مراجعات الكتب

“سياسة الإذلال”.. في تفكيك العار وأدواره/ مصطفى ديب

الإذلال قوة سياسية مهمة يُستخَف بها في كثيرٍ من الأحيان. ولكنه، قبل ذلك، ووفقًا لما تراه المؤرخة الألمانية أوتا فريفرت في كتابها “سياسة الإذلال: مجالات القوة والعجز” (دار ممدوح عدوان/ ترجمة هبة شريف، 2021)، ممارسة تستعرض، بشكلٍ أو بآخر، قوة المُذِل وسلطته، في مقابل ضعف المُذَل وعجزه عن مقاومة عملية إذلاله.

ويشترط هذا الاستعراض، ليكتمل ويتحقق هدفه، وجود طرفٍ ثالثٍ يكون شاهدًا على قوة الطرف الأول وسلطته، مقابل عجز الطرف الثاني الذي يتضاعف شعوره بالخزي، ويترسخ داخل المجتمع، في ظل وجود شهودٍ يفقد احترامه أمامهم، الأمر الذي يخلِّف في نفسه شعورًا طويل الأمد بالعار الذي يدفعه، غالبًا، نحو الانتحار بهدف التخلص مما ترتب على حادثة إذلاله.

لا تقصد أوتا فريفرت بالإذلال والخزي تلك الممارسات الصغيرة التي تدور بين شخصين فقط، وتقتصر غالبًا على انتقاص أحدهما من شأن الآخر، وإنما تلك الممارسات التي تحدث أمام جمهورٍ يَمنحُ هذا الإذلال بُعدًا أكثر تأثيرًا وفاعلية، الأمر الذي دفع المجتمعات المعاصرة لتحويله إلى تقنياتٍ لممارسة السلطة وفرضها على الآخرين.

وترى الباحثة الألمانية أن الإذلال العلني لا يحدث بسبب اختلافٍ في الآراء حول أشياء تافهة، وإنما بفعل عوامل أكثر أهمية، مثل حدوث خرقٍ ما للمعايير السائدة التي يُعدُّ الحفاظ عليها ضمانة لمصالح مجموعةٍ من البشر الذين يُمثِّلون جماعة يُعدُّ البقاء فيها، أمرًا ذا أهمية حاسمة بالنسبة إلى معظم الناس، أولئك الذين لن يترددوا في معاقبة أي شخصٍ يقوم بخرق هذه المعايير علانيةً، وذلك من خلال استبعاده، رمزيًا، من الجماعة التي يتحقق في حال قبوله داخلها مجددًا، ما يطلقُ عليه علماء الاجتماع “الخزي مع إعادة الإدماج”.

في المقابل، ثمة إذلالٌ هدفه إقصاء المُعاقَب بـ”العار” من الجماعة تمامًا، ولكن دون أن يكون الهدف من ذلك ممارسة العقاب، وإنما استعراض الطرف المُذِل لقوته وقدرته على التحقير من شأن المنتمين إلى جماعةٍ أخرى، وفقًا لما تراه فريفرت التي تضرب من اغتصاب الجنود الصرب للنساء المسلمات عام 1990، بهدف تحقيرهن بطريقةٍ تؤثر سلبًا على احترامهن لذواتهن على المدى البعيد، وربما تؤدي إلى تدمير هذا الاحترام تمامًا، مثالًا على ذلك.

وعبر هذه الممارسات المُذِلة التي تفضح الخصم علنًا، وتصوره بصورة العاجز، يجري ترسيخ علاقات القوة وتثبيتها، مما يجعل من الإذلال هنا سياسة أو آلية تخدم فرض السلطة، على أن يكون أحد أهم شروطها هو أن تُنفَّذ في أماكن عامة، الأمر الذي يُفسِّر جاذبيتها لأصحاب السلطة، والطامحين إليها، والمتصارعين من أجلها أيضًا.

تُميز أوتا فريفرت في كتابها بين الإهانة والخزي والإذلال، حيث ترى أن الخزي تعبيرٌ عن الاحتقار والاستخفاف، بينما يدل الإذلال على الاحتقار بشكلٍ قاطع، ذلك أن الهدف المرجو منه هو تدمير إحساس الفرد بالشرف والكرامة، ودفعه إلى تحقير ذاته بشكلٍ يصبح من الصعب عنده إعادة بناء قيمته الاعتبارية مجددًا، أو حتى المطالبة بحقه في الاحترام أيضًا، لا سيما أنه كلما ارتفعت درجة إحساسه بالذل والخزي، ارتفع في المقابل مستوى الإحساس بالسلطة والقوة عند من أذله.

الإهانة، وعلى العكس منهما تمامًا، وبحسب رؤية المؤرخة الألمانية، يكون تأثيرها عادةً أخف وطأة، ذلك أنها تتيح للطرف المُهان الرد عليها بأشكالٍ مختلفة، تُثبت جميعها عدم عجزه في مواجهته للطرف المُهين، مما يعني أنها تختلف عن الإذلال والخزي، بخلوها من عنصري القوة والعجز وسمة العقاب.

ومن بين النماذج المختلفة للإذلال، تتحدث فريفرت عن “التشهير” الذي كان، منذ عام 1200 وحتى القرن التاسع عشر تقريبًا، عقوبة سائدة في المجتمعات الأوروبية، يُحكم بها، في المقام الأول، على المذنبين في جرائم السرقة والجُنح التي تخص الممارسات الجنسية، وينص مضمونها على عرض المحكوم عليه على الملأ لعدة أيامٍ بهدف إذلاله.

ولكن هذا الإذلال لم يكن ليتحقق بشكلٍ كامل دون ممارسات المتفرجين الذين كانوا، في بعض الأحيان، وعبر تصرفاتهم التي كانت تدل على احتقارهم للمحكوم، يحوِّلون عقوبة التشهير العلني من وسيلةٍ هدفها الأول اللوم والخزي وردع المجرمين، إلى آلةٍ للموت والقتل.

وترى المؤلفة أن الهدف من تنفيذ العقوبة بشكلٍ علني، هو إشراك الرأي العام في تنفيذها، ذلك أن الخزي لا يكتمل بغير حضور طرفٍ ثالث ينال وجوده من شرف واحترام الشخص المعاقَب، الذي كان يشعر باحتقار وسخرية المجتمع منه. الأمر الذي كان يدفعه، تحت وطأة هذه السخرية والشعور بالخزي أيضًا، إلى مغادرة المكان الذي هُدِرت فيه كرامته، لا سيما وأن الأعراف التي كانت سائدة آنذاك، تحتم طرد الذين تعرضوا للتشهير العلني من وظائفهم، وعدم قبولهم في أي وظائف أخرى.

ونتيجة هذه الآثار الكارثية لعقوبة التشهير العلني على الذين تعرضوا لها، بدأ القضاء يبتعد في بعض الأحيان عن اللجوء إليها لمعاقبة المذنبين، خصوصًا بعد تصاعد تذمر الرأي العام منها لكون آثارها لا تطال الشخص المعاقَب فقط، وإنما تشمل جميع أفراد عائلته، الأمر الذي دفع بالقضاة آنذاك إلى إعادة النظر في هذه الممارسات، واللجوء إلى تنفيذ العقوبات بشكلٍ غير مرئي، بعيدًا عن الجمهور الذي رأت السلطات أنه، وبفعل تذمره منها، قادرٌ على إفشال الهدف الأساسي من الخزي العلني في حال تعاطفه مع الشخص المعاقَب وتضامنه معه.

بموازاة هذا النفور، ظهرت آراء عديدة ترى أن العقوبات العلنية “تجعل من الشرير أكثر شرًا”، وتَنشرُ الجريمة على نطاقٍ واسع، عدا عن أنها تخلِّفُ ندوبًا من شأنها تشويه مجمل الشخصية لدى الشخص المعاقَب والجمهور على حدٍ سواء، مقابل آراء أخرى ترى أن هذه العقوبات تجعل من الشخص المعاقب غير نافعٍ في المجتمع، مما يقوض الغاية الأساسية من هذه العقوبات، وهي إصلاح سلوك المذنب.

وإلى جانب عقوبة التشهير العلني، أثارت العقوبات البدنية نقاشًا تجاوز من حيث انتشاره ذلك الذي دار حول العقوبة الأولى، وكان محوره حينها الآثار النفسية لعقوبة الضرب، بين فئةٍ ترفضه بسبب تعسفه الشديد، وحطِّه من شخصية الأمة، وأخرى تؤيده وترى فيه بديلًا مناسبًا لعقوبات التشهير العلني. بالإضافة إلى فئاتٍ أخرى دعت إلى ضرورة مراعاة جنس المجرم وعمره وبنيته الجسمانية قبل تنفيذ العقوبة، واستثناء النساء المتزوجات منها لكونها لا تتسبب بالذل لهن فقط، وإنما لجميع أفراد عوائلهن.

في المقابل، ظهرت آراء أخرى تطالب بوقف هذه الممارسات لأنها تتناقض مع مبادئ العقوبات التي تحترم كرامة الإنسان وشرفه، وذلك بحسب تعبير القانونيون الليبراليون الذين تعاملوا معها بوصفها ممارسات تمارِس الإذلال والتحقير بحق الآخرين، وتقمع إحساسهم بالكرامة الإنسانية، بل إن البعض ذهب باتجاه القول إن على الدولة، في حال قررت الإبقاء على هذه العقوبات، أن تتوقع عدم احترام الناس لعدالتها.

وتشير فريفرت ضمن هذا السياق، إلى الاختلاف الطبقي الذي كان يلعب دورًا حاسمًا في عملية تنفيذ هذه العقوبات، حيث كان بإمكان أبناء الطبقات النبيلة تجنب التعرض لها من خلال دفع غراماتٍ مالية تصون شرفهم وتحافظ على كرامتهم أمام المجتمع، على العكس تمامًا من أبناء الطبقات الفقيرة غير القادرين على تحويل العقوبات البدنية إلى غراماتٍ مالية.

وتلفت الباحثة الألمانية هنا، الانتباه إلى الأفكار التي كانت ترى أن الشعور بالكرامة والشرف، يختلف وفقًا للطبقة الاجتماعية، حيث كان البعض يعتقد بأن الشرف الأعظم والإحساس القوي به، كان من نصيب النبلاء، فيما كان نصيب الطبقات الفقيرة منه أقل. ولهذا السبب، كانت تُفرض عقوبات أقل على من أهانها، مقابل تلك التي كانت تفرض على من أهان أحد النبلاء، إذ إن الإهانات الموجهة إلى “أسفل”، كانت حينها تُعدُّ أقل انتهاكًا للشرف من تلك الموجهة إلى “أعلى”.

ولكن ذلك لا يعني أن الشرف لم يكن مهمًا بالنسبة لهذه الطبقات، حيث ترى فريفرت أن الأمر لم يكن سوى ادعاءات مصدرها فئاتٌ تريد منها ضمان قدرتها على معاملة الفلاحين وصغار الحرفيين والخدم بفظاظة ومهانة، بل إن الأمر وصل ببعضهم إلى القول بأن عقوبة السجن يجب ألا تُطبَّق على الشحاذين والمشردين والخدم، لأنه يوفر لهم مكانًا أفضل للإقامة من ذلك الذي كانوا يقيمون فيه.

وتقول الكاتبة إن الدعوات المتزايدة لإلغاء العقوبات البدنية المذِلة، وظهور المحاولات الجادة التي تسعى إلى وقفها، تزامنت مع ظهور مفهوم “كرامة المواطن” الذي يدعو إلى عدم إعطاء أي أهمية للفروقات الطبقية عند تنفيذ الأحكام القانونية، والنظر إلى كرامة جميع المواطنين، على اختلاف طبقاتهم، بمقياسٍ واحد، ذلك أن الكرامة الإنسانية والأهلية القانونية والمواطنة تجتمع في كرامتهم، الأمر الذي يجعل من العقوبات البدنية المذلة تقف على النقيض منها تمامًا. ولكن هذه الدعوات لم تكن حينها محل إجماع، بل إن هناك من رأى في هذا المفهوم والأُسس التي قام عليها، مجرد خرافات.

وعلى الرغم من إلغاء هذه العقوبات في نهاية المطاف لكونها، قبل أي شيء آخر، تُذِل الفرد وتدمر إحساسه بالشرف والكرامة وتدفعه إلى تحقير ذاته، إلا أنها عادت في ما بعد بأشكالٍ مختلفة تحمل في مضمونها الرغبة في إذلال الآخر والتحقير من شأنه، لا سيما خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، مرورًا بسنوات الحكم النازي وما شهدته من ممارساتٍ عديدة تهدف إلى وصم الآخرين بالعار لأسبابٍ عرقية وأخرى سياسية مختلفة، وصولًا إلى الحرب العالمية الثانية التي شهدت بدورها عمليات إذلالٍ ممنهجة، وانتهاءً بمرحلة ما بعد انتصار الحلفاء، حيث أخذت ممارسات الإذلال أشكالًا جديدة بناءً على طبيعة الأنظمة السياسية وأيديولوجيتها.

وتقول أوتا فريفرت إنه، وبعد إلغاء العقوبات البدنية المُهينة التي تُذِل الناس علنًا، ظهرت مخاوف جديدة مرتبطة بالخزي الذي تمارسه السلطة على مواطنيها الذين أصبحوا، منذ القرن التاسع عشر، أكثر وعيًا لإهانة الدولة المتصاعدة للكرامة الإنسانية، لا سيما في الدول الدكتاتورية التي لا تحجم أجهزتها الأمنية عن خزي الناس ووصمهم بالعار بشكلٍ علني، وعبر وسائل مختلفة من بينها الضرب والتعذيب الوحشي.

الترا صوت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى