عن “دمشق التي ترتدي خوذة”/ بديع صنيج
يقتفي المهند حيدر في روايته الموسومة بـ”دمشق التي ترتدي خوذة” (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع) قصيدة “القتل” لمحمد الماغوط، محاولاً ما استطاع تحوير الشعر وإطلاق ممكنات السرد فيه، ليس لجهة “شعرنة” الرواية، وإنما من ناحية المحافظة على الزخم الشعوري في اقتناص ملامح المدينة، والسعي قدر الإمكان إلى تصوير دمشق بعدما ارتدت زِيَّها العسكري، بشفافية الأنا الراوية، ومن دون الانتماء بجلافة إلى أي معسكر والتخندق فيه.
ما يهتم به “حيدر” هو تقديم شهادته الروائية عما خبره من تفاصيل الحرب/ اللعنة التي أصابت البلاد، مع محاولته إنقاذ ما يمكن إنقاذه، على الأقل أدبياً، علَّه يكون بذلك، كما كتب ابن مدينته الماغوط في قصيدته “ذكرى حادث غريب لم يقع”، والتي افتتح بها المهند روايته: “وأنا أجثم على جدران المدينة/ كسُلَّم الحريق”.
سينوغرافيا روائية
لكن كيف تكون نجاة المدينة من خلال رواية إن لم يكن عبر توطيد علاقتها بالذاكرة، سواء منها المكانية والزمانية، الجسدية والروحية؟ من هذه النقطة بدأ حيدر نسج سردياته المتداخلة مع ذاته، ابتداءً من آذار 2011، وتحديداً من الحراك الذي شاركت به صديقته رند في “ساحة التحرير”، وجعلته يوقن أنه لا بد لكل حكاية من شاهد يُكْمِل أركانها.
ووفق هذه السياسة الروائية، اشتغل خريج المعهد العالي للفنون المسرحية على مسرحة الحدث وربطه بذاكرة القارئ، وإنعاش تلك الصور الذهنية والانفعالية لديه عبر “سينوغرافيا روائية” مبهرة، لا تدع لك المجال إلا لتألف المكان، وكأنك أمام ألبوم صور مديد في حنينه.
فمرة تراه في مسرح القباني، وأخرى يحضر أمسية قراءات شعرية ضمن فعالية “أضواء المدينة” في مقهى نينار، وثالثة يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية في مدرسة المشاة بحلب، ويتابعها في “المسرح العسكري” بدمشق، ورابعة يشرب قصب السكر بالزنجبيل من محل عصائر “أبو شاكر” العريق، وهناك أيضاً بيت الراوي الذي ينتقل من ضاحية صحنايا إلى بوابة الصالحية قرب مبنى مجلس الشعب، بعدما انتشرت الحواجز العسكرية “كأكزيما في جسد المدينة”، بحسب وصفه.
وكأنه يحيلك من لوحات مُشرقة إلى أخرى باتت أكثر قتامة بفعل البارود والقتل والخطف والاستهتار بحياة البشر، لذلك يتنقَّل حيدر بين مشهدياته وشخوصه وذكرياته عنهم، كما كانت تفعل والدته عندما تنظر إلى “المضربية”، وهي ستارة سميكة توضع على فتحات الأبواب الداخلية في القرى بين الغرف بدل الأبواب لتعزل البرد، وصحيح أنها مُحَاكة من قطع الملابس القديمة لسكان البيت، بحيث أن لكل واحدة منها لونها وحكايتها وخصوصيتها، لكنها تندغم في النهاية بحبكة واحدة.
لذلك عمد الراوي لحياكة حكايته بالأسلوبية ذاتها، جامعاً بين حبيباته، أصدقائه، رفاق خدمته العسكرية، ناشر روايته ومحررتها والمجنون صاحب “نظرية الثقب”، بمضربية روائية واحدة، ساعياً لأن يحفظ دفء سرده، ولو تخلل ذلك تصوير “الجريمة تضرب باب القفص/ والخوف يصدح كالكروان”، بحسب تعبير الماغوط في قصيدته “القتل”، فالضابط المناوب ما زال يتمتع بالتحكم بألفين من المحزونين الجوعى للعاطفة في لحظة زيارة ذويهم في دورات الخدمة الإلزامية، والقناص يتربص بهم في نوبات حراستهم الليلية، لدرجة يخافون أن يمجُّوا سيجارة يكون نار مُقدِّمتها دليله إليهم، والكل باتوا بحاجة إلى من يؤنس وحدتهم الجماعية.
على تخوم النشوة
هنا يأتي الحب واشتهاءات الجسد، كتميمة في وجه قتامة الواقع واستشراء عنفه وعزلة البشر داخله، وفي الوقت ذاته فسحة لتلطيف مناخات السرد من سوداويتها، لتحلّ محلها غراميات شفيفة، وأخرى شهوانية، على الصوفا الحمراء في بيت الراوي، أو على سطح منزل حبيبته لارا، قبيل سفرها بساعات، أو مع رند بعينيها الخضراوين، أو الكر والفر في غواية الجسد والسرد معاً، من خلال رغبة المحررة حنان بأن تكون هي إحدى بطلات الرواية.
وكل ذلك من أجل تبرير مقولة أنه “حتى سوريا كانت تبدو لنا أقل حزناً ونحن عاريين على تخوم النشوة”، وأن “الحبيبات لا يعترفن بالحرب. والحرب أيضاً لا تعترف بالحبيبات”، في مجابهة ثنائية بين أفعال الحياة وأفعال الموت، التي أتقن حيدر تشبيكها، من مثل أنه بعد أن كان يلتقي في أي زيارة عابرة لمقهى الروضة بعشرين صديق، بات لا يجد من يتبادل معه الحديث، فالأصدقاء تناهبهم الرَّحيل، لينجوا من بلاد صارت شرهة للدماء.
بعضهم سافر، كحبيبة الراوي، راقصة الباليه لارا، وآخرون غابوا في المعتقلات، أو قهراً من خلال الموت، كالذي خطف الفنانة المسرحية سوزان سلمان، وابتسامتها النقية، بقذيفة هاون في منزلها ضمن دمشق القديمة. ولأن الناس في دمشق اعتادوا الموت وألفوه، باتوا يفضلونه جماعياً كما يقول حيدر: “أصبحنا نفضل الموت الجماعي بدل الموت فرادى كل في وحدته على حدة.
وعلى هذا النحو حين كانت تهبط قذائف الهاون فاردةً ملاءة الموت على دمشق، كان الكثيرون في حيي يتركون بيوتهم ويلجؤون إلى مقهى الروضة المزدحم، وغير المسقوف أصلاً، ليشربوا قهوة جماعية على شرف توقع الموت بقذيفة تحيل المكان إلى مجزرة، وكنت أنا من هؤلاء الناس”.
تراودني الحكاية
لكنه، ومن مسؤولية أخلاقية تجاه شخوص روايته وأبطالها، كان يعمل على إنقاذهم الواحد تلو الآخر، بإخفائهم من عمارته الروائية، كما اختفى أصدقاؤه الذين “لم يعودوا راغبين بأن يكونوا جزءاً من حكاية حربنا السوداء الدموية، التي تبتلع كل الحكايات وتقتل كل أبطالها”، بحسب تعبير حيدر، ولأنه دائم السؤال عن حقه في أن يختار ويقرر مصائر حكاياه، هو الذي قد تسقط عليه مصادفة قذيفة هاون في سريره وهو يحلم بغد أفضل، فتنتهي حكايته عند هذه النقطة دون أن يصحو، لجأ إلى تقنية “الميتا رواية”، التي تتيح له محاكمة نفسه باستمرار، والتيقن بأنه يبني روايته من داخلها.
كم من الوقت أستطيع أن أحتملها داخلي؟ هل لذلك أكتبها؟ لأخرجها مني؟ وأخرج منها؟ ألدُها فتلدني. هل أرتاح، هل أنسى؟ وهل سأعيش مُثقلاً بكل من وما يسكن ذاكرتي؟ أم هل أعيش بلا ذاكرة؟ مالي وكل هذه الأسئلة؟ آه لو لم تكن لي هاتان العينان المبصرتان، آه لو كنت نجاراً، حداداً، عتالاً، أي شخص آخر يعيش يومه بروتينية لا تترك له الوقت للتمعن والتفكير. آه لو كنت لا أعرف الكتابة. آه لو لم تكونوا تسكنون خيالي وتفكيري؟ ألن تخرجوا مني يوماً؟ ألن تعودوا للحياة؟ وهل أستطيع أن أعيدكم أنا؟ أنا الراوي والمروي”.
ديمقراطية السرد
الخشية التي يعاني منها الراوي، تعود إلى ما وصفه بـ”ديمقراطية سرد الحكاية”، وفسح المجال للجميع ليروي الحرب من وجهة نظره، من دون لوي عنق الحكاية لطرف دون آخر، لكن أزمته الحقيقية فيما يكتب تكمن في طبيعة تلك الحرب، وطَعْمِ عيشها الذي يختلف من مكان لآخر، ليس بمعنى البعد والقرب، ولكن من ناحية الكيفية والنكهة.
يقول في أحد الهوامش: “تراودني الحكاية. تبارزني بالحدة ذاتها التي أكتبها بها، فلا أعود أعرف من يكتب منا الآخر. أأنا فيها؟ أم هي فيَّ؟ هل هي روايتي أم أني شخصيتها؟ أتمرَّدُ عليها فتتمرد علَيّ. أرسم لها خطاً مثل طريق يبتعد ممتداً، فتحيطني بالدوائر. أبحث خارجاً فتعيدني داخلاً إلى نفسي. أتملَّصُ فتقيدني. أدور في نفسي كحلّاج، فيدور كل شيء معي، لتفنى الأنا الفردية في الأنا الكلية، أنا الجمع بصيغة المفرد، بداخلي أرواح من عاشوا، كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا”.
يوضح “نكهة الحرب في دمشق حَرِّيفة لاذعة، كما لو أنها مُتَبَّلة بتوابل المطبخ الصيني التي تركز النكهة، وتضاعف أثرها في الدماغ، إلى أن تصاب بالصداع”، كل ذلك جعله يُصاب بـ”متلازمة حرب المدينة الملونة أكثر مما يجب”، والتي قال فيها الماغوط: “اعطني فمك أيتها المُتَبَرِّجة التي تلبس خوذة”.
فدمشق كما يراها حيدر “لا تترك لك مجالاً لتحيا كما تريد، في ظل حرب تتدخل بأدق تفاصيل حياتك، حتى التافهة منها، لتقررها هي وتعبث بها، فتتحول حياتك إلى سلسلة عبثية من اللا متوقع، بحيث كان على صموئيل بيكيت ويوجين يونسكو وبقية كتاب مسرح اللا معقول أن يحيوا في سوريا، هنا جوهر العبث واللامعقول”.
وفي وجه كل تلك العبثية والعسكريتاريا التي تلف المدينة، فكَّر الراوي مرة بـ”ِنَصْبِ حاجز حُبٍّ عسكري” لمنع حبيبته من السفر، وفي كل مرة تزوره أنثى طارئة يُلبِسُها بيجامته، ويبدأ تنظيراته أو استماعه لتنظيراتها في المطبخ، وينتهيان في السرير، ولمزيد من الفكاهة ألصق على بوابة بيته بوستر فيلم “أحلام المدينة”، ليقي نفسه من كوابيسها خارج حدود منزله.
وبعد أن استبدل الخاطفون والد صديقته بغزال بري، أطلق العنان لحريته فور خروجه من كيس وضعوه فيه، بمشهدية سينمائية باذخة ونوع من السريالية المؤلمة. عاد إلى صومعته على الصوفا الحمراء، مَجْمَع الذكريات ومصيدة الحب والشهوات، ليكمل كتابة روايته عن الحرب التي لا يصلح لها ولا تصلح له، لا يشبهها ولا تشبهه، لاسيما ضمن هذه المدينة التي “تستطيع أن تمنحك لذة الحياة بسلاسة، ثم ترديك في قاع الكآبة كعاهرة محترفة، وبالسلاسة ذاتها”.
رصيف 22