مخيم الركبان تكاد تكون استثناءً حتى في إطار الحكاية الأم، المأساة السوريّة، فهي آتية بعد مخاض عسير من رحم صحراء قاحلة لا تلِد سوى الموت، لكنها قاومت وعاشت، ليرويها هنا بعض أبطالها كما عاشوها.
في مكان ناءٍ قصيّ، قرب المثلث الحدودي السّوري-الأردني-العراقي، مقابل منطقة تُسمى «الرقبان» أقصى شمال شرقي الأردن في محافظة المفرق، فتح نازحون سوريون ثغرة يهربون عبرها من موت محتمل في سوريا إلى نجاة منتظرة في الأردن ومخيماته. ثم حملت هذه المنطقة عند السوريين اسم الرگبان، اشتقاقاً من لهجات محلية تقلب القاف إلى ما يشبه الكاف، لتكون منطقة وسطى لا نجاة فيها ولا هلاك، منطقة فوق الموت، وتحت الحياة.
حملت المنطقة توصيفات عدة عبر مراحل زمنية، من نقطة الركبان إلى تجمّع الركبان، قبل أن تصبح مخيماً يُعرَف باسم «مخيم الموت» أو «الساتر الترابي»، وهي تمتد على طول سبعة كيلومترات على الحدود السورية-الأردنية، في منطقة أوسع يُطلق عليها اسم «منطقة الـ55»، المحمية من قبل قوات التحالف الدولي المتمركزة في قاعدة التنف، التي تبعد نحو عشرة أميال عن المخيم، تحت السيطرة الأميركية-البريطانية مع فصائل سورية تتبع للتحالف. أما الـ55، فهو عدد الكيلومترات التي أعلنت قوات التحالف تحريم دخولها على قوات النظام وحلفائها في كل الاتجاهات انطلاقاً من قاعدة التنف.
بدأت الحكاية مطلع العام 2013. كان الخناق يضيق على السوريين، وبدأ نزيف النزوح من مدينة حمص وريفها الشرقي، ومن بلدات في البادية السورية، بعد هجوم عنيف من قوات الأسد على هذه المناطق، تبعته محاولات اجتياح بري كُتب لها النجاح في مناطق عديدة، بمساعدة من حزب الله وميليشيات إيرانية في المنطقة.
شكلت مدينة القريتين في ريف محافظة حمص الشرقي مركز تجمّع للنازحين من هذه المناطق، ومنها كانت الوجهة عن طريق مهربين إلى «الركبان». دُفِعَت لأجل ذلك مبالغ مالية كبيرة كان يتقاضاها أشخاص من سكّان البادية السورية، نقلوا العائلات بشكل متواتر قَدَّره من تحدّثنا معهم بنحو عشرة إلى عشرين عائلة أسبوعياً كانت تُيمِّم وجهها شطر الركبان.
تم اختيار تلك النقطة لأنها موغلة في البعد، وقاحلة، وهو ما كان يُسهّل العبور منها إلى الأردن. هناك وبعد العبور والوصول إلى أحد المخيمات، إما أن يبقى النازحون فيها، أو أن يخرجوا منها بكفالة إلى أرض الأردن يمشون في مناكبها.
ظل تواتر النزوح شبه ثابت طيلة العام 2013، لأن أعنف المعارك بين قوات النظام وفصائل المعارضة السوريّة تركزت في ذلك الوقت في النصف الغربي من سوريا وفي وسطها، في محافظات حلب وإدلب ودرعا والأجزاء الغربية من محافظات حمص وحماة وريف دمشق، وكانت حركة النزوح بسبب هذه المعارك تتم شمالاً في أغلب الأحيان، أو جنوباً من درعا نحو الأردن مباشرة، أما النزوح من مناطق لا تملك طرقات سالكة وآمنة إلّا باتجاه البادية فكان أقلّ حدوثاً. لكن مع دخول عام 2014 طرأ متغير بدّل إلى حد بعيد المشهد العسكري، ومعه خريطة النزوح.
الانتظار
في منتصف العام 2014، أدى تمدد تنظيم داعش في أرياف حلب والرقة ودير الزور وحمص، إلى موجة نزوح كبيرة وجديدة من مناطق تمدده. مئات العائلات كانت وجهتها مخيم الركبان، وقد شكَّلَ هذا التوافد الفجائي صدمة لا تتحملها نقطة العبور النائية. تغيب الإحصائيات الدقيقة، إلا أن التقديرات تشير إلى أن مئة إلى مئة وخمسين عائلة كانت تتوافد إلى هناك أسبوعياً.
هذه الأعداد، تسببت ولأول مرة في بدء ظاهرة التأخير في دخول النازحين إلى الأردن. هذا التأخير، وما تسبب به من «انتظار»، سيكون لسنوات لاحقة كلمة السرّ لكل ما حلّ بذلك المكان والواصلين إليه.
نقطة الركبان، الخاضعة لمزاج طقس الصحراء وتقلباته القاسية وبُعده عن الحواضر، لا تُعين من يصل إليها كي يكون انتظاره سهلاً مهما كان قصيراً. ومع استمرار توافد النازحين، بدأت ملامح المأساة تظهر سريعاً، فتنبهت الأمم المتحدة بداية العام 2015 إلى تلك البقعة، وسريعاً بدأت الاستجابة بتقديم وجبات طعام، وشوادر استخدمها النازحون فقط لتكون سقفاً يقوم على أعمدة من الخشب، لكنها لا تقي من برد ولا حر. وقتها صار الانتظار للدخول إلى الأردن أطول، عشرة أيام على الأكثر، وهي أكثر ما يمكن أن يُطيقه المنتظرون في تلك البقعة من الأرض.
يُخبرنا من تَحدّثنا معهم أن زيادة الواصلين الراغبين بمغادرة ما أسموه «الجحيم السوري»، الذي تَكفَّلَ بصناعته كلٌّ من تنظيم الدولة وقوات الأسد وميليشياته، أدّت إلى تأخير دخولهم إلى الأراضي الأردنية. كانت تُنظَّم من أجل ذلك جداولُ أسبوعية للدخول، لعب في ذلك نظام «الكفالة» دوراً كبيراً، ومعه «الأعداد المحدودة» التي يقررها أشخاص منتدبون من الواصلين إلى نقطة الركبان ليكونوا صلة الوصل مع الحكومة الأردنية. بدأ الزمن يطول، وأخذت الأرقام التي تحصل عليها العائلات في الجداول تُشكِّلُ عبئاً وفارقاً.
منذ ذلك الوقت، بدأت تظهر ملامح «مخيم» على المكان، وتحولت نقطة عبور «الركبان -الحدلات» إلى شكل من أشكال الحياة، رُصِدَ فيها وجود آلاف من النازحين، الذين لم يخطر في بالهم أن يبقوا عالقين في هذا الجزء من الصحراء.
وبدأ زرع الخيام
تمدد تنظيم داعش سريعاً وسيطر على آخر الجيوب الآمنة شرقي سوريا، ومع سيطرته على مدن تدمر، مهين، القريتين، السخنة، الطيبة، تَسبَّبَ بموجة نزوح جديدة، ومعظم النازحين اختاروا التوجه إلى الركبان. بعضهم وصلت إليهم أنباء الانتظار القاسي عند الحدود في منطقة معزولة، فجاءوا ومعهم خيامهم، وطعامهم.
بدأت الخيام تُنصَب وسط الصحراء، وراح تَجمُّع النازحين المنتظرين يكبر، ومدة الانتظار تطول، ووجد تُجّار في هذا التجمع المعزول فرصة، وبدأوا بإحضار البضائع إلى المكان، بيعاً أو مقايضة لمن لا يملك المال.
في منتصف العام 2015 بدأ يظهر ما عُرف لاحقاً بسوق مخيم الركبان، وكان عبارة عن آليات متجاورة محملة بالبضائع. وفي أيلول (سبتمبر) عام 2015 قُدِّر عدد النازحين بنحو 70 ألف نازح، بحسب موفق سليمان، مدير المكتب التنفيذي لمجلس عشائر تدمر والبادية.
تبدلت الشوادر الموضوعة على أخشاب في رحلة الانتظار إلى خيام ثابتة في الأرض، واستبدلت الأمم المتحدة وجبات الطعام بحصص غذائية تتضمن مواد أساسية، مثل الخبز والأرز والعدس، وغيرها، ليشكل كلّ هذا مقدمات تحول التجمّع إلى ما لم يكن يتوقعه أحد، التحول إلى مخيم، ولأول مرة بدأ إطلاق اسم «مخيم» على المكان: مخيم الركبان.
ومع هذا الاستيطان القسري، حتى السوق استجاب لهذا التغيير، وتحول من عربات وآليات متجاورة إلى خيام، كل خيمة تختص ببيع بضاعة معينة. هذه الخيام المُصطفّة المتجاورة خارج المخيم نسبياً، صارت تشكل «سوق مخيم الركبان».
بدأ بعض النازحين بممارسة هذه التجارة في السوق، رفقة سيارات قادمة من المناطق الشرقية في سوريا محملة بالبضائع، وصِيغت لأجل ذلك اتفاقيات، وتحولت السيارات التي كانت ترافق السكان في رحلة النزوح إلى بسطات متنقلة تنقل البضائع الأساسية إلى النازحين، وتحمل معها أيضاً الخيام التي كانت تباع آنذاك بنحو خمسين دولار. وأمام اليأس والتململ، راح الأهالي يبنون خيامهم في تكتلات وفقاً للمناطق التي أتوا منها.
في بداية العام 2016، ورغم تحول المنطقة إلى ما عُرف باسم مخيم الركبان، لكن أياً من القاطنين فيه لم يكن بعد قد استسلم لفكرة الاستقرار في هذا المكان.
وبدأت عملية الدخول إلى الأردن تُنظَّم من جانب مفوضية شؤون الإنسان التابعة للأمم المتحدة: يُسجِّل النازحون أسماءهم، وتعمل المفوضية على إدخال 150عائلة أسبوعياً، وبالنظر إلى تضخم أعداد النازحين، طالت مدة الانتظار أكثر فأكثر، لتصل إلى أشهر، بعد أن كانت أول الأمر نقطة عبور سريعة بلا انتظار قبل نحو ثلاثة أعوام.
مدة الانتظار الطويلة اضطرت العائلات إلى تحسين ظروف «انتظارهم» بالاهتمام أكثر بمكان الإقامة، الخيمة. لكن مئات النازحين، بالمقابل، استسلموا وقفلوا راجعين في رحلة نزوح جديدة لا تقل قسوة وخطورة عن رحلتهم الأولى، باتجاه الشمال السوري إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة. وأما غير المطلوبين منهم للأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد فقد اختاروا طريقاً إلى تلك المناطق عبر منطقة شعاب في ريف السويداء، ومنها يتوزعون على مناطق سيطرة النظام. هذه الظروف كانت إحدى أهم تفسيرات عدم استقرار إحصائية أعداد النازحين في مخيم الركبان، إلا أن أرقاماً تزيد عن مئة ألف كانت متداولة في التقارير الصحفية والإحصائيات التقديرية عن عدد النازحين.
شكري شهاب، ممرض من أهالي مدينة تدمر، له من العمر ثمانية وأربعين عاماً، متزوج ولديه أربعة أولاد، هُجِّرَ قسرياً من تدمر وجاء إلى مخيم الركبان في شباط (فبراير) عام 2016، وعينُه كانت على الداخل الأردني، بحثاً عن الاستقرار وحياة أفضل لعائلته.
يروي شهاب ما حدث فور وصوله: «قمت بالتسجيل في المفوضية للدخول إلى الأردن، لكن كان هناك ستة آلاف عائلة قبل عائلتي تنتظر الدخول، ومع معدل دخول نحو 150 عائلة أسبوعياً، وبحسبة بسيطة، عرفتُ أن أمامي فترة انتظار مدتها على الأقل عشرة أشهر. ورغم أن الانتظار صعب، لكن الخيار الثاني وهو العودة بدا مستحيلاً، فصنعتُ من الشادر خيمة مؤقتة لإيواء عائلتي».
بدأت عائلة شهاب وغيرها، على مضض، تركن لفكرة الانتظار الطويل. لأجل ذلك، بدأ بعض قاطني المخيم بمحاكاة مخيمات نزوح أخرى في السعي لإيجاد سبل للعيش في المكان، كالمدارس والنقاط الطبية والخيام، وسط ظروف اقتصادية سيئة ودعم أممي ومنظماتي باهت.
نور وسط العماء
في تلك الفترة، أي بدايات العام 2016، ورغم أنها مرحلة انتظار لا استقرار، إلا أن النازحين وخصوصاً الأطفال جاءوا بذاكرة محملة بالأسى، وخصوصاً القادمين من مناطق سيطرة تنظيم داعش، بسبب هول ما رأوا وسمعوا، وكانت ظروف النزوح في الركبان تُعمّق هذه المأساة.
أحد المُهجَّرين من مدينة تدمر، ورغم أنه لم يكن يحمل سوى شهادة الثانوية العامة، كان من ضمن مجموعة أشخاص فكروا بالأطفال النازحين: «ما الذي يمكن أن نفعله؟»، وظهرت فكرة إعادة تدوير عجلة التعليم. كان شيئاً استثنائياً أن تظهر مثل هذه الجهود في الركبان. يقول: «قمنا بجمع تبرعات بسيطة للغاية، مبلغ 200 ليرة سوريّة فقط (نحو نصف دولار في ذلك الوقت)، وتم بناء مدرسة هي عبارة عن شوادر بلاستيكية كانت توزعها اليونيسف، تقوم على أعمدة خشبية، والجدران عبارة عن بطانيات مثبتة بمسامير وحبال. ولحل معضلة المنهاج، قام المدرسون السابقون بالاعتماد على ذاكرتهم وتفريغها لتصير المنهاج المعتمد».
أبو عبد الكريم، من مؤسسي المدرسة في الحي التدمري من المخيم، تحدَّث عن تلك المدارس، في تلك البدايات، والتي لم تكن سوى خيام لا تمنع عن الأطفال رمال الصحراء والغبار، ولا البرد، وكيف كانت تتمزق هذه الخيم، أو يسقط العامود الرئيسي فيها فوق رؤوس مَن في الخيمة.
يستحضر أبو عبد الكريم من ذاكرته تجليات البؤس واليأس قائلاً: «في ذلك الوقت، وكان فصل الشتاء، لا أنسى قدوم الأطفال من طرق مملوءة بالوحل والماء، في طقس صحراوي شديد البرودة». يُطرق صامتاً ويَستدرك: «جاء حينها طفل حافي القدمين، سألته عن حذائه فقال إنه أعطى حذاءه لشقيقته التي اضطُرت للذهاب إلى النقطة الطبية للعلاج!!». ثمة صور أخرى لهذا الإصرار على التعلّم: الخيام على ما فيها من ضيق، كثير من الأسر أقامت حلقات تدريس فيها لأطفالها.
لا يمكن إطلاق تسمية مدرسة على ما تم إنشاؤه في المخيم: بعض الشوادر، أوراق مثبتة على القماش تعمل كسبورة، ذاكرة مدرِّسين غير مختصين، كتاب وحيد تتناقله الأيدي، أطفال كثر في خيمة لا تتسع لأجسادهم وقوفاً، فقط وجود هؤلاء الأطفال وصراخهم العالي مردِّدين بعض الأحرف يوحي بما يشبه التعلّم في هذه الصحراء.
لم تكن تحلم تلك البقعة الميتة من الصحراء أن تحتضن مثل هذا الإصرار، لا على الحياة فقط، بل حتى على استمرار التعلّم رغم ظروف غاية في القسوة خلال فترة يعتقد الجميع أنه ليست سوى فترة انتظار، أيام أو بضعة شهور على الأكثر، وتُطوى صفحة هذا الانتظار بما فيه من شقاء.
وجَّهَ من تكفلوا بمهمة التعليم في مخيم الركبان نداءات ومطالبات كثيرة، وفي نيسان (أبريل) عام 2017 أثمرت أحدها، وجرى اجتماع في النقطة الأردنية المقابلة للمخيم مع وفد أممي، وجرى الاتفاق على تزويد المخيم بمنهاج مُعد خصيصاً للاجئين. ورغم أن المنهاج تأخَّرَ نحو ثلاثة أشهر إلا أنه وبمجرد وصوله اعتُمد، وبدأ التدريس به لنحو عامين تاليَين، واقتصر التعليم في المخيم على المرحلة الابتدائية.
تقول فاطمة، وهي إحدى المتطوعات في التدريس: «بقينا ندرّس مناهج الأمم المتحدة إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2018 حين أدخلت الأمم المتحدة مساعدات إنسانية، وكان من بينها قرطاسية ومناهج جديدة، لم تكن إلا مناهج نظام الأسد الابتدائية، فاضطررنا إلى اعتمادها منذ ذلك التاريخ إلى الآن، وعُدِّلَت بحيث تمت إزالة ما يشير إلى النظام وتمجيده».
زادت جهود دعم مسيرة التعليم ضمن أقصى الحدود الممكنة، ويضم المخيم اليوم أربع مدارس رئيسية، كل مدرسة تتألف من خمسة صفوف، تضم 900 طالباً، ويشرف على العملية التعليمية نحو 60 مدرساً متطوعاً. وحتى تاريخ اليوم، ما تزال تحديات رئيسية تواجه العملية التعليمية، تبدأ من غياب الكهرباء والتدفئة عن المدارس، وعدم توفر القرطاسية، وإن توفرت يعجز جل الأهالي عن شرائها بسبب الفقر الشديد.
الحالة المادية دفعت بطبيعة الحال إلى تسرب الأطفال من المدارس، والتحاقهم بالعمل في سوق المخيم لتأمين – أو للمساعدة في تأمين – قوت عائلاتهم.
الكارثة
نازحو مخيم الركبان كانوا على موعد مع صباح غير عادي في 21 حزيران (يونيو) 2016، عمّق من أوجاعهم وأحزانهم. قرابة الساعة السادسة صباحاً، عبرت سيارة مُلغمة الحدود السوريّة-الأردنية قبالة مخيم الركبان إلى القاعدة العسكرية الأردنية وانفجرت، قتلت ستة من حرس الحدود الأردني وأصابت أربعة عشر آخرين.
إثر هذه الحادثة، أغلق الأردن الحدود بشكل كامل، وانطفأ الضوء الوحيد الذي كان نفق انتظار النازحين، وكأنه ما كان ينقصهم عقب تهجيرهم ونزوحهم وتحمُّلهم قسوة الصحراء في أكثر الأماكن انعزالاً وقحلاً سوى أن تُغلق الحدود في وجوههم، في إعلان أوّليّ عن حصار يزيد البلاء بلاء، والشقاء شقاء.
شكري شهاب، الممرض المُهجَّر من تدمر، والذي كان يَعُدّ الأيام عداً ليأتي دور عائلته ويدخل الأردن، يقول: «حينها علمنا أن مقامنا هنا طويل، فاستبدلتُ الشادر (الخيمة المؤقتة) بخيمة أخرى اشتريتها من السوق، كان سعرها 12 ألف ليرة سوريّة (50 دولار وقتها). الخيمة مساحتها كانت لا تتعدى 16 متراً مربعاً، وهذه الخيمة لا تمنع الأمطار، التي تهطل هنا حتى في فصل الصيف. لا أنسى أول مرة اجتاحت مياه الأمطار خيمتنا، كان الأمر غاية في الصعوبة ومدعاة إلى قهر لا يُحتمل».
ملامح تحوُّل المخيم إلى قرية
ومع تحول الخيام المؤقتة إلى دائمة، وإغلاق الحدود الأردنية، وتقارب طبيعي للنازحين بحسب المنطقة، بدأت تظهر ما تشبه الأحياء، فهذا الحي التدمري، نسبة للنازحين من مدينة تدمر، وذاك حي القريتين، نسبة للنازحين من مدينة القريتين، وغيرهما، مثل حي مهين وحي عشيرة بني خالد، إلخ. بدأت تظهر بين الأحياء ما تشبه الطرقات، وصار المخيم شيئاً فشيئاً يتحول إلى قرية، تختصر على ضيق مساحاتها أسماء قرى ومدن وبلدات كأنها قطعة مصغرة لناحية واسعة من سوريا.
طقس المخيم
في صيف الركبان يتجاوز معدل درجات الحرارة 40 درجة مئوية بقليل، وتصل في بعض النهارات درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية، وفي الليل تنخفض إلى أقل من 20 درجة مئوية. وأما في الشتاء، لا تتجاوز درجة الحرارة 20 درجة مئوية، وفي الليل تنخفض إلى نحو 5 درجات مئوية.
يشهد مخيم الركبان عواصف رملية شديدة في فصل الصيف تجتاح المخيم، إلى حد انعدام الرؤية، وتتراوح بين 5 ساعات إلى يوم كامل، وفي بعض الأحيان حوّلت هذه العواصف نهار المخيم إلى ليل.
الفروقات الحرارية بين الصيف والشتاء، أو بين الليل والنهار في الفصل ذاته، إضافة إلى العواصف المطرية والغبارية، كل هذا جعل الحياة في الخيم جحيماً، وسبباً في أمراض عديدة، بل تسبَّب بوفيات وخصوصاً بين الأطفال الرضع. تزيد العواصف بدورها من المعاناة بسبب حالات الاختناق، وخصوصاً بين المصابين بالربو وغيرها من الأمراض الصدرية.
في المرات القليلة التي دخلت فيها المساعدات الإنسانية إلى المخيم، بَيَّنَ المسؤولون عنها النقص الحاد في الأدوات التي تساعد على مواجهة الطقس المتغير والعواصف الغبارية. لا مشافيَ في الركبان أو أجهزة أوكسجين أو حواضن أطفال. الوقود بأسعار مرتفعة، والبيوت الحجرية تمثل حالة من الاستحالة في هذه البيئة الرملية.
مئات الإصابات بالاختناق وسوء التغذية والربو والتهاب الكبد الوبائي سُجِّلت في المخيم، دون أن يتلقى المصابون المساعدة الطبية اللازمة، كل ذلك وسط عجز من الأمم المتحدة عن مساعدة السكان، وامتناع الأردن عن إدخالهم، أما الحكومة الأميركية التي تبسط نفوذها على منطقة الـ55 فتكتفي بالتواجد العسكري دون أي تحرك إنساني.
في مرحلة ما بعد التفجير في حزيران (يونيو) عام 2016، وإغلاق الحدود الأردنية في وجه النازحين، وبسبب تقلُّبات الطقس وظروفه القاسية، ورغم الشح في كل شيء حتى في المياه، إلا أن قاطني المخيم بدأوا بابتكارات تساعد على حماية عائلاتهم.
أولى هذه الابتكارات كانت اللجوء إلى ما يُعرَف بالصيوان، وهو عبارة عن ألواح من الخشب أو أسطوانات من الحديد، تُغلَّف بشوادر وبطانيات، بمثابة عازل، وتصبح بديلاً عن جدران وسقف الخيمة القماشية. مساحة مفتوحة أكثر متانة، لا مرافق ولا مطبخ ولا غرف فيها.
بيوت الطين
بالمقابل، كان هناك من خَبِروا الشتاء وقسوته، وفي تموز (يوليو) عام 2016 توجه بعضهم إلى أسلوب جديد يُعوِّلون عليه لمواجهة قسوة الشتاء وأمطاره وعواصفه.
أبو محمد، أحد النازحين في المخيم وكان يعمل في البناء، يقول: «حين طال مقامنا في المخيم، ورأينا ما يفعل الشتاء بنا وبخيامنا، ورغم شح المواد الأساسية، لجأنا إلى الطين، واستخدمنا صناديق الفلين بمثابة قوالب، لإنتاج ما يشبه ’البْلوك‘».
ويضيف: «في الركبان كل شيء شحيح، وهذه المنطقة بخيلة في كل شيء، حتى اللجوء إلى هذا النمط من البناء ظهر فيه تحدي المياه الشحيحة للغاية، لذلك كنا نُحضرها من تجمعات المياه بعد هطول الأمطار، أو تجميع المياه المُستخدَمة في الخيام، وغيرها».
بدأت تُبنى بيوت الطين، والسقف فيها بشكل مثلث، والجدران غير مرتفعة، للتغلب على ضغط الهواء والعواصف. لم يكن يتجاوز ارتفاع السقف متراً ونصف المتر.
بدأ تعداد سكان المخيم بالتناقص منذ أواسط 2016، وخصوصاً بعد انحسار سيطرة تنظيم الدولة وعودة بعض النازحين إلى مناطقهم، رغم خطورة تبعات مثل هذه العودة خصوصاً إلى مناطق سيطرة النظام السوري، وهي مغامرة دُفِع إليها النازحون بسبب قسوة ظروف الحياة في مخيم الركبان.
ومع تناقص أعداد النازحين، يروي لنا أحد النازحين كيف بدأ يختص بالبناء في مخيم الركبان بما توفَّرَ من مواد أولية: «مع توفر مادة الحديد، صرنا نصنع منها القوالب لإنتاج طوب الطين، وصارت عملية إنتاج هذا الطوب أسرع، وهنا تطور البناء بحيث بدأنا نبني بيوتاً، ولأول مرة صار هناك أكثر من غرفة، وكذلك المطبخ والمرافق الأساسية، لكن السقف في أغلب الأحيان ما يزال بشكل مثلث مثل الخيمة، وهو مؤلف من شادر معزَّز بطبقات عازلة من البلاستيك والبطانيات. ورغم النقلة النوعية في بناء البيوت، إلا أن العائق الأساسي في التوسع ما يزال قائماً، وهو قلّة المياه».
يضيف: «ومع مرور الأعوام بدأ اليأس بالتسرّب إلى الناس، وصار كثيرون على قناعة بأن العودة ستطول أكثر وأكثر، وبدأنا نتجرأ في عمليات البناء، بحيث بدأنا نرفع السقف أكثر وأكثر، باستخدام أعمدة الخشب للتدعيم، مع استخدام مادة السقف ذاتها أي ألواح الخشب أو اسطوانات الحديد المعزولة. ولاحقاً، صرنا نعتمد العزل في الجدران للتغلب على درجات الحرارة المتقلبة التي تسبب أمراضاً كثيرة، وخصوصاً للأطفال».
هذا الرجل الذي صار بنّاءً يحكي كيف شهد تطور عمليات البناء: «لم نتوقف عن تطوير البناء، وكل فترة نوجد شيئاً جديداً، ومن لديه القدرة المادية نؤمن له مادة الإسمنت لبناء البيت، لكنها مكلفة كثيراً». ثم يُحصي البيوت في المخيم قائلاً إن «85 بالمئة من البيوت اليوم طينية، وهي تختلف من حيث ارتفاع السقف وعدد الغرف وطرق الصرف الصحي والنوافذ والأبواب».
شكل من التنظيم الإداري
موفق سليمان، رئيس المجلس التنفيذي لمجلس عشائر تدمر والبادية، تحدث بداية عن هذا المجلس وخلفيات تشكيله قائلاً: «مسوغ إنشاء المجلس كان في البداية فضّ الخلافات، وتمكَّن فعلاً من القيام بهذه المهمة».
وأضاف أن الركبان كان يتطور بشكل لا يتوقعه – أو بالأحرى لا يريده – أحد: «كنا نتمنى لو وجدت خيارات أخرى، لكن غيابها اضطرنا لإيجاد البدائل وتنظيم أنفسنا والحرص على أن يحمي المجتمع هنا نفسه، إضافة إلى الذهاب باتجاه الجانب الخدمي».
وتحدث سليمان عن تطور رَافَقَ تطور العمران، حيث أُنشئت نقطة طبية، وبُنيت المدارس، والمساجد، وتنوعت المحال التجارية، وافتُتحت الصيدليات، وقام إلى جانب السوق سوق للمواشي، وآخر للمحروقات.
ويساعد مجلس عشائر تدمر والبادية، وفق مدير مكتبه التنفيذي موفق سليمان، في تنسيق توزيع المساعدات الأممية، والحرص على تقديم خدمات طبية محدودة بشكل مجاني، والدواء يُباع بأسعار رمزية. وأشار إلى جهود ضبط أسعار المواد الغذائية واصفاً إياها بالأمر الصعب، لأن التاجر في النهاية يعتمد على مهرِّبين والأمر منوط بقيمة ما يُدفع من رشى لضباط قوات النظام.
تكاد المجالات التي تنشط في مخيم الركبان تكون شاملة، حيث افتُتح أيضاً مكتب المرأة، ويعمل على تنظيم حملات توعية متنوعة، آخرها حملة توعية بخصوص جائحة كورونا. وعن التحديات، أوضح موفق سليمان أنها كبيرة بسبب ضعف الدعم المقدم، ويجري تذليلها من خلال المتطوعين، ومنها مثلاً رفع القمامة وإبعادها عن المخيم.
إلا أن التحدي الأبرز وفق سليمان يتمثل في أزمة الصرف الصحي، التي لا تكفي معها الجهود الذاتية أو التطوع، وتحتاج إلى ميزانية عالية لإيجاد حلول لها. والتحدي الآخر يتمثل في مياه الشرب: يقول سليمان إن المخيم يعتمد بالكامل على مياه الشرب التي تُجلَب من الأردن ويتم ضخها إلى صهاريج وعددها 20 صهريجاً، مُنوهاً إلى أن المياه للأسف ليست صحية تماماً.
تبدو المسميات أعلاه كما لو أنها تعني شكلاً من الأشكال الحياتية المستقرة، إلا أن هذه الصفات تُطلَق في سياق محاكاة لا يمكن الاعتماد عليها. على سبيل المثال، لا تشبه صيدليات الركبان تلك الموجودة في مناطق النظام أو الشمال السوري، دكاكين خضار تضع على رفوفها بعض الأدوية، أشخاص غير مختصين يوفّرون هذه العلب ويصرفونها دون دراية، وبأسعار مرتفعة، مع أخطاء قد تسبب تفاقم الحالة أو موتها.
ينسحب وصف الصيدليات على كل شيء، فسوق الوقود عبارة عن براميل تباع بحسب الأسعار القادمة من مناطق النظام، يضاف إليها الرشى والإتاوات لعناصر حواجز قوات الأسد ومرابح التجار. الأمر نفسه بالنسبة للخضار والمواد الغذائية التي تتضاعف أسعارها وتضيق أصنافها أيضاً بما هو متوافر، وبحسب مزاجية من ينقلها ويسمح بدخولها.
حتى أواسط العام 2017، كانت فصائل سورية معارضة للنظام تنتشر في مناطق عدة من البادية، وتسيطر على أجزاء من الطرقات المؤدية إلى المخيم، ويعتبر شهر تموز (يوليو) من العام 2017 تاريخاً لصعود أهمية ما يطلق عليه تسمية منطقة الـ55، وذلك بعد انسحاب ما تبقى من مقاتلي هذه الفصائل واتجاههم إلى جوار قاعدة التنف العسكرية، التي تأسست في العام 2014 لتكون قاعدة عسكرية للتحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة. ويمكن اعتبار أن منطقة الـ55 موجودة على أرض الواقع منذ بدايات العام 2016، عندما تم إنشاء معسكر تدريبي بالقرب من التنف لمقاتلين معارضين للنظام السوري، بهدف دعمهم وإشراكهم في محاربة تنظيم الدولة. وقد تم إنشاء هذه المنطقة عملياً بتوافقات دولية، إذ تعتبر إحدى مناطق خفض التصعيد، وقد استهدف التحالف الدولي قوات النظام السوري التي حاولت دخولها عدة مرات. ومنذ انسحاب جميع فصائل المعارضة من البادية إلى محيط قاعدة التنف، بات مخيم الركبان محمياً من هجمات قوات النظام نتيجة وقوعه ضمن هذه المنطقة.
أطبقت قوات الأسد حصارها على مخيم الركبان منذ تشرين الأول 2018 بدعم روسي، وذلك عبر قطع جميع الطرقات المؤدية إليه. وساهم في زيادة مأساة الحصار موقف الجانب الأردني من المخيم، الذي أغلق النقطة الطبية الوحيدة المفتوحة على الحدود السورية-الأردنية بداية 2020 بحجة انتشار فيروس كورونا، ليترك ما يزيد عن عشرة آلاف محاصر في المخيم لقدرهم دون مساعدات طبية أو إنسانية.
شكّل الحصار ورقة مساومة يُلقي فيها كل من المسؤولين عن حصار المخيم واللاعبين الدوليين المسؤولية على الآخرين، ففي الوقت الذي فتحت فيه روسيا وقوات النظام معابر قالت إنها «إنسانية» لاستقبال من يرغب من سكان المخيم بالعودة إلى «حضن الوطن»، مع تحميل الولايات المتحدة مسؤولية عدم السماح لهم بالعودة – على طريقة فتح المعابر في الشمال السوري وتحميل مسؤولية عدم عودة السكان لهيئة تحرير الشام والحكومة التركية اللتين تمنعان ذلك.
في ظل هذه الدعوات، أطبقت روسيا وقوات النظام الحصار على السكان، ومنعت مرور المساعدات الإنسانية إليهم. نشط التهريب على الحواجز لإدخال ما يسد الرمق إلى السكان، ومُنع الخارجون منه للتداوي من العودة. وبسبب الظروف القاسية والموت المحتمل نتيجة الجوع والمرض، عادت عائلات كثيرة إلى مناطق النظام، إذ سجل عدد السكان في الركبان تراجعاً بما يزيد عن ثلاثة أرباع قاطنيه في 2019، والبالغ عددهم ما يقارب 45 ألفاً وقتها بحسب تقديرات موظفي إغاثة وبعض سكّان المخيم في ذلك الوقت.
يقول المركز السوري للعدالة والمساءلة إنه تم الإبلاغ عن حالات اعتقال وانتهاكات واسعة النطاق ضد السوريين العائدين إلى مناطق المصالحة، وإن المركز حصل على معلومات مفصلة حول اعتقال 133 مدنياً من مخيم الركبان منذ عودتهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كما تم إرسال بعض العائدين لإكمال خدمتهم العسكرية الإجبارية.
في الوقت ذاته، تخلت الولايات المتحدة عن واجبها تجاه سكان المخيم، ورفضت تقديم المساعدات الإنسانية لهم بحجة عدم بقاء قواتها في هذه المناطق إلى الأبد، وعدم الرغبة في إطعامهم وتحمّل مسؤوليتهم.
أما الجانب الأردني فكان واضحاً في أنه لن يسمح لقوافل الإغاثة بالمرور من أراضيه لإيصال المساعدات إلى المخيم، وهو ما قاله وزير الخارجية الأردني في اتصال مع المبعوث الأممي الخاص بسوريا غير بيدرسون في شهر نيسان (أبريل) 2020: «إن الأردن لن تسمح بدخول أي شخص من المخيم إلى أراضي المملكة، أو أي مساعدات إنسانية يحتاجها المخيم … على الأمم المتحدة إدخال هذه المساعدات عبر الحكومة السورية».
تتذرع الأردن بأن سكان الركبان نازحون في سوريا وليسوا لاجئين في أراضيها، وعملت في مرات عديدة على إعادة بعض اللاجئين السوريين في أراضيها إلى داخل المخيم قسرياً، كما قالت منظمة العفو الدولية في أيلول الماضي، عندما دعت السلطات الأردنية إلى التوقف عن عمليات النقل القسري وضمان حصول سكان المخيم على السلع والخدمات الأساسية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية بشكل عاجل، وبلا قيود.
يعيش سكان الركبان بين موتين، موت موسوم بالحصار والجوع، وآخر بالعودة غير الآمنة، ويشكل بحكايته تكثيفاً لما يحدث في سوريا من تجاذبات بين الدول، والتغيرات السياسية التي ترسم في المنطقة وتتغير بحسب المعطيات الراهنة. في انتظار ذلك، تلد نساء المخيم أطفالهنّ في عربات الإسعاف دون أطباء، ويتوقف الفرن الوحيد في المنطقة نتيجة نقص الطحين، وتغيب الأدوية النوعية لأمراض السرطان والتهاب الكبد تاركةً المرضى يحملون أوجاعهم، بينما تنقسم عائلات تعيش أمهاتُها في مناطق سيطرة النظام بعد علاجهنّ محرومات من أزواجهنّ وأبنائهنّ، إلا عبر شاشة الهاتف المحمول – والذي يتطلب دفع نحو مئة دولار من أجل خدمة الإنترنت الفضائي tooway – ويمارس الرضع حقهم بالتنفس بصعوبة في ظل العواصف الغبارية دون أجهزة إرزاز أو جرات أوكسجين، أما الأطفال الأكبر سناً فيكتفون بفكّ الحرف بعد انتهاء مرحلة الدراسة الابتدائية الوحيدة المتوفرة في تلك الصحراء
-2-
المرض ممنوع بقرار أممي أردني سوري
صحفيات وصحفيون من مخيم الركبان
هذا النص هو الثاني في سلسلة من أربعة تقارير معمقة عن مخيم الركبان، أعدها كل من مريم الفيصل وفاطمة الأسعد وعماد غالي ومحمد عمر من المخيم، بإشراف وتحرير مصطفى أبو شمس.
بعد ولادة طبيعية، أطلقت الطفلة نور صراخها الأول في صحراء مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية. كان ذلك في نيسان (أبريل) من العام 2019، حيث أطبق الحصار على المكان من قبل قوات النظام وروسيا، وأُغلقت الحدود الأردنية، وبات الحصول على علبة حليب أو دواء أمراً بالغ الصعوبة، مع انعدام المساعدات الإنسانية والمنظمات الداعمة وشح المواد التموينية وارتفاع أسعارها، يرافق ذلك كله خدمات طبية هشة زاد من سوئها مناخ صحراوي قاسٍ وعواصف غبارية وندرة في المياه.
الجفاف والتهاب الأمعاء كانا رفيق الصغيرة نور مع خطواتها الأولى، ومع غياب المشافي والمراكز الطبية والأطباء بشكل تام، لم يكن متاحاً سوى حلول إسعافية عاجزة، أو ترك المكان إلى غير رجعة نحو مناطق سيطرة النظام التي تحاصر المكان منذ ما يزيد عن سنتين.
فقر دم شديد، وأكياس مائية على الرحم تستدعي جراحة عاجلة، هو ما كانت تعاني منه آخر السيدات اللاتي غادرنَ مخيم الركبان بهدف العلاج في مناطق سيطرة النظام، وذلك منذ نحو عشرة أيام. ودّعت السيدة غرفتها الطينية وابنتها في المخيم، وخرجت وحيدة.
أحصى فريق العمل خروج نحو سبعين مريضاً من مخيم الركبان للعلاج في مناطق سيطرة النظام، وذلك منذ إغلاق النقطة الطبية على الحدود الأردنية في آذار (مارس) 2020 حتى لحظة إعداد هذا التقرير، ووُثِّق موت خمسة مرضى معظمهم من الأطفال في الطريق، وقبل وصولهم إلى المشفى لتلقي العلاج، إضافة لطفلتين توفيتا داخل المشفى لتفاقم حالتهما المرضية.
نقطتان طبيتان من الطين بدون أطباء
أُسعفت الطفلة نور قبل ذهابها إلى مناطق سيطرة النظام إلى نقطة شام الطبية. تقول والدتها إن الممرّض الموجود في النقطة حاول ما بوسعه لعلاجها بعد تشخيص مرضها: «علّق لها محلولاً وقام بإعطائها الصادات الحيوية ومضادات الإقياء ومحلول الفلاجيل لالتهاب الأمعاء». وضع لها خطة علاجية لمدة عشرة أيام، لكن تحسُّنها كان بطيئاً. كانت نور تذوي ببطء.
في المخيم نقطتان طبيتان، إحداهما نقطة شام الطبية التابعة لـ«جيش مغاوير الثورة». يقول مدير النقطة إن قوام شام الطبية ثلاثة عشر شخصاً، ثلاث قابلات وستة ممرضين يحملون شهادة التمريض، وأربعة متدربين.
تعمل النقطة على مدار الساعة، وتحتوي على «عدة جراحية بسيطة: جهاز أكسجين، جهاز إرذاذ، مونيتور للمراقبة القلبية مع صادم، جهاز سحب مفرزات، جهاز إيكو»، إضافة إلى صيدلية. تقدم النقطة الخدمات للمراجعين مجاناً، ويتقاضى الكادر راتبه من «التحالف الدولي وجيش مغاوير الثورة»، بحسب مدير النقطة، الذي أكد أنهم «يقدمون الإسعافات الأولية فقط»، ويستقبلون حالات «الإسهال والتهاب الأمعاء والكسور والجروح» ضمن قدرة كوادرهم، إضافة للولادات والمعاينات النسائية.
يخبرنا مدير النقطة: «قبل إغلاق النقطة الطبية على الحدود الأردنية في آذار 2020، كنا نحول المرضى إليها، ومنها كانت تحول الحالات الساخنة إلى المشافي الأردنية، أما اليوم فليس هناك سوى طريق واحد، إلى مناطق النظام».
شكري الشهاب، مدير النقطة الطبية الثانية في المخيم، التي يطلق عليها اسم «نقطة تدمر الطبية»، يقول إنه «افتتح العيادة في أيار (مايو) من العام 2016. كانت خيمة، قبل أن تتحول إلى بناء طيني من ست غرف».
مثبّتة بمسامير، تطالعك لافتة النقطة القماشية على الجدران الطينية المثقبة بفعل الرياح. اللافتة الأخرى فقدت نصف مساميرها بفعل الرياح أيضاً. الخط المكتوب على اللافتة يتحدث عن «مراقبة الحمل، توليد طبيعي، أمراض داخلية أطفال». الباب الخشبي المغبر أيضاً ثُبِّت بخيط في أعلى السقف ليبقى مفتوحاً.
في داخل الغرف أسرّة حديدية وطاولات من الطين وضعت عليها بعض الأجهزة الطبية القليلة، الأرض مُدَّت بسجادة، وفي طرفها «سْفنجة» للجلوس على الأرض، وفي الزاوية بطاريات وجهاز لضمان وجود الضوء.
تضم نقطة تدمر في كادرها ممرضاً وقابلتين وأربع متدربات، ولا تتلقى دعماً من أي جهة، بل تقدم خدماتها بأجور رمزية لتبقى هي أيضاً على «قيد الحياة». وهي تُقدِّم «رعاية الحوامل والتوليد الطبيعي، ومساعدة مرضى السكر والضغط، إضافة للإسعافات الأولية». يقول شهاب: «كل ذلك يتم ضمن قدرتنا. نحن نقوم بعمل مشفى مصغَّر. نستقبل جميع الحالات ونحاول مساعدتها».
في النقطة «جهاز إيكو وجهاز إرذاذ وبعض المعدات الجراحية البسيطة، إضافة لصيدلية». يقول شهاب أنهم يتقاضون مبالغ رمزية على ما يقدمونه من خدمات «الولادة الطبيعة بنحو دولار ونصف الدولار، أما الإيكو فبربع دولار»، وتُباع الأدوية بمرابح بسيطة بعد شرائها من مناطق النظام عبر طرق التهريب.
يخبرنا شهاب أن هذه المبالغ الرمزية يتم تقاسمها مع الكادر الطبي في النقطة، وأنهم يتغاضون عن الأشخاص الذين لا يملكون المال، كذلك لا يتقاضون أي مبالغ مالية بما يخص المعاينات أو إعطاء الحقن أو جلسات الرذاذ.
ليس في المخيم أي أطباء أو دارسي طب، وليس هناك مراكز لإجراء الفحوصات المخبرية، ولا أي نوع من التصوير الشعاعي. ليس هناك شيء: صحراء وحصار وأشخاص يعيشون مأساتهم وحيدين في القرن الحادي والعشرين، أطفال يعانون سوء التغذية وفقدان العلاج، مرضى مزمنون دون أدوية أو علاج، مرضى سرطان والتهاب كبد يتألمون وحدهم دون مساعدة من أحد.
النقاط الطبية في مخيم الركبان تنقصها معظم الأجهزة التي يمكن أن تساعد في إنقاذ حياة ما يزيد عن عشرة آلاف ساكن محاصر، لكن أهمها من وجهة نظر شهاب هي: مولدة أكسجين لحديثي الولادة، أجهزة سحب المفرزات، جهاز لسمع دقات قلب الجنين، جهاز مخثر كهربائي لإكمال مشروع الجراحة – الذي فعلوه مرة واحدة منذ أشهر في ظروف أقرب إلى الخيال!
منذ أربعة أشهر، أجرت القابلة حسنة المطلق رفقة كادر نقطة تدمر الطبية أول عملية قيصرية لمدرّسة موسيقا في المخيم. المكان كان سيارة إسعاف، والإشراف الطبي كان عبر تطبيق زووم. كان يمكن لمضاعفات أو تداخلات ما أن تُفقِد المريضة حياتها، ماذا لو توقف الإنترنت! الأمر يستحق المغامرة، تقول المدرسة نور إبراهيم، فالطريق إلى مناطق النظام تذكرة ذهاب دون عودة إلى المخيم، حيث زوجها وطفلتاها.
قبل أن نتحدث عن وصول سكان المخيم إلى طريق مسدود، ومحاولة النظام فرض نفسه كجهة وحيدة لسكانه الهاربين في الأصل من قواته، يجب أن نسلسل ما حصل مع تحميل المسؤولية عن موت واعتقال العشرات من سكّان المخيم لأصحابها.
منذ حصار مخيم الركبان خريف 2018، كان المركز الطبي الذي تديره اليونيسف على الحدود الأردنية يقدم الخدمات العلاجية المرضى. هناك كان يتواجد عدد من الأطباء والأجهزة التي وصفها من تحدثنا معهم بالجيدة، فيما كانت الحالات الحرجة – كالولادات القيصرية والعمليات الجراحية – تُنقَل إلى المشافي الأردنية.
في بداية أيلول (سبتمبر) 2018، أُغلِقت النقطة الطبية دون تفسير ليُعاد فتحها بعد أيام قليلة، وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ذاته زار فريق من الأمم المتحدة مخيم الركبان وقدم اللقاح لنحو خمسة آلاف طفل رفقة مسؤولين من وزارة الصحة السورية (النظام).
كانت المرة الأخيرة التي يزور المخيم أي وفد أممي، والوحيدة التي تلقّى فيها أطفال المخيم لقاحاً، رغم أن إحاطة منسق الإغاثة الطارئة مارك لوكوك في مجلس الأمن أبلغت الجميع أن «الزملاء عادوا مصدومين مما رأوه على الأرض، وأبلغوا عن مشاكل حماية خطيرة، زيادة انعدام الأمن الغذائي، وعدم وجود أطباء معتمدين».
وجاء في الإحاطة أن «سكان المخيم مرعوبون مما يحمله المستقبل لهم، هم خائفون من العودة إلى منازلهم التي يرغبون في الوقت ذاته بالعودة إليها».
وفي الوقت الذي كان فيه مجلس الأمن يستمع للإحاطة، كانت السيدة فايزة أحمد الشليل تلفظ أنفاسها الأخيرة في المخيم دون أن يسمح لها بالدخول إلى الأردن للعلاج من تضخم أسفل الكبد.
في كانون الثاني (يناير) من العام 2019 قال خيرت كابالاري، المدير الإقليمي لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إنه في مخيم الركبان «لا تزال حياة الأطفال تُختزَل نتيجة تعرُّضهم لظروف صحية يمكن تداركها بالوقاية أو بالعلاج»، وأضاف أن «عدداً أكبر من الأطفال سيموت يوماً بعد يوم في حال عدم توفر الرعاية الصحية».
منتصف آذار (مارس) 2020 أغلقت السلطات الأردنية المركز الطبي الذي تديره اليونيسف، بسبب فيروس كورونا. يقول أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، في تغريدة على تويتر: «أولويتنا صحة مواطنينا، نحن نحارب كورونا ولن نخاطر بالسماح بدخول أي شخص من المخيم، الركبان ليس مسؤولية أردنية، إمكانية تلبية احتياجاته من داخل سوريا متاحة».
تقول لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية، إن للسلطات الأردنية كامل الحق في السعي لحماية سكان الأردن من الإصابة بكورونا، لكن يجب ألّا يتسبب هذا السعي بتعريض حياة الآخرين للخطر.
لم تفلح جميع المناشدات بإعادة المركز الطبي للعمل، رغم تراجع إجراءات الوقاية والحجر في الأردن. يقول رئيس المجلس المحلي في مخيم الركبان: «تم إبلاغ المكتب الأممي بوجود حالات طبية حرجة، ولم نحصل على استجابة». ويقول شكري شهاب «الأمم المتحدة لم ترد على مناشداتنا».
عشرون يوماً أمضتها الطفلة نور دون استجابة للعلاج في النقطة الطبية. دفع والدُها ما يجنيه من عمله في نقل المياه لسكان المخيم ثمناً للأدوية. كان سعر الدواء مضاعفاً ككل شيء في المخيم، وبسبب انتمائه السابق للجيش الحر، وعدم السماح للخارجين من المخيم بالعودة إليه، كان يرفض إرسال طفلته إلى مناطق النظام، قبل أن تُغلَق آخر الطرق في وجهه.
أخبره الممرض بوجوب إرسالها. اتصل بأبو سعيد، المنسق مع الهلال الأحمر في المخيم، وحملها بسيارة الإسعاف إلى نقطة تسليم المرضى رفقة والدتها، وقفل راجعاً رفقة سائق الإسعاف أبو عمر.
يقول أبو سعيد إن العملية تتم بالتواصل مع مسؤولين في الهلال الأحمر السوري لقبول الحالة، وبضمان من منظمة الأمم المتحدة التي تقوم بمرافقة المريض إلى المشفى في دمشق، وتبقى مسؤولة عنه حتى خروجه من المشفى.
يخبرنا أن نحو سبعين حالة مرضية تم قبولها خلال العام الماضي، وأن خمسة أطفال ماتوا قبل وصولهم إلى المشفى.
يقدر سائق سيارة الإسعاف الوحيدة أبو عمر المسافة بين المخيم ونقطة التسليم بخمسة وستين كيلومتراً، يقول إنها طريق ترابية ما يزيد من معاناة المرضى ومن الوقت اللازم لإسعاف المريض، وأن نقطة التسليم تقع بعد حاجز جيش مغاوير الثورة وقبل حاجز قوات النظام بنحو كيلومترين تقريباً.
سيارة الإسعاف غير مجهَّزة بأي معدات إسعافية، وكانت في السابق مخصصة لنقل المرضى إلى المركز الطبي الأردني، وكانت منظمة «عالم أفضل» تتكفل براتب السائق والوقود، وبعد إغلاقها باتت مخصَّصة لنقل المرضى إلى نقطة التسليم دون أي راتب، فقط تتكفل المنظمة بثمن الوقود.
يحتاج التواصل والموافقة على دخول الحالة الطبية إلى وقت لا يمتلكه المرضى الذين يحتاجون لنقل مباشر، وهو ما يزيد من مخاطر موت المرضى الذين يحتاجون إلى إسعاف بشكل عاجل، كحوادث السير والاحتشاء القلبي وحتى مرضى الزائدة!
غفلت أم غصون عن طفلتها لدقائق وهي تجهّزها للاستحمام بعد أن سخّنت المياه على البابور، الأداة الأكثر استخداماً في المخيم للطهي وتسخين المياه. أرادت أن تحضّر لها الثياب، قبل أن تسمع صراخ طفلتها التي احترقت بالمياه المغلية.
تروي أم غصون وهي تبكي كيف اقتُلعت قطع من اللحم المحترق مع ثياب طفلتها. وصلت سيارة الإسعاف لتنقلنا إلى نقطة شام الطبية، أخبرنا الممرض أن الحرق كان بدرجة متقدمة ولا يستطيعون تقديم أي مساعدة، وأن عليهم نقلها إلى المشفى في مناطق النظام.
ساعات مرت قبل أن تجهز رحلة «اللاعودة»، ساعات أخرى مضت للوصول إلى نقطة التسليم، ومنها إلى مشفى المجتهد بدمشق، قبل أن تفارق الطفلة الحياة بعد أسبوع.
دُفنت غصون بعيدة عن عائلتها، وبقيت الأم الوحيدة في مناطق النظام، أما والد غصون فما زال يبحث عن طفلته بين أرجاء المنزل الطيني. جدّة غصون شتمت «المخيم والنظام والثورة والأردن والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية»، وركنت لصوت ابنتها على الهاتف تخبرها أنها «ستشحذ لإعادتها إلى المخيم عبر طرق التهريب». كان صوت أم غصون، في الطرف المقابل، يختنق وهي ترد عليها: «سأبقى بجانب طفلتي».
تركت أم آية زوجها وطفلتها ذات الثلاث سنوات في المخيم، وتحضّرت للذهاب إلى مناطق النظام لإجراء عملية قيصرية بحسب القابلة التي أخبرتها بتعذر الولادة الطبيعية.
تروي أم آية أن الخوف سيطر عليها طيلة الأيام التي سبقت ذهابها، فهي لا تعرف ما الذي تخبّئه الأيام لها. استقلت سيارة الإسعاف على الطريق الترابي الذي زاد ألمها لكثرة اهتزازها. تقول: «وصلنا إلى نقطة تسمى المثلث، وهي نقطة تسليم المرضى، هناك استقبلنا أشخاص من الهلال الأحمر، قدموا لنا غذاء وأغطية، كان في النقطة ضباط وجنود من قوات النظام. نمنا ليلتنا في المكان، وفي اليوم التالي أُخِذتِ إلى مشفى في مدينة القطيفة لإجراء العملية القيصرية. يوم واحد أمضيته في المشفى لأُنقَل مجدداً إلى المثلث، هناك أشرف على حالتي ومن مثلي طبيب يتبع للهلال الأحمر وممرضين. وُضِعنا نحن في بيوت، أما غير المرضى فيوضعون في الخيام قبل نقلهم إلى مراكز الإيواء».
إلى الواحة
بعد رحلة العلاج، يُعاد المرضى ومرافقوهم إلى منطقة يطلق عليها اسم الواحة، يقول أبو محمود، سائق سيارة ينقل أهالي المخيم إلى تلك النقطة، أن الواحة عبارة عن مشتل زراعي يقع على طريق دمشق-بغداد، ويبعد نحو ستين كيلو متراً شمال شرقي مدينة الضمير بريف دمشق.
منذ بداية 2020، تحول المشتل إلى نقطة تجمع لنازحي مخيم الركبان باتجاه مناطق النظام. تم بناء عدة خيام في المكان لإيواء القادمين، كذلك وُضعت غرف مسبقة الصنع أخيراً للمرضى. وتتم حراسة الواحة من قبل قوات النظام.
يقول أبو محمود، ويتطابق قوله مع حديث أم آية ووالدة الطفلة نور، أن المكان محاط بالحواجز العسكرية التابعة لقوات النظام، ولا يستطيع أحد الوصول إليه من المدنيين باعتباره منطقة عسكرية، ويوجد في الواحة مكتب للهلال الأحمر يتم تقديم المساعدات الطارئة للقادمين، وأن الأسماء توثق من قبل «الضامن الروسي»، الأمر الذي يحول دون اعتقال أي شخص من الواحة.
لا يُسمَح لأحد بمغادرة الواحة، ويتم تفقُّد الموجودين يومياً، قبل أن يُنقَلوا إلى مراكز إيواء في مدينة حمص، وهنا تنتهي الضمانات ودور المكتب الأممي.
لا تزيد فترة «الترانزيت» في الواحة عن خمسة عشر يوماً، بحسب من تحدثنا معهم، تقول أم آية إنها وبعد ولادتها بقيت في الواحة هذه المدة قبل أن تُنقَل إلى مدرسة في مدينة حمص.
في المدرسة يتم استجواب الأشخاص من قبل «ضباط» بحسب أم آية. جميع الأسئلة تتركز حول المخيم والفصائل الموجودة والزوج والعائلة والعملة المتداولة، وفيما إن كان فرد من العائلة ينتمي «للإرهابيين». يُسمَح للأشخاص بمغادرة المدرسة لساعات قليلة لتأمين احتياجاتهم الخاصة، وداخلها يتم توزيع المساعدات والغذاء. في حالة أم آية تُركت بعد خمسة عشر يوماً لتذهب إلى المكان الذي تريده، دون أن يكون الذهاب إلى مخيم الركبان، حيث زوجها وطفلتها، خياراً متاحاً.
يقول منسق الهلال الأحمر أبو سعيد إن عملية «مصالحة» تتم في مراكز التجميع في حمص، ويُحجَر الأشخاص صحياً لمدة خمسة عشر يوماً بحجة كورونا قبل أن يُطلَق سراحهم، لكن بعض الأشخاص ما زالوا ينتظرون ورقة المصالحة منذ أشهر، بعضهم مضى على وجوده ثمانية أشهر، وهناك أشخاص تم تحويلهم إلى سجن عدرا المركزي ومن ثم إلى المحكمة. كثيرون اضطُروا لدفع مبالغ مالية كبيرة للإفراج عنهم، وما يزال بعضهم في السجون.
سامر العمر، وهو من منطقة جيرود بريف دمشق، أجرى مصالحة وعاد بعدها بطرق التهريب إلى المخيم خوفاً من البقاء. يقول إن أحداً منهم لم يرَ مضمون هذه الورقة. كانت عبارة عن تحقيق حول حياة السكان في المخيم، الفصائل، أماكن تواجدهم، أماكن تواجد القوات الدولية، التعامل معهم، سبب العودة إلى مناطق سيطرة النظام. ويقول سامر إن أشخاصاً كانوا برفقته اعتقلتهم الجهات الأمنية، ولم يُعرَف عنهم شيء فيما بعد.
يؤكد كلام سامر ما نقله المركز السوري للعدالة والمساءلة حول معلومات مفصلة عن اعتقال 133 مدنياً من مخيم الركبان منذ عودتهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كما تم إرسال بعض العائدين لإكمال خدمتهم العسكرية الإجبارية. سبق ذلك اعتقال 174 شخصاً آخرين بحسب ما وثقته الرابطة السورية لكرامة المواطن.
نموت معاً
تمرّ ساعات لا تحتمل من الألم، يقول ياسر العمر، 41 عاماً، الذي يعاني من مرض كلوي يرافقه منذ ما يزيد عن السنتين. فالأدوية المسكِّنة التي كان يتناولها لم تعد تفي بالغرض، وأيضاً هي الأخرى لم تعد متوافرة منذ إغلاق النقطة الطبية.
يرفض ياسر الذهاب إلى مناطق النظام، يقول إنه لن يعيش بعيداً عن عائلته المكوَّنة من خمسة أشخاص. أحد أبنائه في سن الخدمة العسكرية، وهو لا يريد له الالتحاق بقوات النظام إذا أراد الذهاب رفقة عائلته. يخبرنا أن الألم أقلّ صعوبة عليه من الذهاب للعلاج وعدم العودة.
كثيرون مثل ياسر والمدرّسة نور إبراهيم، التي فضلت إجراء قيصرية عبر الإنترنت على دخول مناطق النظام، ومن هؤلاء أصحاب أمراض مزمنة ومرضى كبد وسرطان يحملون ألمهم وخيارهم وحيدين. «لكن الخيارات تضيق حين يكون المريض طفلاً وصاحب القرار أباً»، يقول خالد، من مدينة السخنة بريف حمص الشرقي.
أُصيب طفل خالد، ذو العشر سنوات، بالتهاب الزائدة الدودية، وكان لا بد من عمل جراحي، وهو ما دفعه لإرسال عائلته بأكملها إلى مناطق النظام. يبرر الرجل ذلك بأنه لن يستطيع دفع المبالغ التي تتطلبها عمليات التهريب والمخاطرة أيضاً، ولا يمكن أن يُبعد ابنتيه عن أمهما.
يحاول خالد البقاء في مكان عمله أكبر قدر ممكن لتجنب الوصول إلى بيته الطيني، يخبرنا أنه «لا يريد تذكر بيته الفارغ البارد المليء بالذكريات».
تزيد كلفة طرق التهريب، عدا عن المخاطر، عن ثلاثة ملايين، وهو مبلغ لا يمكن لمعظم سكان المخيم تحمله، إذ لا يتجاوز دخل الفرد يومياً ثمن علبتي سردين وسط الغلاء الذي فرضه الحصار. يقول أبو صبحي، وهو وجيه من منطقة مهين بريف حمص الشرقي، أن النظام استغلّ إغلاق النقطة الطبية لإجبار الأهالي على العودة، وكذلك لتلقي المبالغ المالية والرشى والإتاوات.
يرى أبو صبحي أن الحل هو إعادة فتح المركز الطبي التابع للأمم المتحدة. يقول إنهم تواصلوا مع الجانب الأردني مراراً دون جدوى، وإن جميع الوعود التي تلقاها سكان المخيم من العالم والمنظمات الإنسانية كانت كاذبة.
دفعت أم آية المبلغ المطلوب لمهرّب أوصلها وطفلتها إلى مخيم الركبان. تقول إنها اشتاقت لعائلتها وبيتها الطيني، والحياة هنا أقل قسوة من مناطق سيطرة النظام بعيداً عن عائلتها.
لا يمكن لنا أن نفصّل طرق التهريب، خوفاً من انقطاع الأمل الوحيد بعودة عشرات الذين ينتظرون أن يجمعوا ما يُمكّنهم من دفع فواتير العودة إلى بيوتهم الطينية من جديد.
في المخيم نحو عشر صيدليات، واحدة منها مجانية في نقطة شام الطبية، ثلاثة من الصيدليات عبارة عن رف في أحد المحلات التي تبيع مواد غذائية أو ألبسة، بينما تمتلك باقي الصيدليات قوام الصيدلية، إذ تختص بالدواء دون السلع الأخرى، وتضم عدة رفوف خشبية توضع عليها بعض الأدوية، لكن دون مراعاة الشروط الصحية لتخزين الدواء في منطقة يختلف فيها المناخ بين الليل والنهار، وتتجاوز فيها درجات الحرارة أحياناً الخمسين درجة مئوية وتقل في أحيان أخرى عن عشرين درجة.
يشترك جميع من يعملون في صيدليات المخيم بصفة واحدة، أنهم غير حاصلين على شهادة تؤهلهم لفتح صيدلية، ويفترقون عن بعضهم بامتلاك اثنين منهم شهادة في التمريض، ما يجعل الوثوق بما يقدمونه من أدوية أمراً متاحاً.
يقول من تحدثنا معهم إن الصيدليات هي المكان الوحيد الذي يلجأ إليه المرضى في ظل غياب الأطباء، لكن ذلك ليس «أميناً» في مخيم الركبان، إذ يكتفي معظم أصحاب الصيدليات بإعطائهم الدواء دون شرح أو تقدير للآثار الجانبية أو المضاعفات.
أما فيما يخصّ الأدوية، فيتم الحصول عليها بطرق التهريب من مناطق سيطرة النظام. يقول عمر، أحد أصحاب الصيدليات في المخيم، إن الدواء في السابق كان متوافراً، ومع حصار النظام للمخيم في العام 2019 تضاعَف سعر الدواء، أحياناً إلى أضعاف كثيرة.
يقول عمر إن سبب ارتفاع سعر الأدوية يعود إلى النسب المئوية التي يدفعونها لأصحاب سيارات التهريب لإيصالها والتي تتراوح بين 70 إلى 200 بالمئة من ثمن الدواء، وكذلك الأسعار المرتفعة التي تباع فيها الأدوية من مناطق سيطرة النظام، «خاصة وأن هذه الفواتير لا تكون نظامية، ما يضطرنا لشرائها من مستودعات تقبل ببيعها، أو عن طريق صيادلة يتقاضون أرباحهم عليها». وهناك أيضاً، بحسب عمر، بعض أصحاب الصيدليات الذين يبيعون الأدوية بأسعار مرتفعة.
أخذنا عينة من أسعار الأدوية في مخيم الركبان، وقارنّاها بأسعارها في مناطق سيطرة النظام. اختيرت العينات العشر من الأدوية الأكثر استخداماً، ووجدنا أن الفارق لا يقل عن ضعفين، ويصل أحياناً إلى خمسة أضعاف أو أزيد من ذلك.
ولادة قيصرية دون أخصائي وعبر الإنترنت، ليست تلك المعجزة الوحيدة في مخيم الركبان التي كانت بطلاتُها قابلات قانونيات يفعلن ما بوسعهنّ لإبقاء الحياة في المكان. تقول القابلة أم محمود أن نحو 35 بالمئة من الولادات في المخيم تحتاج لعمليات قيصرية، وأن الكثير من الحوامل يرفضن الذهاب لمناطق سيطرة النظام فنقوم بمحاولة توليدهنّ طبيعياً.
بعض النسوة لديهن سوابق ولادة قيصرية أو أزيد من ذلك، وتوليدها «طبيعياً» يعتبر معجزة، لكننا اضطُررنا لفعل ذلك مرات كثيرة، بسبب عدم رغبة المرضى الذهاب إلى مناطق سيطرة النظام، أو بسبب الولادة المفاجأة وتأخُّر سيارة الإسعاف والموافقة على الدخول.
قصص كثيرة ترويها القابلات عن عملهن دون أدوات، عن أطفال تحفظهم العناية الإلهية في مكان لا يوجد فيه «حاضنة أطفال» ولا أجهزة مناسبة لفحص الطفل وعلاجه، ولا «غوّاصات» للأطفال الخدج.
تتحمل الأم، بحسب القابلة أم محمود، العبء الأكبر في رحلة العلاج نحو مناطق النظام أو البقاء والولادة في المخيم، بما تحمله من احتماليات لوفاتها أو جنينها، وتبقى السيدات والأطفال الفئة الأكثر هشاشة، خاصة مع خوفهن من البقاء وحيدات إن قررن البقاء في مناطق سيطرة النظام، وخوفهن من التعرض لهن أو اعتقالهن. وكذلك: أين سيعشن رفقة أبنائهنّ؟ الذهاب إلى هناك يشبه أن تصبح السيدة أرملة، مع أن زوجها على بعد مسافة قصيرة منها لا يمكن عبورها للوصول إليه.
تضع أم علي قطعة قماش مبلّلة بالماء على أنفَي طفلَيها مريضَي الربو لتمنع عنهما استنشاق الغبار. تقول إنها ومع كل عاصفة غبارية – وما أكثرها في مخيم الركبان – تضطر لفعل ذلك، وتتوجه إلى نقطة شام الطبية حيث يوجد جهاز إرذاذ واحد لكل سكان المخيم، وتنتظر دورها الذي قد يطول في جو لا يمكن فيه للشخص أن يرى إصبعه من الغبار.
يؤكد شكري شهاب أن كثيرين مصابون بالربو في المخيم. «لدينا نحو خمسة عشر شخصاً يحتاجون للرذاذ، نقدم ما نستطيع ضمن الإمكانيات المتاحة لهم».
يُمنَع المرض في مخيم الركبان، تُمنع المفاجآت أيضاً: لدغة أفعى قد توصلك إلى موتك أو تركك لعائلتك إلى أمد غير معلوم. لا مصول في المخيم، لا عدة جراحية، لا طبيب أو مخبري أو صيدلاني، لا حواضن أو أجهزة إنعاش. «اللاءات كثيرة»، يقول من تحدثنا معهم، ويمكن اختصارها بـ«لا شيء هنا». يقول خيرت كابالاري: «أمور كهذه لا يمكن قبولها ونحن في القرن الحادي والعشرين، يجب أن يتوقف فقدان الحياة بهذه الطريقة المأساوية».
لم تنجُ نور، الطفلة التي رافقتنا في رحلتنا للحديث عن الواقع الطبي في مخيم الركبان منذ البداية. لم تصل إلى المشفى بل ماتت في الطريق بعد شهر من الجفاف وسوء التغذية والتهاب الأمعاء. تقول أمها إن قَدَرها أن تُدفَن في بلدة الضمير، بعيدة عن عائلتها، لتتركها وحيدة في الواحة تنتظر ترحيلها إلى مستقبل غائب الملامح.
-3-
دولة حبر بلا أوراق
صحفيات وصحفيون من مخيم الركبان
كان تحوُّل نقطة عبور الركبان إلى مخيم فصلاً جديداً في حياة العالقين هناك في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، ما استدعى إيجاد شكل من الحوكمة لتسيير حياة السكان الذين زاد عددهم في مراحل معينة عن مئة ألف شخص، ونقص أخيراً إلى نحو عشرة آلاف من المحاصرين منذ نهاية 2018.
معظم سكان مخيم الركبان، أو الذين تواجدوا فيه خلال فترات زمنية متقطعة، هم من أبناء ريف حمص الشرقي (القريتين ومهين وتدمر)، ومحافظة دير الزور وعشائر بني خالد والعمور، مع نسبة قليلة من محافظات الرقة وحلب وحماة وعشائر النعيم والحديديين والفواعرة. تنقسم أحياء المخيّم، التي بُنيت على مراحل، بحسب المنطقة أو العشيرة، ويلوذ بهم آخرون سكنوا في هذه التجمعات وجاوروها.
قبل الثورة، غلب على من التحق بمخيم الركبان العمل في وظائف حكومية، إضافة للزراعة وتربية الماشية، ومع بداية الاستقرار في هذه المنطقة الصحراوية، حافظ قسم منهم على تربية الماشية، في حين غابت الوظائف في القطاعات كافة لندرة الدعم أو غيابه الكامل في مراحل معينة، بينما لجأ قسم منهم إلى افتتاح محلات صغيرة لبيع المواد الغذائية والتموينية، وبعض الورش الصغيرة لتلبية متطلبات الحياة، كالحدادة والنجارة والبناء ومكابس «طوب الطين».
ثلاث إدارات مدنية
يحدد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الهدف من إنشاء المجالس المحلية بـ«سد الفراغ الذي تركته الدولة الغائبة من خلال تقديم الخدمات المدنية لأكبر قدر ممكن من الأفراد بأفضل طريقة ممكنة، على أن تكون نواة البلديات المستقبلية والتي سترتبط بالحكومة المؤقتة والمنتخبة لاحقاً».
كان أول ظهور للمجالس المحلية السورية في بداية 2012، واقتصر عملها في البداية على الجانب الإغاثي، قبل أن يتطور لاحقاً ليضم مكاتب عديدة من شأنها سد الفراغ في المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة. ويختلف دور هذه المجالس، بحسب المنطقة والظروف السياسية والدعم المقدم، كذلك علاقتها بالفصائل العسكرية والدول الداعمة أيضاً. في سبيل ذلك شُكّلت مجالس محلية وغابت أخرى، تم تشكيل بعضها بالتعيين المباشر أو من خلال الاتفاق، بينما تدخلت الفصائل العسكرية في تشكيل مجالس أخرى، وانتخبت بعض هذه المجالس من قبل السكان في مراحل متقدمة.
لم يكن التشكيل الأول في مخيم الركبان تابعاً للائتلاف الوطني، رغم أن ولادته كانت في 2016، كما أنه لم يحمل اسم المجلس المحلي، بل اتفق المجتمعون من بعض أطياف المخيم على تسميته بـ«مجلس عشائر تدمر والبادية»، الذي تأسس في حزيران (يونيو) من عام 2016.
شهد الاجتماع الأول تشكيل هيئة عامة من أشخاص يمثلون عدداً من أحياء المخيم، وأسفر عن تعيين رئيس للمجلس، إضافة إلى عدة مكاتب: التنسيق الخارجي، التنفيذي، الصحي، التعليمي، الإعلامي، الإغاثي، الخدمات العامة، شؤون النازحين، الشؤون الاجتماعية، المرأة والأسرة، إضافة لديوان العشائر. عُيّنت الأسماء بناء على التشاور ومراعاة المحاصصة المناطقية في التمثيل، ومرّ مجلس عشائر تدمر والبادية بثلاث دورات، كان آخرها في الخامس والعشرين من آب (أغسطس) 2020، الذي شهد وجود ممثلة عن مكتب المرأة والأسرة ضمن صفوفه.
يقول شكري شهاب، رئيس المكتب الصحي في مجلس عشائر تدمر والبادية، إن الفكرة أتت مع زيادة عدد السكان في المخيم، وإيقاف الدخول إلى الأراضي الأردنية: «كان لا بد من وجود تمثيل يهتم بأمور النازحين، فدعونا إلى اجتماع. حضر من كل منطقة وجيه، وتم الاتفاق على الاسم، ثم تقدم من كل منطقة خمسة أشخاص وشكّلوا الهيئة التأسيسية التي انتخبت المكاتب التنفيذية».
بعد مجلس عشائر تدمر والبادية، تم تشكيل ما أُطلِق عليه «المجلس المحلي بمخيم الركبان». يقول أبو جاسم الخالدي، رئيس مكتب التنسيق الخارجي في المجلس، إنه تشكل بداية 2017، وعُيِّن أعضاؤه بالتشاور من قبل الوجهاء، وقُسم إلى عدة مكاتب، إضافة لرئيس المجلس: الخارجي، الخدمي، الإحصاء، المرأة، الإغاثة.
أمّا الجسم الوحيد الذي تعود تبعيته للائتلاف الوطني، فهو ما أطلق عليه «الإدارة المدنية في مخيم الركبان»، التي تشكلت في آب (أغسطس) 2017 في الأردن.
الإدارة المدنية، التي تغيب عن معرفها الرسمي على فيسبوك منذ نهاية 2019، كانت تُصدر بيانات ومحاضر اجتماعات دورية، وتتألف من عدة مكاتب إضافة لرئيس الإدارة ونائبه، وهي: مكتب الإحصاء، المكتب الصحي، الإعلام، المالية، الخدمات، التربية والتعليم، المرأة، إضافة للقضاء ومكتب الشكاوى. والإدارة المدنية هي الجهة الوحيدة التي خصَّصت مكتباً للقضاء، خلافاً لغيرها من الأجسام المدنية في المخيم.
يقول مدير المكتب الإعلامي في الإدارة المدنية إن تعيين أعضاء المجلس يكون من وجهاء كل منطقة أو عشيرة، ويتم «اختيار رئيس المجلس من بين الأعضاء بالتصويت»، فيما يتم اختيار الأعضاء وفق شروط محددة. ويخبرنا رئيس مكتب الإحصاء في الإدارة أن التشكيل تم من قبل الجانب الأردني، لم يترشح أو ينتخب أحد من قبل أبناء المخيم. ويضيف أنه لا يوجد دورات انتخابية للإدارة المدنية، وفي حال ترْك أحد الأعضاء لمكانه، يتم اختيار بديل عنه وفق الطريقة السابقة.
ليس للأجسام الثلاثة مقرات رسمية، ولم يشترك سكان المخيم في تكوينها أو انتخاب أعضائها، ومثل مجالس محلية في مناطق سورية أخرى، يتم الاختيار بناء على المحاصصة والاتفاق بين مكونات المخيم، ولم تتوحد في أي من الأوقات فيما بينها لتشكيل جسم واحد يقع على عاتقه خدمة أبناء المخيم، وهو ما حال دون اتخاذها لقرارات ملزمة، إذ تُصدَر هذه القرارات بشكل فردي، إن وجدت، وتتوحد في بعض الرؤى والمواقف السياسية، أو في ما يخص بعض المشكلات التي تعترض حياة سكان المخيم، كذلك خلال توزيع المساعدات الإنسانية.
الأجسام الثلاثة تقول إنها تمثل مخيم الركبان بالكامل، في حين قال من استطلعنا آراءهم من سكان المخيم إن دورها لا يتعدى كونه حبراً على ورق، وإن هذه المكاتب بمسمياتها ما هي إلا أسماء للتداول، يعرف أصحابها أنهم لا يمتلكون أي سلطة مدنية أو تنفيذية، وليس لهم دور في تقديم المساعدة المنقطعة أصلاً عن مخيم الركبان بسبب غياب الدعم. ورأى آخرون أن عدم فاعلية هذه الأجسام ناجم عن تفرقها وندرة الدعم من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، وكذلك عدم وجود سلطة تحمي قرارات هذه المجالس، إضافة لحالة الحصار الذي يعيشه السكان، وشلل قدرة المجالس عن تقديم المساعدات بسبب ذلك.
دور المجالس الثلاثة يقتصر على البيانات وتوزيع الإغاثة
يتفق من تحدثنا معهم في الأجسام الثلاثة التي تمثل مخيم الركبان على دور وحيد هو توزيع المساعدات الإنسانية، لكن هذا الدور أيضاً غاب أخيراً بعد توقفها منذ أزيد من عامين على وصول الدفعة الأخيرة.
ليس لهذه الأجسام دور في دعم العملية التربوية أو الصحية لعدم توفر أي دعم لها، وإن كان دور المجالس المحلية في مناطق أخرى يرتبط بمذكرات تفاهم مع منظمات إنسانية لتنفيذ مشاريع في المخيم، فإن هذه المشاريع لا تمرّ على المخيم المحاصَر المَنسي. كذلك لا توثّق هذه المجالس الولادات أو الوفيات، ولا تقوم مقام دوائر النفوس، ولا يوجد في المخيم توثيق عقاري أو رسوم على المحال القليلة في سوق المخيم، وليس للمجلس، أخيراً، دور في دعم الطحين والخبز وترحيل القمامة كغيرها من المجالس في مختلف المناطق.
ولا يتقاضى أعضاء المجالس أي رواتب، وليس لهم مقرات، حيث تُعقد الاجتماعات في بيت أحدهم. وفي حال وجود شكوى من قبل السكان، فليس هناك آلية لإيصالها إلا عبر المحادثة الشخصية. وتدرس هذه الأجسام أحوال سكان المخيم دورياً، وإصدار البيانات للأمم المتحدة والمناشدات للمنظمات الإنسانية دون أي رد، فيما تطول قائمة الاحتياجات يوماً بعد يوم.
يقول الخالدي: «ليس هناك خطة عمل سنوية في المجلس المحلي، وهم لا يملكون أي صلاحيات في حال تقدم الناس بشكوى، وجميع المناشدات والتواصلات مع منظمة الأمم المتحدة والائتلاف الوطني قوبلت بوعود وتبريرات لعدم وصول المساعدات بحجة منع قوات النظام وروسيا إدخالها، كما لا يملك المجلس أختاماً أو إيميلات موثّقة».
ويخبرنا رئيس مكتب الإحصاء في الإدارة المدنية أنه لا دور للإدارة في تأسيس البيوت أو منحها التراخيص اللازمة، كذلك المحلات، وليس لها دور في شق الطرقات أيضاً. وأضاف أن دور الإدارة في السابق كان يقتصر على تنظيم توزيع المساعدات الإنسانية المقدمة من مكتب الأمم المتحدة بدمشق، إذ لا توجد جهة أخرى تقوم بأعمال داخل المخيم، وهم في الإدارة ناشدوا المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لتسهيل خروج العائلات باتجاه الشمال السوري وفك الحصار عن المخيم، لكن لم يلتقوا رداً من أي جانب حتى اللحظة.
ويقول مدير المكتب الإعلامي في الإدارة إن التواصل مع مكتب الأمم المتحدة في دمشق يتم عبر الواتسآب بشكل شهري، وذلك لرفع الاحتياجات وشرح معاناة النازحين والتساؤل حول موعد تسليم المساعدات. إلا أنهم فقط يتلقون إجابة بأنهم «يحاولون». وهم لا يضعون خطة سنوية لعملهم لأنه «لا يمكن وضع خطة دون دعم لتنفيذها».
مجلس عشائر تدمر والبادية يحظى بدور أكبر داخل مخيم الركبان، إذ تنشط صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في الجانب الصحي والتعليمي،كما يُلاحَظ قيام بعض أعضائه بتوثيق وإحصاء عمل النقطة الطبية ورفع الاحتياجات والمناشدات، ولعب دور توعوي للحد من انتشار بعض الأمراض والأوبئة في المخيم.
يخبرنا أحد أعضاء مجلس عشائر تدمر والبادية أنهم يعملون بحسب الإمكانيات والظرف الراهن. المخيم محاصر، ولا يمكن إدخال أي مساعدات إليه إلا بعد موافقة دولية. يقول إن المجلس صلة وصل بين السكان والعالم الخارجي لإيصال ما يعيشونه من معاناة، وبين مكاتب الأمم المتحدة وأشخاص مسؤولين عن أبناء مدنهم في المخيم لتوزيع المساعدات على الأهالي في حال وصولها.
ويقول أيضاً إن مراسلات مسجلة جرت بين مجلس عشائر تدمر والبادية وبين مكاتب الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وحقوق المرأة والطفل ومنظمة العفو الدولية، جميعها لم تفلح، وما يزال المخيم محاصراً، دون أي خدمات حتى على صعيد الصحة والتعليم. ويضيف أنهم يقومون على وسائل التواصل الاجتماعي بنشر كل شيء عن المخيم، وإبلاغ وزارات خارجية دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وإرسال تقرير شهري عن حال المخيم للأمين العام للأمم المتحدة، دون ردّ أيضاً.
وبمبادرات فردية، يقوم المكتب الطبي في المجلس بحملات توعية، مثل التوعية بفيروس كورونا أخيراً، وجدري الماء. أما في الجانب التعليمي، فيقتصر دورهم على نقل الواقع، إذ يفتقر المخيم للمستلزمات الدراسية والقرطاسية ووسائل التعليم والمقاعد، كذلك يعمل المدرسون كمتطوعين دون رواتب، والأهم من ذلك أن التعليم مقتصر على المرحلة الابتدائية فقط، وهو ما يمكن تسميته «محو أمية وليس تعليماً»، بحسب من تحدثنا منهم. ولا تُصدر الأجسام الثلاث أي وثائق تثبت إنهاء المرحلة التعليمية، ما يعني عدم القدرة لاحقاً على إلحاق الطلبة بالمدارس الإعدادية إن وجدت، وكذلك الالتزام بالامتحانات الرسمية للشهادتين الإعدادية والثانوية.
يقول أبو صالح العموري، المدير التنفيذي لمجلس العشائر، إن الأجسام الثلاثة تعمل على تنظيم المساعدات الإنسانية وتحديد عدد المستفيدين في المخيم، دون دور لها حتى في ترحيل القمامة. كذلك تغيب الإحصائيات الدقيقة وتسجيل الولادات والوفيات وحالات الزواج.
سكان بلا أوراق ثبوتية
يخبرنا أبو صالح العموري إنهم في نقطة تدمر الطبية يقومون بتوثيق حديثي الولادة في سجلات (الاسم، الأب، الأم، جنس المولود، تاريخ الولادة) دون القدرة على منح وثائق رسمية. كذلك تقوم المدارس بهذا الدور للطلبة الملتحقين بصفوفها، والذين يتناقص عددهم يوماً بعد يوم. يفسّر الأهالي تسرب أولادهم من المدارس بعدم وجود الشهادات، وبغياب القدرة على إكمال التعليم، فلماذا سيرسلونهم إذن!
تقول فاطمة، وهي مدرّسة في واحدة من مدارس المخيم، إن مدير المكتب التعليمي أخبرها بتسرّب نصف عدد الطلاب في المدارس الذين كان عددهم يزيد عن ألف وخمسمائة طالب. وتضيف أن الزواج في المخيم يتم «مشافهة» دون عقود، ويُعقَد بشكل شرعي بوجود «شيخ وشهود»، وأن كثيراً من الفتيات القاصرات يتم تزويجهن في المخيم، كما تتحدث عن زيادة في حالات الطلاق داخل المخيم.
تروي فاطمة قصة فتاة وصلت إلى مخيم الركبان وهي حامل بطفل، وذلك هرباً من تنظيم داعش الذي دخل إلى مدينتها تدمر. تقول إن زوجها طلّقها على الهاتف، وأن طفلها عاش في المخيم دون أوراق ثبوتية، وتخبرنا أن عمرها لم يكن يتجاوز الخامسة عشر في ذلك الوقت. يعيش الطفل اليوم في مدينة حمص مع جدته، وتقول فاطمة إنه إلى الآن دون أوراق ثبوتية، وإن دائرة النفوس في حكومة النظام لم تمنح الطفل نسباً، خاصة وأنه لا يملك شهادة ولادة، كما أن عقد زواج والدته غير مثبَّت في الدوائر الرسمية.
الموتى أيضاً لا يملكون شهادات وفاة، فمعظم الذين ماتوا داخل المخيم ما زالوا أحياء في نظر حكومة النظام. يروي لنا أحمد، وهو شاب من سكان المخيم، أن والدته عادت إلى مناطق النظام للحصول على أوراق تثبت موت زوجها ولتتقاضى راتبه التقاعدي، لكن دون جدوى. إذ ليس لدى السيدة أي ورقة تثبت موت زوجها.
تقول فاطمة: «إلى متى سنبقى هكذا؟ هناك جيل كامل من التائهين في الصحراء بلا أوراق أو صحة أو تعليم، قَدَرُهم أن يعيشوا كالصحراء التي يسكنونها، الفارق الوحيد أن البدو كانوا يرحلون أينما يريدون أما نحن فمحاصرون في مكان واحد ننتظر كل شيء أو اللاشيء».
مخفر دون مخفر أو شرطة
في مخيم الركبان رئيس مخفر، إلا أنه لا يملك أي صلاحيات أو قوة تنفيذية. هو اليوم يسكن داره، دون بناء أو مقرّ لتسلُّم مهامه، ودون عناصر أيضاً لحل المشكلات أو ضبط الحياة داخل المخيم.
في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 2020، تم الاتفاق بين فصائل الجيش الحر ومجلس عشائر تدمر والبادية على تشكيل دائرة للصلح، مهمتها حل النزاعات والخلافات في المخيم، على أن تتكون من جهاز رقابة وديوان للصلح وجهاز قضائي وآخر للشرطة المدنية. وفي الثامن عشر من الشهر ذاته، أُعلِن عن تشكيل شرطة مدنية من أبناء المخيم في مقطع مصوَّر، وظيفته بحسب البيان حماية الأهالي وتقديم المساعدة لهم في حالات السرقة والمنازعات والحد من إطلاق النار.
كان ذلك حبراً على ورق أيضاً. يقول من تحدثنا معهم إن ما حدث كان إجراء شكلياً، إذ لا يمكن القيام بمثل هذه الخطوة دون دعم مالي لتأمين الرواتب والمصاريف اللوجستية، كذلك دون اتفاق بين الأجسام في المخيم والفصائل العسكرية.
ليست تلك المرة الأولى التي يفشل فيها إنشاء سلطة تنفيذية في مخيم الركبان، بل سبق ذلك إنشاء هيئة أركان نتج عنها إيجاد دار للقضاء ومخفر للشرطة إضافة لسجن، وذلك في الثامن من كانون الأول 2018.
تم ذلك بالاتفاق بين الفصائل العسكرية وأجسام المخيم المدنية، وقدم كل فصيل عدداً من العناصر لتشكيل الشرطة المدنية، وتشكلت دار القضاء من قاضي فرد عسكري وقاضيَين مدنيَين. كذلك كان هناك محامون داخل المخيم، إلا أن ذلك لم يستمر إلا لثلاثة أشهر فقط، إذ أعلنت الإدارة المدنية حل جهاز الشرطة في السابع عشر من نيسان (أبريل) 2018، بعد أن قام عناصر من الشرطة المدنية بالدخول إلى دار القضاء وإخراج أحد الموقوفين بالقوة.
يقول من تحدثنا معهم إن غياب الدعم هو السبب الرئيسي لفشل قيام أي سلطة مدنية أو تنفيذية، إذ لا يمكن بناء مخفر في المخيم أو دفع رواتب العناصر والقضاة فيه، ولا يمكن حتى إطعام سجين في حال حُكِم على أحدهم بالسجن، وهو ما حال دون وجودها والاعتماد على القضاء العشائري والعرف في حل النزاعات.
يقول رئيس مكتب الإحصاء في الإدارة العامة إن عدم وجود دعم حال دون وجود سلطة تنفيذية أو شرطة لتطبيق القانون في المخيم، ويخبرنا أبو جاسم من المجلس المحلي أنه لا يوجد إمكانية لحل الشكاوى التي يتقدم بها السكان، ولذلك يتم الاعتماد على العرف والعادات والتقاليد في حل المشكلات.
يخبرنا عضو مجلس عشائر تدمر والبادية أن هناك شرطة مدنية في المخيم يتم الاعتماد عليها في استدعاء الأشخاص في حال رفضهم القدوم، وبعد إخطار وجهاء من مدينة المطلوب. لا يوجد سجن أو دائرة قضاء مدني، لكن يوجد سجن في قاعدة التنف العسكرية التي تتبع لقوات التحالف الدولي، وهو مخصص للأشخاص الذين يهددون المخيم أو من المتعاونين مع داعش والميليشيات الإيرانية. «المشكلات في مخيم الركبان قليلة، ونسبة الجرائم متدنية، ونحن نعتمد في حلها على الصلح والديّة».
القضاء العشائري والعرف يحكمان مخيم الركبان
غياب القضاء المدني دفع سكان مخيم الركبان إلى اعتماد الصلح بالعرف والدِّيَة لتسوية خلافاتهم، ساعدهم في ذلك خلفية السكان العشائرية، والتي ما تزال تعتمد في كثير من الدول، ومنها الأردن والعراق وفلسطين وسوريا، على القضاء العشائري في حل ما يعترضها من مشكلات.
وللقضاء العشائري أعراف وإجراءات وأحكام متوارثة، وهو بحسب من يخضعون له «أسرع في التقاضي»، كذلك يعتبر «أكثر فائدة» من القانون المدني عند العشائر، لما يتمتع به من سرعة ودفع للحقوق بدلاً من سنوات السجن. ويجب أن يتمتع القاضي العشائري بالحنكة والخبرة والقدرة على القياس للحكم في ما يعترضه من مشكلات. أحياناً يُعقَد المجلس بأكثر من قاضٍ واحد، ويعتبر الحكم فيه مُلزِماً نتيجة رضا الطرفَين المتخاصمَين المسبق بحكمه.
يقول محمد حسيان، وهو «شيخ عُرْف في مخيم الركبان»، إنه لا توجد طريقة لاختيار شيخ العُرْف، لكن يجب أن يتمتع الشيخ بأخلاق حسنة ووجاهة في عشيرته، إضافة للإلمام بالقضايا التي يمكن أن تواجهه. ويعتبر حكمه مُلزِماً ويتكفل بتنفيذه وجهاء عشيرته أو القرية التي ينتمي إليها.
يتدخل شيوخ العرف ووجهاء الركبان في حل النزاعات بين سكان المخيم، غالباً بالتراضي بين الطرفين، وتغلب على الأحكام دفع المبالغ المالية، إذ تُحدَّد الدِّيَة بحسب الجرم الواقع على الشخص.
يقول بعض من تحدثنا معهم في المخيم إنهم غير راضين بحكم العرف، ويضربون لذلك مثالاً بعقوبة السارق بإرجاع ما سرقه دون عقوبة رادعة عن الجريمة التي ارتكبها. ينطبق ذلك على قضايا مثل القتل، التي تُحَل عادة بالدية المالية. يقولون إن ذلك يدفع أهل القتيل للأخذ بالثأر على سبيل المثال بسبب عدم قناعتهم بعدالة الحكم الصادر.
ويرى آخرون عكس ذلك، فالقضاء العشائري يراعي حياة سكان المخيم، ويحميهم من تزايد الخلافات والمشكلات، إذ يتدخل الوجهاء لمنع تفاقمها مستفيدين من «سلطتهم الأبوية» على أبناء عشائرهم أو أحيائهم. كذلك يحتاج القضاء المدني إلى مختصين، وهو غير متوافر بين سكان المخيم، إضافة للسجون وتكاليف أخرى يصعب تأمينها.
صحفيات وصحفيون من مخيم الركبان
موقع الجمهورية
ظلال الفرح في الركبان
يشبه ما يحدث في مخيم الركبان المحاصر إعادة تدوير الحياة بمفهومها البكر: خلق سعادة بأدوات بسيطة، وتزيين هذه الأدوات والتنافس عليها لنسج حكاية تبقى عالقة في الذاكرة؛ لخطيبَين يحلمان بالاستمرار، يرويانها لأطفالهما آملَين لهم ألا يعيشوا التجربة ذاتها؛ لأمهات وآباء يرتبون منازلهم ويكنسون الرمل من على أرضياتها الطينية ويرممون أسقفها خشية العواصف الغبارية؛ لنوافذ من النايلون وأبواب تَصِرّ مفصّلاتها؛ لفتيات يشترين علب التجميل الرديئة المهربة من حواجز الحصار؛ لورق مقوّى يُقَص بأحجام مناسبة ليتحول إلى «كروت أعراس»؛ لمساكب من الحبق والريحان، وأخرى من حشائش النعناع والبقدونس والبصل؛ لأرجوحة للعيد، وخيال قسري يتطلب تحقيقه الكثير من الرضا للاقتناع بأن ما يشبه الحياة هنا يشبه فعلاً الحياة على بعد أمتار قليلة، وربما يفوقها لما يحمله من تفاصيل لا يمكن نسيانها.
على بعد مئات الأمتار من دول ثلاث، يصنع أطفال مخيم الركبان ألعابهم من بقايا الإسفنج وعلب السردين والأسلاك المعدنية، يرصفون أحجاراً لأبنية صغيرة من رمل إعمالاً لخيال كان مزيجاً من حكايات الأمهات و«نُتَف» مقاطع يوتيوب لبرامج شاهدوها على الهواتف المحمولة، فيها أميرات يعشن في قصور ويرتدين فساتين مُضيئة بالألوان والإكسسوار.
مخيم الركبان بقعة لصناعة الحياة، صناعتها لا شرائها ولا استيرادها. الاهتمام بكل تفصيل صغير في هذه الصناعة يتطلب من النازحين المحاصَرين محاكاة ما يتذكرونه. قد تبدو تجربة مذهلة يخوضها أشخاص بدافع المغامرة، تتحدث عنها وسائل الإعلام ويصنِّفون أشخاصها كأبطال، لكنها في الركبان طريقة حياة لآلاف الأبطال المنسيين، يرفعون أيديهم في مواجهة العالم، يقولون: «إن كان العالم قد تجاهلنا، فعلينا أن نخلق الحياة هنا بمفردنا».
«لو لم نعرف الكتابة لاخترعنا ما يشبه الأحرف»، ذلك أول ما يخطر في بال من يشاهد «كروت الأعراس» في مخيم الركبان: قطع من الورق المقوى الأبيض مقصوصة بعناية وبأحجام متساوية، في زاويتها قلب حب بلون بنفسجي مرسوم بخط اليد، على يساره دعوة باللون الأحمر تأمل أن «نتشرف بحضوركم»، أما باللون الأزرق فملاحظة بأن «جنة الأطفال منازلهم».
يبدو المشهد اختياراً طفولياً لتلميذ يؤدي واجباً مدرسياً، يختار الألوان بما تسعفه طفولته أيضاً، وكذلك الخط الذي يحاول أن يزخرفه. تتبدل معاني الألوان في مخيم الركبان، إذن لماذا لا يكون القلب أحمر والدعوة بالأزرق والملاحظة بالبنفسجي، كتنسيق أكثر خبرة؟ تأتي الإجابة بسيطة ومقنعة: «القلب يحتاج للكثير من الحبر، القلم الأزرق كان يلفظ آخر قطرات حبره».
في الغرفة الطينية التي تستنزف مدّخرات شبان كثر في الركبان، ومعها الحوالات المرسلة من أقرباء معهم خلف الحدود، يأخذ السرير مكانه وسط الغرفة. السرير أيضاً مصنوع من الطوب والطين بمقاس مزدوج ليحمل حياة عروسَين، يغطّى بأناقة بشرشف بني. الأبيض ليس لوناً للفرح في مخيم الركبان المغبرّ. تعتلي السرير إسفنجة ومفرش بلون زهري، وعلى جانبيه ألعاب من الدببة، ربما تكون هدايا عبرت حواجز الحصار وأهديت لحبيبة ذات عيد أو مناسبة. الأرضية فُرشت بحصير من النايلون، والبلاستيك يشكل أثاث الغرفة المتبقي من خزانات ورفوف وطاولة.
يقول من تحدثنا معهم إن غرف النوم تلك ليست «رومانسية عاشق وخياله»، هي ما يمكن أن ينجزه شابان في مقتبل العمر، يرسمان ملامح حياتهما القادمة. الغرفة التي سيتحدثان عنها طويلاً، وستحمل تفاصيل ما يعيشانه.
كهرباء المولّدة وبطارية الطاقة الشمسية لا تكفي لإبهار المكان بالأضواء. يَصِرّ باب صالة «ورد الشام»، الوحيدة في مخيم الركبان، كغيره من أبواب المنازل الخشبية، ويفصل بين الباب والصالة أرض من الرمل وباب من القماش.
في وسط المسرح، المرتفع سنتيمترات قليلة عن الأرض، عمود يحمل السقف، وعلى جنباتها مقاعد متصلة مصنوعة من القرميد، جميعها مغطاة بشادر يحمل رمز اليونيسف، وفي نهايتها وعلى درجات ثلاث بُنِي كرسيّا العروسين، هذه المرة كان البناء حجرياً وزُيِّن بقماش أبيض محلى ببقع سوداء وورد أحمر، أما جداره فزُخرف بحجارة صغيرة ملونة.
تُحجَز الصالة قبل يوم واحد، تخبرنا أم محمد (صاحبة المكان) القادمة من حرستا في ريف دمشق، والتي وجدت نفسها عالقة في مخيم الركبان رفقة أولادها الأربعة.
وتروي أم محمد أنها تعلمت قبل زواجها مهنة «الكوافيرة، الحلّاقة النسائية»، لكنها لم تعمل بها بعد زواجها، وبعد وصولها إلى مخيم الركبان وحضورها لعدد من أعراس بنات المخيم وجدت فكرتها في بناء الصالة. تقول: «كان المشهد كئيباً، عروس تجلس على وسائد في المنزل دون زينة أو بدلة عرس. مرة رأيت فتاة تُزَف بثوب أسود. كانت الفتيات يتزوجن بثيابهن التي يمتلكنها، أحياناً لم نكن نستطيع تمييز العروس بين الفتيات الحاضرات!».
كان ذلك في 2016. تكمل أم محمد أنها بعد طرح الفكرة من قبل نساء المخيم، قامت ببناء صيوان (أعمدة حديدية أكبر من الخيمة ولها شكلها، تغطى بشادر وتستخدم عادةً في الأفراح والتعزية في المدن والقرى السورية)، وحولته إلى صالة أعراس، قبل أن تستأجر غرفة طينية تستخدمها كسكن وصالة للمناسبات وتضع فيها ما يلزم لذلك من «الأسكي وأماكن الجلوس والزينة» بعد أن تنقل أغراضها إلى المطبخ لحين الانتهاء.
كثرة الخيام وضيق البيوت الطينية والأعداد الكبيرة لسكان المخيم في ذلك الوقت ساعد أم محمد على نجاح مشروعها. تقول إنها كانت تستضيف في صالتها الطينية نحو خمس عشرة حفلة شهرياً للنساء، وعشر للرجال، وهو ما يعني أن بيتها كان مشغولاً طوال الوقت، وكانت تتقاضى خمس عشرة ألف ليرة على الحجز الواحد.
مع تطور عمل الصالة، قامت أم محمد ببناء صالة جديدة أكثر اتساعاً، هذه المرة زادت مساحتها عن ستين متراً. بنت الأسكي من الطوب، و«الأسكي مسرح صغير كان يُصنَع من الخشب ويُفرَش بالسجاد وتوضع عليه كراسيّ مميزة يجلس عليها العروسان ويرتفع نحو متر عن الأرض»، ومقاعد الحاضرين من اللَبِن. غطت الجدران بأغطية بلاستيكية، وزيّنت كرسيَّي العروسَين بالأضواء.
تقول أم محمد أن الإقبال قلّ على عمل الصالة خلال السنتين الأخيرتين، وترجع السبب لتراجع عدد السكان (نقص عدد السكان من نحو مئة ألف إلى عشرة آلاف في السنتين الأخيرتين)، ولاتساع البيوت الطينية التي بُنيت حديثاً والتي تصلح لإقامة الحفلات، إضافة للظروف المعيشية القاسية التي زادها الحصار سوءاً، ورفع قيمة استئجار الصالة إلى خمسين ألف ليرة سورية لليلة الواحدة.
تقدر أم محمد عدد الحفلات التي أقيمت في الصالة العام الماضي بنحو مئة مناسبة، وتقول فتيات تحدثنا معهم إن استئجار الصالة عادة ما يكون شرطاً بين العروسين، إلا أن تكاليف الزواج العالية تدفع كثيرات من النساء للقبول بالزواج دون حفلة.
تقول مريم، إحدى فتيات المخيم، إن الحفلة في الصالة أفضل، إذ توفر مساحتها الكبيرة فسحة للاحتفال وراحة المدعوين، إضافة لتوزيع «الضيافة»، وتشير إلى أن أكثر الحجوزات تكون للخطبة لا للأعراس، وهو ما أكدته أيضاً صاحبة الصالة.
ويخبرنا شبان في المخيم أن مبلغ خمسين ألف ليرة ليس سهلاً في ظل التكاليف الكبيرة التي على العريس دفعها. «لا تقاس الأمور بما تعيشونه، بل بما نعيشه نحن!».
ليس في المخيم مطربون أو مطربات لإحياء المناسبات، ويعتمد سكانه على «بفلات الصوت» (المضخمات) وتشغيل الأغاني عبر الإنترنت للاحتفال. تقول أم محمد صاحبة الصالة «حتى الإضاءة متواضعة لعدم توفر الكهرباء».
وتروي أم محمد أن النساء يقمن أيضاً بغناء الأهازيج الشعبية التي يحفظنها، والتي تختلف بين منطقة أخرى. يعلق في ذهنها بعض ما يطلق عليه «الهنهونات» لتطلقها على مسامعنا: «طولك هالطول / ورب السما إلك ناطور / ومريم بنت عمران ترشلك البخور»، أو «بدلتك الحلوة طنعشر قمر فيها / وطنعشر خياط يطرز غواشيها / وقامتك هالحلوة لابن عمك خليها». ترافق هذه الأهازيج الزغاريد، وتقوم الفتيات بالرقص أمام العروس والحاضرين.
كذلك لا يوجد مطربون في حفلات الرجال، وغابت أيضاً جلسات «العتاب» في المخيم بعد رحيل كثر من سكانه من الذين كانوا يمتلكون أصواتاً جميلة. وتقتصر حفلات الرجال اليوم على اجتماع بعض المدعوين، أحياناً على غداء معدّ للمناسبة، وحلقات الدبكة.
تخبرنا فتاة في المخيم أنها زُفّت بعراضة شامية، وهو أمر نادر الحصول في المخيم، كما تغيب «زفّة السيارات» أيضاً، لكنها على حد وصفها «امتلكت أحلى زفة في المخيم». تقول: «كان ذلك يشبه ما حضرته من أعراس سابقة في مدينتي قبل نزوحي منها»، لتستعيض بزفتها عن العرس في الصالة.
تقول أم خالد إن معظم الفتيات يرغبن بإقامة حفل زفاف: «هو يوم خاص لا يمكن أن يمر دون فرح، لكن الكلفة العالية تحول دون ذلك. هناك أولويات أيضاً، لذلك نحاول أن نقدم لهن ما نستطيع من فرح في هذا اليوم». وترى أم سالم أن الغيرة بين الفتيات تزيد من الأعباء على الشبان، «فكل فتاة تحلم بأن يكون عرسها مميزاً، ولكن علينا أن نقدر ظروف بعضنا بعضاً». تتجاهل أم سالم أن «ما تطلبه الفتيات حق لهن»، بحسب أحد الشبان الذي تزوج مؤخراً، والذي رأى في هذه الغيرة أمراً مبرراً بعد أن اشترطت خطيبته عليه «حفلة في الصالة وضيافة من أنواع محددة». يقول إنها «تستحق ذلك»، وهو ما دفعه لتلبية طلبها: أن يكون عرسها مميزاً.
لأم محمد قصة أخرى تُخفيها خلف «أسكي» الصالة وأضوائها. تقول إنها تدخر ما تجنيه من عملها لعلاج طفلتها التي تعاني من حثل المادة البيضاء (في الدماغ)، والتي ستحتاج إلى علاج بتكاليف باهظة إن أتيح لها الخروج من المكان.
في مخيم الركبان أربع نساء يمتهنّ العمل «كوفيرات»، لكن أم محمد وحدها من يملك فساتين للخطوبة والأعراس لتأجيرها للفتيات. تقول إحداهنّ إن هناك إقبالاً على عملهن من قبل فتيات المخيم، ليس فقط في المناسبات بل في مختلف الأيام. وتتراوح كلفة التسريحة بين خمسة إلى عشرة آلاف، ويزيد هذا الرقم إلى نحو خمسة وعشرين ألفاً للعروس.
تبتسم مصفّفة الشعر وهي تقارن بين الوقت الحالي والأيام الأولى في المخيم.، تقول إنه لم تكن تتوافر أي مواد تساعدها في عملها، فكانت تستخدم الفازلين والماء والسكر بدلاً من الجِل، ولم يكن هناك أماكن مخصصة للحلاقة النسائية وبيع المكياج.
تخبرنا أم محمد، صاحبة «صالون ورد الشام»، أنها بَنَت في البداية صالونها من «عامودين وشادر» يُطيح بهما الهواء كل مرة ويكسّر المعدات الموجودة، قبل أن تنتقل إلى غرفة طينية خصّصتها لعملها. وتقول إن نساء المخيم زاد اهتمامهن ببشرتهن وجمالهن عما في الأيام الأولى: «تخلى السكان هنا عن فكرتهم بالإقامة المؤقتة لصالح القبول بالواقع الراهن، وأن حياتهم يمكن أن تستمر لسنوات طويلة في المخيم، وعليهم أن يتأقلموا مع هذه الفكرة».
يمكن وصف حالة صالونات المخيم للزينة بـ«الجيدة»، فهناك أدوات مثل السشوار والفير لتسبيل الشعر، إضافة للصبغات والميش، وبأسعار مقبولة، ويبقى الاستخدام الأكبر لمرطبات الوجه وواقيات الشمس الأكثر شيوعاً للعناية ببشرة النساء في البيئة الصحراوية.
كما توجد في محلات الألبسة رفوف لأدوات الزينة، مثل العطور وأقلام الحمرة وبخاخ مثبّت الشعر (السبراي) والمَسكَرة وأقلام التخطيط. تقول من تحدثنا معهن إن الأنواع المتوافرة هي بجودة منخفضة وليست ماركات مميزة، لكنهن يستطعنَ الحصول على ما يُردنه عن طريق «التواصي» عبر طرق التهريب، إذ يكفي تحديد النوع والاسم ودفع المبالغ اللازمة للحصول على ما هو متوفر في أسواق مدينة حمص أو دمشق.
وتخبرنا السيدات اللواتي تحدثنا معهنّ أن العناية بجمالهنّ أمر مهم بالنسبة لهنّ، وما يصعّب الأمر قليلاً هو المناخ الموجود في المخيم وقلة المناسبات من جهة، كذلك ضعف القدرة المالية، وهو ما يتحايلن عليه باستخدام ما هو متوفر ليحافظن على شكلهن الأنيق.
وترى إحدى السيدات في المخيم أنه «في السابق كان المخيم عبارة عن نقطة مرور مؤقتة، رافقها تعب وقهر من حياة النزوح والخوف والهجرة من المنازل، إضافة للعادات المختلفة بين أطياف المخيم الذي يضم عائلات من بيئات مختلفة، أما اليوم فتحوّل المخيم إلى ما يشبه العائلة الواحدة، فالجميع يعرف بعضه بعضاً تقريباً، إضافة لطول المدة الذي يولّد بالضرورة حالة من الاستقرار تنعكس على الثياب والشكل وحتى الطعام والشراب».
في المخيم فساتين للمناسبات تقوم أم محمد بتأجيرها، وتتفاوت إيجارات هذه الفساتين بين عشرة إلى خمسين ألفاً – يحدد ذلك نوع الفستان وشكله وجدّته أو قدمه. وتخبرنا السيدة بأنها تحصل عن طريق التهريب أيضاً على إكسسوار هذه الفساتين من حشوات ومشابك وملاقط، إضافة لبعض الحلي التي يتم تأجيرها أيضاً، والتي اشترتها منذ بداية عملها بعد حوالة مالية كمساعدة من أقرباء لها.
لا توجد صالة إنترنت في مخيم الركبان، كذلك لا يوجد شكل من أشكال المطاعم أو المقاهي الشعبية العامة، ويعتمد سكان في المخيم على الإنترنت الفضائي للحصول على وسيلة للتواصل، ولكن أسعار هذه الخدمة المرتفعة تحول دون امتلاك قسم كبير من السكان لها، إذ يبلغ سعر الباقة غير المحدودة شهرياً، والتي لا تتجاوز سرعتها 6 ميغا، نحو خمسمائة دولار. أما أرخص باقة فيزيد سعرها عن مئة دولار، وهو ضعف ما يتقاضاه عامل مياومة في المخيم.
يقول من تحدثنا معهم في المخيم إن الاجتماعات والسهرات العائلية تتم بشكل شبه يومي، وهذه الزيارات هي الوسيلة الوحيدة لتمضية الوقت في حياة السكان التي وصفوها بـ«المملة»، بعد غياب الكهرباء والإنترنت.
تخبرنا سيدات من المخيم أنهنّ يجتمعنَ بجيرانهنّ يومياً في تقليد لـ«الصبحيات» القديمة، يتبادلن أحاديث مطولة حول ما يتم تداوله في المخيم، وخاصة طرق التحايل على ظروف الحصار والأشياء التي يشترونها وأهم الطبخات الجديدة.
يرى أشخاص في المخيم أن غياب الإنترنت يزيد من التواصل الشخصي بين السكان، ولكنه يعزلهم عن العالم الخارجي. يقولون إن هذا الأمر ينعكس على الأطفال في المخيم الذين يحتاجون، في غياب الكهرباء وتواضع العملية التعليمية الشديد وغيابها ما بعد المرحلة الابتدائية، إلى مشاهدة برامج الأطفال والبرامج التعليمية لتنمية خيالهم وتعليمهم، وكذلك الأمر بالنسبة للراغبين في مشاهدة التلفاز ومتابعة المسلسلات.
وسط مخيم الركبان، وعلى طريق ترابي يزيد طوله عن خمسمئة متر، تتوزع محال تجارية تُبنى من طوب الطين ويعمل أصحابها في تجارة الألبسة ومواد الزينة والمواد التموينية، إضافة لثلاث محلات تختص ببيع الحلويات.
تحدثنا إلى صاحب أحد محال الحلويات، وهو يقول إن المواد اللازمة لصناعة الحلويات تأتي من مناطق سيطرة النظام عبر طرق التهريب، وتُصنع من الفستق السوداني بدلاً من الفستق الحلبي، وبالسمن النباتي. يُباع الكيلو غرام الواحد منها بسبعة آلاف ليرة سورية. من هذه الحلويات عش البلبل، الكول وشكور، البقلاوة، وهناك أيضاً كنافة محشية بسميد وحليب.
كذلك في محلات الألبسة، بحسب فيصل، أحد بائعي الألبسة في مخيم الركبان، تشترى كميات محدودة من الثياب، من أنواع معينة وبأسعار تناسب حياة السكان، لكن الباعة أحياناً يلبّون طلبات الزبائن الذين يطلبون أنواعاً من ماركات وتفصيلات محددة.
يخبرنا فيصل إن كلفة النقل تزيد عن 40 بالمئة من ثمن القطعة، وهو ما يضاعف سعرها، إضافة للبضائع الكاسدة التي لا يمكن إرجاعها إلى مصادرها فيضطرون لبيعها بأثمان رخيصة، دون الكلفة، للحد من خساراتهم.
يتوافر في بعض محلات الألبسة قليل من المصاغ الذهبي، يتم الحصول عليه عبر التهريب من مدينة حمص، لكن الأكثر شيوعاً في الأعراس استخدام «الذهب الروسي» لرخص ثمنه، والحليّ المصنوعة من البلاتين أو الإكسسوارات. يقول أبو عبود، صاحب محل لبيع الألبسة والذهب، إن نسبة من يتوجهون لشراء خاتم الخطبة من الذهب لا يتجاوز 50 بالمئة، وذلك لارتفاع ثمنه، إذ يتراوح سعره بين ستمئة ألف إلى مليون ليرة سورية، بينما يلجأ الشبان لشراء خواتم من البلاتين. ولا تتوفر المقاسات جميعها في المخيم، إذ ينتظر بعض الأشخاص أحياناً أسابيع للحصول على طلبهم، كما يلجأ شبان وفتيات لاستعارة الحلي وقت الأفراح وإعادته بعد الانتهاء منها.
وتتوافر في المخيم أقمشة لتفصيل الألبسة، كما توجد عدة نساء يمتهنَّ الخياطة، وتتوافر الكلف والأزرار وغيرها من المواد اللازمة لصناعتها. تقول أم سعاد (خياطة في المخيم) إن الغالب في لباس فتيات المخيم هي الثياب الطويلة، وإنها تقوم بتفصيلها، كما تعمل الخياطات على إصلاح الثياب القديمة وإعادة تأهيلها لاستخدامها من جديد.
في المخيم أيضاً صالونات حلاقة رجالية، ويتقاضى أصحابها نحو ألفي ليرة سورية على الحلاقة، ومعظم هذه الصالونات بأثاث فقير وأدوات بدائية.
في سوق الركبان يتوافر شيء من كل شيء. يقول من تحدثنا معهم إن المحلات تستطيع تأمين احتياجاتهم، لكن الخيارات قليلة، سواء على مستوى النوع أو الجودة، فالجميع ملزم بالشراء بحسب المتوفر وبالأسعار المفروضة، إذ يغيب التنافس بسبب قلة المحلات وصعوبة وصول البضائع.
لا ينتمي سكان المخيم لمنطقة واحدة، بل أتوا من أماكن تتباين على صعيد اللهجة والعادات والتقاليد وطريقة الحياة والأطعمة. وبحسب تقديرات تقريبية للوضع اليوم، يمثل سكان بلدة مهين بريف حمص نحو 30 بالمئة من النازحين في الركبان، معظم أهلها سابقاً كانوا يعملون في الزراعة وتربية المواشي، ويمثل سكان القريتين بريف حمص نحو 35 بالمئة من نازحي المخيم، سابقاً كانوا يعملون كموظفين في دوائر الدولة أو في الزراعة، وتشكل نسبة سكان مدينة تدمر نحو 25 بالمئة من المخيم، يعمل معظمهم سابقاً كموظفين في دوائر الدولة، وكذلك بالزراعة، وينقسم ما تبقى من سكان المخيم، وهم نحو 10 بالمئة بين ريف الرقة ودير الزور وحلب.
تقول أم عبد الله إن لكل من هذه الأطياف عاداته وتقاليده ولهجته. تبتسم وهي تخبرنا عن تسرّب هذه المفردات إلى الأطفال خلال لعبهم رفقة أصدقائهم من مناطق مختلفة، وتعطينا أمثلة عن ألفاظ لم تكن قد سمعت بها من قبل مثل «اكعشه» (أمسك به) و«أشو هيذ» (ما هذا). تضحك وهي تتذكر المرة الأولى التي وصف أحد أطفالها النار التي أشعلتها بـ«الشعبورة»، كما يطلق عليها أهالي القريتين.
لا يتعلق الأمر بالأطفال فقط، بل كذلك النساء والرجال الذين وجدوا في بعض المفردات ضرورة لإدخالها في لهجتهم. يقول من تحدثنا معهم أن ذلك يأتي في سبيل «الود»، ولأن بعض هذه المفردات تحمل موسيقا تستسيغها الألسن، كذلك تُظهر اهتمام الأشخاص ببعضهم بعضاً.
يقول أبو خالد، أحد وجهاء مدينة تدمر، إن معظم السكان حافظوا على عادات وتقاليد البلد أو العشيرة التي أتَوا منها، لكن هذه العادات بدأت بالتحور لتأخذ شكلاً من العرف الاجتماعي المشترك، وقد فرض ذلك التعامل اليومي، وقرب البيوت من بعضها بعضاً، وحالات المصاهرة، وكذلك أيام الحصار والمصير المشترك.
يظهر هذا الأثر بشكل أكبر لدى النساء، فقد استعيرت المفردات والقصص، وبعض التفاصيل المتعلقة بالأعراس والمناسبات، والعزاء والولادة، والأمثال أيضاً والأغنيات، والأهم من ذلك الأطعمة.
تخبرنا فاطمة أن «فتوكات الكشك المحبش» طبق تدمري لم يكن يعرفه أهل القريتين ومهين، لكنها عرّفت صديقاتها عليه في المخيم بعد أن سكبته لهن واستساغوا طعمه وسألوها عن مكوناته، و«الفتوكات» عبارة عن حمص وفول وفاصولياء وعدس، تُسلَق جميعها بشكل جيد وتضاف إلى الكشك المغلي، مع البرغل وورق الملفوف المقطع والبصل والثوم المهروس والملح والكمون والفلفل الناعم. كذلك طبق «البرمة»، وهو عبارة عن حب القمح المكسور، يوضع معه كمية من البصل واللحم أو الدجاج والبهارات المتنوعة، وتُطبَخ لمدة ساعات على النار وتقدم ساخنة بعد أن يضاف إليها السمن والفستق واللحم الناعم.
وتضيف فاطمة أنها استساغت أيضاً ما يُشتهَر به أهالي القريتين من أطعمة، مثل «المكمور»، المكون من حمص وعدس مسلوق يضاف لهما البصل، ثم يغلى البرغل قليلاً ويعجن ويوضع فوقه الطحين والملح والكمون والفلفل ويحرَّك حتى يتماسك، ثم يقطَّع بشكل كرات ويضاف الحمّص والعدس، ويوضع فوقه دبس بندورة والثوم المقلي.
تخبرنا أم حسن أن النساء يحاولن فيما بينهنّ اختراع أطباق من المواد الغذائية المتوافرة في المخيم، مثل «كبة العدس» و«الفلافل من العدس» وغيرها من الأكلات لتوفير التكاليف.
أمام معظم منازل مخيم الركبان مساكب من الخضراوات البيتية، تعمل ربات المنازل على زراعتها والاستفادة منها، ويتبادل الجيران فيما بينهم ما يزرعونه، بينما تهتم نساء بزراعة الحبق والريحان، وشتلات «قلب عبد الوهاب» لتزيين منازلهنّ.
يحن أبو علاء للعود الذي تركه في القريتين قبل نزوحه منها. يقول إنه كان رفيقه في سهرات الأصحاب والأحبة، ويقول إن الصحراء تزيد من رغبته في العزف ليملأ هذا الصمت بالموسيقا والأغنيات. يخبرنا أنه «عوّاد بلا عود»، وأنه في مكان يحاول أن يبقى على قيد الحياة.
موقع الجمهورية